Arabpsynet

Documentations   / وثائــق / Documentations

شبكة العلوم النفسية العربية

 

 

الفصامــي كيـف نفهمـه و نساعـده : دليـل الأسـرة و الأصدقـاء

الحياة اليومية مع المريض

سيلفانو أريتي / ترجمة عاطف أحمد

سلسلة عالم المعرفة - عدد 156 - 1991

 

 

    هل البيت هو المكان المناسب؟

     اجتاز المرحلة الحادة للمرض (أو قد لا يكون قد مر بها أصلا). على أية حال فهو حاليا في حالة طيبة، أو لا بأس بها، أو أفضل كثير من ذي قبل.

    فما الذي يعنيه وجود مثل ذلك الشخص بين أفراد الأسرة؟

لقد صاحب الاتجاه الحديث والذي يحوز قبولا واسعا لإخراج مرضى الفصام من المستشفيات بأسرع ما يمكن؛ اتجاه لإعادة التأكيد على دور الأسرة و إعادة تقييمه من وجهة نظر مغايرة، فلم يعد ينظر للأسرة على أنها مصدر المرض و إنما ينصب الاهتمام عليها بوصفها أداة رئيسية في استعادة المريض لحالته السوية. إذ يجب اعتبار المريض عرضة للانتكاس لفترة زمنية معينة و يجب أن يعامل خلالها معاملة خاصة حتى لو بدا أنه قد أصبح طبيعيا تماما.

و يجب النظر لمساهمة الأسرة في نقاهة المريض من خلال منظور أكبر هو التأهيل. و موضوع التأهيل سنعالجه في الفصل التالي حيث نتناول بالذكر المؤسسات التي أقيمت للنهوض به مثل: البيوت الانتقالية ، و المستشفيات و المراكز النهارية و أندية المرض السابقين، و الأسر المتبنية للمرض. إلا أن أسرة المريض نفسه تظل هي البيئة الأكثر شيوعا و الأكثر فاعلية في كثير من الأحيان، للقيام بعملية التأهيل. و بمقدور العديد من الدراسات التي أجريت حول الأسرة بوصفها مصدرا للصراع النفسي و المرض، أن تبين لنا الآن كيف يمكن للأسرة بدلا من ذلك أن تقوم بدور أساسي في مساعدة المريض.

و الأسرة و إن كان بمقدورها تأهيل المريض إلا أنها لا تستطيع القيام بالعلاج النفسي، و هناك فرق كبير بين التأهيل و بين العلاج النفسي، و إن كان التأهيل يخلط عادة بينه وبين العلاج النفسي أو يعتبر أحد أنواعه. و قد رأينا أن العلاج النفسي إنما يساعد المريض على أن يدرك الأسباب الكامنة وراء مشاعره وأفعاله. وأن يفهم كيف أن الأعراض المرضية إنما هي تعبيرات عن احتياجات لديه لم يستطع تقبلها فتحولت إلى اللاشعور. كذلك يساعده العلاج النفسي على التخلص من أنماط السلوك غير الموائمة و  من طرق التفكير الخاطئة.

و كثير على الأسرة أن نتوقع منها القيام بتلك المهام الشاقة. و بينما يقوم المعالج النفسي بالاشتراك مع المريض باستكشاف حياة المريض الداخلية، يقوم أفراد الأسرة بالاشتراك مع المريض باستكشاف العالم الخارجي، حتى يتبين له كيف أن العالم الخارجي ليس مرعبا مثلما بدا له من قبل بل هو مكان بمقدوره أن يجد لنفسه فيه موطئ قدم، بل ما هو أكثر من ذلك بكثير.

و لا توجد نظرية تفسر الكيفية التي تنتج بها عملية التأهيل آثارها المرجوة، سواء في الأسرة أم خارجها. لكننا نشعر عموما فيما يختص بالتأهيل خارج الأسرة بأنه يصبح فعالا حينما يوفر طرقا من شأنها تيسير إقامة المريض علاقات طبيعية مع الآخرين، و استعادة الثقة بنفسه، و الانغماس في نشاطات مثمرة.

و تشمل إقامة العلاقات الطبيعية مع الآخرين: علاقات حسن الجوار، و العلاقات المتبادلة مع زملاء العمل، و الصداقات، و الشروع في البحث عن الحب و المودة الحميمة. و تعني استعادة الثقة بالنفس الشعور بالأمل و التوقع تجاه حاضر الإنسان و مستقبله، أما النشاطات المثمرة فهي تشمل أمور الحياة المعتادة، و العمل، و العادات المألوفة، و حتى اللعب.

و على الرغم من أن التأهيل يشمل كل ذلك، إلا أن التأهيل الذي يجري داخل الأسرة ينطوي على ما هو أكثر بحيث لا تعود كلمة تأهيل هي التسمية المناسبة. فإذا تمسكنا بها فيجب أن نضيف إليها أنها نوع خاص من التأهيل يتضمن إعادة التكامل بين أفراد الأسرة ، ليس بمعنى مجرد استعادة كل فرد في الأسرة لدوره كما كان من قبل و إنما يعني تطوير تلك الأدوار في اتجاه التكامل داخل ذلك الوسط الشديد التقارب. فالتأهيل هنا يتضمن شعور الفرد بالألفة تجاه أسرته، و شعور بالأخوة تجاه الأشقاء والأقارب- أي يتميز بمضمون عاطفي وجداني أكثر مما نجد في التأهيل الذي تقوم به المؤسسات.

لكن دعونا نواجه مباشرة حقيقة عودة المريض لأسرته، فقد أضيف عامل جديد. و لم يعد جو الأسرة كما كان من قبل. و الإدعاء بأن كل شيء كما كان ليس إلا طمسا للحقيقة. إذ أن مثل ذلك الادعاء إنما يقوم على ميكانزمات الإنكار التي تؤدي إلى عواقب سيئة. و فضلا عن ذلك ليس من صالح الأسرة ألا تحدث بعض التغييرات. فالشفاء من الفصام ليس كالشفاء من التهاب الغدة النكفية أو الحصبة. و حدوث تغير في جو الأسرة ليس حدثا سيئا بعامة بل يمكن أن يؤدي إلى نتائج مرضية. و الحياة مع المريض يوما بيوم تصبح عملا علاجيا، و هو ليس عملا هينا حتى بالنسبة لأشد الأسر تعاونا.

و المشكلة الأولى هي اتخاذ قرار بما إذا كانت إقامة المريض مع أسرته هي أنسب الحلول. و على الرغم من أن كل المعنيين بالأمر يشاركون في اتخاذ القرار إلا أن المسؤولية الرئيسية تقع على عاتق الطبيب المعالج. و تختلف وجهات النظر في أوساط المشتغلين بالطب النفسي حول هذه النقطة. فترى قلة منهم أن الأسرة لا تستطيع القيام بأي دور علاجي، لأن الصراعات النفسية التي أدت إلى المرض إنما نشأت داخل إطار الأسرة. فهم يرون أن أسرة المريض، والمريض، والحالة المرضية، إنما تشكل معا وحدة واحدة أدى عدم سوائها إلى تلك النتيجة. و لاشك أن هذا الوضع يوجد فعلا في كثير من الحالات. إذ نجد أن الصراعات داخل الأسرة مازالت قائمة. و أن حلها أو حتى تخفيف حدتها بعيد الاحتمال بحيث يصبح القرار السليم هو أن يعيش المريض بعيدا عن أسرته. و حتى لو رأى الطبيب النفسي أن المشاعر السلبية القوية التي يحملها المريض تجاه أسرته لا مبرر لها و إنها نتاج لسوء التأويل من جانب المريض، فليس من المستحسن أن يعيش مع أسرته حتى تتغير نظرته تلك. و نؤكد هنا ثانية أن مشاعر المريض تلك، على الرغم من أنها لا تنبني على أساس من الواقع، إلا أنها بالنسبة للمريض نفسه حقيقية جدا و يجب احترامها. و التصرف على غير هذا النحو قد يؤدي إلى نتائج غير طيبة.

