Arabpsynet

 مقـالات أصيلة / Original Articles

شبكة العلوم النفسية العربية

 

نقـاط التحــول ... عندما تأخـذ الحيـاة اتجاهـاً جديـداً

هايكو ايرنست Heiko Ernst

ترجمة الدكتور سامر جميل رضوان

E.mail : srudwan@hotmail.com

 

q      النص الكامل /   Full text / Texte  entier 

 

    في كل حياة هناك نقاط عدة من التحول.  إننا نريد أو علينا إنهاء مرحلة من مراحل الحياة والبدء بمرحلة أخرى.  وأحياناً تشكل الأزمات والانكسارات نقاط التحول - البطالة و الطلاق يخرجاننا عن السكة، وأحيانا تكون اللا أحداث هي التي  تجبرنا على  البدء من جديد - لقد انتظرنا  طويلاً شيئاً ما لن يصل : النجاح،  الاعتراف ، الحب. وفي كل الأحوال يتعلق الأمر بإنهاء العلاقات أو العادات القديمة بشكل صحيح - عندئذٍ فقط نكون أحراراً للبدء من جديد.

 

يستلقي بينيامين  متهادياً على فراش هوائي في حوض السباحة بمنزل والديه. فهو منذ عدة  أسابيع يتسكع في البيت على هذا النحو ، وبدأ قعوده يوتر والديه. وحتى النصيحة التي أسر له بها أحد أصدقاء والده  في العمل والمتمثلة  في ("لن أقول إلاّ : بلاستيك !") لم تعطه أي دفع. كان   بينيامين - المعروف باسم دوستين هوفمان - قد أنهى تعليمه، غير أن "امتحان النضج" الحقيقي مازال بانتظاره: فما زال عليه  العبور من خلال ضياع ولتشتت  شاب على أعتاب الرشد.

 أصبحت الحياة المهنية ” للأب "  لوريوتس ("ante Portas") وراءه. إنه  يمثل   صعوبة وسخرية  التمكن من بناء معابر لاحقة في الحياة - على نحو المعبر من الحياة المهنية إلى التقاعد: فالمتقاعد لم يتقبل خروجه بشكل حقيقي  وحاول "تنظيم" حياة الأسرة كما اعتاد ذلك في المهنة. وكانت النتيجة : فوضى كلية.

 

    إننا نحب بعض الأفلام والمسرحيات  لأننا نرى فيها أزمات ومتاعب حياتنا الخاصة. فعندما تعالج على المسرح أو الشاشة دراما وجودنا الخاص بصورة نموذجية فإننا نتأثر ويمكننا الضحك حول ذلك. وهذه الدراما هي بشكل خاص دراما المعبر: فحياة الإنسان ما هي إلا نتيجة لأطوار بارزة كثيراً أو قليلاً.  وتتعلق الصحة النفسية وسعادة الحياة بمدى جودة السيطرة على  المعابر بين هذه المراحل . وعلى الرغم من أن بعض العلامات الفارقة كالدخول للمدرسة أو الشهادة الثانوية أو الدخول في الحياة المهنية  أو الزواج  أو التقاعد تشير خارجياً إلى أن مرحلة من مراحل الحياة قد انتهت وبدأت مرحلة أخرى ، غير أن التغلب النفسي  على المعبر لا يتم دائماً.

     فإلى جانب نقاط التحول المحددة ثقافياً أو زمنياً - المُعَلَّمة بالدخول إلى المدرسة أو خاتم الزواج أو بالساعة الذهبية في التقاعد - تخبئ الحياة عداً كبيراً من نقاط التحول الأخرى: فالانتقالات و الانفصالات ، العطالة عن العمل أو الطلاق أو  تغيير المهنة أو الأمراض ناهيك عن الأحداث الإيجابية كالترقيات ونمو  الأسرة  تجبر - أو تتيح  - البدء من جديد.

    و تشكل كل واحدة من نقاط التحول هذه مواقف حرجة.  وإعادة الضبط  تنتج الاضطرابات والإرهاق  وفوضى المشاعر والمخاوف وعدم الأمان. كما وتتنوع  إمكانات خسران  معبر ما - إذ قد يظل المرء غارقاً بما هو قديم، بما هو مألوف ، أو يغرق في الإمكانات الجديدة  أو يحمل معه الكثير من الأثقال النفسية من المراحل الحياتية السابقة إلى المرحلة الجديدة.

 إن من يصل إلى نقطة تحول في حياته عليه التغلب على ثلاث خطوات:

1-  إيجاد نهاية: فكل بداية جديدة تبدأ بنهاية  ولا بد من إنهاء و " إغلاق " العلاقات  والعادات و المواقف القائمة حتى الآن ليس بشكل خارجي فحسب وإنما نفسياً كذلك.

