Arabpsynet

Livres  / كتــب /  Books

شبكة العلوم النفسية العربية

 
التحليــل النفسـي للرئيـس الأميركـي وودرو ولسـون

سيغموند فرويد

تعريب و تقديم محمد أحمد النابلسي

 

q       فهرس الموضوعات /  CONTENTS / SOMMAIRE 

 

§         تقديم

§         مقدمة المؤلف

§         توطئة فرويد

§         حدود التحليل النفسي

§         تومي الصغير

§         الأب و الابن

§         الحب، المسيح، و الانهيار

§         الخطيب و رجل الدولة

§         الزواج

§         أعراض

§         الخفقان

§         الصليبي المهموم

§         مندوب يهوه المخلص

§         القوة و الإقناع

§         العقيد هاوس

§         الخيانة

§         القوى الظلامية

§         الأسلحة الذكورية

§         تحول

§         أعذار

§         التعقيل

§         يركب حمارا عبر أورشليم

§         سلام الآلهة

§         قصص قديمة... قديمة

 

q       تقديم المترجم / PREFACE

 

    طالما تباهى فرويد باختراعه الذي اختار له تسمية "التحليل النفسي ". وكان يفاخر بقابلية التحليل للتطبيق في كافة مجالات النشاط الإنساني بل أنه أعلن أن تطيق التحليل خارج العيادة أهم من تطبيقاته العيادية. وربما أراد المعلم أن يعطي أمثلة نموذجية عن كل مجال من هذه التطبيقات ليترك لخلفائه من بعده مهمة التوسع في هذه التطبيقات. حتى بدت كتاباته خارج العيادية وكأنها مجرد نماذج يجدها بعض نقاد فرويد متعجلة وغير مدققة بما يصل بها إلى  حد الرداءة.

    لسنا هنا في مجال مناقشة هذه النماذج وعثراتها، التي اعترف بها فرويد نفسه، لكننا نقول بأن تطيق مبادئ التحليل على كتابات فرويد عامة بين لنا خوفه من الموت، وهو خوف صرّح به في رسائله لخطبته. في حين تبدى هذا الخوف في كتاباته بالتعجل والغزارة. وهي صفات تدمغ كتابات المؤلفين الخائفين من الموت. فهم يريدون كتابة ما لديهم بسرعة قبل أن يفاجئهم الموت. فإذا ما وجدوا متسعا من الوقت قاموا بمراجعات قاسية لأعمالهم. وهذا كان شأن فرويد.

 

فرويد خارج العيادة:

    لا بأس هنا من التذكير بالتطبيقات الفرودية خارج العيادية ونذكر منها التالية:

1-     التحليل النفسي للفن والإبداع: عبر عمله من تحليل تمثال غراديقا لجنسن. وهو الفرع الذي تابعه شارل بودوان بتحليله للأدب.

2-     التحليل النفسي اللغوي: حيث تطرق له فرويد في مناسبات عديدة. وخاصة في سياق حديثه عن تفسير الأحلام. وهو المنهج الذي تابعه جاك لاكان من بعده. يجمعه بين التحليل وبين البنيوية.

3-     التحليل الأنتروبولوجي: حيث قدم فرويد قراءة انتروبولوجية هامة للحضارة الإنسانية في كتابات عديدة مثل: قلق في الحضارة، والطوطم  والمحرم وموسى والتوحيد... الخ.

4-     التحليل النفسي الإتني: حيث تمثل دراسته (موسى والتوحيد)  مثالا مميزا. ولقد تابع هذا الاتجاه المحلل جورج ديفريه ( Derveux )

5-     التحليل النفسي للأساطير: وهي لمحات موزعة على كامل الإنتاج الفرويدي، فقد استعار فرويد من الأساطير أسماء عقد التحليل النفسي. فكانت عقد أوديب وديان وقابيل وغيرهما من المصطلحات المستعارة من الأساطير، ولقد بالغ كارل غوستاف يونغ في هذا الاتجاه فكانت هذه المبالغة من أسباب خروجه من الدائرة الفرودية.

6-     التحليل النفسي للحروب: ومعها موقف الإنسان من الموت واتجاهات غريزة الموت لدى الإنسان. وذلك في كتابه (أفكار لأزمنة الحرب والموت).