و أحيانا أخرى نجد أن المريض راغب فعلا في الإقامة مع أسرته، لكن الطبيب النفسي لا يوافق على ذلك لأنه يرى أن تلك الأسرة بالذات ليس باستطاعتها مساعدة المريض، فليس كل شخص قادر على ذلك. و بعض الأقرباء تكون لديهم نوايا طيبة، إلا أنهم يكونون مشغولين عنه بمشاكلهم الخاصة، و متاعبهم، و أمراضهم، أو بأعمالهم المجهدة، إلى درجة لا تسمح لهم بالمساهمة في أداء مهمة شاقة بطبيعتها. فإذا اتجه الرأي إلى عدم إقامة المريض مع أسرته، نستطيع اللجوء إلى أحد المساعدين العلاجيين أو أحد مرافقي المرضى النفسيين كما سيرد في الفصل العاشر. و يجب التزام الحرص في اتخاذ مثل تلك القرارات، لأن إقامة المريض مع أسرته و إن كانت هي أفضل وسائل التأهيل، إلا أنها قد تكون أيضا أشدها خطورة على المريض. فمهمة الأسرة لا تنحصر في مجرد إيواء المريض، و إنما عليها أن تشكل جوا من التقارب و المودة الحميمة يقتسم فيه الجميع الأحزان و الأفراح معا.

 

·         تهيئة الأسرة للمهمة:

يستمر الكثير من المرضى الحاليين و السابقين في الإقامة مع أسرهم، إما لأن الطبيب النفسي رأى أن ذلك أفضل للمريض أو لأنه لم يكن ثمة بديل آخر. و بعض الأطباء النفسيين لا يقومون بإعداد الأسرة لتلك المهمة، لكنني أعتقد، من بين آخرين كثيرين، أنه من المهم تهيئة الأسرة بشكل عام. و الهدف هنا ليس قيام أفراد الأسرة بمهمة التمريض النفسي و إنما تمكينهم من فهم طبيعة المشاكل المتوقعة حتى يتزودوا بالفهم إلى جانب عاطفتهم تجاه المريض و اهتمامهم الشخصي به. و أنا مدرك- و  أود أن أجعل الأسرة تدرك أيضا- أن أفراد الأسرة لديهم ميزة كبيرة لا تمتلكها أفضل الممرضات. فسيظل المريض بالنسبة للأسرة على الدوام شخصا، و ليس مجرد حالة طبية. كما أن أفراد الأسرة يعرفون ما يحب المريض وما لا يحب.

و قد اعتدت أن أبدأ توجيهي للأسرة بالإشارة إلى أن الكائنات البشرية قد تعلمت منذ طفولتها أن تتعامل مع الآخرين- على الأقل في القسم الأكبر من العلاقات- بطرق نستمدها من المجتمع أو من الوسط الخاص الذي نعيش فيه. و ينتقد المجتمع أو يرفض أو حتى يعاقب أولئك الذين لا يتبعون الأساليب المقبولة في التعامل مع الآخرين. و أساليب السلوك المقبولة تعكس تقاليد عمرها قرون عديدة من الزمان و ذات جذور عاطفية عميقة في حياة معظم الأفراد و المجتمع يحافظ عليها ليس فقط بالقدوة و المحاكاة، و التعليم، بل أيضا بطرق الثواب و العقاب و حتى بالتلويح بالقوة. و أساليب السلوك الاجتماعية ذات قيمة تربوية لاشك فيها إلا أنها قد تصبح وخيمة العواقب بالنسبة لمريض الفصام و لمن هو في مرحلة النقاهة منه إذا هي فرضت عليه أو إذا ألزم نفسه بها. فيجب على الأسرة أن تخفف من تلك القيود بالنسبة للمريض بقدر الإمكان على الأقل في فترة نقاهته. إذ يجب أن يشعر المريض بأنه مقبول حتى لو كان مختلفا أو غير مراع للأعراف الاجتماعية السائدة. على أن تقبل المريض كما هو لا يعني تقبل سلوكه دون تمييز، كما سنرى لاحقا. فالمريض يجب أن يتكامل تدريجيا داخل حياة منظمة.

و معظم الأقارب يصرون على عدم معاقبة المريض العائد إلى البيت حين يصدر منه سلوك مناف للعرف. و هم يتحدثون بإخلاص شديد عن أنهم يعرفون أن سلوك المريض حتى لو كان منفرا إنما هو نتيجة لمرضه و بالتالي لا يحاسب عليه. و الواقع أنهم ما لم يدربوا أنفسهم على غير ذلك فإنهم يعاقبون المريض بطرق غير ظاهرة للعيان. أي بطرق قد لا يلاحظونها هم أنفسهم لكنها تبدو واضحة للمريض الذي يكون قد اكتسب حساسية خاصة لأية إشارات غير سارة تأتي من الوسط المحيط به. فقد يعاقب أحد أفراد الأسرة المريض بأن يتجنبه أو لا يجالسه إلا قليلا، بأن لا يتحدث معه أو يحادثه بجمل جافة مقتضبة، بأن لا ينصت لما يقول أو يجيب عما يسأل، بأن يتخذ تجاهه موقفا متعطفا أو متغطرسا أو متعاليا، بأن يكون دائما متعجلا حينما يتعامل مع المريض، بأن تعبر ملامح وجهه عن الحيرة أو الضيق أو السأم أو عدم الرضى، و أحيانا بإشارة امتعاض. فعلى الفرد من أفراد الأسرة ألا يلاحظ فقط سلوك و مواقف المريض بل أيضا سلوكه و مواقفه هو- هو بالذات.

و دعونا نفترض أن شقيق المريض يريد فعلا أن يكون ودودا معه، مساعدا له، و أن يمنحه شعورا بالطمأنينة. و بدلا من أن يكون المريض الذي عاد من المستشفى لتوه ممتنا لذلك نجده فاقدا للثقة بشقيقه، مستهزئا به، معاديا له. فمن الطبيعي أن يكون رد فعل الشقيق حينذاك أن يتضايق و أن ينتابه الغضب و ربما يشعر بالإدانة تجاه المريض. و المريض بدوره يلاحظ ردود فعل شقيقه ذلك فيتدعم لديه شعور عدم الثقة و العدائية. و تتكرر الحلقة المفرغة. و المفروض هنا بالطبع أن يدرب الشقيق نفسه على ألا يستجيب لتصرفات شقيقه المريض بالطرق المألوفة، بل عليه أن يدرك أن المريض مازال بحاجة قوية لأن يقوم بإسقاط توتراته الداخلية على الآخرين، و أن يلوم الآخرين بشأنها.

     و المثال التالي يوضح الشكوى التي نسمعها كثير من أهل المريض: "أريد أن أكون حقيقيا، طبيعيا. فمنذ عادت جين أصبح علي أن أفكر في كل كلمة أقولها، و لم يعد باستطاعتي أن أكون تلقائيا". لكني لا أدري ما إذا كان ما أفعله هذا صواب. فقد يكون سلوكي المتصنع هذا ضرر عليها. إنني أومن بأن علي أن أكون حقيقيا. و مثل هذه الشكوك التي يطرحها قريب المريض أمام نفسه أو أمام الطبيب النفسي إنما هي شكوك مشروعة و جديرة بكل اعتبار. لكن عليه أن يمضي أبعد من ذلك في تحليل ما يعنيه بكلمة حقيقي أو أصيل. فأن يفكر في كلامه قبل أن يتحدث إلى جين لا يعني بالضرورة أنه فقد أصالته. لكن أن يتصرف كما لو أن شيئا خطير لم يحدث لقريب أو عزيز لديه لا يعني أنه يتصرف بأصالة. و إنما الأصيل و الأكثر جدوى هو أن ندرك أن علينا، بسبب من قابلية المريض للانتكاس و لحساسيته الخاصة، أن نغير من بعض أساليب سلوكنا و أن نحجم عن استعمال كلمات أو عبارات قد تبدو له غامضة أو تنطوي على تهديد ما. و فضلا عن ذلك، علينا أن نتذكر أننا خلال تعرفنا على مواطن ضعف المريض و حساسيته الشديدة،  يمكن أن نكتشف أين و متى نكون دون قصد فاقدين للحساسية أحيانا إلى درجة الجمود. و قد نكتشف أننا ربما أردنا أن نملي عليه أساليبنا نحن لأننا نراها أكثر صلاحية أو أكثر صوابا- أو ربما ببساطة لأننا نميل إليها أكثر من سواها.