2-  إعادة التوجه: فنقاط التحول تشكل فرصة لتصحيح المسار وللنمو الشخصي - ومن أجل ذلك نحتاج  إلى  " منطقة حيادية " أو لوقت مستقطع نستطيع فيه  إدراك كيف وإلى أين سنتابع.

3-  البدء من جديد: عندئذ يمكن وبشكل متحرر  من الأشياء " غير المنجزة " من المراحل السابقة  وبهدف جديد   أن يتم دفع التطور الشخصي والقيام  بالبداية الجيدة.

 

    وتشبه الخطوات الثلاثة طقوس العبور “rites de Passage"  التي لاحظها ووصفها عالم الأجناس الهولندي  أرنولد فان غينيب Arnold van Genepp  في الثقافات التقليدية . وتدور الطقوس حول ثلاثة أطوار عبور : الموت الرمزي والفوضى  والخلق. وفي المجتمع الحديث لم يعد يوجد إلا القليل من الطقوس التي تسهل للفرد العبور  من طور حياة إلى آخر. وعليه التعرف بنفسه على نقاط التحول و  التغلب على أزمات تغيير الاتجاه وحده في الغالب. وبشكل أكثر بكثير من الناس في العصور السابقة يرى نفسه مواجهاً بضرورة التعامل مع التصدعات والتغيرات في اتجاهات برنامج الحياة.  إن التبديل المستمر  للاتجاه والبدء من جديد أقرب لأن يكونا علامات  مميزة لسير حياة  أناس مجتمع ما بعد الحداثة: فعدد التبديل الاختياري أو القسري للمهنة والسكن أو أرقام الطلاق تظهر من الناحية الإحصائية الخالصة وحدها مدى الحراك الاجتماعي والنفسي في هذه الأثناء. فسيرة حياة   أناس هذه الأيام تتميز  بقسر التعلم مدى الحياة وإعادة التلاؤم المستمرة  والتبديل المتعدد للأدوار.

 

المشكلة تكمن  في إيجاد نهاية جيدة

     فنحن نطور منذ وقت مبكر   "أساليب  شخصية من المعابر" : هل يصعب أو يسهل  علينا البدء بشيء ما جديد والتخلي عن القديم ؟ وهل نحن " متشبثون " لا نستطيع الترك إلاّ بصعوبة أم أننا أقرب " للمتهورين " يسهل علينا البدء من جديد؟  إن تذكر مواقف الانفصال والعبور يعطينا دلالة على الأسلوب  الذي سنقود فيه نقاط التحول في المستقبل أيضاً. ومهما يكن نوع الأسلوب الذي طورناه -فعند الخطوة الأولى لعبور ما يمكن أن نرتكب الكثير من الأخطاء: إذ يصعب على كل إنسان تقريباً إيجاد نهاية جيدة ، على الرغم من أن ثقافتنا تفضل أسلوب الانفصال السريع، فقد تعلمنا أنه على المرء " إلا يولول على الحليب المدلوق "  وبأن لكل شيء نهاية في الحياة وعلى الإنسان التطلع للأمام وما هو أكثر من حكم الحياة اليومية . ووفقاً لذلك نريد " الخروج  " بسرعة كبيرة قدر الإمكان ونبدأ من جديد عندما يلوح  المعبر ونأسف أو ننتقد أولئك الذين  يصعِّبون على أنفسهم إيجاد نهاية . ولكن لابد من تمثل كل نهاية  وهذا التمثل يحتاج إلى وقت كافٍ. فمن يجتاز خسارة ما ( كالموت أو الطلاق ) أو تغيير مهم  ( كالانتقال أو تبديل العمل ) بسرعة  كبيرة فإنه يخاطر على المدى البعيد بحدوث مشكلات نفسية.

    لقد اعتدنا النظر للتطور على أنه نمو و  صعود و تقدم مستمر. غير أن التطور  يشترط وجود جدل بين التهديم Des-organization و إعادة التنظيم New - Organization ، الذي يتم دفعه للأمام  أيضا ًمن خلال الخسارة بالتحديد  : ففي البدء لا بد من نسيان  أو التخلص من شيء ما قبل أن يتم التمكن من تعلم شيء جديد.

     إن أزمات  الحياة  التي تفتح باب الوداع و إعادة التوجه تترافق  مع واحد أو أكثر من السمات التالية :

1-     فقدان المعتاد: فالنوبة القلبية والانفصال وتبديل السكن تعني الخروج من سياق ما. فظروف الحياة الخارجية تتغير بسرعة وتتطلب تكيفاً.

2-  فقدان الهوية : تنتج غالبية نقاط التحول الشعور المقبض المتمثل في : " أأنا الذي يحدث معه ذلك؟ ما الذي فعلته في الواقع؟ "  إننا نقف إلى "جانب أنفسنا " ولكننا لم نعد " نحن أنفسنا ".

