Arabpsynet

Livres  / كتــب /  Books

شبكة العلوم النفسية العربية

 

الأعمــال المتكاملــة

ترحالات يحيى الرخاوي

الترحال الثاني - الموت و الحنين

أ.د. يحيى الرخاوي

الناشر : مطبعة المدينة - 2000

E.mail : yehia_rakhawy@hotmail.com

 

q       فهــرس الموضوعــات /  CONTENTS / SOMMAIRE 

 

§          مقدمة

 §         قبل الفصل الأول: سفر آخر - (النص الكامل / Full text)

 §         الفصل الأول: الموت: ذلك الشعر الآخر - (النص الكامل / Full text)

 §         الفصل الثاني: ويا ليتني أستطيب العمى (النص الكامل / Full text)

 §         الفصل الثالث: الجمال تتجدد طزاجته (النص الكامل / Full text)

 §         الفصل الرابع: ممر حانة في عطفة مجهولة بلا هوية (النص الكامل / Full text)

 §         الفصل الخامس: أوراق قديمة وأوراق مبعثرة (النص الكامل / Full text)

 §         الفصل السادس: مسافر رغم أنفه(النص الكامل / Full text)

 §         الفصل السابع: الصلح خير (النص الكامل / Full text)

 §         الفصل الثامن: هذا يتوقف على ماذا؟ (النص الكامل / Full text)

 §         الفصل التاسع: مفتاح الخزانة في كومة القش (النص الكامل / Full text)

 

q       تقديــم الكتــاب / PREFACE

 

  مدخـــل : عجزتْ أداة واحدة أن تستوعب "القول الثقيل " الذى ألقى علىّ. حملتُهُ. من خلال الجدل الحى بين ذاتى ومرضاى ودنياىَ، فلجأتُ إلى كل ما أتيح لى من أنغام وأشكال.

لم أكتب إلا مسودات، لذلك كنت  أنوى أن يكون العنوان"الأعمال الناقصة" وخاصة أن ترجمة        Collected     Worksأو  Collected Papers هى "مجموعة أعمال" أو "مجموعة أوراق" فلان، الأمر الذى لا  ينبغى أن يسمى كذلك أو ينشر بهذا الاسم، إلا بعد أن يكف صاحبها عن العطاء، أو عن الحياة.
 ثم قبل ذلك وبعد ذلك: هل يكتمل شىء أبدا؟
وحين آن أوان الحسم، قررت أن تخرج كل المحاولات كما وصلتْ إليه، ولتكتمل بعدُ أو تتكامل مع غيرها. فكان هذا العنوان "الأعمال المتكاملة"  أملا فى أن يكون  جمّاع المحاولة هو "توجُّهٌ ضام،  حولَ محورٍ ما".
 
* (رَحَل) عن المكان ـ رحلاً ، ورحِيلاً، وتَرْحالا،  ورِحلةً: سار ومضى.
وفى الحديث: "لتكُـفَّنَّ عن شتمه أو لأَرْحَلَنّك بسيفى".
(رَحّلـَةُ): جعله يرحل.
وفى الحديث: "عند اقتراب الساعة تخرج نارٌ من قمـر عـَدنَ تُرحِّل الناس".
(ارْتـَحـَلَ): رَحَلَ. وارتحل البعيرَ: جعل عليه الرَّحـْلَ. و ـ ركبه.
و ـ وارتحل فلانٌ فلاناً: علا ظهره .
وفى الحديث "أن النبى (ص) سجد فركبه الحـَسـَنُ فأبطأ فى سجوده، فلما فرغ سئل عنه فقال: إن ابنى ارتحلنى فكرهت أن أعْجِلَه".
(الراحلة): من الإبل: الصالح للأسفار والأحمال.
وفى الحديث : "تجدون الناس بعدى كإبل مائةٍ ليس فيها راحلة".
... ويقال: مشت رواحله: شابَ وضعُف.
(الرُّحـْلة): ما يرتحل إليه، يقال: الكعبة رُحْلة المسلمين، وأنتم رُحْلتى.
(الرَّحـُول): كثير الارتحال.
(الرَّحـِيل): الارتحال. و الرحيل القوىٌّ على الارتحال والسير.
(الَمرْحـَلـَة): المسافة يقطعها السائر.... بين المنزلين.
 (المعجم الوسيط)
"...، رحلة الشتاء والصيف، فليعبدوا رب هذا البيت ،
الذى أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف" .                  قرآن كريم.
 
وفى الاستعمال المصرى:
  "آصبر على جارك السوّ يا يرحل  ياتجيله مصيبة تاخده".
والترحيلة: هى تشغيل مجموعة من الفلاحين بعيدا عن بلدتهم الأصلية
           بأجور زهيدة، وبلا مأوى مستقل فى العادة.
وعمال التراحيل: فئة من الفلاحين اعتادوا العمل أساسا فى الترحيلة.
و" الحاجة اترحّلت من مكانها"، أى انتقلت إلى موضع آخر، حسن أو سىء.

 

تقديـــم : لم تنته الرحلة الأصلية مع الأولاد إلى الناس على الطريق. وهى ممتدة في هذا الترحال الثاني. لكن ما بين وقت الرحلة، وبين ما جد أثناء كتابتها حدثت أشياء، وتحدث أشياء، كان لا يمكن إلا رصدها، فلم تعد المسألة تقع بين أدب الرحلات وأدب السيرة الذاتية. تجاوز، هذا العمل هذا وذاك إلى ما أسميته "أدب المكاشفة"، وهو ليس مرادفا بالضرورة لأدب الاعتراف.

     يتبين لي مع نمو هذا العمل أن أدب المكاشفة- إن صحت التسمية- هو نوع من السيرة الذاتية الآنية". ذلك أنه بدا لي أنه لا معنى للحديث عن الماضي باعتباره مضى، أما الماضي الحاضر فينا الآن فهو الأصدق والأهم.

     أنا لا أومن بالتاريخ مصدرا للمعلومات، لكنه قد يصلح إشارات جيدة لما تبقى فينا من حضور فاعل، أو خامل.

     إن ما تجلى لي من خلال مثيرات السفر في بلاد الله لخلق الله، من ذكريات وتداعيات ومواجهات، ليس له معنى ولا مبرر لحكيه إلا إذا كان مطلقا لما يمكن أن يتكشف لي، فأبوح به مما وصلني من طبقات الوعي المتاح.

     سفر آخر فرض نفسه على بداية هذا الترحال الثاني، فغاص بي إلى طبقات أعمق، لم يخل منها الجزء الأول، لكن للرحيل بلا عودة شأن آخر.

     فقد رحل عنا والد ابنتي اللتين رافقتانا " في الجزء الأول: مايسة السعيد، ومنى السعيد. هو المرحوم الأستاذ الدكتور السعيد الرازقى. حدث هذا وأنا لم أنته من كتابة رحلتنا الأساسية فتداخلت مواكبتي له في سفر آخر، مع مواكبتي صحبة بنتينا وبقية أولادي وزوجتي رفقاء السفر الأول، ثم عجل هو إليه دوني.

     ثم وأنا أراجع التجربة (البروفة) الأخيرة رحل عزيز آخر، قلب عندي أكثر معاني الرحيل الآخر، هو د. حلمي نمر.

     أما الحنين الذي ألقى بظلاله على معظم هذا الترحال، فهو يتمثل في الإلحاح المعاود للاستجابة لجذب الركن الصغير القصي الواعد، هو حنين قد يعنى التمهيد للرحيل الآخر، أو هو الذي يلوح بوعد بالولادة الجديدة.

     أكتشف في هذا الترحال الثاني، وبالذات من خلال الحنين إلى "الركن " الذي ألح بشكل متكرر، أكتشف سر ما يسمى "برنامج الذهاب والعودة"، جوهر حركية الوجود.

     فحاولت أن أكاشفكم بما كان. قدر المستطاع.

 

q        قبل الفصل الأول: سفر آخر
 
سفرٌ آخر
جعلت أسألها محتجا، وكأنى أسأل نفسى، أو ربى، بصوت مسموع:
 "يا ست نعيمة، إشمعنى.. سعيد؟
 فتفاجئنى- بإيمان المصريين البسطاء - برد شديد الدلال ة:
و"اشمعنى غيرُه"؟
..........
ثم أصبح يختلط مع الدهشة نوع من الخجل اليقظ الطيب، فعلا:
" إشمعنى غيره؟  واشمعنى غيرى؟"

(15 ديسمبر 1985)
......حتى المذكَّرة الصغيرة التى سجلتُ فيها (بعد وصولى) التواريخ، وبضع كلمات عن كل يوم، هذه المذكرة غابت، وكأنها تعمدت الغياب، بعد أن علمت تغير المزاج، وصعوبة العودة، ولم يعد ثمَّ وقت للبحث عن شىء يبدو وكأنه لم تعد له أهمية فى الواقع. فالوقت غير الوقت، والإيقاع غير الإيقاع، وإن كان الالتزام واحدا، والورطة أشد.
كنت أنوى أن أسافر معهم  هذا الصيف (1985) فى رحلة قصيرة أثبـّت فيها ماجرى، أو أختبره. ولكننى عزفتُ حسما، وقبل أن يحدث ماحدث؛ ذلك أنى خفت أن أشّوه موقفى من السفر بالوقوع فى استدراج الاعتياد الترفيهى السخيف، كما خفت على الأولاد أن ينسوا حين تستدرجنا العادة، تحت وهم أملٍ فى فائدة مرجوة من  مواصلة التعرى فى مواجهة حضارة (ثقافة) أخرى، وناس أُخـَر، وعادات أخرى، وإيقاع آخر. أقول: إننى خفت منى، وعليهم، خفت من تسحب العادة، فالرفاهية، فالنسيان، فالاغتراب، فالعزلة عن الناس، ثم تصورُ الحق الخاص من الموقع الفوقى الأخص. خفت حتى أننى لم أستطع أن أستجيب إلى رغبتهم ورغبتى، على الرغم من الإلحاح،
أنا-حتى الآن- شديد اليقظة لألاعيب التبرير التى يبرر بها أمثالى مثل هذه الأسفار، سواء تحت دعوى "الحق فى الراحة" (قال "ماذا"؟)، بعد طول عناء!!. أم تحت دعوى (منظرة) المؤتمرات العلمية (السياحية الدعائية الاجتماعية) !! إلخ، وأخيرا تحت دعوى: فرصة "للحوار" الحضارى. (!!) -فقلت: "لا"، لا سفر الآن، على الأقل حتى أنهى كتابة (معايشة) ما كان فى الرحلة السابقة بما أنا فيه الآن، ثم نرى.
فجأة، حدث ماحدث،
فوجدت نفسى فى الخارج هذا الصيف، (صيف 85)، لكن الصحبة غير الصحبة، والسبب غير السبب، فى بلد غير البلد،
فرض سفرٌ آخر نفسه علىّ مع صديق رحـَلَ متعجّلا،
.......بدأت الأحداث المفاجأة فى يوليو 1985، وكنت بمحض الصدفة قد انتهيت مبكرا من كتابة الفصل السابق من هذه الرحلة (الفصل الأخير من الترحال الأول) فحمدت الله أنه  قد نفذ بالكاد من تحمل وطأة ما حل بى، منذ أن حدث ما حدث. حمدت الله أننى لم أضطر، وقتئذ  وأنا فى تلك الحال، إلى الالتزام بالإمساك بالقلم، أحركه كطن من الرصاص، أو أمسكه وقد تلبست أصابعى وعقلى ووجدانى جميعا بقفازات من الجبس الأسود.
لكن يبدو  أننى  استطعت أن أتسحب من ورائى؛ لأعاود حركة القلم، بدءا من القيام بالتزاماتى الراتبة منتهيا إلى التقاطات إشراقات البعث ، على الرغم من دوام نفس  الأحوال .
 فما هذه الأحوال؟
لى صديق أصيب بمرض نذل خفى، فوجدتُ نفسى بجواره جدا، مثل زمان. ثم تطورت  الأمور بسرعة أكبر، فوجدت نفسى مسافرا بجواره أكثر؛ حيث تصورنا - هو وأنـا - أن ثمة رؤية علمية طبية فى الخارج أدق، وأن ثمة فرصة علاجية أنجع.
 سافرنا فجأة، هو، و.. أنا.
 سافرتُ وأنا أشعر بعكس كل ما تعودت أن ألقى به السفر، هو يستند على جذعه دونى، بجهد جهيد، بل يكاد يطيـّب خاطرى ويطمئننى، وليس العكس، فهو  (أيضا) لم يستطع أن ينسى موقفه الأبوى المزمن الذى تلبّسه مُنذ كان طفلا، وهو لم يكن أبدا طفلا، و"أنا" أسير بجواره أتصور أنى أسانده، أو أسنده، فلا أفعل شيئا إلا أن يعتصرنى الألم بجواره، عاجزا، خائبا، لا أجرؤ على إعلان رفض المرض والعجز، ولا على قبولهما، فأكتشف خداعى لنفسى بعد طول ادعاء. فكم تصورت أنى أهيئ نفسى طول الوقت للنهاية الطبيعية لدورة حياة الفرد البشرى، وقد كان هذا هو حديثـنا المفضل معا فى وقت غير الوقت، حين كنا بعيدين عن المواجهة الصريحة لما نتحدّث عنه: "النهاية".
حين وقعت  الفأس فى الرأس: واجهْنا الاختبار الحقيقى، فإذا بنا نفاجأ بأننا نستغرب ما ليس غريبا، ليس غريبا بحكم مهنتنا، وليس غريبا بحكم ما نزعم من حكمة وبصيرة!!، فأىة غرابة فى المرض ونحن أطباء؟ وأىة غرابة فى العجز ونحن بشر؟ بل أىة غرابة فى الموت نفسه ونحن أحياء = كيانات بيولوجية محدودة العمر مهما طال؟. هل نحن غير الناس؟
نكتشف كم أن هذا الوهم كامنٌ داخل داخلنا دون أن ندرى: نحن - فعلا - نعتقد "أننا غير الناس". أية خدعة!! أى كذب.
 ضبطت نفسى متلبسا بذلك حين عدت مكسورا من هذه الرحلة بعد أن تبيّن ما تبين، وجعلت أسأل "حكيمة" صديقة، تعرف صديقى هذا، وكم أنه كريم طيب خدُوم عالم. طبيب حاذق رحيم ... إلخ، جعلت أسألها محتجا، وكأنى أسأل نفسى، أو ربى، بصوت مسموع، "يا ست نعيمة، إشمعنى.. سعيد؟!، فتفاجئنى بإيمان المصريين البسطاء برد شديد الدلالة: و"اشمعنى غيرُه"؟ فأفقت ُفجأة، ثم طويلا، وكلما عاودتنى الجملة دهشت لها وكأنى أسمعها طازجة تقال بصوت واضح لأول مرة. فأدهش من جديد، ثم أصبح يختلط مع الدهشة نوع من الخجل اليقظ الطيب، فعلا: إشمعنى غيره،  واشمعنى غيرى؟
 كلما قلـُقلـت ساخطا، أو حزنتُ مغيظا تذكرتكِ يا ست نعيمة وشكرتك وأنا أردد: "واشمعنى غيره"؟ لماذ  نتصور، نحن الأطباء، أو أى "نحن": أن لنا قوانين خاصة، وأمراضا خاصة، وعلاجات خاصة؟ ماذا فينا يستثنينا؟
كانت هذه حالى، لكنها لم تكن هى حال صديقى تماما، فهو أرق صبرا، وأعمق إيمانا، لكنه بشر طيب، وطبيب أستاذ، وأستاذ قدير، وتخصُّصه يكاد يكون فى نفس ما أصابه، مما لم نكن نعرف "تحديدا" قبيل السفر، وإن كنت ـ للأسف ـ كنت أعرف عن طبيعة ما أصابه أكثر منه.
صديقى هذا هو والد ابنتّى اللتين صاحبتانا فى الرحلة التى أكتبها الآن عن "الناس والطريق"، وقد كان حاضرا معنا طول الرحلة بشكل ما. حيث كنا نتذكره، ونسترشد بحكمته، ونرفض فرط تعقله، وندعوا له، ونتوعده، أنــا وابنته الصغرى"منى"، حين كنت أجرى بجوارها (فقد كنا ـ نحن الاثنين ـ نفضل الجرى على السير ما أتيحت الفرصة...). كانت هذه الصغيرة تذّكرنى أنها حين تعود، ستجعل والدها يغيـّر كثيرا مما "هو فيه"، فأقول فى نفسى: "بل مما اضطـُـر أن يكونه"، وأتساءل: أية فرصة فارقة بيننا وبين أولادنا؟ ولا أقبل أن أتصور أنهم (أولادنا) أحسن منا. قد يكونون أوفر حظا، لكنهم أقل ألما شريفا؛.
يبدو لى أن الألم- بجرعة مناسبة- هو حق لـلبشر مثل الدعة سواء بسواء، لكن يبدو أيضا أن نصيبنا- صديقى وأنا- من الألم والنسيان والإهمال كان أكبر من حقنا. وقد كنت أعلم ذلك وأخفيه طول الوقت، فكنت حين أنطلق، أو حين أصور للجميع أنى منطلق، كنت أفعل ذلك "إلا قليلا"، أو... (ولا تقل لأحد) ... إلا كثيرا. نعم، يتسحبُ بعيدا عنى ذلك الفرح الطفلى بسرعة وكأنه يتوارى خجلا أمام ذلك الجزء الغائص فى جوف وجودى، ذلك الجزء الحزين القابع وراء كل شىء، هذا الحزن المتربص يظل يجذبنى ضد كل فرحة، وحين تصورت أنى تغلبتُ عليه، أو على الأقل روّضته، عاد يلاحقنى، أو يتبعنى خلف كل انطلاق، وكل فرح، وكل ضحكة. فهو لم ينسنى أبدا، فلم أنسـَهُ مرغـما، بل إنى أصاحبه حتى الائتناس.
 أسأل صديقى هذا وقد عضنا الألم وعصرنا العجز، فرحنا نقطر مرارة على الرغم من ظاهر الابتسام. أسأله، فيجيبنى بحكمته المفرطة التى استسلم لها طول عمره (كارها إياها... دون أن يدرى). يقول لى ونحن نسير ببطء يعلن ثقل همومنا على سيقاننا، وهو يميل بأحد كتفيه ميلا خفيفا إلى ناحية (عادة أعرفها عنه من قديم، وليست بسبب ما أصابه مؤخراً، عادة  أميزه بها من بين الآلاف وهو قادم من بعيد) يقول، وقد حفّت بنا المرارة من كل جانب:
 ".. كنت أتحدث مع شقيقتى الكبرى، ونحن نبحث فى داخلنا عن ضحكة، أو آثار ضحكة، كتلك التى نراها على وجوه  أولادنا. فقالت شقيقتى أو قلت لها: يبدو أنه لا فائدة، فمن لم يضحك صغيرا، لا يعرف كيف يضحك، كبيرا، لقد راحت علينا... ولن نستطيع أن نفعلها مهما حاولنا.."
رحلتى مع صديقى سفر آخر، كما أن الموت شعٌر آخر .
هذا ما تعلمته  من أدونيس فى رثاء عبد الصبور.
لست واثقا إن كنت أستطيع أن أكتب هذا السفر كله أو بعضه  بالطلاقة نفسها.
من البديهى أننى لن أكتب على الموجة ذاتها التى كتبت بها تَرْحالى الأول.
 هل يا ترى  أستطيع أن أواصل الترحال إلى داخلى ـ خارجى، وأنا محمّل بكل هذا بعد ما كان ذلك كذلك؟.
حاولتُ أن أُظهر كيف قالت لنا حرافيش نجيب محفوظ أن وهم  الخلود هو أكذب كذبة، وأن روعة الوعى بالموت هو دفع الحياة  (نشرت هذه الدراسة فى مجلة فصول، ثم فى كتاب لى نشرته لى هيئة الكتاب عن بعض قراءاتى فى أدب محفوظ) كانت الفروض تقول:
" إن ملحمة الحرفيش  تريد أن تؤكد ماهية دورات الموت والبعث،"
" إن وهم الخلود بمعنى البقاء ثابتا فى المحل، أو مكررا في الفعل، هو عين السلب الساكن ، وهذا هو الخليق باسم الموت."
"إن الوعى بالموت هو الذى يعطى للحياة زخمها ويحافظ على دوراتها،  واستمرارها".
ثم عشت هذه التجربة : عشت فى صحبة الموت يمشى على أرجل. عايشت الموت خارجى وداخلى، كما عايشت الوعد بالبعث وأنا أغوص فى محاولة الكشف عن معنى هذا الحنين الملحّ إلى ركَنٍ قصىّ. لعل وعسى.
 
