Arabpsynet

Livres  / كتــب /  Books

شبكة العلوم النفسية العربية

 

التحليــل النفســي :  مــن فروويــد إلى لاكـان

د. عدنــان حــب اللـــه

النشر : مركز الإنماء القومي

 

q       فهــرس الموضوعــات /  CONTENTS / SOMMAIRE 

§         إهداء

§         تقديــم

o         القسم الأول: على خطى فرويد

-        المسيرة الفرويدية

-        الجدلية العقلانية في التحليل النفسي

-        بنيوية الذات في التحليل النفسي

-        العقدة الأوديبية

-        نظرية لاكان في الأوديب وعقدة الخصاء

-        استلاب الذات في الأنا

-        التحويل

-        التعيين أو التماهي

 

o         القسم الثاني: الأنثوية في التحليل النفسي

-        مقدمة عن موقع الأنوثة

-        نظرية  فرويد

-        شهوة القضيب

-        نظريات المحللين المتجانسة مع نظرية فرويد

-        نظريات المحللين المغايرة لنظرية فرويد

§         الخاتمة.

 

q       تقديــم الكتــاب / PREFACE

  

    لا أعرف إلى أي مدى يمكن أن يعطي هذا الكتاب فكرة عن الذات في التحليل النفسي. على كل، حاولت نقلها حسب ما تيسر لي فهمها من خلال ما كنت أقوم به من بحث وتنقيب لكي أنقلها إلى طلاب علم، لنفس في إطار نظرية متماسكة. وإن صادف القارئ صعوبة في فهم بعض المعطيات التي أصبحت متداولة في ميادين علم النفس النظري والعيادي، فقد يعود ذلك. لأسباب قد نعتبرها طبيعية أو لأسباب ناجمة عن مقاومة خاصة، ولأسباب اجتماعية أو معتقدات أصبحت ثوابت لا يمكن زعزعتها.

    وسوف نحاول استعراض هذه الصعوبة على بعض المستويات:

    أولا: المادة صعبة في حد ذاتها، لأنها تتطلب رؤية ذاتية "Insight" وتصورا ممكنا.و نقلها إلى هذا المستوى الفكري المتداول يواجه صعوبة من قبل المنظر نفسه، لأنه يتطلب من أناه أن تكون نظرية للذات هي في حد ذاتها جزء منها. أي أن الموضوع يختلف إذا ما أجرينا بالمقارنة بحثا علميا فيزيائيا، كيمائيا، أو حتى طبيا... إلخ. فالموضوع خارجي لا يتقبل أي انحياز عاطفي، مما يسهل على الباحث أن يكون موضوعيا ويتحكم بمجريات البحث ضمن تسلسل منطقي يخضع للقوانين المتعارف عليها علميا. وهذا ما لا يتيسر دائما للباحث النفسي، لأنه قد يصعب عليه في بعض الأحيان التجرد الكامل من انحياز عاطفي، أو معتقد راسخ، أو تأثر بأوضاع اجتماعية وأحداث خارجة عن إرادته، مما يجعل تنظيره بعيدا أو قريبا من الحقيقة التي كان يود إثباتها.

    لذلك يصعب على المحللين وعلماء النفس الإجماع على نظرية معينة دون أن يتداخل العامل الذاتي في خلق الخلافات والانشقاقات التي تحصل في مجتمعهم المغلق.

    ثانيا: هناك صعوبة ناجمة عن مقاومة تكمن في نفسية القارئ. وهي قد تكون واعية أو غير واعية، تسمح جزئيا أولا تسمح بتاتا في تقبل نظريات مغايرة للمعتقد الراسخ الذي كونه عن ذاته أو عن مجتمعه حتى الآن. وهو على غير استعداد لتقبل مثل هذه النظريات دون أن يخلق ذلك زحزحة في نفسه وتغييرا في المعايير الشخصية، قد يكون غير مستعد لتحمل نتائجها. فرفضها أو اعتبارها ذات أهمية ثقافية لا أكثر، على غرار أية نظرية أخرى فلسفية كانت أو أيديولوجية، شيء وارد في ذهنه شرط ألا يكون ملزما به.

