Arabpsynet

Livres  / كتــب /  Books

شبكة العلوم النفسية العربية

 

الوســواس القهــــري

من منظـــــور عربـــي إسلامــــي

  د. وائـــل أبــو هنـــدي

عالـــم المعـــرفة - العـــدد 293- نوفمبـــر 2003

E.mail :  doctor@maganin.com    /   website :  www.maganin.com    

 

q       فهــرس الموضوعــات /  CONTENTS / SOMMAIRE 

 

n         مقدمة

n         الفصل الأول: ما هو الوسواس القهري؟    تعريفات ومعان وحالات

n         الفصل الثاني: نظرة عامة إلى اضطراب الوسواس القهري

n         الفصل الثالث: الامراض النفسية: لماذا وكيف؟

n         الفصل الرابع: العلاج

n         الفصل الخامس: المسار و المآل المرضي

n         الفصل السادس: قياسات الوسواس القهري

n         الفصل السابع: مفاهيم كانت ومفاهيم ما زالت عن الوسواس القهري

n         الفصل الثامن: اضطراب الوسواس القهري في الأطفال

n         الفصل التاسع: الوسواس القهري بين الاضطرابات النفسية الأخرى

n         الفصل العاشر: اضطراب الشخصية القسرية (القهرية)

n         الفصل الحادي عشر: التدين والوسوسة

n         الفصل الثاني عشر: وسواس الحب

n         الفصل الثالث عشر: تأثير الوسوسة الوالدية في الأطفال

n         الفصل الرابع عشر: تشريح المعاني

n         الفصل الخامس عشر: كيف تتعامل الأسرة مع المريض بالوسواس القهري؟

n         المراجع

 

q       تقديــم الكتــاب / PREFACE

 

     كانت كتابة كتاب باللغة العربية عن الوسواس القهري فكرة تراودني منذ أكثر من سبع سنوات، أي من قبل حصولي على درجة الدكتوراه، وربما كان انشغالي بالأخيرة سببا كنت أقدمه لنفسي لأرجئ العمل، لكنني بعد خمس سنوات من الحصول على الدرجة بدأت العمل، وكان للموقف الأمريكي بعد الحادي عشر من سبتمبر دور كبير في شحذ همتي، لأنني شعرت بأن علي وعلى كل يقظ في بلادنا العربية أن يحدد موقفه من كل شيء. وما كدت أبدأ العمل حتى شعرت بأن الأمر أصعب بكثير من كل ما تصورت ويبدو أنني كنت أحس بذلك على مستوى ما من وعيي الدفين، وكنت أرجئ العمل لذلك ! لكنني على كل حال كنت قد بدأت الكتابة بالفعل وكان لابد بإذن الله من إنهاء ما بدأت.