  q      الفصل الأول: الموت: ذلك الشعر الآخر
 
الموت: ذلك  الشعر الآخر
"يختل مجرى العمر والأمل،
(لماذا ياصديقى؟؟)
دائرةٌ ملتاثة:
(عَجـّـلتَ بالنهاية؟)
تقضمُ فى المجهول والمعلوم أنيابُ الظلام الجائعة،
(هل ضقتَ ذرعا باللجاج والجشع؟)
ثارت أجنة الخلايا تصطرع".
تعملقتْ فطرتك الأبيةْ
لم ترعَ عهداً، لا، ولمّا تنتظر
لــمْ نـقوَ بعدُ ياصديقى
(فيم العجالة والسام؟)
تقفز خلف الحدِّ، بعد العدِّ، تقتحمْ
ترجع نحو عشها اليمامةْ.
 
الأربعاء: 29 يناير 1986 ـ الساعة الخامسة وعشر دقائق (صباحا)
استأذنَ صديقى، والد إبنَتَـى رفيقتى رحلتنا هذه،
 استأذنَ أن يكمل رحلته وحده، بعد صراع، وعناد، وآلام، ورؤى، وحوارٍ أغلبه صامت، وكل هذا لا أستطيع ـ الآن ـ إهماله أو نسيانه أو إزاحته كما لا أجد عندى الشجاعة أو الأمانة لحكاية كل تفاصيله التى استغرقت أكثر من سبعة أشهر... جَمَعْنا فيها ـ هو وأنا ـ خلاصة عمرنا قولا وتذكرة، ثم عهدا، ورؤية.
منذ سافرتُ معه، ورجعنا كما سافرنا، وأكثر عجزاً، ونحن نجترّ أيامنا بهدوء شائك، هو: تعتصره الآلام، وأنا: يخيفنى العجز، حتى قرَّرَ، هكذا رأيت رحيله، فذهب دون إبطاء، ويبدو أن هذه لم تكن رؤيتى وحدى، فحين كتب شقيقه نعيه فى الأهرام حضَرَتـْـهُ آية كريمة صدّر بها النعى تفيد ما ذهبتُ إليه من تسارع صديقى للقاء ربه، صدّر النعى بالآية تقول: "وعجِلتُ إليكَ ربى لترضى"،
 رحل صديقى عجِلا إليه، رحل وتركنى وأنـا أعيش معه/فيه/به، بتقمص يحتد فيه وعيى فيهزنى حتى النخاع. أخطو بجواره مرتحلا إلى ما لم أحسب، مختبـِرا ـ من جديد ـ ما كنت أتصور أنى عرفته ظهرا لبطن، ألا وهو ما كنت أسميه ـ مثل الناس ـ "الموت"، فاذا بى لا أعرف منه، أو عنه إلا أقل القليل.
حين رحل صديقى، وما رحل، وجدت نفسى أحاول أن أواصل بدونه، بعيدا عنه، بالرغم منه، لكنى رحت أكتشف أنى أفتعل الأشياء افتعالا، وكأنى أزيح من على صدرى ثقلاً لابد أن أخـْترقه وأنا أتكلم ، وأنا أكتب، حتى وأنا أفهم، أزيحه بعيدا بما أستطيع، ولا أستطيع. أخذت أواجه اختبارا صعبا، حتى كدت أتوقف عن كتابة هذا العمل المنطلق. اضطرنى قلمى أن أعرج إلى هذا السَّـفر الآخر لأخصص هذا الفصل لرحلتى مع صديقى هذا، على الرغم من أننى كنت أفضل أن تأتى قرب نهاية العمل، استسلمت للقلم فاستسلم لى، ما دام الأصل فى هذه الكتابة هو حضورى مع القلم، لاحكايتى عن الحَدَث، فليُقُدْنى حيث شاء.
بدون تلكؤ أمسكت بالقلم حتى لا أتراجع، وللقارئ العتبى، أليس عذرا مقبولا أن أتقدم إلى رحاب وعيه بأقل قدر من التزييف والصناعة؟
هو "الموت"، الرحلة الأخيرة، والحقيقة الأولى، أو الوحيدة.
 كنت أردد دائما، ومن قبل هذه المحنة، أردد معه، ولنفسى، أنه كان من الجائز ألا أولد أصلا، ولكنى متى ولدت  فليس ثم احتمال ألا أموت...، ومع ذلك، فإن الجارى يكاد يعلن غير ذلك، إذ يبدو أن "حقيقة الموت" حقيقة نقولها،.. لا نعيشها، ولا نعايشها، اذ لانتعلم منها... بدليل أننا لا نتغير بها، وبعد أن رحل صاحبى، ونحن فى بؤرة الموعظة والإفاقة (هكذا بدا لى) قلت لصديق آخر، بمثابة تلميذى وإبنى أ.د. رفعت محفوظ، وهو حكيم صعيدى نقى، قلت له "لو أن واحدا بالمائة من حقيقة هذه الحقيقة بقى معنا.. لكفى،. " فرد التلميذ/أستاذى/ "رفعت" ردا صعبا "، قال:... بل واحد فى الألف"
واحد فى المائة، أو واحد فى الألف مـِـنْ ماذا؟
وأجيب: من "هذا".
السبت 25 يناير 1986
قال لى صديقى على وشك الرحيل وأنا جالس بجوار سريره، قال لى هامسا وكان قد اعتدل إلا قليلا، قال: "... لا أحد يفهم، قل لهم "كفى، دعهم يدركون" ـ وكأنى رددت عليه أن "حاضر" أو ماشابه، فقد كان يكفى أن نقول بلا كلمات، فنتفاهم، ولم يكن جديدا علىّ أو عليه هذا النوع من الحديث الصامت الذى بدأناه منذ عرف أحدنا الآخر فى عز الشباب، إن كان لشبابنا عز كما يعرفه الناس، كان دائما يذكـّر نفسه أمامى ـ فيذكّرٌنى ـ أنه أخذ أكثر مما حلم، وأنه كسب أكثر مما تصور، وأنه ترفّه أكثر مما يحتمـل، وأنه أمّـن ذويه بالمسكن والدخل المعقول بقدر ما ينبغى، وأنه علَّم طلبتهَ كل ما تعلم، وأضاف إلى علمه ما استطاع أن يبدع، لم يحبس حرفا، ولم يرُد طالبا، ولم يقمع فكرا، ولم يعِق منطلِقا، فهو تاركٌ حتما ما يفخر به أى عابر سبيل هذه الحياة المحدودة بطبيعتها، فلماذا الاستزادة من الأيام؟
ثم يستطرد على لسانى "إنه تارك وراءه ماهو أهم، تارك موقفا من هذه الحياة: من قرشها، وبحثها، وناسها، وأخلاقها... وهو موقف جدير بأن يهدى وينير. كلام واضح وصريح، وحقيقى، يعلم الله، إلا أنه كلام، والكلام فى هذه المواقف يبدو جميلا وصحيحا ومقنعا، لكنه كلام.
كيف يكفى الكلام وصاحبنا ـ الموت ـ يزحف فى غير صمت ولامسالمة. ليته يزحف خفيا خبيثا ثم ينقض، لكنّه يجر صاحبى سحلا على حشية من رماح مشرعة طول الوقت، كان الألم أصعب من كل أمر، من كل صبر، من كل حكمة، من كل موت.
ذات مرة من المرات الأخيرة، كان يعيد صديقى علىّ هذا الحديث، وكان مضطجعا على السرير فى الحجرة المشتركة فى فندق "هوليداى إن" على بعد خطوات من المستشفى (ماس جنرال) فى بوسطن، قال مثل ذلك الكلام الحكيم، وهو يهيئ نفسه للرحيل راضيا مرضيا، فأصدّقه ـ كالعادة ـ علّنى أصدق نفسى، قبل أن ينتهى من كلامه هجم عليه الألم الوقح، فتكاد تدمع عيناه فى صمت قابضا على وجهه فى صبر، فأشيح بوجهى عبر النافذة حتى لا يرى ما يتهمنى به "أنى خرع"، وأرجح أنه يشفق علىّ من تألمى لألمه، وليس يلومنى على خراعتى. اضطرب من واقع فشلى فى أن أعينه كما ينبغى، وماذا ينبغى؟ ماذا يمكن أن أفعل؟ هل أحاول تهوين ما لا يهون؟ هل أتصنع التماسك بجوار من يحق له أن يضعف وهو ليس بضعيف؟ هل أستطيع أن أقسّـم جرعة الألم فيما بيننا؟ ولا أجد إلا الصمت المحاوِر... فيصمت بدوره شاكرا. كأن الاعتراف بحجم العجز، مع استمرار صدق المحاولة، كان هو غاية المطلوب فى تلك اللحظة المكثفة.
فى صمتنا الناطق: نُراجع ـ كلانا ـ مقولته السابقة ونحن نتساءل: "الحسابات صادقة ودقيقة، والحمدُ حقيقى، والرسالة اكتملت، أو كادت، فلماذا الجزع؟"
يبدو أن ثمة فرقا بين أن تتحدث عن الموت "من حيث المبدأ" وأن تعيشه من حيث الواقع المتمثل، فرق بين أن تتكلم عن الموت، وبين أن تموت. إن ثم علما الآن اسمه "علم الموت" يفرق بين "الموت"Death و "أن تموت"، Dying.، هل رأيت التقدم؟ ؟ يا فرحتى !
أتصور أننا - صديقى هذا وأنا - حين كنا نتحدث عن الموت كنا نتحدث عن "مفهوم"، عن "إسم"، عن "صفة"، أما "نحن" "الآن" فنحن فى مواجهة "فعل" الموت، حال الموت (حالة كونه: يموت!) يبدو أن فعل الموت هذا هو هو، سواء فاجأنا من خلف ظهورنا، أم تقدم إلينا مواجهة بكل وقاحة و علانية، بكل ثقته وثقله، ونحن فى قمة الاستعداد لملاقاته، وأنظر فى عينى صديقى فأرى بجوار الحكمة والتسليم والرضا والصدق، أرى... الحياة تطل بحرص عنيد  ليس مثله شىء، وكأنها تذكرنا بزيف هذه الحكمة المدّعاة.
 أتذكر ونحن فى  فى مطار جون فوستر كنيدى (نيويورك)  وهو لا يكاد يقدِرُ أن يخطو خارج سلم الطائرة، ونحن نحاول أن نلحق بطائرة "باناميركان: بانام" إلى بوسطن حتى لا نغير المطار ـ وهو فى هذه الحال من الوهن والألم... أتذكّره يقول لى  ـ منكرا ـ بفضل دفع الحياة الآمـِـل: "والله يايَحيى ماعندى حاجة" وكان الوحيد الذى ينطق اسمى صحيحا بفتح الياء الأولى، كذلك كان ينطق لفظ "جَدى" بفتح الجيم"جَدى"، وكان شديد التعلق بهذا الجد الذى حفّظه القرآن تلاوة وفهما والتزاما وهو بعدُ طفلا، فبـكـّر فى حكمته، إذ ساهم فى سرقة طفولته، كان يحكى لى كل ذلك ليبرر كيف أنه" "كهل بالقوة"، "وكهل بالضرورة"، وأتعجب لمحاولته إنكار كل ماعنده من آلام، بل ومن حقائق مرضه التى ظهرت فى التصويرالمقطعى قبل السفر، ينكرهذا وذاك حتى على نفسه، إن استطاع، ثم راح يتمادى قائلا "ياخجلك من الأمريكان حين يثبتون لك أن كل هذا ليس إلا اضطرابا نفسيا، وأنك عجزت عن تشخيصه فضلا عن تطببيى، فتواجه خيبتك مرتين". أبتسم متمنيا هذه الخيبة كما لم أتمنّ شيئا من قبل. وإن كنت قد رفضت تماما أن أتصور ـ منذ البداية ـ أن صدىقى هذا ـ كما أعرفه ـ يمكن أن يبالغ فى آلامه (نفسيا؟!)،
صديقى هذا صاحبَ الألم النفسى والجسدى من أقدم القدم، منذ كان هو وأخته يمرّضان أمهما، وهو بعد صبيا وهى بعد غـَضـَّة لم تتفتح، وأمهما تمضى الليلة تلو الليلة تلهث جالسة بلا نوم من عجز القلب أن يدفع الدم من الرئتين، لا.. ليس هذا هو الرجل الذى يمكن أن يتأوه إلا إذا ضغط المرض على (أو انقض يلتهم) نسيج عصب حسى بكل القحة والتحدى، حمدت الله على تصوره خيبتى، وابتهلتُ راجيا: "من يدرى، لعلّها نفسية!!"؟ لكنى كنت أدرى، وهو ـ فى الأغلب ـ كان يدرى ويريد ألا يدرى،
أقول إنه رغم الحكمة والحمد والرضا والتسليم، كانت قفزات الحياة وطموحاتها تطل من عينيه مزيحة كابوس الموت الجاثم لبضع ثوان أو بضع دقائق، وحين أخذ المسكن الفعال لأول مرة، عادت إليه شهيته، وحدة تعليقاته، وحسم قراراته، وبعض ضحكه،
فى مستشفى ماس جنرال فى بوسطن تظهر نتيجة تحليل العينة فى اليوم التالى لوصولنا ونتيقن أن المسألة أخطر من كل حساب، فالعدو الخبيث قد انتشر، ليس إلى الكبد فحسب، بل إلى غدّة ليمفاوية فى الرقبة، هى التى أخذ منها الجراح العينة. كانت النتيجة من الحسم بحيث أثنت الأستاذ الدكتور الجراح الأمريكى المسئول عن أن يبحث عن أصل هذا الورم المفترس، لكن غبائى الدفاعى الناكر أصرّ على أن يسأله عن معنى ذلك، فراح الطبيب الجراح الحكيم يمط شفتيه فى يأس مهذّب وهو يرد على طلبى المزيد من التقصى أنه "وما الفائدة؟"
 وأحاول أن أخفى بعض الحقيقة عن صديقى، فيحاول أن يصدقنى علّنى أصدق نفسى، لكن الحوار الصامت الصريح كان يجرى بيننا من وراءنا، حتى أعلننى فجأة، كأنه ينفخ فى نفير نوبة الانصراف أنه:
 "أزفت الآزفة"
قلت له ": أكمل يارجل"
قال فى تلكؤ مقصود: "ليس لها من دون الله كاشفة".
قلت: "الحمد الله أن عندنا صمام أمن نتنفس من خلاله بعد أن يغلق الطب والعلم حساباتهما، فالله سبحانه وتعالى قادر أن يكشف عنا الضر بفضله.
 فيشير برأسه، كأنه يوافق، ولايرد.
وحين أختلى بنفسى تلاحقنى آية "أزفت الآزفة" فى تصعيد مدو ("أزفت الآزفة") حتى تملأ الحجرة، فالفندق، فالمدينة، فالأرض، فالكون جميعا، فأكاد أجرى فى كل اتجاه، وهى تلاحقنى:(أزفت الآزفة.."أزفت الآزفة"، "أزفت الآزفة". "أزفت الآزفة"..،) وحين لا أستطيع الهرب وهى تحيط بى من كل ناحية يهيج بىَ الشعر قبل أوانه، ألم أقل لكم أن الشعر مهرب مشروع، ولا أملك إلا أن أكتب بعض رثائه وهو بعدُ بجوارى، ولا أتورع أن أقرأه له، مسوّدة فجة، ـ كانت علاقتنا تسمح بهذا العمق وأكثر. يقول لى مشجعا وهو مازال يبتسم. "إنها ستكون سابقة مميزة لرحيلى حين أساهم فى نقد رثائى وأنا "ما زلت حيا".، قرأت له:
"يختل مجرى العمر والأمل،
(لماذا ياصديقى؟))
دائرةٌ ملتاثةْ
(عجـّـلت بالنهاية؟)
تقضمُ فى المجهولِ والمعلومِ أنيابُ الظلام الجائعةْ،
(هل ضقتَ ذرعا باللجاج والجشع؟)
ثارت أجنة الخلايا تصطرع".
فتدمع عيناه،
 ولا أستطيع أن أكمل القراءة بعد أن غاب صوتى،
 لكنه يصر أن أواصل، فأواصل:
تعملقتْ فطرتك الأبيةْ
لم ترعَ عهدا، لا، ولمّا تنتظر
...
لم نـقوَ بعدُ ياصديقى
(فيم العجالة والسام؟)
تقفز خلف الحد، بعد العد، تقتحمْ
ترجع نحو عشها اليمامةْ.
لا أجرؤ أن أنظر فى شعرى المسودة هذا ثانية أبدا، حتى أنى نسيته تماما إلى أن عثرت عليه بالصدفة وأنا أبحث عن الفصل الضائع (الرابع/العاشر أنظر بعد). أتذكر أُُنسى الحاج ومعركته مع فكرة السرطان والإشعاع النووى، فأرتعد من فكرة خالدة سعيد وهى تجسد رعب "الحاج" من هذا الزحف المفترس، ما أشد عجز الإنسان ووحدته، حتى جسده يسلمه ويخونه، الجسد يخون، نعم هذه خيانة، وخيانة نذلة، من سمح له أن يأخذ القيادة؟ من سمح للخلايا أن تجن؟ من سمح للحدود أن تنهار؟ خيانة!!، ولكن من يخون من؟ من يخون ماذا؟ ماذا يخون من؟ آه. (لماذا لم يستطع سعد اللله ونوس أن يصرع هذا الوغد المفترس ؟ خاطرلاحق أثناء المراجعة).
هو الموت يتقدّم بخطى واثقة، وإن كنت لا أعرف تحديدا كيف، ومن أين سيقطع شريان الحياة فى نهابة النهاية، ودعوت الله أن يلطف بنا فلا يثقل جسده، ولا يهين صورته، ولا يختبرنا وأهله بما لا نقدر عليه، وعلى الرغم من لطف ربنا وعفوه، فقد مرّت الخطى ثقيلة، والحسرة غائرة، والوعى شائكا، كما كان العجز أمام المرض الزاحف والألم الضاغط مخجِـلا طوال هذه الشهور السبعة، وحتى هذا الأسبوع المريع.