    لكن المغامرة الأكبر كانت في تورطه بتحليل المشاهير. وهو تحليل يحتاج إلى  معلومات دقيقة لم يكن بإمكان فرويد الوصول إليها. ومع ذلك فهو خاض التجربة تلو الأخرى.

 

فرويد يحلل الرئيس الأميركي:

    صدر هذا التحليل بعد وفاة فرويد لأن نشره كان مشروطا بوفاة زوجة ذلك الرئيس الأميركي. لكن فرويد كان قد أنهى هذا العمل في العام 1938، أي قبل وفاته بسنة واحدة. وكأنه لم يرد أن يموت قبل أن ينهي هذا السبق، الذي يضعه موضع المؤسس الأول لعلم النفس السياسي.

    والرئيس موضوع التحليل هو الرئيس الأميركي الثامن والعشرون وودرو ولسون. وهو بحسب التصنيف السلوكي لعلم النفس السياسي من النمط المسمى (فاعل- سلبي). وهو للمصادفة نمط الرئيس الأميركي الحالي جورج ووكر بوش. لذلك علينا ألا نفاجأ بحال إذا ما وجدنا تطابقا غير عادي بين ملامح الشخصية التي يحللها هذا الكتاب (ولسون) وبين ملامح  الشخصية بوش الابن وخصوصا لجهة ثنائية العلاقة بالأب المحبوب والمكروه في آن معا. لكن السمة الأساسية الجامعة بين الرجلين هي ذلك الشعور الغامض والملتبس بالنبوة والنبوءة. فحين سئل ولسون عن الشبان الأميركيين الذين قضوا في فرنسا (أثناء الحرب العالمية الأولى) أجاب أنهم صليبيون قضوا في خدمة المسيحية وليس لخدمة مصالح أميركية. لقد كان هؤلاء طليعة حرب صليبية جديدة (وهو المصطلح الذي أطلقه ووكر بوش على حربه الأفغانية).

    كما يشترك الرجلان بقناعتهما بأنهما يرأسا أميركا مدفوعين ب (حس الواجب المقدس). وهذا ما يجعلهما زاهدين بجرعة كبيرة من سلطهما لمصلحة المعاونين لكنهما متمسكين بفخامة وفوقية المنصب. ومن الطبيعي أن يحاول هؤلاء الأعوان تمرير بعض القضايا دون علم الرئيس. مما يجعله يبدو غبيا في بعض المواقف المقررة والمفصلية في تاريخ رئاسته. إنه نمط الرئيس الذي يسهل خداعه وتضليله.

    فقد تبنى ولسون معاهدة فرساي (مجبرا أو طواعية) باعتبارها معاهدة مرسلة لإنقاذ الإنسانية ولرسم حضارة جديدة (وهو اعتبار معادل لشعار "العدالة المطلقة" الذي رفعه ووكر بوش لتبرير حروبه المقسطة). وأرسلها إلى  الكونغرس ليوافق عليها، لكن الكونغرس لم يعط ردا ؟ ولما تعجل ولسون الأمر، تم إخباره بطريقة ديبلوماسية ما تنطوي عليه المعاهدة من عدم توازن ومن احتمالات تفجير مشاكل مستقبلية، إضافة لتنامي احتمالات أضرارها بالمصالح الأميركية.

    وسئل الرئيس بشيء من الخبث عما إذا كان مطلعا على المعاهدات السرية الملحقة بمعاهدة فرساي وعلى ما يجري من اتصالات بين الأوروبيين و بين الخارجية الأميركية؟ فأجاب ولسون بالنفي!.

    وفي عودة إلى  دراسة فرويد لولسون نجدها دراسة ذات عمق تحليلي هام (خاصة بعد المقارنة المشار إليها أعلاه). لكنها لا تخلو من هنات واستطرادات عديدة قد يبررها سن فرويد وحالته المرضية (سرطان الفك) في تلك السنة التي أنهى فيها هذه الدراسة.