     المشكلة التي تواجهني في الحقيقة هي أنني أريد أن أكون عربيا مسلما، ما استطعت، في كتابتي لهذا الكتاب، ولا أريد أن أتكلم الإنجليزية بالعربية كما كنت عند مناقشة أي موضوع علمي قبل ذلك، وكما هي حال معظم من يكتبون أو يتكلمون في الطب بوجه عام. وليس هذا لأنني أرفض الطب الغربي بقدر ما هو لأنني أريد طبا نفسيا عربيا، ومن يرد فكرا عربيا خالصا في أي منحى من مناحي العلم اليوم، خارج كتب الدين والنحو والصرف والبلاغة وما شابه، فإنما يبحث في الثلوج القطبية عن قطرة ماء دافئ! أيا كانت الحال فأنا لا أريد إلا أن أتحدث لغة قومي لأنني كما يقول عبد الوهاب المسيري (عبد الوهاب المسيري 2001) "قررت أن أتحدث لغتي وألا أتحدث لغة الآخرين، و إلا أصبحت ببغاء في أسوأ تقدير، وقردا في أحسنه". ، من يستطيع الآن أن يجد كتابا يكتبه طبيب عربي يتكلم بالعربية طبا عربيا؟ كل الكلام الموجود هو تكرار لما يقال بالإنجليزية أو الفرنسية أو الروسية إلى آخره... أو هو نظرات إلى ما كان لدينا، أو ما هو لدينا، بعيون أو عقول هزمها الزحف الفكري الغربي، فراحت تقيسنا بمقاييسه وتقارن بيننا وبين الغرب، فترانا في أحسن الأحوال كنا نفكر كما يفعلون الآن، وكان لنا فكر يزحف كما يزحف اليوم فكر الغرب في كل اتجاه، لكن أحدا لا يرى أننا نستطيع اليوم- إن استطعنا- أكثر من محاولة اللحاق بالغرب. وأنا أرى في الحقيقة غير ذلك، وأرى أننا يجب أن نرى جميعا غير ذلك،  وعلى الأقل حتى كأطباء نفسيين لأننا نعالج نفوس أناس غير الذين نشأ الطب الغربي لعلاجهم, فلا يمكن بالتالي أن أتعامل مع النفس العربية بكل ما تحتويه من خصائص وثراء ثقافي عربي بالكلمات نفسها التي يتكلمها الطبيب الإنجليزي أو الفرنسي أو الأمريكي عن نفوس مرضاه. وفكرة أن العلم واحد ليست إلا فكرة خادعة نتجت عن غرور الغرب وتكبره، سواء كان ذلك واعيا أو غير واع، ثم إنه حتى إذا سلمنا بأن العلم علم عالمي واحد هو العلم الغربي فإن الطب النفسي هو بالحتم استثناء تفرضه خصوصية الإنسان العربي، ثم إن المرض النفسي لم يكن غير موجود أيام الأطباء العرب القدامى، ولا كان علم النفس ولا طب النفس من مبتدعات الحضارة الغربية كما يحسب كثير من عامة الناس والمثقفين على حد سواء، فنحن عبر فترة زمنية طويلة استوردنا العديد من المفاهيم والقيم التي جعلت الذات الأصيلة غائبة، ففقدنا محكات التقييم الجيد، وفقدنا الذات المرجعية التي تمكننا من تحديد تميزنا عن الآخر، وأصبحنا كما يذهب المسيري (عبد الوهاب المسيري 1989) ندرك واقعنا من خلال نماذج معرفية مستوردة فيما أسماه المسيري بالتبعية الإدراكية، ونحن بسبب سرعة التقدم العلمي المعاصر، مع إحساسنا بالدونية الحضارية، يتزايد ميلنا إلى استيراد العلم، لأنه يظل هدفا بعيدا متحركا يجذبنا إليه، ونظل نلهث وراءه من دون أن نجد اللحظة الكافية للتوقف وتقييم واقعنا (محمود الذاودي 1986)، ولقد رأينا الفارابي ومدرسته في ميدان العلم والمعرفة ينقلون فلسفة أرسطو المادية إلى الفكر العلمي الإسلامي، وبعد أن طبعوها بطابع إسلامي، كما رأينا من بعدهم توما الإكويني يأخذها من الفارابي وينزع، عن فلسفة أرسطو، طابعها الإسلامي كيما يطبقها على المجتمع المسيحي الذي كان يتهيأ بدوره للنشوء والارتقاء، لكن العقل العربي متوقف عن الإبداع منذ قرون طويلة، لأنه لم يفق بعد من صدمة انبهاره بالحضارة الغربية ومنجزاتها مما جعله مع الأسف عقلا قابلا للاستعمار، كما ذهب مالك بن نبي (مالك بن نبي 1981) منذ أكثر من. ه عاما، ولا أرى الوضع تغير إلا قليلا.