3-  فقدان الأوهام: توجد  في كل حياة سلسلة لا متناهية من الخيبات.  فمنذ الطفولة علينا إدراك بأنه لا وجود لأرنب عيد الفصح وأن الوالدين ليسا كاملين . ولاحقاً يضايقنا جحود رئيس أو غدر صديق . ويتكشف غباء وأنانية المعبودين.  والسياسيون  القلائل الذين يعتبرهم الإنسان شرفاء هم فاسدون كالآخرين تماماً. ويسيء شريك حياتنا استخدام ثقتنا به. وتتحول العطلة إلى رحلة مقززة، وهكذا دواليك. ينبغي للخيبات أن تقود إلى تصحيحات  للتصورات المثالية ( غير الواقعية ): فبمجرد أن نتخلى عن الأوهام يمكننا التعلم من جديد. غير أن الخيبات غالباً ما تشكل مناسبة للإزعاج المستمر . ولأنه لم يقم أي نزع حقيقي للأوهام فلا التغيير يمكن أن يتم  ولا التقدم : فنبحث من جديد عن أصدقاء أكثر وفاء  وشركات أكثر أمانة و معبودين أكثر جدارة بالتصديق. ويدور السيناريو في حلقة، بسبب اعتقادنا " بإيجاد شخص ما " لن يخيِّب أملنا هذه المرة - حتى المرة القادمة . أو أننا نشعر بالمرارة و السخرية و نصبح شكاكين مزمنين .

4-  فقدان التوجه : عندما ينتهي شيء ما فإن الجديد على الغالب غير موجود بعد. إننا نشعر بالفشل والضياع والفراغ الداخلي. ويشبه هذا في ميثولوجيا المعبر الطور الذي يهيم فيه البطل على وجهه في حديقة الضياع أو في غابة ما أو عندما يبتلعه حيوان.

 

 الفراغ المفيد للوقت المستقطع

    وحتى عندما نكون قد أدركنا حقيقة أن شيء ما يصل للنهاية، فلم نصل قمة الجبل بعد. إننا نجد أنفسنا في موقف غير مألوف ، لقد وطئنا شريط المنطقة الحيادية :

    فطور العبور الحقيقي هو الزمن " بين حلمين " .  مرحلة حياتية قد انتهت ولكن الجديدة لم تبدأ بعد ( بالفعل ). إننا لا نستطيع تحمل هذه الأوقات الفارغة إلا بصعوبة  - ونحن نميل اليوم إلى الاندفاع إلى نشاطات وارتباطات وعلاقات جديدة بدون معبر وكأنه علينا عبور شارع بأسرع وقت ممكن للوصول إلى الجانب الآخر منه. غير أن المنطقة الحيادية عبارة عن تعليق  للنشاطات  مهم جداً للنفس ، إنه وقت مستقطع ضروري جداً: فاستغلال هذه المرحلة بشكل صحيح يعطي دفعاً لمعرفة الذات. ولهذا علينا ألاّ نحاول التغلب على الأوقات المستقطعة بسرعة كبيرة قدر الإمكان وإنما استغلالها.

فعندما نترك أنفسنا تسقط في فراغ هذه الأوقات المستقطعة ، فإننا نرى فجأة بشكل أكثر دقة  وندرك محيطنا بشكل أكثر حساسية . إننا نكتسب البعد عن الحياة اليومية التي تتحول بطريقة غريبة إلى شفافة - نسبر أشياء كثيرة  ونرى " ما وراء الأشياء ” ونربح قطعة من حكمة الحياة.

    والمنطقة الحيادية عبارة عن  حالة شبه توسطية quasi-meditative من الغيبوبة . فكثير  مما كان مكبوتا ومنسياً يصعد في داخلنا. إنها تساعد في الانسحاب من روتين الحياة اليومية  والبحث عن الوحدة لبعض الوقت  وتقبُّل مشاعر الفراغ الداخلي. ومن غير المجدي في المنطقة الحيادية وضع النفس تحت الضغط و الإجبار على إيجاد الحلول، ولا كذلك محاولة تغطية مشاعر الفراغ القادمة  - وحتى ربما أيضاً الكآبة - من خلال  الإلهاء و التسلية.  فالتأملات و الإنصات الداخلي يسفران عن ذكريات وأفكار ومشاعر ورغبات. وهنا يمكن لنوع من المنهجية أن يساعد في استخدام هذه المواد من أجل التطور اللاحق : فالوقت بين مرحلتين مهم بشكل خاص للقيام بعمل موازنة حياتية ( بيوغرافية ) ذاتية وتقليب  الذكريات الذاتية ومناقشة الذات.