قبل هذا الأسبوع الأخير كان صديقى قد تماسك بعناد محبى الحياة ممن يواصلون العطاء والتجلد فى كل حال، فاستطاع أن يذهب إلى عيادته: يشخص الداء، ويصف الدواء، ويتقبل الود والدعاء من مرضاه المعترفين بفضله، وحين مررت عليه فى العيادة أدعم خطوته تلك بلقاء وحديث بعيدا عن تمديد السرير وعجز القربة الساخنة: جعل يتعجب ـ حامدا ـ من موقفه الطبى المعالِج، وهو لا يجد سبيلا إلى علاج نفسه، وأحاول أن أنتقل بالحديث بعيدا عن مواجهة العجز:
رحنا نتذكر تلك الليلة التى قضيناها فى بيت صديق لنا فى "نيوارك" (وهى بلدة بجوار نيويورك، لكنها ليست هى رغم تقارب الاسم كما يبدو)، حيث كان صديقنا هذا يعيش وحده بعد أن هجرته زوجته الإيطالية الأصل مصطحِـبة ولديه، ذلك أنه حين تكون فى أمريكا، إفعل كما الأمريكان، فما بالك وقد أصبح مضيفنا أمريكيا بالتجنس والتعود، إذن فقد فعلها بالأمريكانى وأكثر، فراح صديقنا المتأمرك د. عاطف غندر، يدفع ثمن مزاعم الحرية والغربة والرفاهية: انفصالا أسريا، فطلاقا موقوفا حتى يتفقا على قسمة شقاء العمر وعرق الغربة بينه وبين هذه المرأة (زوجته) التى يبغضها كما لم أره يبغض مخلوقا من قبل، كنت أعتبره لا يستطيع أن يبغض أصلا، يبغضها هكذا على الرغم من أنها أم ولديه الذين يقيمان معها ـ كل هذا وضحكتُه لا زالت تجلجل ـ كما اعتدناها من ثلاثين عاما فى منزل نواب المنيل فى قصر العينى، مازالت تجلجل فى منزله الخالى حتى من الأمل.
كان زميلنا هذا د. عاطف غندر قد أبلغ اثنين من زملائنا المصريين (المتأمركين أيضا) بوجودنا وبسبب وجودنا كذلك. اتفقنا أن نلتقى جميعا عنده ذلك اليوم، فحضرا من أطراف القارة لنعيش ليلة من ليالى منزل النواب (58/1959). نعيشها سرقة من وراء الموت الزاحف، ونحن محاطون بأجواء الألم المروَّض مؤقتا بالمسكنات والذكريات.
السبت 3/8/1985
كنا خمسة، صديقى المريض السعيد الرازقى والمضيف د. عاطف غندر، وزميلنا القادم من شيكاغو حاملا معه كل ريح "ساقية أبو شعرة"(موطنه الأصلى!) د. أحمد رشيد، ثم د. محمود شعلان أخصائى الباثولوجيا الإكلينيكية. على ما أذكر،وزميل رابع (لم يكن من زملاء بيت النواب)، كان قد حيل بينه وبين مواصلة الدراسة معنا عاما بعام. حين مُنح أجازة إجبارية (إخوانية) فى معتقل ناصرى لمدة عشر سنوات خرج بعدها يعدو إلى أى مكان فى العالم إلا مصر، حتى صار أمريكيا رغم أنفه، لكنه أمريكى معمم دون عمامة، وهو ما زال إخوانيا (ربما رغم أنفه كذلك)، وكان مازال لا ينادى أيَّا مِنّا الا بـ "يا مولانا".
رحت أطيل الحديث عن تلك الليلة عّلنىّ أنسيه فراغ عيادته بعد أن كانت تعج بالمرضى، فهم لم يعلموا بعودته بعد، ويقول لى هل لاحظتَ أن أحدا من زملائنا هؤلاء ـ فى أمريكا ـ لم يتغير على الرغم من عشرات السنين، وأقول له إنهم لابد يقولون عنا مثل ذلك.
ويذكـّرنى حين كنّا فى نيوارك كيف راح احمد رشيد، صديقنا "الجلدى الجراح (جراحة الجلد أصبحت تخصصا حديثا!!) يحكى لنا ذكرياته فى قريته التى تعيش معه فى أمريكا، وكيف أن هذه الذكريات ظهرت نابضة، وكأنها جاءت معنا من مصر ليعيشها صاحبنا من جديد، ذكريات أثار بعضها أننا جلسنا معا فى تلك الليلة، فى بيت مضيفنا عاطف غندر، نأكل على الأرض، نغمس من طبق واحد، فجعل يحكى لنا أحمد منطلقا بلهجته ذات الرائحة الريفية الأصيلة التى لم تتغير، وكأنه لم يغادر قريته إلى المركز فضلا عن القاهرة، فأمريكا، يحكى بتصوير دقيق حتى كدنا نرى حكايته ماثلة أمامنا.
حكى أحمد رشيد ونحن جلوس على الأرض أنه ذات يوم وهو بعد طالب ثانوى، حين كان فى ساقية أبو شعره، وقد اجتمع (مثلما نحن مفترشين الأرض) مع أولاد عم له حول طبلية محدودة المحتوى، راح ابن عمه الأكبر ينهر أخاه هامسا أنه "ماتحـفّش يادسوقى"، ربما إكراما للضيف الذى هو صديقنا، أو توفيرا للطعام حتى يكفى الجميع، لكنّ أخاه ولا هو هنا، فيكرر الأخ الأكبر مغيظا أكثر: "ماتحـفّش يادسوقى"، ودسوقى يمضى فى مهمته بجد أكبر، فيهيج ابن العم الناصح المجامِل، ويهجم على البيض المقلى مشمرا ساعده ممسكا بلقمة طرية تكاد تزيد عن نصف رغيف حالفا أنه "طب علىّ الطلاق لانا حافف"، وتستعـر المنافسة بين دسوقى وإبن العم، أما ثالثهم ـ صديقنا أبو تيريك ـ فقد راح فى الرجلين ضحية هذه المنافسة التى لم يـُـدْعَ للاشتراك فيها، فلم يلحق شيئا مما فى الطبق.
كان أحمد رشيد يحكى لنا الحكاية وكأنه يعيشها الآن بكل تفاصيلها، ياه!! هو أحمد رشيد، مازال هو هو، رغم الزوجة الأمريكية والإبن الطفل "تيريك"، اسمه طارق لكن زوجته الأمريكية لا تسستطيع أن تنطقه إلا هكذا، فحذا حذوها وإلا ارتبك الطفل الذى لايعرف جملة عربية واحدة، وحين قلت له: إذا كان هو مازال هكذا كما هو، فلماذا لا ينزل مصر على مدد متقاربة، فيأخذ جرعات منشطة من هذا الوجدان الأعمق؟ فيضحك احمد ويجيب حاكيا أنه :
حين نزل فى المرة الأخيرة (منذ عدة سنوات) نزل فى بيته، بيت أمه، فى ساقية أبو شعرة (عادى)، وكان قد حضر بجواز السفر الأمريكى، فإذا به يعلم أن عليه أن يبلغ السلطات ، أى رئيس النقطة في القرية !! (أو شيئا من هذا القبيل) أنه ينزل عند أمه، أو إن شئت الدقة: كان على أمه أن تبلغ السلطات بواقعة "إيواء أجنبى"، ويستمر فى الضحك مشيرا إلى نفسه "... أنا؟ على قبة فرننا؟ أجنبى؟؟!" ويسوى الأمور مع السلطات حتى لا تنزعج أمه، ويظل يحكى ويحكى وكأنه يريد أن يتأكد أنه مازال قادرا على كل هذه الطلاقة بالعربية، أو كأنه يفرغ مخزونا طال حبسه وراء أسوار لغة أخرى، ورموز أخرى ("يا").... ("يا")... بتثقيل الياء وميل الألف قليلا!!)، وأسأله: "وهل تحلم يا أحمد  بالعربية؟، أم بالأنجليزية؟" فيسكت للمفاجأة، ثم لا يجيب، كأنه يدفعنى بعيدا حتى لا أعرّى نومه فى غربته.
يتدخل زميلنا "الاخوانى" شارحا: كيف أن الأنسان منا مهما طالت غربته "يامولانا" فهو معجون بماء النيل من تراب مصر، و (لهذا) فهو يطلب أن نبحث له عن عروس مصرية، وزميلنا الأخوانى فى سننا، (أوائل العقد السادس) ـ ونكتشف أنه لم يتزوج بعد، وما أن يعلننا برغبته فى أن نبحث له عن عروس حتى يضحك الزميلان المتأمركان، فندهش أنا وصديقى السعيد، ونتبين بالسؤال أن "مولانا" هذا لا يقابل مصريا يعرفه فى أمريكا، أو قادما من مصر، إلا ويمارس معه هواية أن يوظفه له خاطبة خاصة، ويا ويل من يأخذ المسألة جدا، لأن "مولانا" هذا لا يتعدى مرحلة نية الخطوبة أبدا، وهو لم يذهب حتى لمشاهدة أية عروس رشحت له، وكأنه لم يستطع بعد أن يزيل آثار العدوان الناصرى على وجدانه، وانتمائه، وأمانه، وآماله، فتقطعت حباله مع الوطن إلا من زيارة (تخفف عبء ضرائبه بادعاء المشاركة فى مؤتمر أو إلقاء محاضرة). كما تقطعت حباله مع أسرته الأصلية الأولى إلا من مساعدات مادية رمزية يرسلها بين الحين والحين، وأيضا تقطعت حباله قبل أن تبدأ مع أسرة مزعومة ينشئها فى خياله بمشاريع الخطوبة المجهضة، ومع كل الضحك والتذكرة بهروبه المتكرر، فقد أصر أن يعطينى عنوان أخيه فى القاهرة، فضلا عن تليفونه شخصيا فى أمريكا، لأتصل به فور عثورى على العروس، وكأنها فرصة ستسنح لتختفى، فأضحك بدورى بعد أن عرفت اللعبة المكررة، ويضحك سعيد وهو فى قمة معاناته ملء تاريخنا معا.
بدا  لى حينذاك كأن هذا اللقاء قد مسح المرض وأوقف زحفه، فضلا عن تخفيف الألم أو محوه، وأتمنى أن يتوقف الزمن عند هذه اللحظة، وألا نسافر، وألا نعيد الفحص، وألا نعالج، وألا نفكر، وألا نسأل، أتمنى أن نظل فى هذه اللحظة تحت تأثير المسكن الكميائى والذكرياتى معا حتى يأذن الله فى أمرنا جميعا، معاً.
ونتذكّر كيف تطرق الحديث تلك الليلة إلى أحوال زملائنا فى أمريكا، وأنكش أحمد رشيد أن يحكى لنا بطريقته عن نظام العيادات الجماعية التى يشارك فيها، وكيف قلب الأمريكان كل شئ إلى "أعمال" تجارية ((Business فيقول إن مصر هى أسبق فى شطارة رجال الأعمال بلا منافس.
 ويحكى لنا أحمد وكأنه ما زال فى ساقيه أبو شعـرة مهارة أول رجل أعمال أعجب به فى مصر، وتعلّم منه ما نفعه فى أمريكا. حيث الشطارة فى أمريكا هى رأس المال الحقيقى. يحكى أحمد:
هو بائعٌ طاهٍ عند حاتى الحسين، كان يتحايل بذكائه وحسن تسويقه أن يبيع الزبون (صاحبنا) ما يجعله لا يُرجع له باقيا من البريزة، فمحل "كل كبدة ومخ زين، واقرا الفاتحة للحسين" كان يبيع سندوتش الكبدة بستة قروش، ولكن رجل الأعمال الحسينى يظل يستدرج صاحبنا يغريه بإضافة بعض البطاطس المقلية، والحلويات السمينة، ثم حبة الطماطم هذه بالثوم والشطة التى تفتح نفسه وتستاهل فمه، المهم ألا يرد مليما من البريزة الصحيحة.
وأنبـّه أحمد معابثا أنى كنت أسأله عن رجل الأعمال الذى يدير عيادتهم الجماعية بالقرب من شيكاغو فإذا بنا فى سيدنا الحسين، فيضحك حتى يستلقى، فتهتز سلسلة ذهبية حول رقبته وهى تتدلى بشكل ظاهر من قميصه المفتوح حتى تلامس أثر جرح عملية القلب التى أجريت له منذ بضع سنوات، وأقول له إنى لا أستطيع أن أتصوره ـ وهو الرائق البال، السهل المعاشرة، المتجلى الضحكة ـ وقد أصيب بانسداد فى شرايين القلب (ذبحة صدرية!) لدرجة تستدعى هذه العملية، والا فماذا أبقى لأمثالنا من المهمومين المكتومين الحائرين، فيوافقنى ناظرا إلى صدره ضاحكا مخاطبا قلبه قائلا: "كسفتـِنـِـى الله يخيبك"، ويحكى لنا:
 إن المسألة لم تكن إنسدادا معـلنا، وآلاما وأعراضا مثل خلق الله المذبوحين صدريا، وإنما الأمر قد اكتُـشف بالمصادفة أثناء الكشف الروتينى، ذلك أنه بصفته شريكا فى العيادة الجماعية التى كنا فتحنا الحديث عنها، قد اعتبروه ـ شخصيا ـ جزءًا من رأسمال المؤسسة، وبالتالى عليه أن يتبع نظاما دقيقا للفحص الدورى حتى لو لم يشكُ من شئ، عليه أن يجرى الفحوصات المفروضة مثل أى اختبار لأى جهاز سوف يستعملونه فى العيادة الشاملة، كما أن عليه أن يجرى العمليات الجراحية المناسبة إذا لزم الأمر ليدخل إلى الشركة مضمونٌ عمره الافتراضى وكفاءته حتى لا يتعطّل العمل إذا ماحدث شىء كذا أو كذا، وأشعر ـ ويوافقنى ـ أنهم قد أجروا له هذه العملية من باب أن "الاحتياط واجب"، وأكاد أتصور أنهم قد جددوه، مثلما نغير الإطار الداخلى فى إحدى عجلات السيارة قبل أن ينفجر، مادام قد كاد يـُستهلك حتى لاينفجر فى مكان غير مناسب، فيوافقنى على كل ذلك، وعلى الرغم مما يبدو فى كل هذا الإحتياط من تقدم علمى وطبى، فإنى شعرت بأن المسألة كلها هى من باب "حسابات الجدوى" لصالح المؤسسة التى يعمل بها أولا وقبل كل شئ، وأن عمليات "الصيانة الآدمية" هذه لا تختلف بحال عن عمليات الصيانة لأى جهاز فى نفس المؤسسة، وأكاد أرفض ذلك وكأنى أفضل الموت وسط ود دافئ على أن أصبح هكذا مجرد جزء من آلة كبيرة يحافظون على حياتى لأن ذلك أرخص من وفاتى، التى ستضطرهم إلى شراء آلة طبية بشرية جديدة تملأ الفراغ الذى سأتركه، وأكاد أضبط نفسى متلبسا بهذه الشاعرية البدائية، وأنا أرفض أن يعتنوا بى كمصدر ربح للمؤسسة أساسا، أو تماما، كأنى أفضّل أن أموت بالصدفة على أن يصلحونى دوريا، أو يجددون ما هو معرّض للتلف فىّ قبل الاستعمال،
 قبل أن أتمادى فى الادعاء حتى أكاد أصدق نفسى ألتفت بإطلالة سريعة فألمح هذا الوغد الزاحف المتربص يطل من عمق عيون صديقى المترنح من الآلام، ألمحه يمتد وسط الضحكة العريضة، فأرفع كلتا يدى معتذرا مستسلما، وكأنى أعلن قبولى أن أكون ـ ويكون ـ قطعة غيار بشرية، نُصان كما تصان الآلة "لعل وعسى". ترى هل يمنع ذلك من أن يزحف الموت إلينا وغداً يتلمظ؟ همست لنفسى بلا معنى مرة أخرى : لعل وعسى؟! أىُّ لعل وأىُّ عسى؟ إن مرض صدىقى لا ينفع معه احتياط ولا صيانة ولا "لعل"،ولا "عسى"، فالخلايا المغيرة ملتهمة متقدمة لا يوقفها ولا الشديد القوى،
لم يكن بالإمكان عمل أى شئ فى أى وقت كان، قالها صديقى منذ عام وبعض عام حين اكتشف تلك الدائرة الغريبة قابعة فى أيسر كبده، اكتشفها بالموجات الصوتية بمحض الصدفة وهو يبحث عن احتمال حصوة ناحية الكلية اليمنى!!، وحينذاك وضع المسألة برمتها فى جملة مفيدة، ظلت للأسف هى الحقيقة الأولى والأخيرة فى كل ما جرى بعد ذلك، قالها بشجاعة الفرسان، وحكمة المؤمنين :
"هذا مكان خطير وتلك علامة دالة، فإن كانت المسألة حميدة فلا داعى للتدخل، وإن كانت غير ذلك فلا فائدة من التدخل".      وأكاد أسمع الخيام يصفه دون غيره:
 فاذا ساقى المنايا أوجبا:
 شربةً غصّت ومرّت مطمعا،
فأحسُ جلدا خمرة الموت الزؤام.