   وعلم النفس ربما وجد جماعة من المجاهدين بفكرهم، أمثال محمد عثمان نجاتي وعبد الحليم محمود السيد، وقد عني كل منهما بموضوع الأصول الإسلامية لعلم النفس ولكن الطب النفسي لم يحظ بعد بمثل ذلك الجهاد، وأنا لا أدعي لنفسي أن أكون المارد الذي سيفعلها،وإنما أحلم وأحاول أن أنال ولو حتى شرف النداء عليه بصوت عال، ونحن في عالمنا لعريي الإسلامي اليوم في أمس الحاجة إلى منهج بديل للعلوم الاجتماعية الطبية السائدة كلها وللطب النفسي السائد بوجه خاص، والمنهج الذي قصده هو المنهج النابع من تراثنا نحن، ومن ثقافتنا نحن، ومن تحيزاتنا نحن، المناهج السائدة اليوم كلها إنما تعبر عن فكر الآخر وتحيزات الآخر، وكل ذلك إنما هو ناتج عن تأخرنا في النهوض بعد صدمة الانبهار بالآخر التي لم تفق المجتمعات العربية منها بعد، فكما يرى رفيق حبيب (رفيق حبيب 1998) فإن مرحلة الانبهار بالآخر عندنا طالت أكثر مما ينبغي، ومازال العلم عندنا يقاس بالنقل لا بالإبداع، ويقاس بالتقليد لا بالاختلاف، وهي مرحلة تاريخية -- تواكب لحظات التأخر بحيث ينجذب العقل إلى من هم أكثر تقدما، لكن الدخول في مرحلة متقدمة يتلازم مع تجاوز مرحلة الانبهار المراهق، إلى مرحلة التمرد على الحضارة السائدة ونقدها وتجاوزها بإبداع جديد.

      وما أحب قوله في صدر هذا الكتاب كثير، بل أنا أحس أنني أريد أن أقوله كله في الصدر نفسه. لكن أحب شيء لدي أن أقول إننا نحن الأطباء النفسيين العرب والمسلمين نستطيع أن نفكر وأن نبدع وأن نسبق غيرنا كما نستطيع أن نفكر بعقول مستقلة عن الغرب. ويحضرني في هذا المقام ما لا أنساه لأستاذي الطب النفسي المصريين "عمر شاهين "- رحمه الله- و يحيى الرخاوي " في شرحهما للوسواس القهري الذي قرأته في كتابهما "ألف باء الطب النفسي " الصادر عام ا197 من تشبيه للوسواس القهري بمرض باركينسون، أو الشلل الرعاش والذي سبقا به (على استحياء) المفكرين في الغرب، فقالا بالإنجليزية في النص الذي أمامي: "... ويعتبر الكاتبان بعض حالات الظواهر القهرية مظاهر لاعتلال النظام الخارج الهرمي تشبه مرض باركينسون على المستوى العقلي لأن مرض باركينسون والظواهر القهرية يشتركان في عدة صفات مثل:

(1) التصلب أو التيبس  Rigidity في مرض باركينسون وتقابله الفكرة "اللا مرنة" من حيث عدم القدرة على تغييرها في الوسواس القهري.

(2) التسيير الدفعي Propulsion "العجز عن وقف الحركة" في مرض باركينسون ويقابله العجز عن وقف الفكرة في الوسواس القهري.

(3) كما أن الأعراض في كلا المرضين تعيد نفسها ضد إرادة الشخص.

(4) وكلا المرضين: يقاوم العلاج.