    والأوقات المستقطعة تجعل المرء حساساً تجاه رغباته و دوافعه : ما الذي أريده في الواقع ؟ ما هي الواجبات والتناقضات التي  أثرت علي حتى الآن؟ هل أعيش لأحقق توقعات الآخرين ؟ ما الذي سيحدث لو أن حياتي انتهت اليوم؟ ما الذي بقي غير معاش ، وما الذي " أنجز " ؟ ماذا كنا سنكتب في بطاقة نعونا  لأنفسنا؟

    وبعد هذا التمرين على أبعد حد لابد من توجيه النظرة للأمام: وننمي تخيلات حول الكيفية التي ستسير بها الأمور، ونتصور  سيناريوهات مستقبلية في أفكارنا. وبما  أن الوقت المستقطع التأملي  ليس هدفاً بحد ذاته - فعلينا استغلاله، ولكن  ألاّ نتمسك به  إلى ما لانهاية . فالإنسان كذلك قد يفكر كثيراً جداً بنفسه  وبالطريق اللاحق. Stop getting ready !  فحتى هامليت خطا في لحظة من اللحظات للفعل. و تقول حكمة زينZen  : الكشف أولاً ولكن بعد ذلك لابد من شطف الأواني

     وحسب كلمة للمؤرخ إدوارد غيبون فإنه تتم تربيتنا مرتين في الحياة. الأولى تقوم بها المدارس والبيت والثانية تلك التي نوليها نحن لأنفسنا: التربية الذاتية هي التي تحولنا إلى بشر ناضجين و مثقفين حقاً. وأوقات العبور في الحياة ما هي إلاّ مراحل يمكن فيها دفع التربية الذاتية بصورة خاصة - فعندما نتعلم من خبراتنا يمكننا أن ننتقل إلى " صف " جديد.

    و ليس هناك من حلول جاهزة بالنسبة للمرحلة الثالثة ، أي للبدء من جديد والولادة الرمزية. فعند الانهيارات والمشكلات في حياتنا الخاصة غالباً ما نبحث متأثرين بتصور آلي عن الإنسان وبعقلية - تصليح مطابقة لهذا التصور عن معونات عاجلة في وصفات كيف تفعل ذلك How-to -do - Receipts   أو لدى " مولدين " علاجيين نفسيين أو لدى خبراء آخرين. إننا نريد أن يتم إصلاحنا بسرعة .

    ولكن ليس هناك من يستطيع أن يتولى عنا مسؤولية القرارات حول طريق حياتنا اللاحق ، ليس هناك من أحد يستطيع أن يقفز الترعة عنا.

    تتعلق نوعية مزاجنا بعد نقطة تحول ما والاتجاه الذي ستأخذه الرحلة بمقدار جودة تغلبنا على فوضى مشاعر نهاية المرحلة  وملاحظة الذات في الوقت المستقطع .  وكثير من البدايات الجيدة تبدأ كفكرة غير واضحة  ، كشعور غامض،  كحدس .  وتبدأ صورة داخلية بالتشكل وأحيانا تثير ملاحظة عارضة لشخص محايد خبرة " آها Aha   " - وفجأة يتضح الاتجاه الجديد،  الدور الجديد.  والبداية الجديدة ليست جديدة على النحو الذي  نأمله أو نتمناه على الإطلاق:  فنحن نحمل دائماً الهوية " الناضجة " من مراحل الحياة السابقة  إلى المرحلة الجديدة.  البداية الجديدة تعني صهر هذه الهوية القديمة مع الجديدة ودمج   الخبرات السابقة في " الحياة  الجديدة " بحيث لا تكون إرهاقاً بل مكسبا.

    وبعد زمن الانسحاب والتأمل والوحدة علينا أن نعد أنفسنا مع البداية الجديدة لارتكاسات محيطنا أيضا.  فغالباً ما يقابل محيطنا " الأنا المجددة "  بالقلق أو الشك، إنه يخشى الإبعاد أو " التخلف " الذاتي . ولكن كل معبر حتى وإن كنا مجبرين عليه يفتح فرصة للنمو الشخصي.

 

مأساة اللاأحداث

    لا تقتصر ضرورة السيطرة على المعابر في الحياة على نقاط التحول التي نحددها نحن بأنفسنا أو  على الأحداث  الخارجية التي نصطدم بها .  فعندما لا يكون مفرق الطريق معلماً بوضوح تصبح المهمة أصعب بكثير جداً - أي عندما يتعثر نمونا لأن شيء ما بالتحديد لا يحصل.

    واللاأحداث تعد خطيرة على الصحة النفسية والعافية مثلها مثل الفوضى والأزمات المرتبطة  بمواقف عبور واضحة . إننا نعاني من عدم حدوث شيء ما: إذ لا نجد شريك حياتنا المناسب، بل ولا حتى الحب الكبير. ولا نستطيع العمل في المهنة  التي نرغب ولا تتم ترقيتنا. ولم ندرك فرصة ما كبيرة ، وربما تكون  هي فرصة حياتنا، ولا نحصل على الاعتراف الذي نتوقعه، ولا نحصل على النجاح الذي نأمل ، ولا نستطيع الحصول على الطفل الذي نتوق إليه ،  أو حتى عندما لا يقتفي الابن أثرنا . إننا نأمل بشيء  بلا طائل، لن يحصل ، إننا ننتظر غودوت Godot.