ومع ذلك: ما أن عاوده الألم عقب العيد الصغير الأخير، ثم تبين ما تبين، حتى عدنا نهتاج ونقول ونعيد فى ما لا يفيد، وأنه "لو كان كذا..لكان كيت" كلام فارغ فى فارغ، وتثبت الأيام أن رؤية صديقى الأولى هى الأدق، والأشجع، وأنه بقراره البسيط الشجاع ذلك، قد سرق من الزمن عاما وبعض عام، تهيأ فيه للرحيل، كما أحسن الوداع، لكن الضعف البشرى ينفخ فى العناد أمام عدو متفوق فى العدة والسرعة ووسائل الإبادة، ولا نتعلم من العجز، ولا نتعلم من الموت إلا قليلا، وحتى هذا القليل لا نطمئن إلى مدة بقائه فى وعينا، بما يسمح بتحرير سلوكنا، بما يتضمن هذه الحقيقة الراسخة البسيطة:
"الموت "حتم القدر".. ونسيانه فى كل لحظة هو حتم البشر.
أفيق لأجد نفسى ما زلتُ جالسا فى عيادة صديقى الخالية فى شارع قصرالعينى، لكن الممرض يدخل معلنا حضور كشف، فأبتسم منصرفا، فيبتسم صديقى فاهما،(أنه: "ولو"، لنضحك على أنفسنا قليلا).
 أنزل على السلام المظلمة مفضلا ألا أنتظر المصعد.
السلالم قذرة. العمارة حديثة شارع قصر العينى.
 أطل علىّ فجأة وأنا نازل، وسط الظلمة والقذارة والرائحة القبيحة، كلٌّ من وجه ريجان الأمريكانى العارى من كل شىء، وكل تعبير، وكل نبض، وحتى كل تمثيل، ثم ماركوس الفلبينى تدفعه زوجته الجميلة فوق كرسى هزاز ملطخ بنزْف وروث، أى والله،  أهلوس أنا  مثل مرضاى!!!
هؤلاء الناس (ريجان وماركوس وأشباههما) ألم يبلغهم نبأ ماهو الموت، مع أنهم ميتون الآن أو بعد باكر، فإن كان بلغهم، فلماذا هذا؟ وإن كان لم يبلغهم، فكيف؟
أسئلة طفلية، وبديهيات ردودها جاهزة والعظة فيها شكلها حسن لكن يبدو أنها ـ من كثرة تكرارها على منابر المساجد والكنائس وفى محفوظات المدارس والدعايات الانتخابية قد أصبحت ديكورات للحياة الدنيا، وليست الوسيلة الأولى لتغيير الحياة كلها وتطوير الوجود،
أى قانون تطورى جديد يحكمنا الآن؟ "البقاء لمن؟": للأقوى (ذريا)، للأنفع (يهوديا)، للأسبق (استغلالا)؟ البقاء لمن؟ وهاهم: ريجان، وماركوس، وشارون، وديفاليرا يعيشون "جدا"، فى حين أن الموت يقترب من صديقى دون سائر الناس،
أضبط نفسى متلبسا بالنظر فى البديهيات القديمة، مثل طفل يتعرف على الدنيا الماثلة بعيون متجددة، نفس الآفة القديمة. يعاودنى هذا التسأول المزعج:"لماذا يعيشون؟" بالنسبة لأولاد الخنازير  هؤلاء يبدو السؤال معقولا، إلا أنى أذكر أنى عشت نفس التساؤل فى ظروف أخرى، غريبة ومرفوضة.
ذلك أنه مر على حين من الدهر، فى فترة غرور الفتوة وتصور احتمال تحقق الحلم، كنت فيها أسأل نفسى هذا السؤال عن الناس العاديين ممن لا أرى لحياتهم معنى أفهمه أنا بحساباتى الواضحة (التطورية والعياذ بالله!!) وكأنى موكل بدراسة جدوى استمرارهم لصالح أفكارى (هل تذكر راسكولينوف فى الجريمة والعقاب؟)
 وكان لى صاحب آنذاك (طبيب نفسى أيضا) ينبهر لما أقول، رغم أنه يرفضه فى البداية، ويناقشنى فىه بحماس شديد، لكنّه اذا اختلى إلى نفسه صدَّقنى، فراحت أفكارى تتردد فى وعيه بلا إستئذان، فيذهب يتساءل بدوره: لماذا يعيش هذا؟ ولماذا لا يموت ذاك؟ وتزداد المصيبة حين يطلق السؤال عشوائيا فيصيب صدفة أحد أقربائه من الوادعين فى الحياة ممن يبدو عليهم أنهم أقـفـلـوا حساباتهم مبكرين، فأخذوا يدورون فى محلهم فى رتابة مستسلمة، واذا بصاحبى "المقتنع" هذا يراهم بمنظار أفكارى فيكتشف أنهم "مستمرون بلا داع"، وكان يعود إلىّ ثــائـرا علىّ، لاعنا يوم عرفنى ويوم سمع منى، ويوم صدّقنى، فأعتذر له مؤكدا أن تسأولاتى هذه لا تعنى الرغبة فى التخلص من هؤلاء الذين حسبَهم "زيادة عدد"، ولكنها مجرد تساؤلات خائبة، تعلن عجزى عن فهم قوانين الحياة الأعمق، بدليل ـ مثلا ـ أنى لا أدرك فائدة دولة النمل المهـولة، ولا أعرف أسرار عالم القنافذ، وإن كنت كثيرا ما أشعر بالزهو أنى أنتمى إلى نفس الوجود الحيوى الذى ينتمى إليه الفيل والدرفيل وحمام الزاجل والنورس، لماذا؟ لست أدرى، إذن فهى تساؤلات عجز تطلع منى بصوت مسموع، لكنها أبدا ليست مواقف رفض أو تبريرات قتل.
قد حدث أن ضبطت نفسى متلبسا وقد انطلق منى هذا السؤال يدور حول مغزى حياة "من لا يتطور"!!، كان السؤال يحوم حول خالتى، هى أمى الثانية، أو الأولى، حملتنى ـ على كتفها ـ وهْنا على وهن، وقد عاشت وحيدة بلا ولد ولا زوج بعد أن طُلقت وأنا فى الرابعة عشر، ولم تقبل أن تواصل حياتها معنا فى بيت أمى على الرغم من أن أمى هى شقيقتها الوحيدة، ذلك أنه "يادارى ياستر عارى يا منيّمانى للضحى العالى"، وقد تعلمتُ منها فى مسألة الحياة والموت ـ فى كِبَرى ـ أضعاف ما تعلمت أى شىء من أى أحد فى صغرى. كانت علاقتها بأشيائها ـ مع عدم وجود هدف مقنع ـ غاية فى الدلالة:
كان من بين أشيائها التى انتقلت إلى بيتنا مؤقتا بعد طلاقها "بوريه" (أو "بوفيه"، والفرق ليس واضحا عندى)، وكان موضوعا فى "طرقة" ضيقة أثناء إقامتها  لبضعة شهور عندنا فى مصر الجديدة بعد طلاقها، وكان وجهها يتغير غاضبا إذا لمسنا هذا البوريه أثناء مرونا، وكأننا بلمسه سننتقص منه شيئا، وكانت تغطيه بملاءة قديمة نظيفة تتصور أنها تحمى البوريه من تأثير مستطيل الشمس الصغير الذى يصله مترددا قادما من شباك مواجه، ثم تظل تحرك الملاءة مع حركة مستطيل الشمس طول النهار، وكأنها تخشى عليه أن تصيبه ضربة شمس. كنت أحيانا أرجّح أنها ربما تستعد لبداية جديدة مع زوج جديد، وأن هذا هو رأس مالها، ولكن السنين مرت بعد ذلك بالعشرات، ولم يتحقق شىء من هذا، ولا أنا لاحظته حتى فى خيالها، وهى لم تتغير إلى غير هذا، بل ازدادت تعلقا "بالأشياء" حتى نهاية النهاية، وكنت أتساءل فى كل مرة أزورها: لماذا؟ وحتى متى؟ وحين شغـلتنى الدنيا عنها فتباعدت زياراتى لها إلى كل عدة شهور، ظلت هى مستمرة كما هى، وحيدة عنيدة، تعيش صلبة فى دائرة واضحة المعالم بالنسبة لها، أما بالنسبة لى، فكانت دائرة غامضة مثيرة للتساؤل القبيح، كانت حياة مشكوك فى جدواها ومعناها، أحيانا أسمح بإعلان هذا القبح لنفسى، وأحيانا أضبطه متلبسا وراء باب وعيى الظاهر، بدت لى حياة بلا مبرر:، فلا صاحب، ولا ولد، ولا هدف من الأهداف التى حسبتُ أنها مبررات الحياة (فلا تطور!!) . كانت لا تحب أكثر من أغنيه أحلام "ياعطارين"، كما كانت تعلق فى حجرة الاستقبال التى تعتنى بها وكأنها فى انتظار رئيس الديوان، كانت تعلق فرخا كبير من الورق لست أدرى من الذى كتب لها  عليه البيتين الشهيرين "سأصبر حتى يعجز الصبر عن صبرى، وأصبر حتى يأذن الله فى أمرى، وأصبرحتى يعلم الصبر أننى، صبرت على شىء أمر من الصبر" مع أنها لم تكن تقرأ أو تكتب. كانت أحيانا تطلب منى أن أقرأ لها المكتوب، وكأنها لم تسمعه من قبل، فأفعل، فتهز رأسها ولا تبكى، أنا لم أرها تبكى أبدا، كنت أسترق السمع لما يشبه العديد تردده وهى تعطى وابور الجاز نفسا قائلة:
"أهمّ ما اقدْر اهم أكنى جمل تقل علىّ الحمل
ثم تواصل فيما يشبه الغناء
"وانْ حمّلونى حمْل الجمال الحمْر، الحمل أشيله بس الكلام المُرْ
وانْ حمّلونى حمْل الجْمال البيض، الحمل أشيله، بس الكلام يكيدْ".
 لم أستطع أن استوعب لـِمَ كل هذا الصبر والاصرار والتحدى، لمِنْ، لماذا؟ إلى متى. ما أغبانى، ما كان أغبانى. ما أغبانى! أنا مالى؟
وحين كنت أزورها بعد غيبة، كانت تستقبلنى بنفس البشاشة والسماح، وكل ما تقوله من لوم ٍمحب أنه "إخص عليك" فأتصور أنها تعاتبنى على تقصيرى، لكنها تسارع وتكمل:  "ما جبتهُمش ليه؟" فأعلم أن هذا "الإخص" يعود على عدم إصطحابى لأولادى وليس على تأخرى عنها، فأخجل خجلا لا ينفع، وأتبيّن الفرق بين كرم سماحها، وبين نذالة نسيانى، وأتساءل لماذا لا يتآكل إلا الوقت المخصص لصلة الرحم، وهى لا تنفك تدعو لى بالسلامة حتى مع الهجر اذ تهمس لنفسها بصوت أسمعه "قساوتهم ولا خلو بيوتهم"، على الرغم من ذلك كنت أضبط نفسى وأنا أجلس معها، أو  وأنا أتابعها وهى تتحرك بصعوبة مستندة الى عصا معوجة قديمة قد أثبتت فى أسفلها قطعة من الكاوتشوك البالى، تتحرك وثدياها المتضخمان جدا (طول عمرها) قد تدليا يخبطان فى بعضهما البعض حتى يخيل إلىّ أنهما قد يثنيان جذعها للأمام حتى يعوقا السير أكثر، كنت أتساءل بالرغم منى (ويا لخسة التساؤل): "لماذا تعيش خالتى هذه بحسابات "التطور؟" ولماذا تبدو وكأنها تحمل رسالة عظيمة معقدة هادفة وأنا لا أعرف عن رسالتها تلك شيئا، لكنى كنت أرجّح فى النهاية أنها رسالة كأعظم ماتكون رسائل الوجود، رسالة تضمّنها كل بريزة تخبئها فى طيات ثوبها، وكل وعاء طبيخ متناهى الصغر تطبخ فيه ما يكفى حاجة شخص واحد، حتى أنى حين كنت آكل منه كنت أتصور أنى عدت طفلا ألعب لعبة البيوت مثل زمان، وكلما ازدادت علاقة خالتى بالحياة توثقا، زاد تساؤلى الخسيس هذا إلحاحا، وأحيانا أجد لتساؤلى إجابات رائعة: مثل أنها "ربما تعيش لتدعو لى أنا وأولادى"، فأضبط نفسى صاحب مصلحة ذاتية فى كل شىء، حتى فى استمرار حياتها.
يا ذا العيب. أنتبه بقوّة إلى خطورة مثل هذا التفكير البدائى الذى يبدو أنه متغلغل فى تركيبنا الحيوى منذ كانت الحياة تتخلص بمنطق عشوائى من كل ضعيف أوعاجز أوعالة. ترى ماذا فعلنا بهذا التركيب القديم، هل يكفى أن ننكره ونتمادى فى التظاهر بعكسه؟ أم أن ثم سبيل آخر لتحمّل مسئولية تطورنا بشرا بالاعتراف به  ثم احتوائه. وأخفف من غلوائى فى محاولة البحث عن غاية ـ أعرفها ـ من كل حركة وسكنة وشخص.
 كم كنت أدور حول نفسى معاقا بهذا المستوى من النفكيـر، قال ماذا؟ "التطورى!!" كنت فى غرور الفتوة لا أستطيع كبح جماح هذا الفكر ناسيا عجزى أمام معرفة غاية أبسط الحيوات، فماذا عن غاية طائر البومة، أو حية الكوبرا، أو دودة البلهارسيا، أو فيروس الايدز؟ وكم حمدت الله أن حب خالتى لى، ودعائها لنا لا يتأثر بهذه البلاهة الفكرية التى تدور حول معنى حياتها "التطورى"، والأهم من كل هذا أننى كنت ـ ومازلت أحب خالتى هذه ربما أكثر من أى شخص آخر.
أذكر أن والدى نفسه كان أحيانا ـ حتى فى شيخوخته ـ يتساءل مثلى، حول هذه المسائل وإن كان تساؤله كان ينعكس على نفسه أكثر مما يصيب غيره، فكان أحيانا يجاذبنى الحديث حتى نصل إلى أن يسألنى:  "وأنا.. لماذا أعيش بعد الآن؟ ـ وحين أدعو له بطول العمر يعاكسنى مداعبا أنه "يحق لك، إذ أن كله مكسب، ألستُ "خوليا" زراعيا لكم بدون أجر؟" ـ ولكن ما أن يقترب الموت من أبى حقيقة وفعلا حتى يتشبث بالحياة كما لم أر مثل ذلك من قبل.
حين حَجَبَتْ مضاعفات مرض السكر مناظر الدنيا عن عينيه، ثم حجب التهاب الأذن الوسطى المزدوج أصواتها عن أذنيه، رحت ألازمه فى محنة عجزٍ تغلغلت آثارها فى كيانى حتى النخاع، ثم تصورتُ أنها تضاءلت مع مرور السنين، لكنى ضبطت نفس المشاعر تعود بحجمها وأنا بجوار صديقى الراحل، فى رحلتنا هذه،
جعلت أواكب صديقى نفس مواكبتى لوالدى معايشا العجز والخيبة أمام قهر المرض فى الحالين، لكن والدى كان قد حبسه عجز الحواس عن التواصل مع العالم، مع تمام صحته البدنية فيما عدا ذلك، أما صاحبى فهو تحت وطأة غول ورمٍ زاحف ملتهم، ويكثف المحنة فى الحالين أن كلا منهما ظل ذهنه متوقدا متسائلا، حاضرا، عابدا، شاكرا، على الرغم من العجز الطبى والألم الزاحف، والسجن الحسى جميعا.
أذكر بعد انقطاع المواصلات مع العالم عند والدى بفقد سمعه وبصره أنه حبس صوته عن الكلام ظنا منه أنه ما دام لايرانا ولايسمعنا، فنحن كذلك، لكن ذهنه يعمل بنفس الدقة والحدة، فراح يتفاهم معى بالكتابة بسبابته، وأحيانا بمؤخرة قلم، على بطن يدى، فأشفقُ أن أذكـّـره أنه ما زال يستطيع أن يتكلم، فأرد عليه، بدورى، كتابة على بطن يده، حتى كدنا نتفاهم رويدا رويدا باللمس.
ثم أُجريت له عملية تزيح الصديد المتجمد فى أذنه الوسطى، فعادت إليه حدة سمعه فجأة بعد العملية، فراح يتكلم  وهو يكاد يطير فرحا حتى أنه لم ينم طول الليل، وظل يحكى لنا، أنا وأخى أحمد (أكبرنا)  الحكاية تلو الحكاية، ويتندر على رجل كان بمثابة عمٍّ له،  كان يبيت ذات ليلة  بجوار "الحلـزونة" ليحرس البهائم بالتناوب مع عامل أصغر، وحين سمعا صوت "شخشخة" بين عيدان الأذرة، راح العامل الأصغر يسأل "سامع ياحاجّعْـلى" (حاج على)، فينكر عم والدى فى إصرار، ويؤكد أنه لم يسمع شيئا من أصله، لكن "الخشخشة" تعود، فيكرر العامل السؤال، ويكرر الحاجّعْـلى الإنكار، حتى يفيض بالسائل الغيظ فيصيح ".. ما تقوم تشوف فيه إيه ياحاجّعْـلى، ولامش راجل" ـ ويبدو أنه فى جوف الليل يمكن لـلواحد أن يتحلى بشجاعة من نوع خاص، شجاعة إعلان الخوف مثلا، إذ ثار الحاجّعْلى مدافعا عن حقه فى الخوف والدفء معا، فراح يعلنها بصراحة، أنه: "مرة ابن مرة، ولا إنى إتحرك من تحت الدفية، واللى فْ قرنك انفضه يابن بهانة". ولا أتبين ما مناسبة أن يحكى لنا والدى هذه الحكاية بالذات فى تلك الليلة بالذات، ولكنى أضحك معه، ويضحك أخى الأكبر الذى كان يشاركنى صحبة والدى تلك الليلة، نضحك، كما لم نضحك أبدا. كانت هذه الحكاية آخر ما حكى والدى ، ما دلالة ذلك يا ترى؟ أرجح الآن أنه لما سمع أصواتنا بعد طول حبسها عنه وراء حاجز الصديد المتجمّد قفزت الى ذاكرته حكايات الأصوات، بدءا بالخشخشة بين أعواد الأذرة، أو لعله بحكايته تلك كان يبرر شجاعة الاعتراف بالعجز، ولا ننام ثلاثتنا من الفرحة منتظرين الغيار الأول بعد العملية كما وعد الجراح.