ويستكمل الكاتبان: "ورأينا هذا قد يجد لنفسه الدعم في المفهوم الذي يرى أن للظواهر القهرية تمركزا في الدماغ المتوسط، وأن تأثير اضطراب هذه المنطقة من المخ البشري هو نماذج سلوكية معينة قد تكون في السلوك العقلي أو الحركي، وذلك حسب استعداد الشخص النفسي أو البيئي ". وهذا الذي قاله أستاذاي في أواخر الستينيات هو ما تقام الدراسات الباهظة الثمن الآن لإثباته باستخدام التصوير الطبقي للدماغ بقذف البوزيترون Positron Emission Topography، فقد أصبح التصور العلمي الأحدث الآن، ومنذ ما يقل عن العقد من الزمان، لاضطراب الوسواس القهري هو أنه اضطراب سلوكي ينشأ عن خلل في دائرة عصبية بين النوى القاعدية في الدماغ المتوسطDiencephalon  وبين بعض أجزاء من قشرة المخ الأمامي أو الجبهي للمخ Frontal Celebral Cortex ، وهم بالطبع لا يذكرون في هذه الدراسات كيف بدأ التفكير في علاقة النوى القاعدية بالوسواس القهري إلا أنه لوحظ بعد وباء الإنفلونزا الذي انتشر عام 1900 وتبعه حدوث حالات التهاب المخ الفيروسي الذي كان الشلل الرعاش Postencephlitic Parkinsoism  واحدا من مضاعفاته في كثير من الحالات، ولوحظ حدوث أعراض نفسية كثيرة وأعراض عصاب الوسواس القهري في تلك الحالات، إلا أن البداية كانت أن ألكسندر وآخرين 1986 افترضوا عام 1986 أن النوى القاعدية إنما تمثل مجموعة من الحلقات المتوازية ما بين الجسم المخطط والكرة الشاحبة والمهاد والقشرة المخية، وأن كل حلقة من هذه الحلقات يمكن أن تعمل للتحكم في النشاط الحركي أو في الأنشطة المعرفية والشعورية المختلفة، ويذكرون بعد ذلك وايس ورابوبورت 1989 اللذين وضعا نموذجا مفترضا لحلقة بين النوى القاعدية وقشرة المخ وركبوا عليه تصورهم لما يحدث في اضطراب الوسواس القهري. وفي أيامنا هذه ما تزال تقدم النماذج المفترضة للدوائر العصبية للوسواس القهري في أحدث الدوريات العلمية ويطرح السؤال في امتحانات الدكتوراه و يحفظ الأطباء النفسيون العرب المتقدمون للامتحان كلامنا ونتاج فكرنا على أنه كلام الغرب ونتاج أبحاثه المذهلة التقدم، ولا يعرف الأغلبية أنهم يفعلون ذلك.

    ويقول محمد عماد فضلي في بحثه عن التحيز للنموذج الأوروبي الغربي في العلوم الطبية، كما يتمثل في تصنيف الأمراض العصبية والنفسية: إن قوائم هذه التصنيفات، كما وضعتها الهيئات الغربية، متعسفة ومسرفة في العمومية، ولا تنطبق على كثير من الأمراض الشائعة في بلادنا، ويبين خطورة اعتماد هذه التصنيفات في تدريس المقررات الجامعية وفي رسائل الدكتوراه والماجستير وجميع الأبحاث (محمد عماد فضلي 2001). وكم يذكرني ذلك بالمحاولة التي قام بها أساتذة الطب النفسي في مصر في منتصف السبعينيات من القرن الماضي عندما أصدروا التقسيم التشخيصي المصري للأمراض النفسية "الدليل التشخيصي للأمراض النفسية لملا" (الجمعية المصرية للطب النفسي، 1979) إلا أن التقسيم المصري الأول هذا والذي كان ينتظر أن يصبح التقسيم العربي الأول للأمراض النفسية لم يتقرر ولم يتكرر. لا لعيب فيه وإنما لعيب فينا نحن العرب، وظلت مدرسة الطب النفسي في القصر العيني تدافع عن هذا التقسيم، ولعل أكثر المتحمسين له كان الدكتور يحيى الرخاوي، ولكن التيار الذي كان يواجهه من الآخرين المتحمسين للتقسيم الأمريكي كان كاسحا بشكل جعله يقف وحيدا حتى زمن قريب.