فالحياة مع مريض فصامي أو في مرحلة النقاهة من الفصام تتطلب منا بذل أقصى جهد لأن نضع في الاعتبار ذلك الشخص و كل ما له من حقوق، و أن نتقبل حاجته لتلبية رغبات خاصة لديه. و هو أمر صعب حتى بالنسبة للفصامي لميلنا التلقائي لمساعدته عن طريق إسداء النصح، و التوجيه، و تصويب مظاهر السلوك المرض،  وإلقاء المواعظ حول التوافق مع المجتمع.  و يجب أن نعرف أيضا أن مساعدة المريض الراشد أكثر صعوبة من مساعدة المريض في سن الطفولة. فبالنسبة للطفل لا نشعر كثيرا بحرج في أن نعطيه تعليمات، أو نصائح مباشرة، أو أن نقوم إزاءه بدور إيجابي. لكننا نحجم عن ذلك مع المريض الراشد، حتى لا يفسر اهتمامنا به على أنه وصاية لا مبرر لها، أو دليلا على أننا نعتبره عاجزا، أو طفلا أو غير عقلاني في تصرفاته. فالرعاية الأبوية الزائدة قد تشعره فعلا بالإهانة، وقد تدعم لديه فكرته المتدنية عن نفسه. و من العادات السيئة أيضا، و التي قلت كثير لحسن الحظ، اعتبار ما يقوله المريض مجرد كلام بلا معنى و أحيانا مثارا للدعابة.

و من الواضح مما عرفناه من هذا الكتاب، أن ما يبديه المريض من ملاحظات أو شكاوى يجب أن يلقى اهتماما و يقدر باحترام. فمخاوف المريض و معتقداته الضلالية حقيقة واقعة و حية  و هي دائما خبرة مؤلمة له، حتى و إن كانت ناشئة عن عمليات نفسية معقدة لا يفهمها سوى الطبيب النفسي. فإذا لم يستطع أحد أفراد الأسرة أن يفهم ما يقوله المريض، فإن عليه على الأقل أن يستجيب لندائه بأن يلتفت إليه أحد و لرغبته في أن يحادثه أحد، كذلك عليه وفقا لقدراته أن يؤثر في المريض و يوجهه، ليس عن طريق قمع نشاطاته، بل عن طريق زيادة معارفه و إيضاح المواقف الصعبة. و كما ذكرنا آنفا، فإن فرد الأسرة المتعاون يكتسب بالتدريج معرفة بمواطن حساسية المريض و يصبح أكثر تنبها لما قد يؤثر عليه تأثيرا سلبيا. و يجب أن يكون لديه " هوائي" قادرا على التقاط ما قد يزعج المريض وأن يكون دائم اليقظة دون ما مبالغة في العناية به أو فضول زائد، فعليه أن يكون قريبا منه بقدر يسمح له بالعطاء حينما يكون العطاء مطلوبا، و أن يكون بعيدا عنه بقدر لا يسبب له إزعاجا حينما يكون غير قادر على التواصل. ويمكننا القول، حسب تعبير هاري ستاك سوليفان بأن المريض حين لا يكون قادرا بعد على تقبل المودة، يصبح سيئ الظن بالآخرين فيفسر تعبيرات المودة على أنها تخفي وراءها دوافع مغايرة. و الأسرة القادرة على تحمل الصعوبات الكامنة في معايشة مريض فصامي ناقه، تعتبر عاملا بالغ الأهمية في الوصول إلى أفضل النتائج. و على الرغم من أن أحد أفراد الأسرة قد يكون أكثر تقاربا مع المريض، إلا أن جميع الأفراد عليهم أن يتعاملوا معه و أن يقدموا له دعما متبادلا. فحينما يتسم جو الأسرة بالتضامن يصبح من الأيسر أن تتوفر للمريض بيئة متفهمة و مستقرة. و يصبح المريض في مثل هذا الوسط العلاجي، موضع ترحيب و احترام كالابن التائب. فهو موضع قبول بصرف النظر عما هو عليه الآن أو ما كان عليه في الماضي. و التعامل معه يجب أن يتسم بالاهتمام به، و الصبر و الجلد، و بقدر ملائم من التسامح. كما يتسم بشعور بالأمل في قدرة المريض على التحسن، و بثقة في قدرته على النمو.

و على الرغم من أن موقف القبول يتضمن قدرا كبير من التسامح، إلا أن ذلك لا يعني أن يترك المريض يتصرف كما يشاء بلا حدود. و غالبا ما يدرك المريض نوع السلوك الملائم له حينما يسود حوله جو من المودة يخلو من الرفض أو العقاب أو التصغير من شأنه أو الاستهزاء به. و يعتبر التهديد بإعادته للمستشفى إذا لم يسلك سلوكا ملائما، أمرا محطما لمعنوياته في أقصى حد. فإذا أصبحت المشاكل لا تحتمل، أو إذا ازداد التوتر في العلاقات داخل الأسرة على الرغم من النوايا الطيبة لدى جميع أفرادها أو إذا أصبح هناك احتمال أن يقدم المريض على الانتحار أو على أفعال عنيفة، فيجب التفكير جديا في إعادته للمستشفى. و لا يجب أن يصور ذلك للمريض على أنه عقاب، بل على أنه تلبية لحاجة لديه للحياة في جو يسوده النظام و العمل المنسق الأمر الذي لا يتوفر في جو البيت.

    و من الإنصاف أن نقول إن تلك المهمة أكبر عموما من أن تتحملها الأسرة، ما لم يصاحبها بالإضافة للعلاج النفسي الفردي، نوع آخر من العلاج هو علاج الأسرة.

يذهب كثير من الباحثين إلى أن علاج الأسرة يقلل كثيرا من حدوث النكسات، و يختزل فترة العلاج اللازمة للمريض، و يحسن أحوال الأسرة عموما بصرف النظر عن المريض نفسه. و أنا لم أركز حتى الآن على دور علاج الأسرة. و يعود ذلك جزئيا إلى حقيقة أن قلة ضئيلة من الأسر ترحب بمثل هذا النوع من العلاج. و حيانا نجد ترحيبا من بعض أفراد الأسرة دون باقي الأفراد. و في كثير من الأحيان لا تسمح الموارد المالية للأسرة إلا بعلاج المريض في فترة نقاهته. و كما ذكرنا في الفصل الرابع، لا تعتبر المصاعب الأسرية السبب الوحيد للفصام لكننا نستطيع أن نقول و قد وصلنا إلى هذا الحد من المعرفة، أنها تعتبر واحدة من الأسباب الرئيسية. و قد لا يكون حل تلك الصعوبات حاليا له نفس التأثير فيما لو كان قد تم في فترة طفولة المريض أو قبل المرض، لكنه يظل مؤثرا لدرجة كافية لتحسين البيئة الاجتماعية التي على المريض أن يعيش فيها فترة طويلة. و يمكن لعلاج الأسرة أن يجيب عن التساؤلات التالية: هل مازالت هناك عمليات نفسية تجري داخل الأسرة ضد المريض مثل الإنكار، و سوء التأويل، و التمسك بالخرافات؟ هل مازالت الأسرة تعاني من حالة الانشقاق  Shism التي وصفها الطبيب النفسي تيودور ليدز Theodore Lidz ؟  ما نوع العلاقات القائمة بين أفراد الأسرة ؟ هل الحوار الذي يجري بينهم حوار حقيقي أو مزيف؟ هل تبادل المنافع حقيقي أو مزيف ؟ هل هناك أصالة أو ألعاب نفسية؟ و على الرغم من أننا نحبذ بقوة علاج الأسرة ما أمكن، إلا أنه على الأسرة نفسها أن تصبح في جميع الأحوال بمثابة وسط علاجي، و أعتقد أن هذا الأمر ممكن في كثير من الأحيان.

و يحبذ بعض المعالجين أن يتسع نطاق علاج الأسرة ليشمل أيضا الأقرباء من الدرجة المتوسطة أو حتى البعيدة، مثل الأعمام و الأخوال و أولاد العم و الأجداد، حتى يشارك الجميع في إعادة تكامل المريض. و هي محاولة تستحق التشجيع كلما أمكن  ( لكنني لسوء الحظ نادرا ما  نجحت في ذلك. ربما لأنني كنت أمارس العلاج في عاصمة كبيرة تلاشى فيها عمليا الطابع العشائري للأسرة).