 كنت قد علمتُ بوصفى طبيبا  أن ثم تمزقا قد حدث أثناء العملية، تمزقا فى غشاء الأم الجافية المحيطة بالمخ، وأن ثمة كمّادة قد حُـشرت فيه حتى لايتسرب السائل النخاعى المحيط بالمخ، وأنّ قرار رفع هذه الكمادة متروك للجراح الكبير الأستاذ الدكتورعلى المفتى الحاذق المشهور، بعد أن يطمئن إلى التئام التمزق، أو حسب ما يرى، وقد رأى الجراح فى الصباح ابتهاج والدى لاستعادة سمعه، وتعجب حين انبرى والدى يناقشه فى السياسة. والدى كان يعلم علاقه د. على المفتى الطيبة بعبد الناصر، وعلاقة المرحوم أخيه أنور المفتى من قبله، ويواصل د. على الحوار فرحا بنجاح العملية معجبا ببداهة والدى وحجّتـه، مستبشرا خيرا بالحوار السياسى مع والدى رغم اختلافهما (!!)، ثم يجرى الغيار فى حجرة العمليات وما أن تـُزال الكمّادة حتى ينسكب السائل النخاعى فجأة بما لم يتوقع أحد، فيغفو والدى، فينام، فيغيب، ولا يصحوا أبدا.
يمر اليوم فالليلة، فاليوم والليلة وأنا بجواره أتصور فى كل لحظة أن الجرح سيلتئم، وأن السائل النخاعى سوف يتجمع من جديد، وأن صوته سيعود يحكى لنا الحكاية، تلو الحكاىة، كما بدا فى تلك الليلة الأخيرة، كنت وأخى ليلتها مثل طفلين يجلسان بجوار أبيهما يسمعهما حدوتة المساء، يسمعانها بشغف متجدد ولو كانت نفس الحدوتة، علما بأن أبى لم يحك لنا أطفالا حواديت أصلا، لكنه كان كثير الحكى لنوادره مع زملائه المدرسين فى المدرسة وخاصة إذا زين النادرة بشعر مرتَجل.
مازلت أذكر هجاء زميله الشاعر لزميل آخر معمم علّـق على معاهدة استقلال مصر سنة 6391 بأنها (مصر) ليست أهلا للاستقلال بعد، فقال زميل والدى الشاعر فى ذلك الشيخ الساخط على الاستقلال هجاء ما زلت أذكره بحروفه، قال:
خرِف الشيخ فَضَلاَّ     رام يعلو فتدلَّى
ماله وهو ابن مصر     ساءه أن تستقلا
مـــن لرجلى بقفاهُ      إنه يصلـح نعـلا
ويـُعجب أبى بالصورة الصارخة فى البيت الأخير، وأستنطقه ـ فى غيبوبته ـ أن يكمل لنا ما بدأ، ولكن شخيره ينتظم أكثر، فأنظر بتركيز خاص إلى موضع التمزق عله يختشى ويلتحم، فإذا بى ألاحظ شفتى أبى تتحركان برتابة وهو فى غيبوبة تتفاقم، لكن شفتاه تتحركان كما كان حين يستغرق فى عبادته، وقراءة ورده.
كنت أعلم من علمى الطبى أن القشرة المخية قد توقفت عن العمل بعد هذا الارتجاج وسكب السائل النخاعى فجأة، الا أنى كدت أميـّز ألفاظا معينة من بين شفتيه رجحت أنها "وامتازوا اليوم أيها المجرمون" فأتيقن من أن ما يمر بشفتيه الآن هى سورة يس، يتلوها بجذع مخه ليس إلا، والمحاليل المعلقة تساقط نقاطها نقطة نقطة كأنها المسبحة تنظِم ورده اليومى، وأجد نفسى وحيدا معه فأدعوا الله ألا يفعلها وأنا بجواره وحدى هكذا، لماذا؟ لست أدرى.
 أرجّح بعد مدة أنى ربما قد خِفت شعورا بالذنب نتيجة لعجزى!!، أو أن يتقمصنى لحظة انصرافِه دون اختيارى، أو أنى كنت خائفا من مواجهة صائدٍ ماهر مجهول يتربص بنا ولا أريد أن أعرف عنه أكثر من نتاج قنصه (الموت).
حقق الله رجائى. فى صباح اليوم الثالث، جاء أ.د. عبد المنعم حسب الله يتابع إفراز الكلى، وبينما هو ينظر إلى كمية البول المتجمعة أسفل السرير ليطمئننى، كنت أنا أنظر الى حركة نفس والدى.  وفجأة أقول له:"لكنّ نَفَسَه"، فيرفع أ.د. عبد المنعم رأسه ويعتدل بسرعة، يمسك بيد والدى، تتحسس أصابعه نبضه، ينظر لى بطيبة حقيقية.  "البقية فى حياتك".
 أية بقية؟ بقية ماذا؟ 
أتذكر كل ذلك وأنا أجلس بجوار صديقى فى غيبوبته، أنظر فى نفسى فأجدنى أكبر سِنا، وأكثر خبرة، وأعرف مصيرا، ولكنى أيضا أكثر طفولة، وأخيـَب تساؤلا، وأبهر اندهاشا، وأعنف رفضا، أتساءل: لماذا لا يستجيب الـله لدعائى لصديقى؟ ولدعاء ابنتيه وزوجته؟ ولدعاء مرضاه؟ ولدعاء راعية الغنم العجوز التى تعمل فى بيته محتمية به من نفسها والناس، وهى لا تعدو أن تكون  قطعة من الفطرة لم تتشكل؟ لماذا؟
فإذا كان الله سبحانه لا يستجيب لكل هذا الدعاء فكيف نحسِبها إذن؟
ما هى المعادلة التى قد تحل لنا اللغز فيـما بعد مدى رؤيتنا؟
لماذ يطلب منا أن ندعوه، أستغفر الله، لماذا لا نعرف تلك الحسابات حتى نسلك الطريق الصحيح إلى اليقين، واذا كان والدى قد أنهى مهمته فسَتَرَنَا، وزوّجنا، وقام ليلهُ، وقرأ وِردهُ، وحكى حكايته، ودعى ربـَّهُ، ثم مضى، وإذا كانت خالتى قد عاشت بلا ولد ولا هدف (ظاهر لى)، ثم راحت بهدوء كما تمنت تماما، فلماذا يذهب صاحبى "هذا" الآن "هكذا" وهو فى قمة عطائه، وبداية جنيه لعائد تعبه ولشقائه، وهو فى تمام نضجه، وشدة حاجة الناس لعلمهْ؟
 لماذا الآن؟ ولماذا هكذا؟
وأضبط نفسى وقد مـُلئت بــ "لماذات" كثيرة، ولا أعرف لمن أوجه التساؤل: للموت؟ أم لخالق الموت والحياة؟ بل إنى ذات مرة ضبطت نفسى وأنا أوجهه لصديقى  الراقد فى غيبوبة الموت،  وكأنى أعاتبه لأنه يتركنا فيقسو علينا ـ هكذا ـ بذهابه، وأتذكر رثاء كتبته فى صلاح عبد الصبور، وقد التقيت به صدفة قبيل وفاته بساعات فى برنامج عن مسلسل "أديب" طه حسين، قلت أعاتبه.
".. وحين تقسو إذ تموت وحدَك، تفرّقتْ قوافلُ الكلام،
 ماعاد يجمعها حداؤك الحزين
هل حقا أن حزننا على فراقهم هو احتجاج على انسحابهم؟
هل حقا نحن نتمنى ـ كما نزعم أحيانا مولولين ـ أن نغادرها معهم؟
وفى الحالين: أليست هى الاعتمادية عليهم هى التى تهوّل لنا ما سينقصنا بعدهم؟
وما ذنبهم هم يستمرون من أجلنا إذا كانوا رضوا أن يتوقفوا ها هنا؟
ولكن هل هم رضوا حقا؟
 ثم إنى أحسب أنها ليست كذلك بالضبط، فهناك جانب يقول: إننا نعاتب ونحتج ونهم بالرحيل معهم رغبة فى أن نستمر معا بغض النظر عن "من" يعتمد على "من"، أما سؤال "لماذا؟" فيبدو أنه أصيل فى علاقتنا بالرحيل الأخير، نقوله فيما يشبه الفلسفة أو التفلسف، ونقوله فيما يؤدى الى مزيد من التسليم للايمان بالغيب، ويقوله عامة الناس بغير التفكير فى هذا وذاك.
حين كنا أطباء مقيمين فى منزل نواب المنيل (95/0691) (صديقى وأنا ومضيفنا عاطف غندر فى أمريكا وآخرين)، كان المنزل يقع بالقرب من المشرحة، (مشرحة قصر العينى الشهيرة!! أقيمت مكانها ومكان منزل النواب هذا  كلية طب الأسنان الجديدة) . كنا نستيقظ على نداء منغم "ودا كان ليه؟ ودا كان ليه؟"  ثم يعلو النداء تدريجيا حتى يطغى على أرضية العويل والنحيب والصوات، نفس التساؤل "لماذا؟ لماذا؟" رحنا فى البداية نتشاءم  من النواح وخاصة أيام الامتحانات، حيث كنا نتطير من هذا العديد هكذا على الصباح. خاصة أيام امتحانات الدبلوم، ثم أخذنا نعتاده، ثم نستأنس به، ثم نستعمله فى مداعباتنا موجهين الإشارة والمحتوى إلى غير أصله، "ودا كان ليه: هذا السؤال الصعب فى غير المقرر"، "ودا كان ليه: ذاك الممتحِن السمِج المتحيز".. ودا كان ليه: لـلزميل الذى أحب ولم ينل الوصال (اللى حب ولا طالش) وهكذا رحنا نألف الموت وأهازيجه حتى نسينا مغزى السؤال، وحتى المشاعر المواكبة لأهازيج الموت وعديده لم تعد تؤثر فينا، وربما كان لمهنتنا دور فى هذا التعود (أو التبلد) ومع ذلك فما أن نواجه الموت شخصيا حتى يبدوا لنا حدثا جديدا ليس كمثله شىء
 وهل أفعل أنا الآن مع صديقى حين أتساءل "لماذا؟"، هل أفعل أكثر من نسوة المشرحة وهم يردون "، دا كان ليه، ودا كان ليه؟".
وأكتشف أن خطابى إلى صلاح جاهين حين عملها هكذا، كان كله عتابا ورفضا لموته، أكثر منه حزناً لفقده. كان عديدا لائما، رحت أقول له:"
يا صلاح، كان لسه؟
ماقدرتش تشرب شفطة كمان من ألم الوحده
...
ياصلاح مش بدرى؟
طب حتّه، طب حبّه، طب لأّه.....
كدهه؟ آه يانى.
طب روحْ.
لأ لأّه، ماتروحشى.
إزاى؟
ماعرفشى.
علاقتى بالموت والموتى ليست جديدة علىّ، كذلك حوارى معهم، فقد انتقل والدى بنا من منزلنا الكبير ذى الثلاثة أدوار فى داير الناحية فى قريتنا الى حديقة فى أطرافها أو بعد أطرافها تقابل المقابر مباشرة، فكنا لاندخل ولا نخرج الا ونحن نمر على "السابقين" الصامتين دون أن نتذكر أننا "نحن اللاحقون"،
ظلت هذه المقابر تمثل عندى مصدرا للتخويف من الأرواح حتى أصبحت مصدرا للحصول على عظام للدراسة عليها حين لزم ذلك فى السنتين الأولى والثانية فى كلية الطب، وكم أمسكت بجمجمة قريبٍ لى (لا بد أنه قريبى بشكل أو بآخر.. اليست جمجمة من بلدنا؟) أحاورها، وألومها على صمتها، وأحاول أن أكتشف سرها، وما يقال بشأنها، ثم أنسى كل ذلك لأحفظ ماذا يمر فى الثقوب المرصوصة بقاعها من أعصاب وأوعية "لزوم الاستعداد للامتحان".. وتضيع معالم الموت تماما ولا تبقى إلا ثقوب وخطوط لزوم النجاح فى علم التشريح.
 كيف ننسى الموت؟
بالتعود فقط؟، و هل نحن نتذكره أصلا؟
 نتذكره بمعنى أن نربط حقيقته (أم الحقائق جمعيا)، بالفعل اليومى؟ نربطها بطعم الحياة؟ بنوع العلاقات؟ بإعادة الحسابات؟ بالتغير الواجب؟ هذه وحدها هى "الذكرى التى تنفع المؤمنين"، فلابد من إيمان، ولابد من نفع إن كان لـلذكرى أن تصبح فعلا يوميا لا اجترارا، ولا احتجاجا، ولا سخطا، وهنا فقط (حين تصبح الذكرى فعلا) يمكن أن يكون هذا النوع من الذكرى اختيارا: "فمن شاء َ ذكره".
أقف طويلا عند الآية السابقة مباشرة، وعند "كلا" بالذات "كلا إنها تذكرة" وأصر أن الضمير المتصل فى "ذكره" يعود على الموت وليس على التنزيل (القرآن الكريم) كما جاء فى بعض التفاسير، ثم أنظر فى "من شاء"، وأكتشف أننا حتى نشاء: لابد أن نستطيع، أو أن نتوهم أننا نستطيع، ولكن كيف نستطيع مع استمرار المسيرة هكذا بنفس الزحمة وملاحقة التفاصيل، لهذا فنحن لا نشاء إلا أن يشاء (وما تشاؤون إلا أن يشاء الله) وهو لا يشاء بالنيابة عنا، بل إن وعينا باتجاهنا إليه ـ حقا وصدقا ـ لابد أن يغير من حسابات هذه الدنيا، إذ يبطئ من دورة اللهاث، كما يحسن توجيه عائد العمل، فهى مشيئتنا فى النهاية إذ تتضفر مع مشيئته، فلا اتكال، ولا غفلة، ولكنها حسابات إيمانية أخرى لو أنها تنعكس على فعلنا اليومى.
يبدو أننا الآن نعيش حياة أخرى، نحن بشر آخرون، "لمن شاء منكم أن يتقدم أو يتأخر" فمتى نشاء أن يشاء لنا فنشاء؟ لا أحسب أن هذا ممكن فى خضم حياتنا الغربية المستوردة هذه، والمغلفة بقشرة دينية اغترابية تجعل من تذكرنا للموت تبريرا للغم، أو ديكورا يقوم بتركيبه خطباء الترهيب والترغيب، يبدو أننا قد اكتسبنا قدرا من مسلمات الوعى يمكن أن يلغى أى "تذكرة" حقيقية"، يحدث ذلك تحت كل الظروف، حتى ونحن نحاول أن نعمق التذكر بحضور عيانى.
فعلتْ ذلك خالتى مرة معى دون قصد، أرتنى علاقتها بالموت محسوبة مجسّدة، استقبلتنى ذلك اليوم ووجهها أكثر إشراقا وبشاشة عن كل مرة، ولم تذهب البشاشة حين اكتشفتْ ـ كالعادة ـ أنى لم أصطحب الأولاد، فعلمتُ أن ثمة ما يـُفرحها ويشغـلها عن توجيه "الإخص عليك" المعتادة، وفعلا.. أخذتْ بيدى وهى تتكئ جزئيا على ساعدى وتقول "تعالَ أطمئنك على خالتك" فقد حلمتُ، أنك مشغول بى،منشغل علىّ، وكانت تعامل أحلامها مثلما تتعامل مع حقائق حياتها، سواء حلمت فعلا أم نسجت الحلم بعد استيقاظها دون أن تدرى، فأدخلتنى إلى الصيوان الذى لا يُـفتح إلا فى المناسبات، وأرتنى لفة لم أعرف ما بها وماذا تعنى لأول وهلة، وجعلتْ تفكها وترينى: قماشا ثمينا، ومنشفة، وصابونة، وزجاجة رائحة ولفة قطن. .و..و..، "ما هذا ياخالتى"؟ كفَنِى ياحبيبى والحمد الله، لم أترك شيئا إلا جهزته، حتى أجر المغسِّلة وضعته فى ثنايا ثوب الكفن ـ أنظر، حتى لا أكلف أحدا شيئا". فـينـقبض قلبى غما فى حين أن وجهها يزداد إشراقا، فأتعجب: هل أنا الذى أتصور أنى أعرف كل "هذا" يكون تفاعلى "هكذا"، وهى الحريصة على كل أشياء الحياة بلا هدف أو رؤية (بحساباتى التطورية الخائبة!!) يكون هذا هو موقفها؟ أهذا هو إيمان العجائز؟ يارب، خابت حساباتى، ويبدو أنها كانت خائبة دوما، لك العتبى حتى ترضى "فمن شاء ذكره".
كيف أذكره أكثر من هذا وأنا جالس أراقب الصراع الجارى بينه وبين الحياة، ونَـفَسُ صاحبى يتردد بلا انقطاع ضد كل توقع وحساب.