 

السلوكية تحلل الرئيس الأميركي

    لا تهتم السلوكية بدراسة الشخصية، بل هي تتجنب هذه الدراسة وتتخطاها إلى  معاينة سلوك الفرد. في محاولة لتوقع مواقفه وردود فعله تجاه الأزمات.

    هكذا فإن السلوكية عندما تدرس الرئيس الأميركي فهي إنما تدرس أداءه الرئاسي. وسلوكه مع طاقمه الرئاسي وطريقة توجهه للجمهور. وعلى هذا الأساس تكتفي السلوكية بدراسة بعدين سلوكيين تعتبرهما الأهم في أداء الرئيس، وهذين البعدين هما:

1-     بعد الفعالية: ويعني مقدار الطاقة التي يوظفها الرئيسي مقابل مدى الدعم الذي ينتظره من الآخرين لتوفير طاقته. وهذا البعد يقسم الرؤساء إلى  فاعل ومنفعل.

2-     بعد العاطفة: العاطفة الإيجابية أو السلبية تجاه العمل ونتائجه. مثل القدرة على تحمل الإحباطات والخيبات والمشاكل داخل فريق العمل. وهذا البعد يقسم الرؤساء إلى  سلبي وإيجابي.

    وعلى هذا الأساس يقسم الرؤساء الأميركيين على الفئات التالية:

1-     فاعل- إيجابي

2-     منفعل- إيجابي

3-     منفعل- سلبي

4-     فاعل- سلبي

وهذه الفئة الأخيرة هي التي تهمنا لانتماء موضوع التحليل (ولسون) إليها. وإلى  الفئة نفسها ينتمي كل من جونسون ونيكسون وجورج ووكر بوش. وخصائص هذه الفئة هي التالية:

صاحب هذا النمط يملك طاقة عالية يوظفها في عمله. لكنه يوظفها في اتجاهات خاطئة، هي اتجاهات الكفاح القهري الذي يحرم صاحبه من المتعة والراحة. وبالتالي فإن مجهود هذا الكفاح وهذا الجهد يكون محدودا على الصعيد العاطفي.

كما أن أصحاب هذا النمط يواجهون صعوبة في كبت مشاعرهم العدوانية والسلبية إجمالا. وبالعودة إلى  ما هو معروف من سلوك وأداء هؤلاء الرؤساء نجد أنهم لا يشتركون فقط بتشابه أدائهم الرئاسي بل يضاف إليه شبه في سمات شخصية عديدة أخرى. ومنها انهم ينهوا فتراتهم الرئاسية الأولى من دون أن ينجحوا في تجديدها. وصحيح أن نيكسون قد نجح في التجديد لولاية ثانية. لكننا نعلم أنه لم يكملها بل خرج منها مستقيلا بسبب فضيحة (ووترغيت) الشهيرة.

    إن النص الفرويدي المحلل لشخصية ولسون غير متداول كثيرا في أوساط التحليل. باعتباره لا يقدم جديدا إلى  المبادئ التحليلية، عداك عن كونه مليء بالعثرات، كما أن النص مجهول تقريبا في الأوساط العربية.

    إلا أننا نعتقد أن هذا النص يكتسب قيمة غير متوقعة إذ نحن قرأناه من زاوية المقارنة بين ويلسون وسائر الرؤساء من النمط الفاعل- السلبي وخاصة زميله في النمط جورج ووكر بوش. وإن كانت هذه القراءة ستحول معظم محتويات النص الفرويدي إلى  مجرد هوامش.

   لكن ما يبقى من النص سيكون جديرا بالملاحظة والتوقف المتأمل أمامه، بل ربما يعطي هذا النص مثالا إضافيا على فعالية التحليل النفسي وأهمية تطبيقاته خارج العيادة.

    ولدى مقاربتنا للنص من هذه الزاوية وجدنا أن نشر هذا النص بالعربية هو إضافة ذات أثر إلى  المكتبة النفسية العربية، لذلك عملنا في مركز الدارسات النفسية لترجمته تمهيدا لوضعه بين يدي القارئ العربي مذيلا ببعض الهوامش والتعليقات المساعدة على قراءته من زاوية المقارنة بين الرؤساء الأميركيين من النمط الفاعل- السلبي.