    واللا أحداث عبارة عن خيبات، بل  إنها توقعات غير محققة ومجالات متصدعة   . اللاحدث ليس دراما، ولكنه غالباً ما يكون مأساة صامتة . لقد انزلقنا في مأزق - ولا نرى مخرجاً:  لقد استقلنا " داخلياً " ، ولكننا لا نرى فرصة لترك العمل غير المحبوب. ‎‎‎نجد أنفسنا محصورين في علاقة ولكننا لا نريد المغامرة بالطلاق فما زال الأولاد هنا و القرض العقاري للمنزل. اللاأحداث  تنخر في وعي الذات وغالباً ما تكون أسباباً متجاهلة للاكتئابات.

    إن الإحساس بتفويت شيء ما جوهري  وبعدم وجود أمل يشل ويعيق التطور النفسي. ويمكن وصف الإحساس بالحياة للإنسان الذي يعاني من اللاحدث من خلال ملاحظة  لهينري ديفيد تورري Thoreau  Henry David  مؤلف رواية التطور تحت عنوان Walden"" على النحو التالي: "تعيش غالبية البشر حياتها في شك صامت" . يمكن للاّأحداث أن تحطم الفؤاد بالحرف الواحد. وتشكل مقاومة هذا القنوط  وإدراك الخيبات عموماً والتوديع المبكر للأحلام غير المحققة وغير القابلة للتحقيق مهمة مركزية في الحياة، يجد  كل الناس تقريباً أنفسهم في مواجهتها منذ سن الثلاثين  على الأكثر .

    ويغلب ألاّ يتم الاهتمام بهذه المهمة الحياتية لأنه من الممكن أن يكون أن يكون الاعتراف بالأخطاء وتوديع الآمال مؤلماً جداً. وهكذا يتشبث كثيرون بمخططاتهم  ورغباتهم بصورة لا شعورية - حتى عندما يصبح واضحاً بأنها لن تتحقق على الإطلاق. إنهم يفضلون التمسك بالتعاسة  وأخيراً " باليأس  الصامت " ، بدلاً من  وضع  " البرنامج ب "، من وضع بديل ومنح حياتهم  اتجاهاً جديداً.

    وغالبية  اللاأحداث يدركها الإنسان فجأة -  يراها أمام أنفه :  جواب  قاطع بالرفض لا يترك ما يمكن للمرء أن يتمناه. أو نلتقي بصديق دراسة تجاوزنا مهنياً ويتباهي بالإضافة إلى ذلك بحظه الخاص ("منزلي، سيارتي، سائسة خيولي"). و أخرى تأتينا  بالتدريج:  لقد رفض مخطوط الرواية من 23 دار نشر . وتنهار لاأحداث أخرى  علينا ثانية و بعد سنين - يتلف الأمل بالتدريج  ونقترب بخطوات قصيرة من توديع الأحلام والأهداف.

    وبعض الاأحداث تؤلم لأنها تفضحنا ويصبح الآخرون شهود فشلنا ("لم يحقق \ تحقق النجاح")، في حين أن لا أحداث أخرى تؤلم لأنها خاصة جداً وعلينا وحدنا التعامل معها . في كل حال ترهقنا المشاعر السلبية- إنها الإشارات الأكثر وضوحاً بأننا أمام لا حدث : الخجل والحزن و الغضب والحسد وكذلك اللامبالاة والبلادة.

 

    وتغلب ملاحظة اللاأحداث المؤلمة في بعض مجالات الحياة بشكل خاص:

1-  تشكل الرغبة في الحب المفعم  والحميمية والمشاركة السماد للآمال الخائبة .  ويمكن ملاحظة مدى شدة التوقعات من شريك الحياة ( أو حتى من رفيق المرحلة الحياتية ) على سبيل المثال من إعلانات الزواج في الجرائد اليومية : فبما أن الإنسان يصور  نفسه وكأنه فارس الأحلام ( بعيوب صغيرة على أقصى تقدير ولكن محببة )، فإنه يحتمل - طبعاً كشريك فقط - أن يكمن خلف ذلك إنسان مثالي آخر. فالرغبات الرومانسية ، مختلطة غالباً مع الخوف من فوات قطار الزواج ، تولد وجداناً مدهشاً، لا يمكن  واقعياً إلاّ وأن ينجم عن واقع خائب.

