كما في العلوم النفسية والسياسية كما في أمور
الدين والاقتصاد، وكما في كل ما يخص الأمور الحياتية عامة، تبقي حقيقة واحدة
كبرى، ناصعة ساطعة كالشمس ألا وهي أن أخطر الناس قاطبة هم أولئك الذين
يعتقدون أنهم يعرفون الأفضل والأنسب والأصلح للآخرين، نعم هناك من يحاول
فرض تعريفه للأشياء على الناس، تعريفه هو وفهمه هو علي الواقع بكل قتامته
وعبثه، وأحيانا بكل ميوعته ولوعته وغرابته، في كل هذا قد يشترك المتطرفون:
أصحاب القوة، النفوذ، المال، السجانون، وأحيانا الزوج، الزوجة، مدير
الإدارة، كبير القوم، مدير المدرسة، وحتى الطبيب المعالج، إلى آخر
القائمة.
معظم هؤلاء يحاولون
وينجحون أحيانا في فرض تعريفهم، يرغبون في فرض تعريفهم للواقع وللحقيقة أيا
كانت مرة أو عارية... على الدنيا، كل هؤلاء ينكرون وبشدة أنهم على المستوى
الواعي واللاواعي ـ حقيقة لا يرغبون إلا في السيطرة على الآخرين، وفي قضم كرسي
السلطة قبل الجلوس عليه، والإمساك بتلابيب القوة بأي شكل وبأي طريقة بمعنى أعمى
وبقلب ميت وبسلاح فتاك، وهم في كل موقع وفي كل مناسبة يبررون ذلك بأنهم
وحدهم ـ الذين يملكون المعرفة الواسعة والعلم الغزير، والخبرة والحكمة التي
تؤهلهم - من وجهة نظرهم لمعرفة الحقيقة وفرضها فرضا قسريا خالصا على الآخرين،
حتى لو كانوا خارج حدود بلادهم، فما بالك بهؤلاء الذين يعيشون بينهم تحت سقف
واحد.
ونحن أمام سطوة
الكلمة وقعقعة السلاح أحيانا نجد أنفسنا في حالة من القهر خوفا من فناء الذات
والجسد، ونخاف ـ أيضا ـ خوفا مرضيا مرعبا رهيبا من عذاب القبر؟؟؟ ونحن أيضا في
خضم حياتنا اليومية العادية الروتينية المزدحمة المتأججة نبحث عن لقمة العيش
المغموسة بالهم والدم والعرق والدموع في خضم كل هذا ننسى ذلك القلق المستمر
العميق داخلنا، وتظهر على قسمات وجوهنا علامات البلاهة والعقم والعجز وعدم
القدرة على الفهم، فهم الأولويات المتحورة حول الصدق والحقيقة أيا كانت
جارحة ومثيرة للتعب والاشمئزاز أحيانا، هذا العجز وتلك البلاهة هما اللذان
يقودان أولئك إلى إحكام السيطرة وفرض تعريف الأشياء علينا دون مبرر، ومن ثم فإن
صورا كثيرة للانتحار ( الأخلاقي، القيمي، الإنساني
والجسدي) تتناثر هنا وهناك، كورد النيل العابث الطافي على سطح مياه راكدة
آسنة لا تجري ولا تروي. نعم. هؤلاء الذين يحاولون فرض آرائهم ورؤيتهم بأي
شكل، يغذيهم إحساس نرجسي قاس، يؤججه حماس فردي يمتزج فيه حب الذات بحب
الجماعة، فتختلط الأمور ما بين الصالح الخاص والعام، فتختفي أو تتخفى المصلحة
الحقيقة وراء دوافع فردية لأناس يعوزهم الإحساس بالأمن والأمان فيهاجمون الحابل
بالنابل في حالة من الفوضى ظاهرها التنظيم، تقترب إلى حد كبير من شفا الجنون حيث
لا مجال للمناقشة أو الفهم لأن ثنائية التفكير الأحادي صماء: أبيض
وأسود، ليل وظلام، كفر و إيمان، هكذا دون مواربة ودون أدنى مساحة للتفكير،
وكأنه خط القطار لا يتعرج ولا يحيد ولا يتوسع لا أفقيا ولا رأسيا، بل لا يتوقف
عند محطة أو محطات، كل همه أن يأخذ في طريقه البشر مستغلا أحزانهم وآلامهم،
مآسيهم وضعفهم، يغذي كل ذلك فساد الآخرين، الذين هم من ناحية أخرى يمهدون
الطريق ويرصفونه للفكرة الصلبة المتصلبة والمتعنتة.
الحل. من وجهة
نظرنا لا يكون فقط بالتصدي لهذا الطرح ولا بالحوار فقط، لا لشيء إلا لأن
القطار لا يمشي إلا على خط واحد، الحل قد يكون بتقوية مناطق الضعف لدينا
تقوية للنفس والذات وهنا يكون في إمكاننا قهر الحجة، ليس بالحجة فقط، وإنما
بالثراء الداخلي، والغني الرائع الذي لن يجعلنا فقط في موقع الروعة والنظر
من الشرفات على الحدائق والسحب، لكن أيضا تلك القدرة النادرة الساحرة على النظر
إلى الأرض اليابسة وهي تنتظر لمسة الاخضرار.
|