وأما ما لا يمكن إغفاله في هذه المقدمة فهو البحث الذي هداني الله إليه وأنا أقترب من إتمام ثلثي كتابي هذا، ولم يكن وجود مثله يخطر لي على بال بعد جهد من السؤال الذي كنت أقابل به كل زميل وكل أستاذ وكل تلميذ من الأطباء النفسيين على مدى ستة أشهر، وقد تزيد، وهو سؤال: "هل هناك دراسات أو كتب عربية باللغة العربية عن الوسواس القهري؟ ". بعد كل ذلك هداني الله إلى دراسة لمصطفى السعدني (مصطفى السعدني، 2002) عنوانها: "تاريخ اضطراب الوسواس القهري بمنطقة الشرق الأوسط "، هذه هي الدراسة العربية الوحيدة التي وجدت فيها من سبقني إلى الاهتمام باضطراب الوسواس القهري في منطقتنا العربية، وفي حضارتنا الإسلامية، كما قام برحلة بحث مرهقة عن الطب النفسي العربي الإسلامي كنت أظن نفسي أول إرهاصاتها، لكنني عرفت أن هناك من سبقني إليها، إلا أنني لا أستطيع أن أغفل نقدي للدكتور مصطفى، لأن تسميته للمكان الذي نعيش فيه في عنوان البحث بمنطقة الشرق الأوسط يذكرني بنظرة من يرانا من خلال المنظار الغربي للشرق كله، لأن في ذلك فخا أحس به ويحس به الكثيرون من المفكرين المسلمين تمهيدا لنسيان قضية فلسطين على المستوى المعرفي والشعوري، ولا أنسى أن أشير هنا إلى فضل الأستاذ الدكتور عبد الوهاب المسيري فقد كانت كتاباته عن التحيز المتأصل في المصطلح الغربي الذي نستورده ونعربه بكل دقة وأمانة "علمية"، ونظل نكرره وأحيانا نطوره ونحن أيضا لا ندري به! وللغربيين الحق في أن يرونا بعيونهم، لأنهم لا يملكون غيرها، وأما نحن فيجب أن تكون لنا عيوننا التي ترانا مباشرة من دون نظارات مستوردة من الغرب، بل أخاف أن أقول من دون عدسات وشبكيات مزروعة هناك في مقلنا العربية، وهذا أول ما آخذه على مصطفى السعدني، لأنني أعرف أنه ليس كذلك، لكن موجة المصطلحات الخبيثة، التي لا ندري أنها خبيثة، قد تأخذ أيا من المثقفين العرب، وهو آمن حسن النية صادقها.

   وأما المأخذ الثاني الذي آخذه على مصطفى السعدني فهو ذكره لتطور الأفكار وتناول المعطيات الخاصة بالوسواس القهري من خلال الهدي القرآني، ومن خلال أحاديث سيد الخلق عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم وعند علماء المسلمين الأوائل، وهو يقارن أحيانا ويتفاخر أحيانا بما هو من عندنا، ثم يسرد تاريخ التطور الفكري الغربي لمشكلة الوسواس القهري ويعود إلى ذكر إنجازات الأساتذة والباحثين المعاصرين من الأطباء النفسيين العرب، والأساتذة والباحثين المعاصرين من علماء النفس العرب، ولكنه في كل ذلك يبدو وكأنه يتكلم عن وسواس واحد فقط، أو أنه يعتبر وسواس النفس والوسواس الخناس والوسواس القهري متصل واحد، ولا أدري هل تجنب الخوض في هذا الموضوع في الدراسة التي بين يدي عن قصد أم عن نسيان؟ لأن هذا الأمر والبت فيه من المفروض أن نبدأ به أي عمل عربي عن الوسواس القهري، خاصة أن التباين بين ما يراه علماء الدين والأطباء النفسيون في بلادنا في موضوع الوسواس القهري أعظم من أن يغفل، أو هكذا أرى أنا إن كان هناك من لا يشاركني الرأي.