فقد اختزلت الأسرة في عدد قليل من الأفراد أو في مجموعة "نووية" ليست لها صلات حميمة بالأقارب البعيدين أو من الدرجة المتوسطة، و أولئك الأقارب أنفسهم قد لا يرحبون كثيرا بأن يتحملوا مشقة الذهاب لمساعدة مريض لا يعرفونه جيدا. إلا أنني من قبيل الدقة يجب أن أذكر أنني صادفت أحيانا أجدادا محبين لأحفادهم صغار السن و أنهم قدموا لهم مساعدة ممتازة.

 

   موضوعات خاصة:

يجب أن أؤكد ثانية- قبل الشروع في وصف الكيفيات التي تتخذها الحياة مع فصامي في مرحلة النقاهة- على أن كل حالة تختلف عن الأخرى، فكل منها تتشكل من ظروف متفردة داخل بيئة لا تماثل تماما الحالات التي سبقتها. و سنتحدث الآن عن مسائل خاصة يتكرر حدوثها أثناء الحياة اليومية مع المريض. و قد أشرنا في الفصول السابقة في أمر هام متواتر الحدوث. فالمريض لم تعد لديه معتقدات ضلالية إلا أنه مازال يسيء تفسير كثير من تصرفات الآخرين تجاهه، فيراهم في صورة أسوأ بكثير من الواقع، و قد ينزع إلى توجيه الاتهامات، و بالذات لوالديه، اللذين أصبح يعتبرهما مصدر متاعبه. و هو يوجه اللوم أيضا لبقية أفراد الأسرة. لكن بدرجة أقل. و هذا في الواقع أمر يصعب تقبله. و أفضل تصرف في هذه الحالة هو تجنب الجدال مع المريض أو إخباره بأنه مخطئ. إلا أنه من الصعب على كثير من الآباء و الأمهات ألا يتخذ موقفا دفاعيا، فهم يشعرون أن كبرياءهم قد جرح، و قد يتملكهم الغيظ فينبرون للدفاع عن أنفسهم بأقصى قوة و كأنهم أمام محكمة. فإذا استسلموا لتلك النزعة فستمضي المحاكمة إلى مالا نهاية دون أي تقدم. و من الحكمة في تلك الحالة أن يتجه الأب إلى المريض قائلا: "ربما يأتي الوقت الذي ترى فيه بصورة مختلفة ما فعلناه و ما نحاول أن نفعله" كذلك يمكن للوالدين في نفس الوقت أن يطمئنا المريض قائلين أن كل فرد في الأسرة سوف يقوم بما عليه أن يفعله لتلبية احتياجات الجميع و ضمان حقوقهم على أفضل نحو ممكن. لذلك يحمل المستقبل إمكانات أفضل بكثير مما كانت عليه في الماضي.

و على الرغم من أن نقاط ضعف المريض و حساسياته يجب وضعها في الاعتبار إلا أنه لا يجب تضخيمها. إذ يجب ألا نجعل المريض أكثر اعتمادية على الآخرين و لا يجب أن نعامله على أنه غير صالح لشيء أو على أنه طفل. فإذا كانت النشاطات الحياتية لبعض المرضى الناقهين تتوقف في معظمها، فإن نشاطات الأكثرية لا تتأثر إلا بدرجة بسيطة. و علينا أن نستثمر كل النواحي التي لم يؤثر فيها المرض أو مسها مسا هينا. و إيجاد دور للمريض داخل نطاق الأسرة يعتبر من الأهداف الرئيسية. فيجب أن يعهد إليه ببعض الأعمال المنزلية. و ذلك أمر يسير بالنسبة للمرضى من الإناث، لكن حتى الذكور منهم يجب أن يتحملوا بعض المسئوليات المنزلية فشعور المريض بأنه عضو فعال داخل الأسرة أمر مفيد له، كما أنه يتيح لأفراد الأسرة أن يتخلصوا إلى حد كبير من مشاعر الشفقة و الإحباط المتبقية لديهم تجاه المريض.

و قد لوحظ أن المرضى من العائلات الفقيرة يتم تأهيلهم داخل الأسرة أسرع من أولئك المنتمين إلى عائلات غنية. فالأثرياء يميلون للاعتماد على غيرهم في أداء الأعمال الروتينية. فمن الصعب في أسرة ثرية أن تعهد إلى المريض بأعمال منزلية. و يجب تشجيع المريض على العناية بغرفته لكن يستحسن أيضا ألا يقتصر نشاطه على ما يتعلق به شخصيا. بل على العكس، عليه أن يشارك في أعمال تعود بالنفع على الأسرة ككل.

و غالبا ما يفتقد المريض القدرة على المبادرة خصوصا بعد عودته مباشرة من المستشفى و على أفراد الأسرة أن يبادروا هم بحثه على ممارسة بعض الأعمال و عليهم أن يكونوا صبورين إلى حد كبير. فمن خصائص المريض في تلك المرحلة أن يؤدي الأعمال ببطء شديد بالمقارنة بالشخص العادي. فضعف القدرة على التركيز، و وجود أفكار دخيلة في ذهنه، و معوقات من شتى الأنواع، كل ذلك قد يفوق أي نشاط يقوم به. لكنه لو استمر رغم ذلك في العمل على أسس مستقرة و لقي تشجيعا لما يفعل بصرف النظر عن بطئه، فسينمو لديه شعور بالرضى. و كلما قويت ثقته بنفسه كلما أصبح أداؤه أسرع إيقاعا.

و أحد الأسئلة التي تطرح كثيرا هي: إذا لم يعد المريض شاعرا بالرضى عن أية أعمال أو مهام يعهد إليه بها داخل إطار المنزل، فهل يجب على الأهل أن يوجدوا له عملا ما. فقد يكون الأب و العم يملكان مصنعا كبيرا، فهل يدبران وظيفة به للمريض؟ أحيانا تكون هناك وظيفة شاغرة، و أحيانا أخرى يكون تدبيرها أمرا يسيرا. و مرة أخرى، لا نستطيع تقديم إجابة واحدة لكل الحالات و القاعدة العامة الصحيحة هي أن الشخص الذي يعاني من مشكلات خطيرة لا يجب أن يعمل لدى أقاربه. فإذا كان قد أصبح سويا أو قريبا من السواء فيجب حثه على العمل لدى آخرين. لكن، من ناحية أخرى، إذا كان مازال شديد البطء أو كان غير قادر على الالتزام ببرنامج يتطلب منه الاستيقاظ مبكرا و القيام بأعمال متنوعة فيمكن له -على الأقل مؤقتا و لدواع عملية بحتة- أن يعمل لدى الأب أو أحد الأقرباء ذوي الاستعداد لتقبل بطئه أو عدم انتظامه في العمل.

وقد لاحظ كثير من المعالجين أن المرضى الذين يعودون من المستشفى للحياة مع أزواجهم أو زوجاتهم، يستعيدون قدرتهم على مزاولة الأعمال المهنية، بصورة أفضل كثيرا من أولئك الذين يعودون للحياة مع والديهم. فشريك الحياة بعامة لا يعامل المريض على أنه شخص معتمد على الآخرين، و هو أقل استعدادا لتقبل سلبيته، كما أنه أكثر تشجيعا للمريض لأن يستعيد دوره الإيجابي في الحياة. بينما نجد الآباء، من ناحية أخرى، أكثر ميلا لممارسة الدور الأبوي و لتدعيم الميول الاعتيادية لدى المريض.