الرجوع إلى الفهرس

 

q      مقدمة المؤلف  

 

    هذه مخطوطة تعقبناها على مدى عشر سنوات، منذ أن سمعنا عن وجود نص غير منشور لسيغموند فرويد، وبعضهم قال: محجور عليه. وكان الدكتور أرنست جونز قد كتب في المجلد الثالث من السيرة الذاتية التي نشرها عن فرويد سنة 1957: "وأنه أثناء هذه الإقامة في برلين (1930)، أقنع و. س. بوليت، السفير الأميركي، فرويد بالتعاون معه في كتابة دراسة تحليلية نفسانية للرئيس ولسون. وقد أنجز الكتاب الذي سينشر في الوقت المناسب، وكنت الشخص الوحيد الذي حظي بقراءته،... " إن وفاة أرملة رودرو ولسون مؤخرا قد جعلت نشر مثل هذه المخطوطة ممكنا للمرة الأولى... وهذان النصان مأخوذان من مقدمة الكتاب وخاتمته، كما طبعته شركة وايدنفلد ونكلسون في بريطانيا وشركة هوتون مفلن في الولايات المتحدة.

    ويروي بوليت القصة فيقول أنه زار فرويد الذي كان في برلين لإجراء عملية صغيرة، وتحادث معه بشأن كتابه المكون من ذكريات دبلوماسية. وبدا فرويد مهتما للغاية، لدرجة أنه تبرع بالتعاون مع بوليت لكتابة هذا الفصل عن ولسون. "ورأيت الفكرة مبهجة"، يقول بوليت متذكرا، لكنها شاذة... فلو أطنب فرويد فيما يكتبه عن ولسون في فصل من كتابي فإن ذلك سيكون فظاظة مستحيلة. إذ سيكون الجزء أهم من الكل... " ويبدو أن فرويد ألح، فقد كان غير راض عن دراساته لليوناردو دافنشي وميشيل آنجلو، ومن الواضح أنه تاق إلى  فرصة للوصول إلى  استنتاجات أوسع عبر وفرة من الوقائع. كذلك اعترف لبوليت اعترافا مثيرا بأن اهتمامه بولسون قد زاد منذ عرف أنهما مولودان في العام ذاته "أي عام 1856".

    لقد استغرق إتمام هذا الكتاب عشر سنوات تقريبا. كان بوليت مسؤولا عن البحث، كما يقول، "وقد قرأ فرويد كل ما رأيته جديرا باهتمامه ". ولقد تسلّم فرويد في فيينا ما يقرب من 1500 صفحة مطبوعة على الآلة الكاتبة (بما فيها المقابلات والرسائل المنشورة واليوميات). وقد تبودلت المسودات لتصحيحها والموافقة عليها. لكن الكثير بقي غامضا وفي الظلام. وعندها قررا سوية أنهما لن يخجلا من الإقرار بالجهل في مواقع عديدة. وأقر الإثنان أن "لا أعرف، هي بداية الكرامة الفكرية".

قال بوليت: "اختلفنا مرارا، لكننا لم نختصم قط "، مع ذلك، فالخلاف حول ماذا لم أستطع أن أعرف: كان السفير متكتما أو ناسيا أو كليهما. أجّل إتمام الكتاب سنوات عديدة. وعندما اضطر فرويد إلى  مغادرة فيينا عام 1938، التقاه بوليت في محطة القطار بباريس، واقترح أن ينجز النص النهائي في لندن. تلك كانت آخر سنة في حياة فرويد، وقبل أن يموت عام 1939 كانت ثمة مخطوطة متفق عليها وموقعة من قبل الرجلين، ولكن يتعذر نشرها ما دامت السيدة ولسون الثانية على قيد الحياة. وقد أودع بوليت النص النهائي الموقع في قبو رسمي بأرشيف واشنطن الذي تحرسه البحرية الأميركية.

    المسودات الأولى برمتها لا يمكن العثور عليها. وعندما سألت بوليت عن الرسائل والمخطوطات والمخططات الأولية (بالإنكليزية؟ بالألمانية؟) تال أنها كلها قد تركت في فيينا وضاعت. لكم ستكون أخاذة الإضافات التي خطها القلم بيد المعلم! مع ذلك ينبغي أن نعترف بامتنان أن ظهور هذا النص المجهول لفرويد يشبه العثور على قطعة كلاسيكية قديمة نسيت منذ أمد بعيد.