    وإذا أخذنا بعين الاعتبار الأبعاد للمقاومة الفكرية لكل حدث فكري هام، يخلق انقلابا في المنهاجية الفكرية أو أية حداثة حضارية تتطلب من الإنسان إعادة النظر في ذاته وفي مجتمعه، لوجدنا أن الإنسان طواق إلى الركود والاستقرار, ولا يحصل الانقلاب عنده إلا بفعل الصدمة التي تسببها الحداثة الفكرية. فالإنسان نرجسي بطبعه يحيط تراثه ومكتسباته بهالة من العظمة والتقديس تعكس بشكل واضح تعاظم الأنا الجماعي، غروره بنفسه، كبرياءه ومحاربته لأية فكرة حتى لو أثبتت حقيقة لا مهرب منها، إن تبين له أنها تهدد أناه المسلوبة بأوهامها الراسخة.

وهكذا نجد (بحسب تعريف فرويد) أن الفكر الإنساني أصيب بثلاث صدمات ولدت عنده الشعور بالقصر، والخيبة كما أنها حطمت كبرياءه، وغروره، وزعزعت ثقته بنفسه ومغالاته في تعظيم الأنا.

 

     الأولى: أتت عن طريق كوبرنيك (الثورة الكوبرنيكية) التي تلت اكتشاف غاليلي لاستدارة الأرض، وتبديد وهم أنها مسطحة، الشيء الذي كان يخدع الناظر الساذج. فانتقل الإنسان من كونه محور هذا العالم الفلكي، إلى اعتبار نفسه طرفا بل ذرة أمام هذا الكون من حيث إن الأرض في حد ذاتها ليست إلا كوكبا يدور في فلك الشمس التي هي محور من ضمن المحاور غير المتناهية.

    الثانية: أتت من نظرية النشوء لداروين Darwin حيث برهن أن للإنسانية تاريخا نشوئيا بيولوجيا، وأن الصورة، التي كونها الإنسان المعاصر عن فضائله وقيمه وآدابه ومعتقداته الإنسانية هي صورة متكاملة أوجدت هكذا, وليست إلا سرابا كان يؤمن به.

    هذه القيم ليست إلا وليدة تطور لتاريخ الإنسان منذ العصور الحجرية حتى الآن. ولو راقبنا الطفل منذ تكوينه في رحم الأم إلى حين ولادته ونضوجه الفكري والجسدي واكتساب المزايا والأخلاق الإنسانية، لوجدنا أنه يختزل بشكل زمني نشوء الإنسان وتطوره من الهمجي إلى الحضاري.

    الثالثة: أتت من قبل فرويد، عندما برهن عبر التحليل النفسي أن ديناميكية الفعل والرغبة المحركة تكمن في اللاشعور وليس في الأنا كما كان يخيل للمفكرين سابقا. والمميز لهذه النظرية أنها أتت انقلابية بقدر ما استطاعت أن تحقق النقلة للمحور الأساسي المعتمد على الأنا، والذي كان الشغل الشاغل للعمل الفلسفي طيلة الأجيال السابقة، إلى اللاشعور، المنهل الفعلي لكل عمل خلاق. فالمقاومة التي واجهت الثورة الكوبرنيكية ونظرية النشوء، لم توفر على التحليل النفسي حملة عنيفة شوهت الكثير من معالمه الصحيحة.

    أضف إلى ذلك منهاجية العمل التحليلي- لأنها انقلابية في حد ذاتها-، فإذا كان موضوعها هو الكشف عن الرغبة الديناميكية للاشعور انطلاقا من الشعور المموه للحقيقة، فيعني ذلك أن منهاجية التحليل النفسي هي الحديث بالمقلوب. وهو عمل مغاير تماما للمنهاجية العلمية، حيث إن الاكتشاف يأخذ منحى إيجابيا، أي ننتقل من نظرية أصبحت متخلفة إلى نظرية جديدة متطورة.

فالتحليل النفسي يأخذ الطريق المعاكس، أي يطرح السؤال تلو السؤال حول معتقد أو نظرية راسخة، عن أسبابها، منشئها وأخيرا مصدرها.

    وأول مفاجأة طالعت فرويد هو اكتشافه للديناميكية الجنسية كمحور أساسي يكمن في اللاشعور ويحرك الإنسان على غير علم منه. وهذه الديناميكية قد فهمت على غير حقيقتها.