كنت قد أوقفتُ أية محاولة غبية تجرى لإطالة ما لا يطول من عمر صديقى، رفضت الانسياق وراء عواطف خائبة (تبدو طيبة عادة!) رافضا اللعب بجسد غال ضد إرادته الحرة، أو ضد نصيحة العلماء الأطباء، الذين هم كذلك، فمنذ أن كنا فى بوسطن قال لى المتخصص فى العلاج الكيميائى لهذا المرض " لو أنى مكانه ما أخذت إلا المسكنات، "منذ ذلك الحين وأنا أعتبر أن أى تدخل عاطفى، لمجرد تخفيف الشعور بالذنب ـ ذنبنا نحن ـ هو إهانة لا يبررها علم أو خلق، لذلك قررتُ، ومنذ البداية، ألا أفعل له إلا ما يطلب هو، وهو الطبيب الحاذق، وقد رضىَ أن يأخذ علاجا كيميائيا المرة تلو المرة، على أساس أننى أخفيت عنه ـ أو هكذا تصورت ـ تفاصيل التفاصيل، أو على أساس أنه فوق كل ذى علم عليم، أو على أساس أن يتـدرج الأمر حتى تتحمل عائلته ما سيحدث. . نعم. . ولكن. .. للمحاولات الخائبة حدودا، وحين توقفنا عن امتهان الجسد، تجسد العجز أكثر فأكثر، وتبينتُ الفرق بين خبرتى هنا، وخبرتى مع والدى حيث كنت أواصل تعليق المحاليل له أملا فى رتق التمزق فى غشاء المخ ليتجمع السائل النخاعى من جديد، ثم من يدرى، أما هنا. . وقد انتشرَ ما انتشر، وانسد ما انسد، والتهم ما التهم. . فالحمد لله رب العالمين.
وحين يكون الانتظار هو كل الفعل الممكن. . تكون الحوقلة (لا حول ولا قوة إلا بالله) هى الذكرالواجب.
ويصاحبنى فى داخل حجرة " الانتظار " صديق لكلينا،اسمه  أحمد الدواخلى، ليس طبيبا والحمد لله: هو رجل فحل الإيمان، أبيض القلب، حاضر الوجدان، غامر الوعى، رقيق الحضور، أتعلم منه فى كل مقابلة شيئا جديدا، شيئا أرجو ألا أنساه، هذا " إن شئت أن أذكره " وكان هذا الرجل الأبيض دائم الدعاء والتلاوة، لا يفتأ يكرر مخاطبا المحتضِر: "اللهم سهل أمرك يا السعيد، اللهم طمئن قلبك ياالسعيد، اللهم هدىء سرك يا السعيد " ثم يكرر الدعاء مرة أخرى دون ذكر اسم صديقى، فأحس أنه يوجهه لى، فأستعد، وكأنى أنا الراحل.
 فجأة أسمع الدواخلى يرد على سعيد وهو فى غيبوبته أنه ". . حاضر "، وأنا الطبيب الذى أعلم أن قشرة مخ صاحبى المودّع للحياة قد سبقت وسافرت إلى الجانب الاخر منذ أغفى بلا صحوة، وأنه لم يبق نشِطا معانِدا إلا جذع المخ ضابط إيقاع الحياة التنفسية والقلب، لكننى أستمع لحوار الرجل الأبيض ـ الدواخلى ـ مع الصديق المعاند ـ السعيد ـ فأكاد أصدقه وأتذكر ما سمعته من والدى وهو يتلو الورد فى غيبوبته، كأنه كان هو أيضا يتكلم هناك بإيقاع الحياة لا برموز قشرة المخ، هذا إن صدق أنى سمعته حقيقة وفعلا، ولكن ها هو صديقنا الأبيض يرد ثانية "حاضر يا " " ياخويا" ثم يوصيه أن "يطمئن" ثم يقسم عليه، ثم يتجه إلى ربه "لبيك اللهم لبيك" لبيك لا شريك لك لبيك"، ثم إنه" لا إله إلا الله حقا وصدقا" ويعود يواصل حواره معه، ثم ينفجر باكيا دون استئذان أو إنذار، فيخاف أن يسمعنا أهل البيت وكنا قد حـُـلنا بينهم وبين التواجد فى الحجرة ـ إلا قليلا ـ طوال هذه الأيام الصعبة، فيكف صاحبى الأبيض عن البكاء فجأة ناظرا إلىّ بغضب وكأنى أنا الذى بكيت بصوت مرتفع، وكأنه ينهانى أن أفسد جو الدعاء بهذا النحيب المزعج للأهل، ألا يكفيهم ما عانوا ويعانون بما لا يمكن وصفه؟ فأتلقى غضبه الصامت حتى يسكت، وكأنى أنا الذى رضخت فسكت.
هو الموت، ذلك الشعر الآخر، (هكذا أسماه أدونيس فى رثاء صلاح عبد الصبور)، نخلق منه ما لا ندرى إذ يخلق فينا ما لم نحتسب، أحياء كما نعلم، وراحلين كما نتصور، لكن كل هذا لا يجيب على التساؤل الملح الذى عاد كما هو وكأنى لم أحاول الإجابة عليه آلاف المرات "لماذا هو بالذات؟ الآن بالذات؟ هكذا بالذات؟" وأحاول أن أعدو ـ حقيقة ـ هربا من ملاحقة ما سبق أن لحقنى بلا طائل، فأعجز.
أرتد طفلا أنظر فى ظهر غلاف الكراسة "كنظام وزارة المعارف العمومية" أم ست مليمات ذات الورق الأسود الذى "يشف" وغلافهما الخلفى القبيح قد قسم إلى مثلثين أحدهما يحتوى جدول الضرب الصغير، والآخر جدول الضرب الكبير، وأتذكر كيف أنى كنت أتصالح مع جدول الضرب الصغير رويدا حتى وصلت الى 5X5، فيزداد أملى أن أصل يوما ـ وان طال الزمن ـ إلى 12X12 .. وهذا ليس على الله ببعيد، ألم يقدرنى أن أحفظ هجاء كلمتى تمساحcrocodile  وجميل beautiful وكل منهما مكون من تسع حروف بالتمام، لكنى أبدا لم أحلم أن أقترب من جدول الضرب الكبير بدءا من 13X13 حيث تزدحم الأرقام وتتقارب حتى تسود صفحة الغلاف وهى بلا لون أصلا، كنت أتصور أنه يستحيل أن يحفظ هذا الجدول إنسان مهما بلغ من ذكاء، حتى والدى، حتى الناظر نفسه، حتى الملك فاروق.
تختفى الصورة لتعود إلىّ الآن فأكتشف أن ثمة جدول ضرب أكبر فأكبر إلى ما لا نعرف، وأن إجابة تلك الأسئلة الملاحقة البادئة معظمها بـ"لماذا؟" لابد أن تقع فى مكان ما فى وسط محيط جدول الضرب الأعظم بلا حدود، وأفهم لم كان الايمان بالغيب ركيزة أساسية فى دينى، وأنه (الايمان بالغيب) هو قمة المعرفة، لأنه حركة متصلة تتجاوز دائرة المعارف المتاحة إلى ما بعدها، فلا نكتفى غرورا، ولا نستسلم غباء، ولا نتواكل عماء، وأجد نفسى انطلاقا من هذا الموقع ـ أقبل التحدى، فأروح أرد على كل الـ "لماذات" التى لاحقتنى مخرجة لسانها لى طول الوقت، أرد عليها من جنسها إيمانا بهذا الغيب: جوهر كل معرفة حقيقية:
س: لماذ  سعيد؟
جـ: ولماذا غيره؟ (رد الست نعيمة، حكيمتنا الحكيمة).
س: لماذا الآن؟
جـ: ولماذا بعد؟
س: لماذا هكذا؟
جـ: ولماذا غير ذا؟
وهكذا انتصرتُ أخيرا، فالحمد لله، عالم "الغيب" والشهادة. وهو الحكيم الخبير.
وأدعو الله ألا أكون موجودا لحظتها، وكأنى لا أريد أن ألحق هذه اللحظة بلحظة وداع والدى، فقد شعرت فى خبرتى الأخيرة هذه أنه (والدى) قد عاد فاستيقظ بداخلى بحضور ثقيل، منذ انفردتُ بصديقى هذا فى غيبوبته.
ولكن هل يا ترى كان صديقى هذا والدى، أم أنى كنت والده؟، أم أننا كنا نتبادل الوالدية فى اتفاق سرى صامت؟
 لعل كل الاجابات صحيحة ـ ولعل هذا هو ما دعانى أن أكرر لزوجتى (وابنتيه ذات مرة قبل وبعد وفاته) أنه لم يكن صديقى، فربما كنت أعنى أن ما بيننا كان شيئا أعمق من الصداقة أو متجاوزا الصداقة، أو هو شىء أهم من الصداقة، أو ربما أنا لا أفهم أصلا فى الصداقة مثلما لا أفهم فى الحب إياه، هل من معالم الصداقة ـ مثلا ـ تبادل الوالدية سرّا؟
 لم يكن سعيد صديقى بالمعنى السائد عند عامة الناس، فهو لم يشترك معى فى عادة، أو يواكبنى فى نشاط، أو يحرص على قراءة مجلة أُصدرها، أو يتمتع معى بصحبة لصيقة صريحة طويلة، (اللهم إلا فى "بيت نواب" المنيل فى قصر العينى، مثله مثل غيره من النواب)، كما أنى لم أستطع أن أعرّى نفسى أمامه "تماما" كما أفعل مع آخرين أقل قربا إلىّ منه (وكل هذا عندى هو من مقومات الصداقة)، فما هى طبيعة علاقتنا؟ فأرجح أن أهم ما كان يميز علاقتنا هو ذلك القدر الهائل من "الإلتزام والسماح" معا، كان يجمعنا موقف موحّد تجاه الاغتراب فى حياتنا عامة، وحياتنا العلمية الجامعية خاصة، كما كان كل منا يسمح للآخر أن يتحرك بعيدا عنه فيما يعتقد ويعتنق.
نعم، لم يكن صديقى بالمعنى الشائع.
 فتتهمنى زوجتى ـ كالعادة ـ أن "هذا"بديهى، وأنها تصدّقنى دون خلق الله الذين لا يفسرون كل ما قمت به نحوه ونحو أسرته الا بما هو "صداقة" كما يألفونها ـ تصّدق أننى لم أقم إلا ببعض ما ينبغى مما تفرضه بداهات الحياة ـ ، وتواصل اتهامها ـ أو تقريرها ـ لى معلنة أنه ليس لى أصدقاء أصلا: لا هو، ولا غيره، وتتحدانى أن أذكر لها اسم واحد فقط أستطيع أن أطلق عليه هذه الصفة، فأمتلىء غيظا، وأهم بالرد متصورا أنى سأستدعى ألف إسم وإسم، وفورا ـ لعلها تخجل وتعتذر، ولكن إسما واحدا لا يأتينى، يا خبر!!!، ما هذه الشروط التى تهجم على هذه الكلمة ـ صداقة ـ تحيط بها من كل جانب حتى لا أقدر أن أستعملها؟ ماذا أريد من الناس قبل أن أسمح لهم أن يحلوا فى مضمون هذا اللفظ "صداقة"؟ ثم ما هذا الذى أكرره طوال هذا الفصل وغيره؟ جاء صديقى قال، صديقى. راح صديقى، ثم رحل صديقى؟ حين تختبرنى زوجتى هكذا فجأة، لا أستطيع أن أذكر اسما واحدا من الألف ألف إسم الذين تخيلتهم جماعة لكننى عجزت أن أسلخ منهم فردا بذاته.
يبدو أن زوجتى لم تكن تنتظر إجابة، ولكنها أيضا لا تـُظهر شماته (على الرغم من أنى أحاول أن أتصور شماتتها بالرغم منها) ـ وأواصل العناد:
 "بل لى أصدقاء وأنت تعلمين" على، وأحمد، وهدى، وهالة، ووليد، وهبة، وكل الأطفال، ثم سعيد وعوض وجمال ورمضان وعادل وعبد العزيز وكل الفلاحين (أنظر الترحال الثالث إن شئت)، وقبل أن أواصل ذكر أسماء مرضاى تبتسم زوجتى فى صبر وتود لو أنها لا ترد، لكنها تلمَح تحفزى، فأواصل أنا:
إن هذه صداقة حقيقية، وحين كنت ألاعب "على" الورق أمس الأول، لم أكن أتنازل، لم أكن والدا يلاعب ولده، أو جدا يلاعب حفيده، بل كانت مباراة "ند لند" فتضطر زوجتى للرد:
 "إنك؛ تصادق الناس ولا تسمح لهم أن يصادقوك، تصادق المجموع لا الأفراد، تصادق الجزء الذى تختار من كل واحد، ولا تصادق الشخص على بعضه. وكل من ذكرتَ هم من الأطفال والفلاحين والمرضى (لم أكن قد ذكرت المرضى لكنّها ضمّتهم بيقين) هم فى موقع الأضعف منك، فلا خوف عليك ولا هم يعلمون".
 وحين نصل الى هذه التعرية أرتب للانسحاب المنظم، فلا فائدة من الكلام اذا ما أطلت "الحقيقة" هكذا إلى هذا المدى، رحت أعيد تقييم  صداقتى لمرضاى خاصة . هل يسرى عليها مبدأ  الأقوى مع الأضعف؟
 أهكذا ؟
ولكن (بينى وبين نفسى) لا أقر النتيجة  أبدا، أنا أصدقائى بلا حصر، بلا حصر، لذلك لم أستطع أن أختار من بينهم اسما محددا، أختار من؟ أم من؟
لا أصدق نفسى تماما، ولا أصدق زوجتى تماما.
سعيد الرازقي، صديقى أم والدى أم إبنى، ها هو يحتضر، لكنى أصمم على ألا أكون فى موضع الإبن داخل حجرة "الإنتظار" لحظة الوداع، لا. .لا، لا أريد أن يلبسنى  من جديد أباء جدد أحملهم بعد أن يرحلوا لأكمل مسيرتهم لا مسيرتى. يكفينى كل من ارتدى من أثواب والدية قديمة من كل شكل ولون.
يستجيب الله لى، فما أن أنصرف لغير هدف الساعة الخامسة الا خمس دقائق، يوم الأربعاء الموافق 92/1/6891، لأرجع بعد نصف ساعة بالتمام، فأجده قد استأذن فى سلام آمن، وتتفرق الطرق، هو يمضى فى رحابه تعالى بلا تفاصيل ظاهرة، وأنا حيث أنا كما ترون.
وأذكر الآن حين كنت أسَرّى عنه فى دعابـة مغامرة كان يتصف بها حوارنا الصريح فى كثير من الأحيان، أذكر أننى قلت له:
 "إسمع، كن شهما كما اتفقنا ولا تنسنا حين تذهب إلى الجانب الآخر "بالسلامة"، كن شهما وأخطرنى أولا بأول ماذا الحكاية، حتى أستعد بطريقة صحيحة، إن أمكن" فيبتسم طالبا منى أن أخفض صوتى حتى لا يسمعنا أهل البيت،  ويعدنى ـ وهو ينتزع ضحكة حقيقية سرعان ما يجهضها الألم ـ أنه سيفعل ما يقدر عليه ما استطاع إلى ذلك  سبيلا، ويسترد آثار ضحكته بطيبة رائقة.
استأذَنَ فى سلام،
وتبدأ مراسم الوداع، وأتعلم، وأتعلم، وأتعلم،
يجتمع البسطاء معا هناك بفضل وصيته.
كان قد أوصى بشجاعة فريدة ألا يُـتعب أحدا بنقله مئات الكيلومترات إلى بلده فارسكور، لمجرد التظاهر والتقاليد، فأوْصى زوجتى أن  تسمح له أن يدفن فى مدافن أسرتها  هنا "بمقابر الإمام" بجوار المقطم ، وكأنه أراد بذلك ألا يكبدنا مشقة السفر إلى بلده الأصلى حتى يدفن بجوار أمه. كان يحمل هّمـنا حتى بعد موته، هو ليس له مقابر فى القاهرة وقد طلب من زوجتى أن يدفن فى مقابر أسرتها فى الإمام الشافعى، وفرحت أنا لأنه سوف يذهب بجوار حماىَ الذى أحببته حبا صامتا عميقا، وهكذا يتجمع هناك فى نفس المقبرة معاً: حماىَ الأمى الوديع، وإبنة أخى التى رحلت بعد ساعات من قدومها، وصديقى هذا.
ثلاثة نماذج تمثّل عندى توحّدا مُهّما:
 البداية التى لم تتلوث،
 والبساطة التى لم تتشوه،
والشجاعة التى لم تغـتـرِب.
 وكأنَهم لم يجتمعوا "هناك" تحت الثرى، بل استقروا هنا فى أنقى مساحة داخل داخل وجدانى.
ثم تمضى المراسم بكل ما لها وما عليها، وأتعلم ـ من جديد ـ كيف أننا ونحن فى بؤرة الحقيقة، لا نتكلم إلا عن زيف الزيف، وأدرك بيقين متجدد أن هذا الزيف فى الحفل الجنائزى وسرادق العزاء هو من أعظم رحمته تعالى بعباده الضعفاء: هو أهل الرحمة، وأهل المغفرة.
وهكذا، "طارت" فى وداعة البسطاء، وترن فى أذنى بهدوء نابض، ومعان متجددة:
"حمامة بيضا، طارت يا نينه،
ما خدها البلبل، وطار وياها،
 قصده يا نينه، يعرف لغاها".
ياه !! يا للوعى الشعبي وهو  يعيش لحظات الخلق والعدم بعمق لا يعرفه غيره.
كنت أجلس مع ابنتيه مايسه ومنى قبل الوداع الأخير ببضعة أيام أصارحهما بكل شىء لم تكونا قد أُبلغتاه من قبل،وجعلت بداية حديثى عن رحلتنا هذه التى أكتبها هنا.