ملفن. ج. لاسكي

الرجوع إلى الفهرس

 

q      توطئة فرويد

 

     عندما ينشر مؤلف رأيه حول شخصية تاريخية، فإنه غالبا ما يؤكد لقرائه منذ البداية أنه بذل ما في وسعه ليبقى مجردا من التحيز والضغينة، وأنه انصرف للدراسة بعيدا عن أية أفكار مسبقة. إن علي أن أبدأ إسهامي في هذه الدراسة النفسية لتوماس وودرو ولسون بالاعتراف بأن شخصية هذا الرئيس الأميركي كما برزت على أفق الأوروبيين، كانت منذ البداية بعيدة عن تعاطفي، وان إشاحتي عنه ازدادت عبر السنين بازدياد معلوماتي عنه وبالنتائج القاسية التي نجمت عن تدخله في مصيرنا.

    وبالتعرف المستمر، لم يعد صعبا إيجاد أسباب قوية لدعم هذا الشعور العدائي. لقد قيل لي أن ولسون، و قد انتخب رئيسا، قد هز أحد السياسيين، الذي ذكره بخدماته أثناء المعركة الانتخابية، قائلا: "لقد قضى الله أن أكون الرئيس التالي للولايات المتحدة. لا أنت ولا أي فان آخر أو فانون كان بوسعهم أن يمنعوا ذلك ". وهذا السياسي هو مالك كومبز رئيس اللجنة القومية للحزب الديمقراطي. ولست أعرف كيف أتجنب التفكير في أن إنسانا يتوهم النبوة، ومتأكدا إلى هذا الحد من وجود صلة حميمة شخصية بينه وبين الكلي القدرة، غير جدير البتة بمعالجة قضايا تتعلق بأبناء آدم. كلنا يعلم أن المعسكر المعادي كان يهدهد خلال الحرب فكرة نبي مختار من العناية الإلهية هو القيصر الألماني. لقد كان أشد ما يدعو إلى  الأسف ظهور الفكرة نفسها في المعسكر الأول ولكن أحدا منها لم يربح، فاحترام البشرية لأوهام الألوهة لم يزدد.

    لقد كان للرئيس خاصية أخرى، غالبا ما دعا بنفسه إلى الانتباه لها، وعليها تقع تبعة كوننا لا نعرف بالضبط كيف نقارب شخصيته، من غير أن نراه غريبا عن عالمنا تماما كما كان يرى نفسه. فقد اعتدنا، عبر تطور جهيد، أن نضع حدودا بين عالمنا النفسي الداخلي وعالم الواقع الخارجي. ويمكننا أن نفهم العالم الثاني بالملاحظة والدراسة والإستكشاف. وفي هذا السبيل الشاق لم يكن سهلا علينا أن نرفض تفسيرات ترضي رغباتنا وتؤكد أوهامنا. لكن هذا القهر الذاتي عوّض لنا، إذ قادنا نحو سيادة على الطبيعة لم نحلم بها.

حديثا بدأنا نستخدم الأسلوب نفسه مع محتوى عالمنا النفسي الداخلي. ونشأت متطلبات أصعب لتحقيق النقد الذاتي واحترام الوقائع. وفي هذا الميدان أيضا نحن نتوقع نجاحا مماثلا. فكلما اتسعت وتعمقت معرفتنا بالحياة الباطنية ازدادت قدرتنا على الإمساك برغباتنا الأصلية وضبطها وقيادتها. لكن ولسون، على العكس من ذلك، عاش وهو يكرر إعلانه أن الوقائع المشخصة لم تكن ذات دلالة بالنسبة له؟ وأنه لا يجل شيئا سوى الدوافع والآراء الإنسانية. وكنتيجة لهذا الموقف، كان طبيعيا أن يتجاهل في تفكيره حقائق العالم الخارجي، حتى أنه ينكر وجودها إن هي تعارضت مع أمانيه ورغباته. وهو بذلك قد فقد الحافز الطبيعي لإنقاص جهله بتعلمه للحقائق الواقعية. إذ لم يكن يهمه شيء سوى النوايا النبيلة. وكنتيجة، عندما عبر الأطلسي حاملا لأوروبا الممزقة بالحرب سلاما عادلا ودائما، وضع نفسه بشكل يرثى له موضع المحسن الذي يرغب أن يعيد للمريض بصره دون أن يعرف تشريحية العين، ودون أن يتعلم الطرائق الضرورية للعملية الجراحية.