    فهي لا تقتصر كما يوضح فرويد على الفعل الجنسي أي المضاجعة (كما هو سائد في المفهوم العام)، ولا يعني بالمقابل أن انتشار التحليل النفسي هو متاخم للإباحة الجنسية, بل كما تظهر لنا الخبرة التحليلية يبدو أن العكس هو الصحيح. فأحيانا كثيرة، قد يكون سبب المرض النفسي إباحة جنسية لا يعرف لها حد، أو انتهاك عبر هوامات مولدة لمشاعر ذنبية ودونية. وطلبه اللاشعوري هو تدعيم هذه الحواجز والكشف عن موضوع الانتهاك حتى يعود إلى حياة سوية. فالهوامات الجنسية المنحرفة موجودة في كل المجتمعات، وخروجها إلى حيز الفعل والتنفيذ مرتهن بالقوانين والأعراف الاجتماعية السائدة في كل عصر. وما يجب التنبيه إليه هو أن الإشباع الحاصل من التنفيذ لا يلغي الهوام الذي كان سببا في ذلك. فالمومس مثلا وكل الذين يمارسون حياة جنسية إباحية وانحرافية، ليسوا بعيدين عن تعرضهم لأمراض أو لأزمات نفسية حادة. فلذلك يجب أن لا يختلط علينا الأمر ما بين العقل والهوام, فموضوع التحليل النفسي ليس الفعل، إنما الهوام موطن الرغبة المكبوتة.

    يقول فرويد: إنه إذا اعتمدنا الجنس كمحرك أساسي في حياتنا الاجتماعية، فهذا لا يعني ما هو مطابق ومتداول في المفهوم العام، إنما يعني- مستشهدا بمأدبة أفلاطون: حسب ما ورد في تحليل سقراط- كناية عن القوة "Eros" التي تجمع بين كائنين لكي يلتحما في وحدة ارتقائية تؤمن استمرارية الإنسان.

     وهذه القوة "Eros" مختلة في الحب، سواء في مفهومه الجنسي أو في مفهومه الاجتماعي عندما يتجرد من موضوعه الجنسي.

    هو الذي يجمع أفراد العائلة والمجتمع على أهداف معينة يكون من أهم نتائجها مردود الخير والمحبة على الجميع. فالإنسان لا يستطيع أن يستمد سعادته إلا من خلال عمل يعطيه الاكفاء الذاتي عبر استفادة المجتمع منه.

    لكن قوة الحب "Eros" المتمثلة في الحياة، في التوالد، في التعايش المشترك، في الإبداع وفي الإنتاج الإنساني، يقابلها قوة خفية معاكسة Thonatos تحبط أعمالها. إنها متمثلة في النزعة التدميرية أو النزعة المميتة- حيث يتمثل بها كل ما يكتشفه الإنسان في داخل نفسه من نزعة إلى التدمير والكراهية والحقد، وقتل الإنسان للإنسان في كل أشكاله سيما الحروب المدمرة وبصورة خاصة الحروب الأهلية. وحتى لا يواجه الإنسان هذه النزعة على حقيقتها كجزء بيولوجي مكون له، يحاول أن يجد لها كل التبريرات المموهة، سواء كانت أيديولوجية اقتصادية أو دينية- علما أنه برغم دعوة الدين إلى المحبة والتسامح ومساعدة الإنسان لأخيه الإنسان، نجد أن هذا الإنسان ما فتئ حتى الآن يرتكب باسمه أفظع الجرائم وأعظم الحروب، والتاريخ شاهد على ذلك.

    اكتشاف التحليل النفسي للنزعة التدميرية المميتة Thonatos ، كان بمثابة كشف النقاب عن حقيقة بيولوجية، من حيث أن كل خلية حية تحمل في طياتها أسباب موتها. وإدراك هذا الواقع لا يأخذ شكله المرئي إلا عندما يتوجه الإنسان إلى إيذاء نفسه، أو توجيه هذا الإيذاء إلى الغير، دون مبرر فعلي. إن إدراك هذه القوة الخفية، قد يمكنه في يوم ما من تحويلها عن هدفها الأساسي التدميري، إلى أعمال بناءة تستفيد منها البشرية جمعاء.