و من الأسئلة التي تطرح كثيرا السؤال التالي: هل يجب أن ندفع المريض لأن يكون نشيطا أم لا ؟ و مرة أخرى لا توجد إجابة واحدة. فبالنسبة للمرضى ذوي الميل إلى السلبية يجب دفعهم دفعا بسيطا، لكن يجب أن يكون دفعا حنونا، بقفاز من حرير و ألا يكون عن طريق الأوامر التسلطية بأي حال من الأحوال. و يجب أن نشجع المريض و أن يمتدح عندما ينهي أي عمل من الأعمال بصرف النظر عن حجم نتائجه أو بطء أدائه. و العكس صحيح حينما يريد المريض الإقدام على أعمال ليس معدا لها بعد: كأن يعود مباشرة لعمله. أو أن يبحث عن وظيفة جديدة، أو أن يعود لكليته لينهي الفصل الدراسي، أو أن يعيش مستقلا في شقته الخاصة، و ما إلى ذلك. ففي مثل تلك الأحوال يلزم استخدام أساليب التأجيل فينصح المريض بأن يؤجل تلك المشاريع بعض الوقت حتى يصبح قادرا على مواجهتها بكفاءة أكبر. و يجب ألا تثبط همته بأي حال من الأحوال و إنما يقترح عليه تقسيم مشروعاته إلى مراحل يتلو بعضها بعضا بتمهل. و يجب في نفس الوقت حفزه إلى الاستفادة بما لديه من إمكانات يمكن توظيفها داخل المنزل، بدءا من قضاء بعض الحاجيات البسيطة إلى حساب ميزانية الأسرة.

و قد نجد في بعض الأسر، أنواعا أخرى من المشاكل، فتوقعاتهم بالنسبة للمريض قد تكون أكبر بكثير من قدراته. و قد ذكرنا أن شريك الحياة بالمقارنة بالوالدين عادة ما يكون أكثر حفزا للمريض على القيام بدور نشط. و على الرغم من أن ذلك يؤدي بصفة عامة إلى نتائج إيجابية، إلا أنه قد يكون ضارا بالمريض إذا كانت التوقعات أكبر من إمكانيات المريض الخارج من نوبة حادة. فالزوجة قد تتوقع أن يقوم زوجها فورا بتحمل أعباء الأسرة المالية. و الزوج قد يتوقع من زوجته أن تنهض بالكامل بمسئولياتها كأم. على أن إدراك حقيقة أن استعادة الصحة يتطلب وقتا، من شأنه أن يخفف من حدة التوتر، و نفاد الصبر، و فتور الأمل.

و من الشكاوي الشائعة، خصوصا بين الأزواج الشبان، أن المريض الناقه قد ضعفت قدراته الجنسية. إلا أن شريك الحياة حينما يعرف أنها حالة مؤقتة ستزول مستقبلا يصبح أكثر قدرة على تحملها. و ضعف الرغبة الجنسية يعود عموما إلى عديد من الأسباب أكثرها شيوعا هو تأثير الأدوية التي يتعاطاها المريض. فالعديد منها يضعف الرغبة الجنسية، و بخاصة بين الذكور، و قد يؤدي إلى امتناع القذف. و بعض الأطباء النفسيين يخبرون مرضاهم بأنه من المتوقع أن يعانوا من ضعف رغباتهم الجنسية و يؤكدون لهم أن تلك حالة مؤقتة تزول بتقليل جرعة الدواء أو إيقافه أو تغييره. والكثير منهم يغفلون ذكر ذلك لشريك الحياة الذي يجب أن يعلم أيضا أن تلك حالة مؤقتة.

وقد  يرجع فقدان الرغبة الجنسية إلى أن المريض اعتاد ألا يهتم إطلاقا بالأمور الجنسية أو أنه ظل منشغلا لفترة طويلة بأمور أخرى، بحيث لم تنم لديه الرغبات الجنسية أو تعود على عدم وجودها. و في أحيان أخرى يكون على المريض أن يعيد تقييم علاقته (أو علاقتها) بشريك حياته ليعرف أين يقف. و على شريك الحياة أن يحث المريض على أن يناقش مع المعالج ما يعانيه من شعور لعدم الأمان أو القلق أو مشاعر العداء التي لم يتحرر منها.

و ثمة شيء مؤكد و يجب أن يكون واضحا. هو أنه ليس صحيحا أن مريض الفصام في فترة النقاهة يكون فاقدا للشعور باللذة. أي غير قادر على ممارسة أي نوع من الملذات بما فيها اللذة الجنسية. فالحقيقة أن المريض يكون قادرا على ممارسة اللذة بالكامل بمجرد أن يشفي و يقترب من الشفاء، بل إنه قد يمارس اللذة الجنسية بدرجة لم يصل إليها قبل المرض. و ثمة مجموعة من المرضي تشتد لديهم الشهوة الجنسية منذ بداية المرض و تظل كذلك طوال فترة المرض.

 

      التداخل و فرط التداخل:

يساعد التشاور مع المعالج كلا من المريض و أسرته على تجنب مخاطر زيادة التعرض للمثيرات أو نقصه، أي تواجد المريض في بيئة تتوقع منه أكثر بكثير من قدراته أو تقدم له أقل بكثير من احتياجاته.  و الواقع أن تحديد التوازن الصحيح قد يكون صعبا في بعض الأحيان، فزيادة المثيرات تفرض على المريض مواجهة متطلبات تفوق قدراته. فإذا كان المريض ميالا للانسحاب، خاملا، أو بادي العزوف عما حوله، فإن أقاربه حسنو النية يحاولون جذب اهتمامه بعدد لا يحصى من الطرق، فيأخذونه مثلا إلى دور السينما، و المتاحف و المسارح، و يعيدون و يزيدون في الحديث إليه و في رواية الحكايات عن الأيام الجميلة التي قضاها معهم في الماضي. و قد يشعر المريض أنه في غمرة طوفان، و بخاصة إذا كان قد عاد لتوه من المستشفى، و هو رغم العلاج و رغم النشاطات المهنية، يشعر أنه وحيد. و قد يكون أمرا بالغ المشقة بالنسبة إليه أن يحاول التأقلم مع وضع يتطلب قدرا زائدا من التداخل أو يعرضه للتحدث كثيرا مع الآخرين.

فإذا حدث حينئذ أن أشار المريض إلى بيته قائلا "هذا ليس مكاني"، أو إذا قال: "إنني مضغوط من كل اتجاه" فإن تلك الكلمات تعتبر ذات دلالات خطرة. و على الأهل إن يدركوا أن الوقت قد حان كي يرفعوا أيديهم عنه إذا جاز التعبير، أو على الأقل يخففوا من قبضتهم عليه.

و يفرق بعض الباحثين البريطانيين بين نوعين من العبء الذي تتحمله أسرة المريض، هما العبء الذاتي و هو تقدير الأسرة لمدى المعاناة التي يلاقونها بسبب حياة المريض بينهم، و العبء الموضوعي، و هو تقدير الباحثين أنفسهم لمدى تلك المعاناة. و طبقا لنتائج أولئك الباحثين فقد وجد أن هناك تفاوتا بين التقديرين، فقد كانت التقديرات الموضوعية أعلى دائما من التقديرات الذاتية. أي أن مدى المعاناة كان أكبر مما يعترف به أهل المريض. و طبعا بوسع المرء أن يتساءل عن حقيقة موضوعية تقدير أولئك الباحثين. فالتقدير الذي يقوم به شخص من الخارج للوضع الأسري يمكن أيضا أن يكون ذاتيا نتيجة للمسافة الكبيرة التي تفصله عن ذلك الوضع، أي لانعدام وجود رابطة شعورية أو مشاركة مع المريض. لكن على أي حال، فما توصلوا إليه من أن العبء الموضوعي كان أكبر كثيرا من العبء الذاتي يعطي فكرة طيبة عن أسر المرضى. إذ يشير إلى أن معظم الأسر تبذل قصارى جهدها في المشاركة في الأعباء الجسيمة لتأهيل شخص عزيز و أنها ترحب بتحمل أعباء تلك العملية.

و ثمة مشكلة أخرى تتعلق بزيادة استشارة المريض أو نقصها. تلك هي مشكلة فرط التداخل. فقد وردت تقارير من باحثين بريطانيين استلهموا بخاصة أفكار جون وينج John Wing الذي درس الموضوع بعمق. فذهبوا فيها إلى أن فرط التداخل من جانب الأسرة بما في ذلك التعبير عن عواطف زائدة عن الحد، يؤدي إلى الانتكاس. و قد كتب هو و زملاؤه قائلين:   "التعامل وجها لوجه لمدة خمس عشرة ساعة في الأسبوع أو يزيد، بين مريض فصامي و أحد أقربائه الشديدي الاهتمام به، يعرضه بدرجة كبيرة لنوبة مرضية أخرى".