2-  فإذا ما حصل وتم تأسيس أسرة فإنها تتحول إلى بيت بلاستيكي للاأحداث. فالخيبات تكمن في كل مكان : الرغبة بالأطفال لا تتحقق. أو لا يتطور الأولاد  بالشكل المرغوب _ إنهم ناكرون للجميل (الأولاد الجاحدون أحدُّ من ناب الأفعى : الملك ليير Leer )، إنهم  "يفشلون" في المدرسة أو لا ينفذون "وصايا" أخرى لوالديهم ، لوطيون أو سحاقيون أو أنهم بشكل آخر "غير" التصورات المرغوبة.

3-  تعتبر الحياة المهنية بالنسبة لغالبية البشر أهم مصدر  لأحاسيس القيمة الذاتية .إن الحاجة الأساسية بأن يكون الإنسان نافعاً ومهماً  والتمكن من إثبات قدراته الذاتية والانتماء إلى كل أكبر، تكون قوية إلى درجة أننا غالباً ما نستثمر  الجزء الأكبر من طاقتنا في المهنة.  وما زال اعتبارنا في المجتمع يتعلق بدرجة كبيرة  بالنجاح المهني. وبالتالي تكون اللا أحداث المهنية والإحباطات والخيبات أشد مأساوية. وغالباً ما تمتد آلام الإزعاجات المهنية حتى التقاعد: عدم الاعتراف، انكسار في الترقي المهني، عدم الترقية، عدم النجاح. وضمن ظروف سوق العمل الراهنة فإن الاأحداث المهنية مبرمجة : فالتطور المهني الحلم  في المهنة الحلم يعتبر من الناحية الإحصائية الخالصة استثناء كبيراً، وفرص الترقي  - وفق قانون الهرم - محدودة جداً. : فإيجاد عمل عموماً غالباً ما يكون اليوم عبارة عن  حظ خالص. حتى أن التعليم  الشكلي الجيد لم يعد يضمن إيجاد العمل. ومن يمتلك عملاً لا يجوز له اعتباره وظيفة ثابتة ولا الاعتماد على " امتنان " أو على الأقل على  إخلاص مؤسسته له.

 

    والتغلب على المآزق واللاأحداث المهنية  يصبح أسهل عندما :

1-     لا يتمسك المرء  بشدة بهدف رغبة ، أي بسيرة مهنية محددة.

2-     لا يحدد "النجاح" من خلال رموز الوضع الاجتماعي والدخل، وإنما من الرضى عن العمل: المساحات المتاحة من حرية اتخاذ القرار، الاعتراف من الزملاء، حق المشاركة بالرأي.

3-     يستطيع تقبل بأنه حتى عند وجود كفاءة جيدة فإن الترقي لا يمكن برمجته (حتى البابا قد وصل مهنياً إلى مرحلة النجد Plateauphase): غالباً ما يعني الترقي  القليل من الحرية  وأسرة أقل وإرهاق أكثر .

 

    وبرجع كون  اللاأحداث سبباً لعدم الرضى والاكتئابات "والمآسي الصامتة " في تاريخ بشر هذه الأيام لأنهم يرون  أنفسهم في مواجهة ضغط توقعات رهيبة:

1-     توقعات مجتمع جعل من الإنجاز واللياقة البدنية والنجاح آلهة له ويقدم لنا باستمرار نماذج جديدة علينا الإقتداء بها. وفي الوقت نفسه يقيد المجتمع ذاته فرص إمكانية تحقيق هذه " المُثُل " .

2-     التوقعات التي نطرحها نحن على أنفسنا (  والتي أصبحنا عاجزين عن التفريق بينها وبين توقعات الآخرين ):  فنحن نتوقع الشيء الكثير جداً من أنفسنا. لقد تمثلنا إيديولوجية التوقعات ونريد تحقيق كل ما خُدعنا به على أنه قابل للتحقيق: سعادة لا متناهية في الحب، جنس رائع ، ترقي مهني متصاعد ، أولاد مطيعون ، نحافة،  لياقة بدنية، إبداعية وذكاء ..الخ.

 

    متى يحين الوقت للخطة ب

    لقد استنتجت بيرنايس نويغارتن Bernice Neugarten  المتخصصة بعلم النفس النمائي بأن راشدين هذه الأيام يميلون بشكل دائم تقريباً إلى الملاحظة الذاتية : من أكون ؟ أين أقف؟ وهنا يتم وضع " برنامجاً زمنياً " : أما زلت ضمن البرنامج؟ أم أنني قد تجاوزت  الحدود  "التقليدية" للوقت من أجل تحقيق هدف حياتي ما؟