    في مقابلة عفوية مع سائق تاكسي في أحد شوارع باريس، سألني بعدما تعرف على هويتي:

بربك هل بإمكانك أن تفسر لي كيف يمكن لهؤلاء المسؤولين أن يقوموا بحملة دعائية هائلة ضد الأمراض التي تشكل خطرا على الصحة العامة في نفس الوقت الذي يبذرون الأموال الطائلة لصنع قنبلة ذرية أكثر تدميرا وتشكل في النهاية خطرا فعليا أكبر على الإنسانية؟ سؤال يحمل في طياته الجواب، لأن الإنسان تسيره قوتان متناقضتان هما في تركيبته الأصلية: نزعة الحب Eros مع استمرارية الحياة، ونزعة الموت والتدمير Thonatos أي لا يوجد إنسان خير مطلق، ولا إنسان شر مطلق. فالإنسان بأفعاله هو نتيجة تمازج نوعي وكمي بين النزعتين، وتغلب إحداهما على الأخرى هو الذي يضفي عليه طابع الشر أو الخير.

    ننتقل إلى مقاومة خاصة قد تطال القارئ العربي. فهو نتيجة تأثير الصراع السياسي قد يرفض اكتشافات التحليل النفسي جملة وتفصيلا، اعتبارا منه أنها صادرة عن باحث من أصل يهودي. فرويد يتنكر لهذا الموقف.

    أولا: لأنه يعتبره غير علمي. فالحقيقة من أين أتت يجب أن تؤخذ. فالمسلم مثلا يتنكر لاكتشافات Pasteurكذلك لكونه نصرانيا.

    ثانيا: يقول فرويد إن اكتشاف التحليل النفسي على يد يهودي، لم يكن, إلا عن طريق الصدفة، أي يعتبر أن اكتشافه لا يمد بأي صلة إلى أصله اليهودي.

    بل أكثر من ذلك ففي كتاباته الأخيرة لا سيما "موسى والتوحيد" حاول تحطيم الهوام الجماعي المسيطر على الشعب اليهودي الذي كان يعتبر نفسه الشعب المميز والمختار من كل شعوب العالم,  فهو أعلاهم شأنا وأقربهم إلى الخالق. فقد حاول بأسلوبه الخاص، معتمدا على بعض المعطيات التاريخية، بأن يبرهن وهمية هذا الإعتقاد الذي كان سببا في اضطهادهم والانتقام منهم عبر التاريخ. ورغم كل الضغوطات والمحاولات من قبل الحركة الصهيونية لكي يعدل عن كتابه، إلا أنه رفض وأصر على قناعته حتى آخر لحظة في حياته.

    كان همه الوحيد كما تبين في صراعه مع أقرب تلامذته اليهود: فرتزي ورانك وابراهام وغيرهم، هو أن ينزع عن التحليل النفسي الصبغة اليهودية. فكل ما كان يطمح إليه، هو تحييد التحليل النفسي عن منحى الانحيازات الدينية والأيديولوجية والفلسفية، حتى يصبح علما قائما بحد ذاته، يكشف عن حقيقة في كل مقولة يتوهم أصحابها أنها تملك لوحدها هذه الحقيقة. فالتحليل النفسي هو سؤال معكوس لكل حديث ينطق به, من حيث إن النطق لا بد أن يظهر ثغرة كلامية أو زلة لسان، يكمن فيها شيء يعبر عن حقيقتها التي لم تنطق به حتى الآن.

    وقد يتساءل القارئ العربي بأن اكتشافات التحليل النفسي عن باطن الذات تصلح لمجتمع غربي، وصل به تقدمه التكنولوجي إلى حدود النظرية المادية البحتة التي تسقط من حسابها كل مفهوم روحي ومعنوي للإنسان- الشيء الذي بقي الشرق العربي محافظا عليه رغم تخلفه. الحقيقة أن ظهور التحليل النفسي في هذا العصر العقلاني هو متاخم للنظرية المادية. ولأن هذا المفهوم جعل من الإنسان فردا مستهلكا لأسواقه الإنتاجية، لا يتمثل إلا برقم في عدد الكمبيوتر، برز التحليل النفسي كظاهرة حضارية لمعالجة هذا الإغفال لإنسانية الإنسان حيث يتميز برغبته عن المجموعة ويلتقي معها من خلال تعبيره عنها.