    سأحاول في هذا الكتاب أن أتتبع تطور الأفكار عن الوسواس القهري تتبعا تحليليا، قدر استطاعتي، كما سأحاول أن أضع القديم الذي يخصنا مع الجديد الذي نحن أجدر به، على الرغم من تعثرنا المعاصر في ركب العلم الدنيوي الحديث. وكان من الممكن أن أضع القديم وحده في باب خاص، لكنني رأيت أن علينا في هذه السنوات بالتحديد من عمر منطقتنا العربية أن نرى كل الأشياء في الوقت نفسه، نعم إنه قدر المثقفين الحقيقيين في زماننا هذا، وفي مكاننا هذا، أن يفتحوا عيونهم ناظرين في كل اتجاه ومن كل اتجاه، لأنهم ببساطة يعيشون زمن التسارع ناحية التيه العلمي المادي، وقصدت "التيه " بمعنييه: التيه بمعنى الغرور، أي أن تتيه بنفسك، والتيه بمعنى التيهان أي أن تضل الطريق (مجد الدين الفيروزبادي 1938) "لكنه في الوقت نفسه أعظم من أن يكف أحد عن السعي خلفه، ولذلك فالمثقفون العرب ساعون وراءه، لأنهم يريدون أن يكون لهم وجود على ساحة عالمية هم جديرون بها، لكي يستطيعوا احترام أنفسهم و"أكل عيشهم أيضا" "لكنهم في الوقت نفسه يريدون أن يؤدوا واجبهم نحو أهلهم بشكل يليق بهم كعرب أيضا، لهم ما لهم من عمق ومن جذور في التعامل مع الوجود الذي أوجدهم الله فيه. أما عن السؤال الذي يشغلني فهو عن الخط الذي أنوي السير فيه في هذا الكتاب، فأنا لا أدري هل ألتزم الحيدة العلمية الباردة، فأكون بمنزلة من يترجم فكرا غربيا إلى العربية؟ أم أترك نفسي لكي تتفاعل مع ما تعلمته وما استقرأته خلال حياتها؟

    لكنني قررت في نهاية الأمر أن أكتب هذا الكتاب بالطريقة نفسها التي أمارس بها مهنتي، وهي الطب النفسي، بمعنى أنني لا يستطاع أن أكون باردا أبدا، وكل ما عدا ذلك يستطاع. فقد أكون العالم وقد أكون الشيخ وقد أكون الصديق وقد أكون الطبيب، وقد أكون الذي لا يدعي العلم وقد أكون الذي يدعيه وهكذا هو الطب النفسي العربي الإسلامي، كما أراه، ولينظر كل بعينه، وليعترف بتحيزاته. أنا لذلك أعترف بأنني درت على فصول و مزالق ونتوءات هذا الكتاب، كما يدور في حياة مرضاه كل طبيب نفسي يحب مهنته، وأنا أيضا وضعت ما يزيد على العشرين خطة لهذا الكتاب، ولم أرس على خطة بعد، حتى وقت كتابة هذه السطور، فأنا في البداية كنت أريد كتابة كتاب عن اضطرابات نطاق الوسواس القهري، إلا أنني فوجئت بأن حجم الكلام الذي يجب أن يقال عن اضطراب الوسواس القهري وحده، خاصة عندما يتعلق الأمر بالمقابلة التي أريد عقدها بين تراثنا العربي الإسلامي الخاص بالوسواس وبين معطيات العلم الغربي الحديث، لهو أكبر من أن يوضع في كتاب واحد، إلا أن أختصر قدر الإمكان. ونويت إن وفقني الله أن أتبع هذا الكتاب بكتاب آخر عن اضطرابات نطاق الوسواس القهري التي هي مجموعة اضطرابات بينهما القديم وبينهما الموصوف حديثا وتختلف كثيرا فيما بينها، إلا أنها تتفق مع الوسواس القهري في الكثير من النواحي كالعامل الوراثي والأعراض والاستجابة للعلاج وغير ذلك. كما نويت في فترة أن أجعل الكتاب موجها إلى القارئ العربي المثقف من دون