    صورتنا عن ذاتنا صارت أكثر فأكثر تشبه  تحت قسر  المقارنة باستمرار مع التصورات المثالية ، موازنة عاجزة. ما الذي لم نفعله، لم نحققه، لم ننجزه؟ . إننا أقل تساهلاً مع أنفسنا، بالإضافة إلى أنه من النادر جداً أن ندرك بأن اللاأحداث هي بشكل خاص تحديات للطبع والخيال: فهناك دائماً طريق آخر،  الخطة ب . فالإنسان  يستطيع  التعلم من الخيبات - حتى وإن كان ذلك مجرد المعرفة بعدم هدر وقت أطول بأهداف غير قابلة للتحقيق أو بتوقعات الآخرين. ومن أجل إدراك فيما إذا كنا قد عنَّدنا  -أو  أننا ننتظر حدثاً بلا طائل، ينصح مارتين سيلغمان  بتقنية "الجدل" Disputation  : نتناقش مع أنانا الأعلى الذي لا يرحم  حول التقديرات الخاطئة ومشروعيتها إلى أن يقتنع بأن الأهداف كانت غير واقعية و نقد الذات قاسياً.

ويمكن التغلب على الإحساس بالشلل والخسارة الذي ينطلق من اللاحدث عندما نحدده على أنه نقطة تحول ونبدأ بالبحث عن "الخطة ب" .

    علينا أن نخضع للحقيقة وندرك الأوهام على أنها أوهام : فجائزة نوبل أو الأوسكار واقعان خارج المدى في هذه الحياة.  إننا لن نجد فارس أحلامنا و لن نتمكن من كسب حب طفل أو احترام رئيسنا حتى عندما نجهد أنفسنا في سبيل ذلك. لقد لاحظ النفساني  جيمس بوغنتال بأننا نبتلي في أواسط حياتنا تقريباً بخبرات  " اللاعودة ". وهذا الشعور يظهر في  أغنية لماريانه فايتفول Marianne Faithful، : " ففي سن 37 أدركت بأنها مجرد ربة منزل ولن تسافر مع كابريو Cabrio  في رياح الصيف الدافئة إلى باريس .."

    وعندما يساورنا الشعور بأننا قد تهنا في الحياة نبحث عندئذ  - مثلما هو الأمر في مدينة غريبة - عن إحدى تلك الخرائط التي تظهر لنا : أنت هنا! وعندما نعرف موقعنا عندئذ نستطيع التفكير، إلى أين سنمضي؟ ما هي الطرقات التي مازالت متاحة لي ؟ ماذا أمتلك من وسائل وإمكانات ؟ وبدلاً الهدف غير المحقق وغير القابل للتحقيق أبداً لا بد من أن يظهر مخطط آخر.

    وتقترح النفسانية نانسي  شلوسبيرغ قاعدة أل 75% : فعندما نشعر في موقف حياتي ما بأننا غير سعداء في ثلاثة أرباع الوقت  ونمعن التفكير بالفرص الضائعة والرغبات غير المحققة ، عندئذ يحين الوقت للثورة. علينا أن نرمي الصابورة النفسية للخطة  أ  ونتوجه نحو الخطة ب.

 

برنامج المعابر  ذو النقاط العشرة

1-     أخذ الوقت الكافي: قد تتغير الظروف الخارجية بسرعة كبيرة ، غير أن السيرورة الداخلية للتلاؤم تأخذ وقتها ولا يمكن تسريعها.

2-  التخطيط لحلول مرحلية : من أجل حدوث التلاؤم الداخلي بدون أن يصل كل شيء إلى السكون لابد في كثير من الأحيان  تغيير روتين الحياة اليومية من خلال حلول مؤقتة - التنظيم المؤقت للبيت أو للعمل يساعدان في تخطي زمن التوجه.

3-  عدم فعل أي شيء، من أجل أن يحدث شيء ما: غالباً ما تكون أوقات العبور مرهقة ومقلقة - والإغراء  من أجل فعل أي شيء كي تتحرك الأمور أخيراً يكون كبيراً.

4-     ملاحظة الذات: إدراك لماذا يشعر المرء بالضيق .  يشير القلق والتوتر إلى  أن المرء واقع في مرحلة عبور.

5-  تدليل النفس: في مراحل العبور بالتحديد تكون الترابطية Continuity أو الاستمرارية مهمة - العادات التي تمتعنا، بدون  التأثير على سيرورة التغير الكبيرة : الموسيقى المفضلة، الطعام المحبب طقوس الاسترخاء الخ.

6-     استقصاء " الوجه الآخر" :  فسواء كان التغيير اختيارياً أم قسرياً فإنه من المناسب في كل الأحول التفكير بثمن وفوائد الموقف " فيما بعد ".

7-  إيجاد شخص يستطيع الإصغاء: إنه لمن المهم الحديث حول التغيرات التي يستتبعها العبور معه . ولا يتعلق الأمر هنا كثيراً بالحصول على نصيحة ما وإنما صياغة السيرورة الداخلية و إدراكه بوضوح.