    التطور التقني- العقلاني، لا يتقدم إلا على حساب كبت هذه الرغبة وقمع كل ما يمثلها في حرية فردية. من هذه الفجوة التي تتمثل في القلق الحضاري بزغ التحليل النفسي من ضمير الغائب، أي المكبوت، لكي يعيد للإنسان جانبا من تكوينه المكبوت، وهويته، ويعيد النظر في مكاسبه الحضارية.

    ولو ألقينا نظرة على المجتمع العربي، لوجدنا أنه قادم لا محالة لمواجهة هذه المشكلة. فهو لا يستطيع أن يستمر في تخلفه تحت ستار الروحانية والتراث المتقوقع على ذاته، سيما بعدما أخذ المد التقني الغربي يأسره بحاجته إليه، إضافة إلى الالتقاء الحضاري والمعرفي بعد تقلص الحواجز الجغرافية. فالذي يعتقد أنه يستطيع اقتباس تقنية الغرب، وتجاهل التطور الفكري الذي كان سببا في ذلك فهو مخطئ، لأنه يتنكر لأهم الحقائق التي لا تفصل الحضارة الغربية عن إنتاجها التقني. فمواجهة الفكر الحضاري الغربي، لا يمكن أن تحل بردة عصبية أو قوموية أو تيولوجية، بل تتطلب انقلابا فكريا في منهاجيته لكي يتمكن من فهم حقيقة هذا التطور، والصدف التاريخية التي جعلته يأخذ هذا المنحى.

    فنحن لا يمكن أن ندعي الحرية في الوقت الذي نجد أنفسنا مرتهنين لكل الإنتاج الغربي التقني ورفاهيته. فما أخفق في المفهوم الغربي لكونية الإنسان، هو الذي كان سببا في بزوغ التحليل النفسي.

    وهنالك سؤال آخر وأخير قد يدور في ذهن القارئ العربي: هل التحليل النفسي باكتشافه للباطن أي المكبوت يتماشى ويتجانس مع المفهوم العربي الإسلامي؟ الجواب لا يؤخذ من الناحية السلبية أو الإيجابية، إنما يدعو إلى المزيد من التساؤل لتفهم خصوصيتنا في الموضوع. فالمسألة ليست بهذه السهولة، لأن التحليل النفسي ليس بمثابة فلسفة جديدة، لكونية الإنسان، وليس دينا أو مذهبا، ولا أيديولوجية تفرض نمطا معينا في التفكير، إنما تساؤل مستمر لكشف حقيقة كامنة في نفوسنا، لا يحصل التعبير عنها إلا في حرية التسلسل الكلامي، أي أن القوة الراغبة والمحركة تكمن في اللاشعور المركب كتركيب اللغة. وهذا ما يعلمنا إياه ويشهد عليه كل يوم عملنا العيادي.

    ولكي أعطي نموذجا عن هذه المسألة: حصل لي مرة بينما كنت أحاضر في الجامعة اللبنانية عن موضوع عقدة أوديب وعقدة الخصاء، أن برزت إحدى الطالبات متسائلة بدهشة إذا كان من الممكن أن تحظى هذه النظرية بالقبول نفسه في مجتمعنا الشرقي أو حتى في المجتمعات الأخرى؟ بساطة السؤال تحمل في طياته صعوبة الجواب. لأنه في الواقع لا يمكن إدراك حقيقة من هذا النوع لمن لم يتسن له المرور في التجربة التحليلية. ففرويد عندما اكتشف هذه الحقيقة في تحليله الذاتي اضطر للاستعانة بالأدب والشعر لكي يجد قاعدة لمثل هذه الاكتشافات، صعب عليه تحملها على كتفيه لوحده. وهكذا التجأ إلى هومير، ليبرهن عن وجود عقدة أوديب، وإلى الأساطير اليونانية الأخرى، وإلى شكسبير في هاملت ودوستيوفسكي وغيرهم.

    وأمام هذه الطالبة الساذجة. وجدت أن الصعوبة في الإجابة تكمن في محاولة تبسيط الأمور.  فقلت إذا انطلقنا من البديهيات الثابتة بأن الأم محرمة- وهذا ما يمكن تعميمه على كل المجتمعات- فبحسب نظرية ليفي شتراوس الانتروبولوجية حول البنوية في العائلة: لا يوجد مجتمع حضاري من دون تحريم للأم، ولا يوجد تحريم للأم في مجتمع حيواني، ولا يمكن أن يوجد تحريم للأم دون أن يتبع ذلك ولادة مجتمع إنساني.