أن يشترط إلمامه ببعض المعلومات عن الطب النفسي، لكنني وجدت نفسي في بعض الفصول أوجه الكلام للأطباء النفسيين المسلمين، كما أنني غيرت مواضع الفصول، وأضفت وحذفت، لأنني على ما يبدو كنت أتعلم عن الوسواس القهري في الوقت نفسه الذي أكتب فيه الكتاب عنه. أعترف من دون أن أدري فيما يبدو بأنني لم أكتب الكتاب بالترتيب، فأنا كتبت هذه المقدمة مثلا على أربع أو خمس مراحل، ولم أكن موسوسا أبدا إلا بقدر ما أنا موسوس في كل شيء يأخذني أخذ قوي مقتدر فأهتم به، ولم أكن أكتب هذا الكتاب إلا وأنا أطير من قراءة بحث عربي إلى قراءة بحث غربي، إلى انتهاز فرصة للقاء بأي من أساتذتي أو زملائي، محرر أسئلتي عن الوسواس وعن أفضل ترجمة لكلمة نفهمها جميعا بالإنجليزية ولا نستطيع أن نحدد لها معنى عربيا إلا بعد تفكير عميق وتدوير سحيق في ثنايا الدماغ وكثيرا ما نهرب من الإجابة أو ننصح بعضنا بالكف عن وجع الدماغ، لكنني قط ما نويت الكف عن وجع الدماغ، فهو أفضل طريقة للدماغ ليحيا في هذا العالم.

يبدو أنني لن أكتب شيئا في هذه المقدمة عن فصول الكتاب، مع أنني كنت نويت ذلك، لأنني قررت على ما يبدو أن أترك القارئ ليتعرف على الكتاب ويصفه بنفسه، لكنني فقط أريد الإشارة هنا إلى فصل "قياسات الوسواس القهري " وفصل "مفاهيم كانت ومفاهيم ما زالت" وفصل "تشريح المعاني "، وكذلك إلى فصل "اضطراب الوسواس القهري بين الاضطرابات النفسية الأخرى"، فهذه الفصول الأربعة في اعتقادي تهم الطبيب النفسي واختصاصي علم النفس العربي أكثر من القارئ العربي البعيد عن مهنة الطب النفسي أو مجال الصحة النفسية، أما بقية الكتاب فإنها تهم الطبيب النفسي العربي المسلم وغير المسلم والعاملين في مجال الصحة النفسية والقارئ العربي والمريض العربي على حد سواء.

  وأتمنى أن أكون قد وفقت في وضع أسس التفريق والفصل في أمر الوسواس، بما تعنيه هذه الكلمة وما تستدعيه في وجدان القارئ العربي المسلم من تداخل لمفاهيم الوسواس الخناس و وسوسة النفس و الوسواس القهري و وسواس المرض و وسواس الشك، فهي أمور تتداخل داخل نفوسنا جميعا بسبب ما أزعمه من عدم التوفيق الذي صادف من ترجم كلمة Obsession الإنجليزية إلى كلمة وسواس، نظرا إلى عدم تطابق المعنيين إذا رجعنا إلى المعاجم الإنجليزية/ الإنجليزية والمعاجم العربية/ العربية، كما سأبين في أول فصول هذا الكتاب، وأريد أن أشير هنا أيضا إلى قيامي أثناء الكلام عن الأدوية والعقاقير، التي ترجمت أسماؤها الإنجليزية إلى العربية، باقتراح اختصار عربي لتلك المسميات مثل الم.ا.س.ا بدلا مثبطات استرجاع السيروتونين الانتقائية ومثل الممامين بدلا من مثبطات مؤكسد أحاديات الأمين ، ولم أجد الكلمة العربية المقترحة إلا أخف على اللسان وأقرب من القلب.

  ولكي أقول ما لي وما علي، فإنني لم أكن أكتب هذا الكتاب كعالم مسلم، بل كمتعلم مسلم، وأنا أظن كل مسلم في زماننا لا بد أنه يظل يتعلم ما دام يعيش، ولكل حظه من التعب لكي يتعلم! وأتمنى أن أكون قد وفقت في إصابة الهدف الذي أسعى إليه، لأفوز بأجري المجتهد المصيب، وإن أخطأت فمن عندي، وعلى الله الجزاء.

 

Document Code PB.0140

http://www.arabpsynet.com/Books/Abouhendi.B.1  

ترميز المستند   PB.0140

 

Copyright ©2003  WebPsySoft ArabCompany, www.arabpsynet.com  (All Rights Reserved)