إن أسلوب التفكير هذا هو المسؤول، على الأرجح، عن التخبط وانعدام الثقة، وعن النزوع إلى  نكران الحقيقة، الذي يظهر في احتكاكات ولسون مع الآخرين على نحو صادم، خاصة بالنسبة لمن هم مثلي. إنه لمن الضروري أن يدعم الدافع لقول الحقيقة بالأخلاق. لكن هذا الدافع ينبغي تأسيسه على احترام الحقيقة الواقعية.

    علي أيضا أن أعبر عن اعتقادي بوجود صلة وثيقة بين غربة ولسون عن العالم الواقعي وبين معتقداته الدينية. ذلك أن شرائح كثيرة من نشاطه العام تعطي الانطباع بأن طريقته هي طريقة (العلم المسيحي) مطبقة في السياسة. الله خير، المرض شر. المرض يناقض طبيعة الله، وعليه، فإنه ما دام الله موجودا، فالمرض غير موجود. لا يوجد مرض أبدأ. ومن منا يتوقع وجود معالج من هذه المدرسة يمكنه أن يهتم بدراسة الأعراض المرضية وتشخيصها؟

    سأعود الآن إلى  نقطة البداية في هذه الملحوظات وهي الاعتراف بنفوري من ولسون مضيفا كلمة تبرير: نحن جميعا نعلم أننا غير مسؤولين تماما عن نتائج أعمالنا. فنحن نتصرف بنوايا معينة. ثم تنجم عن تصرفاتنا نتائج لم نقصدها ولم نستطع التنبؤ بها. وهكذا نحصد لوما وسوء سمعة أو مديحا أكثر مما نستحق. ولكن عندما يحرز شخص، مثل ولسون، عكس ما أراد إنجازه تماما؟ وعندما يظهر نفسه كنقيض حقيقي لتلك القوة التي "ترهب الشر دائما ودائما تخلق الخير"، وعندما ينتهي ادعاءه بتحرير العالم من الشر إلى  برهان جديد على خطر الملتاثين على مصالح الشعوب، عندها لا ينبغي أن نستغرب انعدام الثقة في مراقب يمكنه أن يجعل التعاطف معه ممكنا.

    على أنني، وقد قادني تأثير بوليت إلى  مزيد من الدراسة الشاملة لحياة الرئيس، لم أحتفظ بهذا الشعور دونما تغير. لقد هيأ بوليت معلومات مقبولة عن طفولة ولسون وشبابه، وهو الذي عرف الرئيس شخصيا، وعمل معه أثناء فترة سطوعه العظيم، وكان آنذاك مكرسا نفسه لولسون بكل ما في الشباب من حماس. ونحن معا مسؤولان عن الجزء التحليلي بقدر متساو، فقد كتب من قبلنا معا. وبالنتيجة نشأ لدي شيء من التعاطف. لكنه تعاطف من نوع خاص. تمازجه شفقة مشابهة لشفقتنا على بطل سرفانتس، بطل (لامانتشا) الساذج. وأخيرا عندما نقارن قوة الرجل بعظمة المهمة التي تكفل بها، تغدو هذه الشفقة غامرة حتى لتطرد جميع المشاعر الأخرى. وفي النهاية أعتقد أني غدوت جديرا بأن أطلب من القارئ ألا يرفض هذه الدراسة بدعوى أنها نتيجة ضغينة. فمع أنها لم تنشأ دون تدخل من مشاعر سلبية قوية، فإن هذه المشاعر تعرضت إلى إخضاع كامل. ويمكنني أن أعد كالشيء نفسه بالنسبة لوليم س. بوليت الذي تعاونت معه في هذا الكتاب.