8-  استقصاء الإمكانات الذاتية: ما هي المواهب  والمهارات التي كانت مهملة حتى الآن والتي يمكن استخدامها في المرحلة الجديدة؟ ما هي الاهتمامات التي يمكن أن تتفتح؟

9-  التعلم الجديد:  غالباً ما تتطلب المرحلة الجديدة معارف ومهارات جديدة - فكرية واجتماعية. فالتقنيات من المراحل السابقة لا تساعد كثيراً . والاستعداد للتعلم ضروري.

10- إدراك النمط الأساسي للمعبر :  يتمثل النمط الأساسي لكل معبر بانحلال التنظيم القديم  وما ينجم عن ذلك فوضى ونشوء تنظيم جديد. ومما يساعد هو إدراك هذه المراحل كضرورة  للتطور اللاحق  والإحساس  بمشاعر الفوضى على أنها مشاعر طبيعية وبشكل أقل توتراً.     

      

اسمي لا أحد : النصف الثاني من الحياة كدرس في إنكار الذات

    تعتبر فترة أواسط الحياة بالنسبة لغالبية الناس مرحلة عبور يفكرون فيها  بشدة بأهداف الحياة وتبديلات الاتجاه و بالنجاحات  واللاأحداث: فكيف ينبغي الاستمرار في النصف الثاني من الحياة؟

    تظهر أزمة أواسط الحياة Mid-life Crisis التي كثيراً ما يستشهد بها عندما تغلب اللاأحداث : إن الشعور بتضييع شيء ما جوهري يقود إلى أفعال تعويض مخيفة . في حين أن آخرين يغرقون في رثاء الذات ، لأنه منذ الآن  لن يكون إلاّ الروتين والتكرار. ولكن الاستسلام و التأثيرية Actionism   قلما يساعدان - إذ أن علامة التحول " أواسط الحياة "  تتطلب مواجهة واعية بشكل خاص  مع الممر القادم. أما الصعوبات التي لا بد من الالتفاف حولها  في هذا الممر فهذا ما تظهره حكاية لأحد أبطال  هوميروس :

    يمكن قراءة الأوديسة Odyssey على أنها ملحمة النصف الثاني من الحياة أيضاً: فرحلة العودة الخطيرة  تمثل صورة التحول التدريجي في الطبع.  فقد تم تنفيذ الأعمال البطولية المشكوك بها في الإلياذة ، ملحمة النصف الأول من الحياة - سلب النساء، القتال، الغزو التفاخر وطلب الجاه. أما موضوع الأوديسة فهو رحلة العودة للمحارب المتعب، الذي مل كلية من القتال ويتشوق للسلام في دار. غير أن عليه قبل ذلك أن يجتاز رحلة ضياع، رحلة سر سحري، رحلة  تظهر للوهلة الأولى وكأنها سلسلة من الهزائم ومصادفات غامضة وهروب .

    إن رحلة أوديس عبارة عن سيرورة استهلاك: فقد فقد  كل السفن  والرفاق تقريباً، إلى أن وصل في النهاية مع القليل من الناجين إلى بيته. غير أن أوديس قد فقد بشكل خاص هويته القديمة.  وعليه أن يتخلص خطوة فخطوة من أناه الذي قام على المجد والسلطة. لابد من تعلم تكتيك جديد. حتى أن حياته تتعلق أخيراً بأن ينكر نفسه:  ففي لقاءه مع الجبار ذي الشهرة الواسعة Polyphem سمى بطل طروادة نفسه " لا أحد " oudeis. لقد تحولت اللاهوية  إلى مصدر جديد لقوته. لقد انزلق أوديس أكثر من مرة في إغراء قطع رحلة العودة والاستسلام للحياة  المريحة والممتعة على الشواطئ الخلابة. فالساحرة  تسحره ويعده كاليبسو Kalypso: لن تشيخ أبدا! ولكنه يعرف بشكل من الأشكال أن هذا سوف يعني التراخي والاستسلام. فينتفض ويواصل رحلة (تطوره). والعمل الأساسي مازال ينتظره في البيت. فمنزله غير مرتب ومقرف ومخلوقات متطاولة قد سكنت فيه وتلح على بينيلوبا Penelopa المخلصة.  وعلى أوديس أن ينكر نفسه مرة أخرى ليتمكن من تنظيف حظيرة الخنازير - وكي يصل في النهاية.

فمن أجل اجتياز " رحلة عودة " النصف الثاني من الحياة لابد من القيام بخطوات ثلاث من التطور:

1-     التخلي عن الأهداف  والقيم القديمة ونسيان أنماط السلوك المألوفة.

2-     مقاومة إغراء الركود

3-     السعي نحو تنظيم البيت ( الداخلي ).

 

Document Code OP.0038

Samer.ChangePts 

ترميز المستند OP.0038

 

Copyright ©2003  WebPsySoft ArabCompany, www.arabpsynet.com  (All Rights Reserved)