    وإذا انطلقنا من قانون تحريم الأم، فلا بد إذا من محرم لها يقف حائلا دون رغبة الابن الاثمية.  وإذا كان الأب هو المانع الملزم، فليس إلا لأنه يعتبر الأم، الزوجة، من حق ملكيته الجنسية، مما يسبب عند الابن ارتدادا نحوه بشعور عدواني لا مهرب منه، أي تكون قد تمت العلاقة الثلاثية: الأب والأم والابن. وهذا ما يشكل القاعدة الأساسية للبنية الأوديبية.

    وإذا توغلنا في الموضوع نجد صعوبة إضافية في فهم منهاجية التحليل النفسي وعلم النفس الغربي بصورة عامة. وهذه الصعوبة تكمن في غياب أي مشروع فكري عربي يحدد جهازا للديناميكية النفسية سوى التصور المتخيل في الخارج الفضائي، أي أن جهازنا النفسي يطلع علينا من الجهة "البرانية" Extérieur à soi بشكل إسقاطي. فكل ما يخالجنا من مشاغل وعوامل وصراعات ومما ينتابنا من نزوات لا تخضع لمفهوم الخير، نجد أننا نرفضها في أنفسنا ونفصلها عنا كما لو كانت جزءا غريبا. وهكذا كي نخلص من نزاعها نسقطها على الخارج، بشكل معكوس على رموز أساطيرية واجتماعية تلاحقنا ويتوجب علينا محاربتها. فالجهاز النفسي المتمحور حول الذاتية مفقود في تصورنا ككل باستثناء مع ما يتجانس مع الأنا في مفهومها للخير. وهكذا لو أخذنا على سبيل المثال الشيطان الذي يتكرر في أحاديثنا الشعبية والدينية، لوجدنا أنه يتلبس أشكالا مختلفة: منها ما يشير إلى الإغواء الجنسي أي إذا غررت امرأة جميلة بمؤمن، قيل إن الشيطان تلبس بها ويتوجب الاستعاذة منها. وإذا اجتمع رجل وامرأة كان الشيطان ثالثهما. أي بمعنى أن هذا الأخير قد تلبس النزوة الجنسية عند الطرفين يخدعهم عن أنفسهم ويغرر بهم. وفي مجال آخر إذا انفرد رجل بنفسه وبدأت تلاحقه أفكار سوداوية أو عدوانية، لقلنا إن الشيطان يوسوس له، ولكي يبعد هذه الأفكار يلجا إلى شتى الطقوس الدينية والرمزية المتيسرة له.

    وتارة أخرى يشار إلى الشيطان بأنه السبب في دوافع عمل الشر والأذى والاعتداء على الآخر والقتل الخ. فيقال كل ذلك كان من عمل الشيطان مما ينفي المسؤولية عن مرتكب الإثم. وإذا أشرنا إلى عمل ما يتنافى مع الأخلاق والصفات الإنسانية، قلنا إنه كان من عمل الشيطان.

    ونلاحظ هنا أن النظرية الفرويدية فيما يختص بالنزوة (Pulsion) لا تختلف عن المفاهيم النفسية المتوارثة من جيل إلى جيل في المجتمع الشرقي إلا من الناحية الموضعية Topologique)). أي أن النزوات والتحريمات التي ينشأ ويربى عليها الطفل وتصبح في مرحلة لاحقة ذاتية، يطرأ عليها انقلاب موضعي، أي ما هو "براني"  يصبح "جوانيا" أي أن المحرم الخارجي، يصبح داخليا يمثل سلطة تعمل في انفراد على ردع المحرمات والقيام بالمهمة نفسها التي كانت تقوم بها الروادع الخارجية. وهذه السلطة الجوانية تصبح جزءا من الذات من ضمن الجهاز النفسي.