    ولا بد الآن من قليل من الشروح الإضافية. فقد يعترض القارئ على عملنا كدراسة نفسانية، لكوننا استخدمنا منهج التحليل النفسي في تفحص موضوعنا. واستعملنا فرضيات التحليل النفسي وتعاميمه وحدوده. إن هذا ليس تقديما مغلوطا اعتمدناه مراعاة لتحامل الناس على التحليل النفسي بل إننا على يقين بأن عنواننا (دراسة نفسية) يعبر عن الاقتناع بأن التحليل النفسي لا شيء سوى جزء من علم النفس. ولا أعتقد أننا في حاجة للاعتذار عن استعمال الطرائق التحليلية في الدراسة النفسية المهتمة بالحقائق الأعمق للنفس.

    إن نشر نتائج دراسة كهذه عن الآليات النفسية العميقة، وعرضها على الرأي العام أثناء حياة الإنسان المدروس، أمر متعذر. ومن غير المحتمل إطلاقا أن يوافق الشخص على نشره خلال حياته. فالتحليلات العلاجية تجري بين الطيب والمريض تحت تعهد بسرية المهنة، ويقصى عنها كل طرف ثالث. ولكن عندما يموت إنسان كانت لحياته وأعماله أهمية خاصة في الحاضر والمستقبل، يصبح من حق الرأي العام أن يوافق على جعله موضوعا لسيرة ذاتية. وتنتهي بذلك الحدود السابقة المفروضة على حياته. وقد تثار مسألة الحماية لفترة ما بعد الوفاة، لكن هذه المسألة نادرا ما أثيرت، وعادة يكون سهلا الوصول إلى  اتفاق بشأن مدة هذه الفترة أو التأكد من مراعاتها.  ولقد مات وودرو ولسون عام 1924.

    وأخيرا ينبغي أن ننفي التصور الخاطئ بأن هدفنا الخفي من كتابة هذا الكتاب هو إثبات أن ولسون كان شخصية مرضية، أو رجلا شاذا. وذلك بغية نسف إنجازاته وحرمانها حقها من التقدير العميق. كلا! ليس هذا قصدنا. وحتى لو كان كتابنا كذلك فلن يصل إلى  هذه النتيجة. إن الاعتقاد بإطار صلب للسواء، وبخط حاد من التمييز لين السوي وغير السوي في حياة نفسية، قد هجر منذ أمد بعيد في بحوثنا. لقد قد!ا لنا تقنية دقيقة جدا جميع أنواع العصاب في مجالات ما كنا لنتوقعها أبدأ، ويمكننا بناء على ذلك أن نقول أن أعراض العصاب والكف قد أصبحت إلى  حد ما عامة بين جميع الكائنات البشرية المتحضرة.

    بل حتى ونحن نزعم أننا نفهم الإرهاصات التي أنتجت هذه الظاهرة. فإن حكمنا بالسواء أو المرض على سمة شخصية أو فعل ما يتوقف غالبا على ما نعتبره مقبولا أو مؤذيا بالنسبة للجماعة التي ينتمي إليها صاحب الفعل. ورغم غموض هذه المفاهيم، وتأرجح "المبادئ الأساسية التي يقوم عليها حكمنا، فنحن لا نستطيع أن نستغني في الحياة العملية عن التمييز بين السوي والمرضي. على أننا ينبغي ألا ندهش إذا لم يلائم هذا التمييز نقائض هامة أخرى.

    ففي تاريخ البشر، وفي جميع الأزمان، لعب الحمقى والرؤيويون والمعانون من الأوهام والمجانين أدوارا كبيرة. حيث حادث الولادة أنعم عليهم بالسلطان. إنهم يسببون الخراب عادة، ولكن ليس دائما. ولقد ترك هؤلاء أثرا بعيد المدى على أزمانهم والأزمان اللاحقة، وأعطوا زخما لتحركات حضارية هامة وقاموا باكتشافات كبيرة. فهم من ناحية تمكنوا من تحقيق إنجازات ضخمة عبر الشطر المتماسك من شخصياتهم، أعني رغم شذوذهم.     ومن ناحية أخرى فإن السمات المرضية لشخصياتهم (كمثل الاشتداد غير السوي لرغبات معينة فيهم وآحادية الجانب في نموهم والانغماس المتفلت الخالي من النقد لتوجهه نحو هدف وحيد) هي التي تمنحهم القدرة على سحب الآخرين وراءهم والتغلب على مقاومة العالم.