فإذا كان من شأن التقارب أن يجدد الصراعات النفسية و يحول دون الخلوة مع النفس، فإننا نصبح بلا شك أمام صورة فرط التداخل التي تحدث عنها وينج و زملاؤه. على أن هذا النوع من فرط التداخل يبدو أنه امتداد لما كان عليه الحال في بعض أسر الفصاميين حتى قبل حدوث المرض. فأفراد تلك الأسرة لا يمارسون تجاه بعضهم البعض مجرد الشعور بالتنافس. بل يشعر الفرد منهم بأنه من حقه التدخل في تصرفات الآخر و الانفعال بها و يتسم بحساسية خاصة تجاه أفعال الآخر و غالبا ما يفسرها على نحو سلبي. و الواقع أن أفراد الأسرة يود كل منهم مساعدة الآخر، لكنهم بسبب من التشابكات الخاصة في علاقاتهم و بسبب مما يساورهم من الشعور بالقلق، و عدم الثقة و سوء الفهم، ينتهي بهم الأمر إلى أن يسيء كل منهم إلى الآخر. و هذا يذكرنا ببعض شخصيات تشيكوف التي بسبب طبيعة تكوينها و شدة الاهتمام و التداخل بين بعضها البعض تطورت بها الأمور تدريجيا إلى نهاية غير سارة.

على أن فرط التداخل الذي يصل إلى درجة مرضية، ليس شائعا بالصورة التي قد توحي بها أقوال وينج و زملائه. فالاختلافات الثقافية قد تلعب دورا في هذا الشأن. فأبحاث وينج و زملائه إنما أجريت في الغالب الأعم على مرضى و أسر ذات أصول أنجلوسكسونية و ما قد يعتبر فرط تداخل في تلك الأوساط قد يكون هو الشائع المألوف في أوساط الأسر الإيطالية أو غيرها. بتعبير آخر القول بأننا في تقييمنا لمثل تلك العوامل، علينا أن نضع في الاعتبار الخلفية العرقية و نوع الثقافة السائدة بين تلك الأسر.

 

      إساءة التأويل و كيفية تجنبها:

    ذكرنا آنفا أن المريض الناقه قد يسيء تفسير ما يقوله أفراد أسرته و قد يسيء تأويل ما يجري بينه و بينهم دون أن يدرك أنه يفعل ذلك. و هذا الأمر يكثر حدوثه بخاصة في مرحلة معينة من مراحل التماثل للشفاء. و المريض حين عودته لبيته ربما يكون قد تخلص من ضلالته أو معتقداته الزائفة التي لشدة بعدها عن الواقع يسهل على أي شخص معرفة أنها أعراض مرضية. لكن المريض حاليا لا يفعل أكثر من إساءة التأويل. و هي عملية تنبني على الواقع لكن نسبة الحقيقة الواقعة فيها أو مكوناتها المختلفة تتغير. فتلك التشويهات لدى المريض قد تحول، الاهتمام الإنساني من جانب الأسرة إلى ما يبدو أنه فرط تداخل مرضي أو تدخل في أموره الشخصية، أو تغامز عليه، أو إهانة له. و على الرغم من أن الميل للتشويه أو إساءة التأويل أمور تتم معالجتها العلاج النفسي على يد الاختصاصيين إلا أنه من المهم أن نوضحها لأفراد الأسرة، حتى يتمكنوا من التعرف عليها و يتعلموا كيف يمنعون حدوثها.

فقد يتوجه أحد أفراد الأسرة مجاملا للمريض قائلا: "لكم تبدو أنيقا في هذه الثياب" فيتحول ذلك لدى المريض إلى أشنع الأكاذيب. و قد تقال كلمة تفتقر للكياسة فيراها المريض مثالا للزيف و لتشويه الواقع. و كما رأينا في الفصل الخامس، فإن ذلك الميل لتحوير الواقع إنما ينشأ من حاجة لدى المريض لاستعادة نمط معين مارسه في طفولته، و هذا نمط نشأ في حينه ليس فقط نتيجة لما حدث فعلا و إنما ساهم في تكوينه نقص المعرفة لدى المريض و عدم نضج مرحلة الصبا، و سوء الفهم. فقد حدث مثلا أن أم إحدى المريضات أخبرتها قائلة: "إن حماتك مريضة" . فكان أن فسرتها كما لو كانت تقول لها: "إنك بصفاتك الشاذة قد تسببت في مرض حماتك، مثلما تسببت في مرضي أنا ذات مرة"  . و مرة أخرى سألت الأم ابنتها المريضة عما ستعده من طعام للعشاء. ففسرت المريضة قول أمها بأنه ينطوي على انتقادات لها. إذ تصورت أن الأم بقولها ذاك إنما تعني أن الابنة لا تجيد الطهي و لا تعرف كيف تعد وجبة طعام. و في مناسبة أخرى نوهت الأم بجمال الشقة التي قامت شقيقة المريضة المتزوجة حديثا بتأثيثها. ففسرت المريضة -التي كانت بالمصادفة تغير من اهتمام أمها بشقيقتها- ذلك القول على أنه يعني  "أن لأختك ذوقا يفضل ذوقك أنت بكثير".

و مثل ذلك النوع من التفسيرات يمكن في الواقع أن يزيد من حدة قلق المريض و يعجل بنوبة ذهانية جديدة. و لو لم يكن أفراد الأسرة متداخلين المريض ربما ما حدثت تلك المواقف الضارة. على أن التباعد عن المريض ليس مرغوبا أيضا و لا يسهل عملية التأهيل. و إذا كان المريض يتلقى علاجا نفسيا فسوف تتم مناقشة تلك الأحداث الصغيرة مع المعالج حتى يصفو الجو. و الأسرة ليست مهيأة لتأدية مثل تلك المهمة، فقد يشرع أفراد الأسرة في الدفاع عن أنفسهم دون داع و قد يتحول الحدث الصغير إلى مشاجرة لفظية حادة.

    من ناحية أخرى يمتلك المعالج بحكم تدريبه، القدرة على أن يشرح للمريض لماذا هو في حاجة لأن يتخذ نمطا جديدا و ألا يحتفظ  ويتشبث بالصورة القديمة التي تكونت لديه عن قريبه. و غالبا ما يصل المريض، من خلال ذكر و تحليل الأحداث الصغيرة اليومية مع المعالج، إلى أن يتبين أنه إذا كانت لوالديه أو لأحد أقاربه المهمين في حياته سمات سلبية فإن تلك السمات لم تكن سهاما مصوبة نحوه خصيصا لإيذاءه و إنما كانت مجرد خصائص لأولئك الأفراد لا يجب اعتبارهما بمثابة الطابع الغالب عليهم أو السمات الممثلة لشخصياتهم ككل. ففي المثال السابق مثلا عن المريضة و أمها، يمكننا أن نلمس بعض عناصر العداء في ملاحظات الأم و الواقع أن للمرء أن يفكر في أن تلك المريضة لم تكن غير مسيئة تأويل ما يحدث فحسب بل إنها كانت شديدة القرب من الواقع لأنها أصبحت حساسة بشكل خاص لعدائية أمها  تجاهها. تلك العدائية التي يريد الآخرون أن ينكروها. و هو موقف يذكرنا بمسرحية بيرانديللو Pirandello حيث لا نستطيع أن نعرف من المخطئ و من المصيب. و على المعالج أن يساعد الابنة على إدراك أنها- ربما كانت مصيبة في تقييم بعض الجوانب الخاصة في سلوك أمها تجاهها. نعم، فقد يكون ثمة ما هو أكثر من عنصر عداء في ملاحظات الأم، لكن قد لا تكون على وعي بها. بل إنه، حتى في أشد العلاقات حبا نجد بعض عناصر العداء و علينا أن تقيمها بنسبتها الصحيحة دون تضخيم من شأنها.

ففي كل علاقة و اتصال إنساني، و في كل حدث اجتماعي، يوجد عديد من الأبعاد و المعاني. و المريض يركز على  بعض الأجزاء السلبية و يغفل الأبعاد الأخرى للعلاقة الثرية، التي ربما تضمنت مشاعر حارة و اهتماما أصيلا. لكنه من الصعب على المريض أن يتحمل أي تناقض في المشاعر، أو أي تعدد للأبعاد. على أن العلاج النفسي بمقدوره أن يساعد على تقبل تلك التعددية كسمة أصيلة في حياة البشر.