    فالنزوات مثلا التي قسمها فرويد إلى جزأين: نزوة الحب والحياة Eros- ونزوة التهديم والموت أي الشر  Thonatos- فما هو براني أي المسقط في الفضاء أدخله ضمن الجهاز النفسي الذاتي، يعمل في صراع مستمر مع الأول، والإنسان السوي هو الذي يتمكن من إدراك نزعة التدمير في نفسه، أي لا يتهرب منها عن طريق إسقاطها على الآخر لكي ينفي عنه تبعتها- وهذا ما هو أشبه بسياسة النعامة. فلا بد من إدراك هذه النزوة في أنفسنا والاعتراف بها لكي نتمكن من التحكم بها وتحويلها عن أهدافها المدمرة، إلى أعمال بناءة اجتماعية، و هذا ما يسميه فرويد بعملية التسامي Sublimation.

    وعلى سبيل المثال نجد الجراح الطبيب الذي يحركه هوام يحتوي على نزعة شريرة برؤية الدماء وتشويه الجسد، قد يعود تاريخها إلى الطفولة الأولى، يحول هذه النزعة السادية المدمرة إلى نزعة إنسانية باستخدام نفس القوة المحركة ولكن بعد تحويلها إلى أهداف سامية: استئصال ورم أو إنقاذ حياة إنسان.

    حتى النزوة الجنسية المرتبطة ارتباطا وثيقا بتركيبتنا البيولوجية، فإذا ما أدركنا وجودها واستطعنا السيطرة عليها، إما أن نرفضها و إما أن نحولها عن أهدافها، أي بعد تجريدها من محتواها الجنسي. وأمام هذه العملية النفسية تصبح العلاقة مع الامرأة سليمة، لأننا نكون قد أبعدنا فعلا الشيطان ومنعنا تغريره بأنفسنا. وهكذا سواء الرجل أو المرأة يستعيدان صفاتهما الإنسانية، ولا يبقى هناك حاجة إلى القمع وتشديد القيود على الامرأة لكي يحمي الرجل نفسه من إغرائها أو يحميها من نزوات الإغراء.

    فالعمل التحليلي النفسي إذا أخذناه من زاوية تحرير الإنسان من الكبت المسبب لتأزمه النفسي، فليس ذلك أنه يعني العكس أي الاستباحة، إنما الذي يحصل إذا ما تمكن المكبوت من العودة إلى حقل الوعي عن طريق السلسلة الدالة عبر الكلام لاستطاع التحكم بهذه النزوة والتحرر منها، لأن حرية الكلام عبر التداعي إذا ما توصلت إلى التعبير الصادق عن الذات اللاشعورية، مكنت الإنسان من التحرر، والانصراف إلى العمل والإبداع الخلاق. والتجربة تبين أن النطق بالمكبوت يحول دون خروجه إلى الفعل المؤذي.

    إذا كانت عقدة الخصاء والعقدة الأوديبية هي المحور الأساسي الذي يدور حوله العمل التحليلي النفسي، فليس ذلك إلا لأن الإنسان لا يمكن أن يتمتع بحياة سوية من دون حلهما حلا سليما. واكتشاف فرويد لهذه الحقيقة أتى نتيجة عمل عيادي ومنهاجية بطرح مقولته بالمقلوب: أي لماذا لم يرضخ المريض لهذا التحريم؟ فلا بد من أحداث أثرت في مجرى حياته جعلته يبني هواما جنسيا خاطئا على أساسها، بقي محافظا على فاعليته في لا شعوره ومسببا لتأزمه ولعوارضه النفسية.

    وعمل فرويد تطابقه منهاجية جديدة بنقل المفهوم الشيطاني المسقط الفضائي، إلى إدماج ذاتي ضمن نظرية انشطارية بين ما هو شعوري مدرك، ولا شعوري غير مدرك. ونظرية جاك لاكان أتت لكي تربط هذا الجهاز بالآخر الكبير ضمن نظام علائقي، من حيث إن الذات مرتهنة بهذا الأخير الكبير منذ أول بزوغها. وهو ما لا يمكن حصره بجواني وبراني لأنه مكان رمزي تتوجه إليه طلباتنا وترتبط به رغباتنا، على اعتبار أن رغبتنا هي رغبة الآخر. وهذا ما سنأتي على توضيحه في سياق الكتاب.

 

Document Code PB.0003

http://www.arabpsynet.com/Books/Adnane.B1 

ترميز المستند   PB.0003

 

Copyright ©2003  WebPsySoft ArabCompany, www.arabpsynet.com  (All Rights Reserved)