    لا إن تلازم الإنجاز العظيم مع الشذوذ النفسي لمن التكرار بحيث يغري المرء بالاعتقاد أنهما لا ينفصلا أحدهما عن الآخر. لكن هذا الافتراض تناقضه حقيقة مفادها أن في جميع ميادين الجهود العظيمة رجالا عظاما ينبغي أن يوجدوا ليحققوا متطلبات السواء.

بهذه الملحوظات نأمل أن نكون قد أكدنا على كون هذا الكتاب ليس سوى دراسة نفسية لتوماس وودرو ولسون. لكننا، في هذه الحالة وكل حالة، لا نستطع أن ننكر ما لمعرفة وثيقة بالرجل أن تقودنا إلى  تقويم أدق لإنجازاته.

كما أن علينا القول بأنه لم يعد من الملائم في أحكامنا على الحوادث النفسية تصنيف هذه الحوادث في خانة سوي- مرضي، كما هو غير ملائم تصنيفها في خانة خير- شرير.

يقول مارك أنطوني عن بروتوس القتيل في مسرحية يوليوس قيصر لشكسبير:.... أن عناصره لممتزجة فيه إلى  حد تقف فيه الطبيعة، وتقول للعالم كله: هذا كان إنسانا.

    وتعليقا على هذه الكلمات يغرينا أن نعلن أن عناصر التركيب النفسي هي دائما نفسها. إن ما يتغير في هذا المزيج هو كمية العناصر العددية وتمركزها في حقول الحياة النفسية المختلفة وارتباطها بالموضوعات المختلفة. وتبعا لمعايير معينة، نقيم عندئذ شخصية الفرد من حيث هي شخصية سوية أو غير سوية أو مظهرة لآثار مرضية. لكن هذه المعايير ليست موحدة، أو ثابتة أو جديرة بالاعتماد عليها. ومن الصعب التقاطها علميا، لأنها في النتيجة تغدو مجرد سمات عملية، ذات أصل تقليدي غالبا. "سوي " تعني عادة الإنسان العادي أو القريب من العادي، الذي هو حصيلة التركيب النفسي والحياة الاجتماعية. فالاضطرابات النفسية يمكنها في حالات قليلة فقط أن تعود في أسبابها إلى  التهابات أو إلى  مواد مخدرة أو إلى  تدخل عوامل عضوية. وحتى في هذه الحالة لا يكون تأثير تلك العوامل مباشرا. إن العوامل الكمية هي التي تفرز، في غالبية الحالات، انبثاق النتائج المرضية: وهي عوامل من النوع الذي تستخدمه الدوافع وتتميز بقوة استثنائية في جزء معين من الجهاز النفسي كمؤونة أكثر أو أقل لتلك الإفرازات الداخلية التي لا غنى عنها في قيام الجهاز العصبي بوظيفته، وفي اضطرابات النمو (المفرط أو المعاق) للحياة النفسية.

إننا مرة أخرى نلتقي هذا النوع من السببية الكمية عندما ندرس بمساعدة التحليل النفسي ما يبدو؟ لنا الآن مادة ابتدائية في الظواهر النفسية. فالقوة النسبية لأية من الغرائز العديدة التي تنتج الطاقة النفسية، والعمق الخاص لواحد من تلك التوحدات التي تقوم عليها الشخصية عادة، والتكون الارتدادي القوي قوة استثنائية يمكن أن تقمع حافزا ما- هذه العوامل الكمية تقرر شكل الشخصية النهائي وتدمغه بفردية معينة، وتوجه نشاط الفرد في قناة معينة.

الرجوع إلى الفهرس

 

Document Code PB.0078

http://www.arabpsynet.com/Books/Nab.B21 

ترميز المستند   PB.0078

 

Copyright ©2003  WebPsySoft ArabCompany, www.arabpsynet.com  (All Rights Reserved)