و المثال الذي ذكرناه يمكن أن يعطي لأفراد الأسرة فكرة عن كيفية تحسين علاقتهم بالمريض الناقه. فعلى الأسرة أن تتعرف على مواطن الحساسية المرضية لدى المريض و أن تتجنب مساسها و قد لا يكون، ذلك بطبيعة الحال أمرا يسيرا. فالأم كانت تعلم أن أنها المريضة لديها شعور بالغيرة تجاه شقيقتها، و كانت تعلم أنها تشعر بعدم كفاءتها في الأعمال المنزلية و الطهي. و كانت تعلم أيضا أن ابنتها ركزت كل اهتمامها في عملها المهني. فلماذا تطرح عليها مثل تلك الأمور؟ و فيما يتعلق بحماة ابنتها لماذا لم تدع أمر إخبارها بمرضها لزوجها؟ كل ذلك يشير إلى أن الأم كانت على نحو ما غير عابئة بمشاعر ابنتها. لكن ليس بالضرورة إلى ذلك الحد من السوء أو العدوانية المتعمدة كما تصورت ابنتها. و عدم حساسية الأم تجاه ابنتها، يمكن أن يكون بدوره نتاجا لعوامل سيكولوجية ليس هنا مجال بحثها. و كما أشرنا سابقا، فإن الحياة مع مريض ناقه يتطلب قدرا وافرا من الحساسية من جانب أفراد الأسرة. و بقدر ما يكتسب أفراد الأسرة درجة عالية من الحساسية، بقدر ما تتحقق منافع عديدة للجميع.

لقد ذكرنا بعضا من المواقف التي يجب أن تتخذها الأسرة تجاه مريضها، و هي مواقف تتسم بالاختلاف و أحيانا بالتعارض، و نوهنا بالصعوبات التي تكتنف الاختيار بينها. و علينا أن نشير هنا إلى بعض المشكلات الأخرى. واحدة من تلك المشاكل تنشأ من الوضع الذي يكون فيه المريض بحاجة إلى الصحبة و في الخصوصية الشخصية في نفس الوقت و تكون كلتاهما ضرورية بالنسبة إليه و يجب أن تلبى. لذلك يلزم توفير الوقت للحاجتين كلتيهما. مشكلة أخرى تنشأ من التوازن الصعب الذي يجب الالتزام به بين حاجة المريض للحرية و حاجته للنظام. إذ يجب أن يمارس المريض الشعور بحرية أن يفعل ما يشاء، لكنه عليه أن يقبل الالتزام بنوع من النظام، من الروتين أو البرنامج اليومي على الأقل خلال الشهور الأولى التالية لعودته من المستشفى. و على الرغم من أن نشاطه اليومي يجب أن يكون منظما إلا أنه يجب ألا يكون مزدحما بكثرة من الأعمال، و ألا تكون تلك الأعمال معقدة. و درجة تعقد الأعمال اليومية يجب أن تتعدل وفقا لقدرات المريض.

و ليس بمقدور البيت أن يوفر جميع الاحتياجات لشخص، على الرغم من أنه في مرحلة النقاهة، إلا أنه غير قادر بعد على استئناف نشاطاته المعتادة. و يفضل للمريض، كما سنرى في الفصل التاسع، أن يقضي بعض الوقت في إحدى المستشفيات النهارية أو أحد أندية المرضى السابقين. و يستحسن أن تقتصر الاستعانة بمرافق نفساني أو ممرض أو مـساعد علاجي على المرضى الذين لا يتماثلون للشفاء أو حتى الذين لا تتحسن حالتهم بدرجة كبيرة، و سنناقش هذه النقطة في الفصل العاشر.

و إذا ظل المريض على صلة بالمستشفى الذي عولج به، فغالبا ما تقع مهمة المتابعة هنا على عاتق الأخصائي الاجتماعي. و قد تغير وضع الأخصائي الاجتماعي مع بروز فكرة الوسط التأهيلي لمريض الفصام في فترة النقاهة. فبينما كانت المهمة التي تطلبتها المستشفى أو الطبيب النفسي من الأخصائي الاجتماعي في الخمسينيات و الستينيات، هي التحري الدقيق عن مدى إسهام العوامل الأصلية في الحالة المرضية، أصبحت المهمة التي يقوم بها حاليا هي استكشاف كل العوامل و الإمكانات الإيجابية في أسرة المريض و التي يمكن أن تفيد في تأهيله. فقد أصبح باستطاعة أي أخصائي اجتماعي- أن يلعب دورا نشيطا في تنظيم برنامج لحياة المريض.

 

      أحداث هامة و قرارات هامة:

    تواجه العائلة أحيانا بأحداث غير عادية في حياة المريض. و على الرغم من أن تلك الأحداث عادة ما تناقش باستفاضة مع المعالج، إلا أن الأسرة قد تجد نفسها في قلب الحدث حتى قبل أن يعرف المعالج. و قد لا يكون هناك معالج يحال إليه الموضوع. فقد نجد أن المريض قد تعرف على شخص من الجنس الآخر و يرغب في أن يذهب للإقامة معه أو معها. و في أحيان أخرى قد يرغب المريض في إتمام الخطوبة أو عقد القران مباشرة. و يكون لدى الأسرة شعور قوي بأن المريض ليس مؤهلا لذلك بعد، لكنها في نفس الوقت لا تريد أن تضغط عليه إلى الحد الذي يجعله يشعر بأنه مقيد أو أنهم يتحكمون في تصرفاته دون وجه حق. و الحل الأمثل هنا هو استخدام طريقة التأجيل. فتحاول الأسرة إقناع المريض بأن عليه أن يتريث إلى أن يشعر بأنه أكثر قدرة على تنفيذ مشروعه دون عناء. لكن إذا أصر المريض و لم تنجح محاولات إقناعه بالتأجيل، فأفضل شيء هو أن تمضي الأسرة معه في مشروعه و تؤازره قدر الإمكان. و لا ننصح بأن تتخذ الأسرة موقف الغضب الصريح، أو المعارضة، أو الانتقام، فهذه كلها قد تأتي بنتائج عكسية.

    و نفس الشيء يمكن أن يقال عن المريضة الناقهة التي تريد أن تحمل، فالحمل و الأمومة تعتبر تحديا حقيقيا لكل النساء، و الإقدام على ذلك لا يوصي به بينما المريضة لا تزال في مرحلة النقاهة و دعوني أوضح هذه النقطة حتى لا يساء فهمي. فأنا لا أقول إن المريضة الناقهة أو السابقة لا يجب أن تصبح أما. فبعض منهن أمهات ممتازات. إلا أنه بالنسبة لكثير من المريضات- حتى اللواتي يحققن أفضل النتائج منهن- توجد هناك فترة معينة (عام على الأقل و حتى خمسة أعوام) تتميز ببعض الصعوبة في مواجهة تحديات غير عادية و ذات مسؤوليات مثل الحمل، و الولادة، و الأمومة، فإذا كانت المريضة لازالت تتعاطى علاجا دوائيا فعليها أن تكون أشد حيطة تجاه الحمل، لأن تأثير الأدوية على الحمل و الرضاعة لم يتضح بعد بجلاء، على الرغم من أنه ليس ثمة دليل على أنها تحدث تشوهات في الجنين. و هناك نسبة ما من الدواء تفرز مع لبن الثدي.

و أحيانا يريد المريض الإقدام على عمل خطير الشأن، كأن يهجر شريك حياته و أولاده. و شريك الحياة الذي يواجه بالتهديد بأن يترك وحيدا بعدما تحمل معاناة الوقوف بجانب المريض أثناء مرضه و قدم له الإخلاص و المساندة، يشعر بمهانة جارحة، و أحيانا يكون شريك الحياة مستعدا لقبول ذلك القرار، لكن غالبا بلا استعداد للتراجع. و مرة أخرى فالحل الأمثل هو طريقة التأجيل، لكن إذا مضى في مشروعاته فعلى الأسرة أن تؤازره.  و يجب أن نعرف أن المريض لا يتخلى عن علاقة عائلية هامة بسبب رغبة أو نزوة عابرة، لكن بسبب عدم قدرته على تحمل تلك الأوضاع. و إذا كان هناك أطفال يمسهم ذلك القرار فيجب أن تبذل كل الجهود لرعايتهم. و على الرغم من أنه قد سبق لي القول بأن بعض الفصاميين السابقين أو حتى الحاليين قد يكونون آباء ممتازين، إلا أنه من الصحيح أيضا أن الفصاميين الناقهين الذين يشعرون بعدم قدرة على مواجهة أوضاعهم الاجتماعية يمكن أن يكونوا شديدي الإزعاج بالنسبة للأطفال، و في هذه الحالة يجب البحث عن والد بديل.

و هناك سؤال آخر يطرح كثيرا و هو: هل من الصواب إخبار المريض الناقه بحدث مؤلم (وفاة مفاجئة أو مرض جسيم) يكون قد وقع لأحد الأقرباء أو الأشخاص الأعزاء لدى المريض؟. منذ ما يزيد عن ثلاثين عاما، حينما كنت أعمل بمستشفى حكومية، كان الأطباء الأقدم مني يخبرونني بأن علي أن أنصح أفراد أسرة المريض أن يخبروه بالحقيقة دائما. و من المؤكد أننا لا نريد أن نكذب على المريض أو سواه. لكن هناك أوقات ملائمة. و أوقات غير ملائمة للإخبار بالحقائق. و كان أطباء المستشفى الحكومية يمرون على أنه لم يحدث أن نتج أي ضرر من كشف الحقائق السيئة للمريض. و كانوا آنذاك يشيرون في مجموعة من المرضى الذين كانوا بالإضافة لمرضهم يعيشون في حالة اغتراب عن المجتمع تعضدها الظروف القائمة حينذاك. و كثير منهم كانوا غير قادرين على التعبير عن مشاعرهم. فالبلادة الظاهرية لا يجب أن تفسر على أنها فقدان للمشاعر. فحتى مريض الفصام التصلبي (الكاتاتوني) الذي يبدو متبلد الإحساس و جامدا كالتمثال، لديه مشاعر شديدة القوة. فثمة بركان من الانفعالات وراء مظهره المتحجر.

لكن الموقف يختلف تماما بالنسبة للفصامي الناقه. فهو شديد الحساسية و لن يغفر لأهله عدم إخبارهم إياه بالحقيقة. غير أن معرفة الحقيقة يمكن أن تكون أمرا ضارا له إذا كانت حالته لم تستقر بعد و كان لا يزال يجاهد في سبيل استعادة صحته الكاملة. و في هذه الحالة يجب أن يهيأ المريض تدريجيا لسماع النبأ و لا يخبر به صراحة إلا عندما يكون قد أصبح متوقعا حدوثه و يكون قد فكر بينه و بين نفسه في كيفية مواجهته.

و هناك مسألة أخرى و هي بماذا ننصح المريض إذا تساءل عما إذا كان عليه أن يخبر أشخاصا مهمين في حياته بحقيقة مرضه. فإذا تقدم لخطوبة فتاة، هل يخبرها بأنه كان مريضا فصاميا؟ و إذا تقدم للالتحاق بإحدى الكليات هل يذكر في طلب الالتحاق أنه قد دخل المستشفى للعلاج من مرض عقلي؟ مرة أخرى أتذكر أنني عندما كنت طبيبا مقيما قيل لي أن علي أن أوصي المريض بأن يقول الصدق دائما. و نحن بالتأكيد نود أن تعرف الحقائق و أن تسود دائما. فالشخص الذي يشرع في إقامة علاقة حميمة مع شخص آخر كشريك حياة لاشك يرغب في أن يعرف عنه كل الأمور عامة في حياته و يكون متفائلا بشأن نتائج إخباره بها.

    لكن ذلك أمر مختلف عن توجيه المريض لأن يكشف حقائق حياته الشخصية. فليس لأحد الحق في ذلك سواء بالنسبة للمعالج أم بالنسبة للوالدين. إذ يجب أن يترك الأمر للمريض نفسه ليختار و يتخذ القرار و من حق الآخرين أن يقرروا ما يشاءون بشأن تلك الأنباء.

    أما فيما يتعلق بذكر مرضه في طلب الالتحاق بإحدى الكليات، أود أن أقول أنه بمقدورنا دائما أن نوصي المريض بقول الصدق، لكن ذلك مرة أخرى مسؤولية جسيمة. فعلى المريض وحده أو بالاشتراك مع أسرته أن يقرروا ما يفعلون بهذا الشأن. و قد يبدو ذلك أمرا غريبا بالنسبة للقارئ لكن علي أن أذكر هنا بعض الخبرات غير السارة المتعلقة بهذا الأمر. إذ حدث أن عالجت بعض المرضى الذين ذكروا موضوع مرضهم عند تقدمهم للكليات، أو الذين علمت لجنة القبول بهذا الأمر من مدرسيهم أو عمداء كلياتهم. و حدث في عديد من الحالات أنهم وجدوا صعوبة في قبولهم ببعض الكليات على الرغم من أنهم كانوا قد تماثلوا تماما للشفاء و كانت لديهم تقارير أكاديمية ممتازة. فلا يزال بعض أعضاء لجان القبول بالكليات و المدارس العليا لديهم تحفظات على المرض العقلي، على الرغم من تأكيدهم عكس ذلك. و إن كان من الإنصاف أن أذكر أن ذلك الموقف المتحفظ آخذ في الأفول، و أن بعض مرضاي قد قبلوا في أفضل الكليات على الرغم من مرضهم السابق الذي تم ذكره صراحة. فالكليات ذات المستوى الجيد، التي على دراية بالتطورات الجديدة في الطب، و التي لديها أعضاء هيئة تدريس ذوي ثقافة سيكولوجية عالية، ليست لديها تحفظات من ذلك النوع. لكن أحيانا يكون من الصعب تحديد الاتجاه السائد بالنسبة لكلية معينة.

 

      ملاحظات ختامية:

    خلاصة القول إن الحياة مع فصامي ناقه أمر شاق، لكنه ليس من المستحيل التغلب على مشقته. و يمكن أن يكون ذا نتائج مثمرة ليس فقط بالنسبة للمريض بل لكل المشاركين فيه. و لو قارنا بين الحياة مع فصامي ناقه  و بين الحياة مع مدمن خمر، أو فاقد للبصر، أو مريض صرع أو مريض بأحد الأمراض المزمنة المعوقة، لوجدنا أن الحياة مع الفصامي أيسر كثيرا. ففي كثير من الأحيان يسود جو من الأمل، كما أن الشعور بالرضى الناشئ عن تحقق نتائج جزئية على الأقل كثمرة لتعاون أفراد الأسرة يحقق مزيدا من الشعور بالارتياح و التفاؤل. و حتى بالنسبة للأسرة التي لديها أطفال، فعلى الرغم من أن المصاعب تصبح أشد، إلا أنها يمكن التغلب عليها. فإذا كان الأطفال قد بلغوا من العمر درجة تسمح لهم بالفهم فيجب إخبارهم بأن أحد أفراد الأسرة مريض و يحتاج لطريقة خاصة في التعامل معه.   

   و التصرفات الغريبة التي قد تصدر عن المريض يجب أن تفسر لهم على أنها جزء من الحالة المرضية و أن تؤخذ مأخذ الجد المصحوب بالتفاؤل.   و الأطفال عادة ما يستجيبون بصورة طيبة للظروف السيئة أو غير السوية شريطة أن تتوفر لديهم بدائل تعوضهم عنها. و وجود فرد مريض في أسرة يسود فيها جو من التعاطف الدافئ و المناقشة الصريحة، لا يشكل سوى جزء أصغر مما نتصور عادة من حياة الطفل و قد يكون من شأنه أحيانا أن يساعده على النضج.

 

سعيا وراء ترجمة جميع صفحات الشبكة إلى الإنجليزية و الفرنسية نأمل من الزملاء الناطقين بالإنجليزية و الفرنسية المساهمة في ترجمة هذا البحث و إرساله إلى أحد إصدارات الموقــع : الإصــدار الإنجليــزي الإصــدار الفرنســي

 

Document Code PD.0002

http://www.arabpsynet.com/Archives/PD/PDoc.SchizoFamilyGuide.htm 

ترميز المستند PD.0002

 

Copyright ©2003  WebPsySoft ArabCompany, www.aabpsynet.com  (All Rights Reserved)