 قلت لهما إنى أتصور أن الله سبحانه أراد أن يقربهما منى وبالعكس. ليطمئن والدهما قبل رحيله، وأنهما ـ من خلال رحلتنا هذه ـ قد أصبحتا صديقتين بمعنى يختلف عن علاقتى بوالدهما، وأنى تعجبت لموافقة والدهما ان يصطحبانا، حيث كنت أتصور أنه أكثر تحفظا، وتخوفا، وامتلاكا، فإذا بى اكتشف فيه مؤمنا آمنا، وشجاعا، ومبدعا أبدا، حتى فى تربية بنتيه الوحيدتين، فكان السماح، وكانت الصحبة فكانت الرحلة كما وصفتُ وأكثر، وكان من أهم مكاسبى منها أن اتسعت دائرة صداقاتى برغم رأى زوجتى فى ذلك، فقد تعرفت على رفاق الرحلة أكثر فأكثر، ومن بينهم بنتاى هاتين وهما همزة الوصل الذى أستطيع أن أتكىء عليها وأنا أعبر الآن الى الجانب الأخر، فأروح أجذب الخيط من جديد الى مواصلة معايشة ما كان "لنا" "معا" "هناك"، وكيف كان ما كان أثناء تلك الرحلة التى لم تنته بعد.
(يبدو أنها لا تنتهى)
الخميس 6 سبتمبر 1984
كانت فرصة فى ما بقى لنا من أيام فى باريس أن نفترق أكثر لنلتقى أقرب، فاستطعنا من خلال ذلك أن نضبط جرعة "الصحبة" و "الاستقلال" معا، كنت وزوجتى فى فندق الجوبلان (نجمتان بالتمام) لكن الحمام النظيف والتلفزيون الملون يزينانها بما لا حصر له من نجوم، وكان الأولاد فى فندق "الإقامة السعيدة"Belle Sejour (!!) بنجمة واحدة وكلب كبير ورائحة خاصة ـ كما ذكرت ـ فجعلت دائرتانا تتحركان اقترابا وبعدا فى حرية نسبية، و حين استطعت أن أتحرك داخل دائرتى الخاصة رحت أوقظ باريس فى كيانى بهدوء متنام، لأعود أنبض بريحها كما عشتها، ثم كما حملتها معى منذ كان ما كان، حملتها معى إلى مصر، والطائف، واليونان أو البحرين، وحجرة نومى، ودهب، وأنطاكية، وحربيات، وبلودان،
أنا لا أتحدث عن باريس البلد بقدر ما أتحدث عن باريس الناس، ثم إنهم ليسوا ناس باريس بقدر ما هم "الناس فى باريس" بمعنى أنهم ليسوا فرنسيين من عاشرتهم آنذاك، لكنهم كل العالم، حتى أنى تصورت أن باريس هذه، لا بل "تلك" (68/69) هى "دوار الدنيا" بأسرها.
 كنت أنتظر نزول زوجتى فى مدخل الفندق حين انتبهت أنه قدجلس بجوارى هندى وهندية (لم يكن هناك جوارٌ أصلا، فالمدخل شديد الضيق يكاد لا يسع أحدا)، ولم تكن السيدة جميلة جدا، كانت جميلة فقط أو أقل قليلا، ولم يكن جسدها رشيقا، لكن السارى الذى كانت تلبسه بدا لى أجمل ما فيها، ولم أكن أعلم أنه، مع شموله لكل القوام حتى جزء من الرأس، يمكن أن يكشف عن مساحة لابأس بها من لحم البطن حول الوسط، على الرغم من برودة الجو، ولم أنتبه، لأول وهله، أنه لحم بشرى!!، خلقة ربنا، كما لم يجذبنى إليه أية فتنه صغرت أم كبرت، بل لعل العكس قد حدث، فقد كان، بلا مؤاخذة، مترهلا إلا قليلا، ومع ذلك فقد تذكرت الثوب السودانى الشفاف الرائع الذى ترتديه نساء السودان، وقلت: فهو الرمز والوطن وليست الحشمة والطقوس، ولو كان الحجاب تطور عندنا حتى يعنى ذلك، أو مثل ذلك لكان له وضع آخر، أما بحالته الراهنة وتنوعاته (على "الموضة") فهو ـ فى الأغلب ـ لإبداء الزينة وليس لإخفائها فى كثير من الأحوال، ثم إنى لاحظت فى ممارستى التى تطّلع على الأقئدة أنه (الحجاب) كثيرا ما يعمل لإعفاء من ترتديه من الغوص فى جوهر دينها بالاكتفاء بالرضا عن ظاهر شكلها،
 حاولت أن أنظّر قليلا حول مسألة الحجاب هذه، حيث رحت أبحث له عن وظائف إيجابية مثل أن تستعملها الواحدة منهن للتصالح مع الجسد والجنس معا، وذلك بأن تعفى الواحدة منهن نفسها من استعمال جلدها وظاهر جسدها حجابا دفاعيا (باردامتبلدا من خلال حيل دفاعية كابتة)، وكأنها إذ تغطى جسدها بهذا الغطاء الحسّى الحقيقى، إنما تسمح بتلقائية حيويتها أن تنطلق داخل الغطاء، كما أنها قد تساعد نفسها على تذكر أن جسدها هذا هو جسدها، وليس "محل وجودها المختار" تسكن فيه بالصدفه، ويستعمله زوجها من الظاهر، أو لعلّه ـ كما ذكرت ـ ثورة نسائية تحدد الهوية فى مقابل هجمة التغريب، وكلام آخر كثير من هذا القبيل، تحققت من صحته أحيانا، وفشلت أحيانا أكثر، المهم أنى لم أستطع أن أقارن السارى الهندى إلا بالثوب السودانى ثم بالملاءة اللف عندنا، تلك الملاءة التى انقرضت والتى كتب فيها الدكتور صلاح مخيمرنظرية علمية هى بمثابة قصيدة جنس من أجمل ما يكون، كتبها وهو فاقد البصر يصف الملاءة وهى تمثل التحدى الأنثوى الرائع الذى يفرض على المرأة الرشاقة والليونة والنشاط فى آن، كما كتب عن اللغة التى تتحدث بها الملاءة وهى تلف، وتنزلق وتتحرك، وتُخفى لتـُظهر.
تصورت لو أن سيدات المجتمع عندنا بدأن بارتداء الملاءة رسميا (لا فى حفل جلابية "بارتى") لتطـلـّـب ذلك منهن جهدا جميلا خليق أن يميزهن أنوثةً وجنساً وحضورا خاصّا، لكنهن يستسهلن التقليد والديكورات الزائفة والزائلة.
 ننطلق إلى "باريس الناس"كما أعرفها بما تحوى من هنود وسنغاليين وبرتغاليين وإيطاليين ومن أمريكا الجنوبية، وأمريكا فقط، وأيضا بما تحوى من فرنسيين. العرب أغلبهم من شمال إفريقيا. تصوّرت دائما أن الموْطن الأصلى للباريسيين هو مقاهى وأرصفة باريس وحدائقها، وأركانها، وأن المنازل تزار أحيانا قبيـل النوم، مقاهى اعتبرتُها بمثابة مصاطب الدوار فى بلدنا، بل والمصاطب أمام الدور أيضا، فالمقهى فى باريس يدعوك وأنت سائر أن "تتفضل"، ويكررها مرارا(كأنك تمر أمام مصطبة كريم من بلدنا) حتى تتفضل، فأتفضل بعد أن تنصرف زوجتى إلى هوايتها حسب موعدها مع الأولاد.
 أقبع فى ركنى المفضل فى مقهى "الجوبلان" حيث أمامى صفين من مقاعد الزبائن، دون زبائن، إلا قليلا، ثم الواجهة الزجاجية، التى لا تحجب عنى المارة فى الخارج، وحين استقر فى موقعى أبدا رحلة المقارنة بحثا عن الفروق، قافزا عبر الهوة الحضارية للأمام وللخلف على حد سواء، ويبدو أن مهنتى الطبية النفسية قد سهلت على لعبة التقمص بما يسمح لى أن أضع قدمىّ فى حذاء كائن من كان (كما يقول الإنجليز)، فأحاول أن أدخل إلى أبعد مسافة ممكنه فى عمق وجودهم ثم فى نوع وجودنا،علنى أخرج بما هو أكثر من الفرجة، وأعمق من الحكم، لكنى لا أنجح فى كثير من الأحوال، ويتجدد أمامى ـ مثلا ـ منظرا رأيته مئات المرات، وسمعت عنه قبل أن أراه عشرات المرات ـ وكتبت عنه أحيانا ـ وهو منظر الفتى والفتاة وهما يتلامسان ويتلاثمان ويتقابّـلان (من تبادل القبل، لذلك وضعت شدّة على الياء!) ويتحاضنان، إلى آخر ما هو كذلك، ونحن لم نألف مثل ذلك، ولا بعض ذلك،، وقد تعودت ـ كما سبق أن أشرت ـ أنى حين لا أفهم شيئا لا أبادر برفضه، وانما أصبـر عليه لعلى آتينى بخبر ولو بغير يقين.
حين نزلت باريس أول مرة جعلت أنظر الى نفس هذا المنظر مندهشا ثم منتظرا، ثم متسائلا، أما الدهشة فهى لعدم الألفة، وأما الانتظار فهو ترقب لما سيوصل اليه "هذا الذى" .أما التساؤل فكان عما يحدث، وما لم يحدث، وكيف يبدأون هكذا، ويستغرقون هكذا، ثم يتوقفون رغم تصورى استحالة التوقف هكذا.
كان خط المترو الذى أركبه من ميدان الإتوال حتى مستشفى سانت آن اسمه "ناسيون ـ إتوال"، وفيه، وعلى رصيفه عـلِمتُ ما لم أكن أعلم، وهو ما زال يشغلنى. كنت أتصور أن لحظة انفصال الجسدين بقدوم المترو أو توقفه هى لحظة البتر إلى نصفين مثل تهديد سيدنا سليمان للمتنازعتين على الطفل، لكن الذى كان  يحدث أنه لا بتر ولا يحزنون، بل انسلات مثل الشعرة من العجين.قلت فى ذلك:
قبّلها. عبثت بالشعر أناملُهُ،
 رفعت عينيها فى لهفةْ،، شبّتْ تلتقط الرَّشفةْ،
أطراف أصابعها تبتهل الرِّىْ
....فصلَ السياف الجسدين الجذع.
ذهب الولد إلى "الناسيون" يغنى
والبنت الزهرة ركبت مترو الإتوال
وتكوّرت الغصّة
........
ونزعتُ السكينَ بلا نزفٍ ظاهرْ.
رغم مرارة سم الحسرة
فى الأغلب كانت حسرتى أنا، لا حسرة أى منهما، أنا لم أتخذ موقف الرفض المتشنج من ذلك أبدا، لكننى لم أفهم. رحت أتذكر لعبة الحمام فوق أسطح بلدنا، وحركات الذكر أمام الأنثى، ودغدغته لرقبتها أو تحت جناحها، ودورانه حول نفسه ثم حولها، ثم طيرانها دون أن يطأها، أو طيرانها وعزوفه عن متابعتها حالا، أو عودته واختفائها، وقلت: إن الإنسان أصله حمامة أيضا، فلماذ ا ألحقنا داروين بالسمك دون الطيور، وإذا كنا ننعت "الجنس" القح "بالحيوانية"، فخليق بنا أن ننعت الـلثم، اللمس "بالحمامية" وإذا كان بنا شىء تلقائى يرفض الحيوانية (لست أدرى لماذا هكذا دون تمييز) فإنى لا أعتقد أن فينا ما يرفض الحمامية (أو اليمامية: أرق، أرق) هكذا دون تحفظ.
 تحضرنى دروسى السرية فى الجنس من المدرسة الحيوانية فى القرية، وكان أول من نبهنى إلى معنى ودور معايشة هذه الطبيعة الحيوانية مباشرة فيمن يعايشونها من أطفال وشباب هناك هو استاذنا عباس العقاد فى ترجمته لحياة واحد لا أذكره، وحين راجعتُ مقولته فى نفسى وتاريخى تبينت فعلا كم كانت مدرسة القرية الجنسية الحيوانية شاسعة المعارف، متعددة الوسائل، ولولا إشارة العقاد تلك، ما تجرأت على تذكرها وذكرها، فضلا عن وصفها الآن، فماذا يـُخجل فى ذِكْر مصدر تعلمنا الجنس من خالقه مباشرة فى كل زوجين اثنين.
ما زلت أذكر نشاط ديكنا الزاهى وهو ينفض ريشه وقد نجح فى الإسهام فى الحفاظ على نوعه، وفحولة ذكر البط و "أمّا فاطمة" تُخضع له أنثاه حتى "يكسّرها" (لاحظ التعبير) وأنا ألاحظ اللقاء باستطلاع ومتعة، وألاحظ أكثر شعور هذه العجوز الطيبة وهى تقوم بالمهمة بكفاءة وطيبة أم حانية، ثم كبش القطيع المدلل من كل النعاج بلا استثناء، والمسيطـِرٌ على الذكر الأضعف الناشىء: استعدادا لتولى المهمة بعد إحالة الأكبر إلى المعاش، ثم حمارنا الأزرق العجوز الذى يمنع أى حمار آخر، مهما بلغ شبابه أو جماله أو تناهت فتوته، يمنعه أن يعتّب الحظيرة طوال فترة "طلب" الأتان الركوبة الغندورة الخاصة بوالدى، ثم نشاط ثورنا "الطلوقة" مصدر رزق العلاّف الخاص، (و أتصور أنه ما أعظم الذكر حين يؤجر على مهمته ليقبض صاحبه)، وفى المدينة لم تغب عن بصرى متابعات أقل، مثل تلك المظاهرات خلف كلبة أضاءت اللون الأخضر، ولكن الريف شىء آخر فيا خيبة (أو سوء حظ) الذين يتعلمون الجنس من كتاب "مبادىء الأحياء " المقرر، أو من روايات الوالدين الكاذبة، والآن من الأطباق الفضائية المقززة، والشاذة.
الجنس الحيوانى الوحيد الذى أذكر أنى رفضته، حتى الجزع والخوف والقرف معا، كان ذلك المنظر الذى قلب بطنى وشاكَ وجدانى بين قط وقطة على سور نافذتنا فى مصر الجديدة، تيقظت من نومى تلك الليلة، على عواء باك كنحيب المتوجع الوحيد، فاكتشفتُ ما يجرى، ولم أجد فى ما أرى ما ألِفْتُ فى ريفنا النقى، فليس يبدو "على القط الذكر" أى زهو أو علو أو امتلاء، وليس يبدو "عليها" أى استمتاع أو استقبال أو استرخاء، بل قسوة وإغارة فى مقابل خنوع فى ضياع (هذا هو استقبالى آنذاك) فرفضتُ ولم أستطع أن أقرن ذلك بالحوار الجنسى الذى عايشتُه فى بلدنا.
أعود إلى موقعى فى الجوبلان، أتابع بلبلا ووليفته (بعد تحية اسمهان) ـ فأقول لنفسى: ليكن أصل الإنسان حمامة أو يمامة، ولكنه أصبح إنسانا، فلماذا العلانية؟ فيرد: ولماذا السرية، فأقول: اذا كان زوج الحمام يمارس نشاطه هكذا كجزء من طبيعة التمهيد والإعداد، فان ما أرى هنا لا يبدو أنه تمهيد أو إعداد لـشىء، بل هو ينتهى كما بدأ، ويا خيبة التقمص المجهَض، وأكاد لا أصدق: وأسكت،  لكن الشعر لا يسكت حيث خيل الى أنى رأيت فيما جرى هذا الصباح فى قهوة الجوبلان شيئاً جديدا غير الذى أدهشنى من قبل:
هو جالس يحتسى قهوته مع "أهـلـّـة" الخبز الخاص "الكرواسون" فتدخل هى عليه.
"هى" سريعة الخطى حمراء الحضور،
 التفتتْ. وتلاثما، جلستْ.. فتحسَّسَا، شاركتْ.. فتهامسا، ابتعدتْ. فتمايلا... الخ، وأنا أفرح بهما وأشفق "علينا"، و أفهم القليل، وأرفض القليل، وأؤجل الكثير، وتزداد وحدتى بمعنى خاص أعرفه.
 هذه المنطقة أحوم حولها من قديم، لا أعرف تفاصيل لغتها، ولا دورة حياتها، ولا تداعيات مسارها، لذلك أظل ألف بلا انقطاع مع اللحن الصادح حول الكراسى. وحين يتوقف اللحن أو تحين الفرصة، لا أسرع بانتقاء كرسى مثل الآخرين، بل أقف مكانى بعيدا فى انتظار أن تدور الموسيقى ثانية لأعاود الـلف حول الدائرة دون أن أدخلها أبدا، وقد رضيت بهذا الدور من باب الوعى بما هو أنا، فى حدود ما أعرف، وكانت هذه الدرجة من الوعى لا تمنعنى من المشاركة والحوار والتساؤل دون أن أغامر بأكثر من ذلك، فلا أنا المتفرج المتعالى، ولا أنا المنسحب الذى يصدر أحكامه على الآخرين من فرط عجزه، ولا أنا الأعمى المتغافل، أو لعلى بعض من كل هذا، لكنى مع كل هذا مشارك متسامح.
ثم إنى رحت أكتشف من بعد آخر أنه ربما يكون هذا التلامس، والتلاثم...الخ. ربما يكون تباعدا أخطر، ذلك أنى أتعجب كيف أن الشائع عن هؤلاء البشر الأكثر تحضرا (!!!) أنهم أكثرحرية، فيبدو لى أن حرية الترك هى شرط حرية الإقدام، بل إننى أتصور أن مسئولية الحرية هى أكبر من تحمّلهم، تحملنا، اكتشفت ذلك وأنا أتساءل لم أنهيت قصيدة الجبلان بهذا البيت "أفرِج عن الضحايا تنتحر" . أضبط نفسى حاكما على ما يجرى من بُــعد آخر حين استقبل ما يجرى وكأنه "طقوس نظام"، وليس "مسئولية حوار"، وأن هؤلاء الناس هم ضحايا هذا النظام بشكل ما، وحين ضحكوا عليهم بهذا القدر من الحرية المشبوهة دار كل منهم حول نفسه لا أكثر، فما أضيق المساحة، يلتقى الواحد منهم بصاحب أو صاحبة، دون أن يلتقى ثم ينصرف دون أن يمتلىء وعيه بحضورٍ جديد، قلت وكأنى أكمل القصيدة الأولى . الإثارة واحدة ، والعجب يزداد، لكن الحكم أصبح أشد قسوة:
 ـ 1 ـ
تميل فى دلال، أو غباءٍ، أو عبثْ
(كأنّهاً تصدّقً)
يلثمُها،
تقضم رأس الجُـمـلهْ
يبدو كمن فَهِم:
يحتدمْ
يُخلخِلُ الهواءَ،
تضطرمْ
تنداح من بؤرتها الدوائرْ
يكثّف اللهبْ
 ـ 2 ـ
يزقزق العصفورُ يحتضرْ
الوحدة العنيدةْ،
الجوع والحرمان والشَّبَقْ
تـُؤَجَّل القضيهْ
تُـوَزع الغنائم
اللعبةُ الكراسى
 ـ 3 ـ
تفور رغوة الكؤوس والرؤوسِ والرُّؤىَ
تهدهدُ الكلابَ والشجرْ
 ـ 4 ـ
تَحَدّدَ الميقاتُ والمحلَّفون والشهودْ
َتَملْمَلَ القَفَصْ
 ـ 5 ـ
أفرِجْ عن الضّحَاَياَ..،
 تنتحر ْ.
أهكذا؟ بعد كل ادعاء التسامح والفهم، يعرّينى شِعرى الخائب ، فيضعنى فى موقف حكم فوقى، فأشك فى ادعائى القبول بالاختلاف، 
الأرجح  أننى مخطىء فى الحالين.
الخميس 6 سبتمبر 1984 (ما زلنا)
التقينا حول الظهر فى ميدان الأوبرا بعد الاطمئنان على حجز العودة بالطائرة من جنيف للأولاد (هكذا قرروا)، جلسنا على رصيف قهوة السلام "Le Pais" التاريخية بروادها من الساسة المصريين خاصة، والشمس قد تسلطت على صلعتى فحركت ذكريات المشى من المونمارتر حيث كنت أسكن، إلى جنوب باريس حيث أعمل، أو أدرس، مارا بميدان الأوبرا (أين أوبرانا القديمة فى مصر؟) وثمة محل على الناصية المقابلة يبيع المجوهرات المزيفة التى تحتاج إلى خبير ومجهر لكشف تزييفها (فلماذا الأصلية؟) وكنت قد حضرت إليهم متأخرا قليلا بعد أن استغرقتنى قهوة جوبلان حيث هاج بى الشعر دون إستئذان، فأجد مصطفى ممسكا بنسختين من صورة لهم فى جلستهم وقد اكفهر تماما حيث خدعه أحدهم، أو هو قد خـُدع له، حين فهم منه أن ثمن الصورة فرنكان وثمانين سنتيما deux quatre vint (وفى الفرنسية لا ينطقون حرف العطف"و") فوافق ابنى فرحا باعتبار أنها أرخص حتى من التصوير العادى  (فرنكان وثمانون سنتميا)، وبعد التصوير يكتشف أن الصورة الواحدة بأربعين فرنكا، وأن البائع كان يقصد أن "الاثنين بثمانين" أى أنه توجد سكتة بين لفظى اثنين، وثمانيين!! ويدفع ابنى النقود وهو يغلى ويلعن حروف الجر والعطف وعدم ظهور "الفاصلة" فى الكلام، وكان هذا بداية يوم المقالب والنصب الخوجاتى:
ذلك أنى حين تركتهم لساعة وبضع ساعة حسب ميعاد سابق مع د. حلمى شاهين وهو ينزل فى فندق قريب (سان جيمس) بشارع ريفولى، ذهبت وأنا مشغول بمهمة ثقيلة تتعلق بمستقبل مصطفى، مهمة لا أحبها، ولا أتحمس لها، وان كنت مضطرا للقيام بها بكل التزام التكيف وضد كل المقاومة الداخلية، فجعلت أكلّم نفسى وأنا أشوح بيدى كالعادة حين يحتد ما يشغلنى "ضدى"، ويبدو أن منظرى هذا قد جذب انتباه أحدهم من ركاب العربات الفخمة (كانتB.M.W على ما أذكر ـ تحمل أرقاما أجنبية)، وحين توقفتُ فى الاشارة اقترب منى راكب العربة ـ وهو بالداخل لم ينزل ـ وقال لى بلهجة ليست باريسية ولا فرنسية أنه: يا مسيو، ولم أتصور أنه ينادى علىّ، ثم حسبت أنه يسألنى عن عنوان ما، لكنه جعل يحكى ".. أنا رجل من إيطاليا وقد نفذت نقودى وأريد أن أرجع بلدى، وقد كنت قد أحضرت بعض الأغراض لصديق لى ها هنا، لكنى لم أجده، ويبدو أنك غريب، وطيب، فقد تنفعك هذه الصناعات الإيطالية، المتواضعة الثمن، فقد أدخلتها بدون جمارك...الخ،  لم ألتقط كل ما قاله لكنى فهمت مجمل المُراد، وأنا بى ما بى، وقبل أن أرد معتذرا فتحت الإشارة فحمدت الله إذ اضطرت صاحب السيارة أن يمضى، ونسيت لتوى كل ما كان، لكن ما أن عبرت التقاطع ومضيت بضع خطوات حتى وجدته فى سيارته الفخمة ينتظرنى، وقد أوقف العربة وخذ عندك "يا مسيو... يا مسيو"، وقبل أن يعيد ما قال قررت ـ لست أدرى كيف ـ أن أسهل طريقة للتخلص منه هو أن أستجيب له تماما، وحالا، مع أنى لم أستبعد احتمال النصب، فأعطانى سترتين من الشمواه فى كيس أو ما شابه، فأعطيته ما أراد من فرنكات، فانصرف وجعلت أنظر للكيس المجهول المحتوى الذى أحمله فى يدى وأنا فى طريقى لمقابلة د. حلمى شاهين وتمنيت أن ألقى به بعيدا، وقبل أن أفعل، لاحظت أن العربة قد توقفت من جديد، يا نهاراً لـن يمر، و "يا مسيو يا مسيو.." وقبل أن ألقى فى وجهه كل شىء، أو أشتمه بالعربى كما ينبغى، بادرنى: أنت رجل طيب من مصر، وأنا أحب مصر، خذ هذه أيضا هدية بدون مقابل، وناولنى سترة ثالثة من نفس النوع!! فتأكدت أولا أنه نصاب، ثم رجحت أن النصبة طلعت واسعة حبتين حين استجبتُ فدفعت كل الثمن الذى طلبه فورا دون مساومة، ثم تعجبت أنه أشفق علىّ لدرجة أنه عاد يصلح بعض ما اقترف، فأهدانى السترة الثالثة، حتى يبارك الله له فى سرقته، وحين وصلت إلى هذا الاستنتاج ابتسمت بالرغم منى، هذا نصّاب طيب فعلا.
وتذكرت ما سمعته عن قريب لى كان "يقتل" بالأجر، وحين جاءته امرأة فقيرة، ليس لها رجال، لتستأجره فى مهمة اضطرارية، ترفق بحالها وأقسم بالطلاق أن يقوم لها بالمهمة "جدعنه" وأن يقتل خصمها لوجه الله (!!).
أديتُ مهمتى الثقيلة فى الفندق الفخم مع الأستاذ الدكتور حلمى شاهين واعتذرت عن زوجتى بحجة اختلقتها، اعتذرت عن دعوة من زوجته الفاضلة لزوجتى الكامنة، على غداء أو عشاء، فزوجتى لا تحب هذا المجتمع، ولم تُحضر الملابس التى...، وهى لا تتقن لغة أخرى، فلماذا؟ ولم أستطع أن أعتذر عن نفسى أنا أيضا لأن الوليمة كان سيحضرها شخص قد يساعدنى فى مهمتى الثقيلة الخاصة بابنى، ثم إنها دعوة لغداء عمل يتعلق بالتعاون الطبى المصرى فيما يسمى بـ "السِّديم" وانتهى اللقاء بالموافقة.
قفلت راجعا الى زملاء الرحلة الجالسين على مقهى السلام فى ميدان الأوبرا، وأنا أحاول أن أدارى خجلى، لكنهم يتبينون ما أحمل، فأحكى لهم بإيجاز شديد وأريهم محتوى الكيس: ثلاث سترات من نفس النوع، بنفس المقاس، وبعد فترة كتمان ينفجرون ضاحكين، فتأكدتُ مما جرى، والألعن ـ أو الأرحم ـ أن المقاس لم يكن مقاسى أصلا، وشربتُها بأكملها..، بسيطة؟ ويحكى لى مصطفى ما غرم فى حكاية التصوير، فأضحك بدورى، واحدة بواحدة.
انصرفنا معا حتى أبواب مبانى محلات اللافييت المتعددة المتجاورة على الجانب الآخر من ميدان الأوبرا، وتفرقنا على أن نلتقى، فاتجهت الى قسم ملابس الرياضة، حيث أنى طالع فى المقدر جديدا، لكنى أكتشف أنها أغلى بكثير من الملابس العادية، إذ يبدو ان "بدعة الجرى" الحديثة، والنشاط البدنى الهوائى Aerobics، قد أصبحت من مميزات الطبقة القادرة (كادوا يحتكرون كل شىء يا عالم!! حتى الرياضة والصحة الجسمية!!) ولم أشتر شيئا طبعا، ثم تجمعنا على الناصية،  وبدأ فصل النصْب الثالث:
يتقدم شاب أنيق رشيق له رأس متناسق مستدير، ووجه أحمر فى صحة "خواجاتية" يكاد الدم يطفح منه، وله شعر أصفر ذهبى جدا!! خواجه ابن خواجه وأمه  خوجايه 001%، كلّمنا بلهجة إنجليزية سليمة، ليس بها أية لكنة فرنسية، وعرض علينا بعد أن عرّفنا أنه انجليزى ـ أن نصرف منه الدولارات بسعر أكبر (أظن ثلاثين أو أربعين فرنكا أعلى من السعر الرسمى، لكل مائة دولار)، شككنا فيه من باب الحيطة، قالت منى يحيى ابنتى: فلنحاول، ولنكتف بمائة دولار واحدة لا غير حتى اذا نصب علينا تكون الخسارة محتملة، ولم أفهم لمَ نقدم على المحاولة ما دمنا على هذه الحالة من الشك فى الرجل، علما بأن فرق السعر ليس كبيرا، ولكن ماذا تفعل فى النصاحة المصرية؟ قلنا نجرب ونفتح أعيننا جميعا:
ذهب صاحبنا وأحضر المبلغ ممسكا به فى يده يحاول أن يخفيه (قال يعنى) و قبل أن أناوله الورقة أم مائة دولار (لاحِظ درجة الحرص منى) ناوَلنى المبلغ وطلب منى بإلحاح أن أعده حتى أطمئن (منتهى الأمانة) فعددت واكتشفت (ويا للحذق!) أنه ناقص ثلاثين فرنكا، فتأسّف (جدا) وانطلق بخطى سريعة يُحضر بقية المبلغ، وأنا مازلت ممسكا بالمائة دولار، ثم عاد وأخذ يتلفت حولنا منبـّها أن نحذر أن يرانا البوليس، (يا ولد!!) هل فعلنا كل ذلك من أجل ثلاثين فرنكا فرقاً؟ لكنها المغامرة والشطارة. أخذ منى الأوراق ذات الفئات الكبيرة ليعد الأوراق جميعها معا، وراح يعد: واحد اثنين ثلاثة...ثمانية، وقال: تمام؟ قلت: تمام، فركنها واتجه الى الفكة (وهى التى كانت ناقصة) وعدها فلم تعد ناقصة بعد أن أحضر الثلاثين فرنكا (يا سلام على الدقة!!) وهنا اطمأن قلبى أننا أخيرا نجحنا ألا ينصب علينا أحد (اللهم إلا اذا كانت الأوراق مزورة) ـ فناولتُـه المائة دولار، فانصرف بخطى سريعة وأنا ممسك بالأوراق الصغيرة (العشرات) الأخيرة فرحا بدقتى وحرصى، ألم أكتشف نقص الثلاثين فرنكا وأُصر على إعادة العد؟ وكانت "منى يحيى" تراقب الجارى زيادة فى الحيطة والحذر، وإذا بها فى نفس ثانية انصرافه تسألنى بغته: أين الأوراق ذات الفئة الكبيرة (فئة المائة فرنك)؟ فدهشت للسؤال.. فهى معى بداهة، وجعلت أبحث فى جيوبى فلم أجد شيئا، وهنا ـ فقط ـ فقست اللعبة الذكية، فتلفتنا جميعا وكان صاحبنا ـ الخواجة الإنجليزى إبن الخوجاية ـ فص ملح وذاب، ونتبين أنه بعد أن عد الأوراق الكبيرة احتفظ بها فى يده، وأنا أظن أنها معى ثم أخفاها بمهارة خاصة موهِما إياى أنها معى جاذبا انتباهى أولا: إلى التأكد من إكمال الأوراق الصغيرة التى كانت ناقصة، وثانيا: ألهانى بالتركيز على تجنب احتمال مداهمة البوليس.
 ألا يستأهل هذا المحتال الرائع الإعجاب بالذمة؟،
لكن ابنتى لم تكن قد نسيت ضياع الألف دولار " فى "نيس"، ولم أكن بدورى قد نسيت نصب  الإيطالى الطيب بائع السترات الثلاث منذ ساعة.و ها هو النصاب الانجليزى الحاذق يكملها، أهى عصبة أمم للنصب والاحتيال يا بلاد الحضارة السعيدة؟ وهكذا استبدلنا بمائة دولار مائة فرنك كاملى العدد (يا حلاوة!!)، ماذا جرى لأهل الحضارة يا خلق هوه؟ أهذا هو الانجليزى الذى كنا نضرب به المثل "معاملة انجليزى"،.. "مواعيد إنجليزى".. فإذا به "نصب إنجليزى".. "خطف إنجليزى".
 وتكررت حكاية رفض ابنتى منى يحيى أخذ العَوَض (المائة دولار كانت من رصيدها هى) مع أنى المسئول، فتوصلنا الى حل وسط، ورجعنا مكسورى الخاطر من آثار تلاحق المقالب، نضحك مرة، ونخجل مرة، على أرضية من الغيظ فى كل حال.
بدا لنا أننا نستحق تعويضا ما، وقد كان، وعزمتهم على وجبة متواضعة فى المطعم الصينى الرخيص أسفل الفندق، نفترق بعدها لنلتقى فى المساء الى السينما.
مازلنا الخميس 6 سبتمبر 1984
للذهاب إلى السينما فى بلاد بره طعم خاص بالنسبة لمواطن عادى مثلى ليس سينمائّى الطبع، ولا هو مثقف التكوين. لم أنجح أبدا أن أكون مثقفا عاما، أو مثقفاً سينمائيا، حتى بعد أن استدرجنى بعض طلبتى وأصدقائى الأصغر إلى الاشتراك فى "نادى السينما" فى مصر فى منتصف السبعينات، فتمتعت مثلهم ببعض الأفلام الحرة، لكنى وجدت نفسى أتفرج على مجتمع "نادى السينما" أكثر من فرجتى على السينما، ورويدا رويدا أحسست أنى فى غير مكانى، ذلك أنى شعرت أن هذا المجتمع المثقف جدا، اليسارى كلاما، المتيقن استقرارا، الساخر دائما، هو مجتمع بديل بشكل أو بأخر، بديل عن حزب سياسى، أو بديل عن إنتاج مغامر، أو بديل عن خبرة مبدعة، وشعرت أن فيلما واحدا تبلغنى رسالته مثل "إبنة ريان" أو الفيلم الايرانى "الغريب والضباب" (وقد كتبت عنهما نقدافى السبعبنات نشرا فى الأهرام و"نشرة نادى السينما" على التوالى) هو ما أحتاجه بدلا من ملاحقة وعيى هكذا بما يحب مجتمع نادى السنما أن يتباهى بتكرار الحديث فيه أسبوعا بعد أسبوع ليثبت أنه يفهم أكثر من الناس الأى كلام.
أحيانا بعد فيلم جيّد، أعنى مخترِق، أو بعد آية من القرآن الكريم مشرقة، أحتاج أن أقفل مسام وعيى حتى أعيش هذا أو ذاك بحق كلٍّ، وأتعجّب لمن يفتح المصحف المرتل طول الليل والنهار مع أن كل آية هى قول ثقيل .
يا عبء من تُحمّله أمانتها، ويا خيبة من يحرم نفسه منها بتهميشها بغيرها.
فى السفر الوضع يختلف، وفى باريس أعتبِر أن السينما تكمل تعريتى.
ما زال فيلمَىْ "آخر تانجو فى باريس"، "وكل هذه الموسيقى الجاز" اللذان شاهدتهما منذ بضعة سنوات فى باريس يدوران معى.
 أذكر أن آخر تانجو فى باريس أزعجنى تماما، لا أعرف لماذا، أظن أن صيحة البطلة (لا أعرف اسمها) فى مارلون براندو بعد كل ما حدث، صيحتها فى آخر لقطة فى الفيلم وهى تقول له "ما اسمك (كان الفيلم مدبلجا بالفرنسية) هى التى ظلت تتردد أصداؤها حولى، لم يكن فيلما جنسيا بالمعنى الفج لكنه كان مزعجا، وأحسب أن هذا يعنى أنه جيّد، فى هذا الفيلم يظهر الجنس كجزء لا يتجزأ من واقع يصعب التربيط بين أجزائه إذا ما انفصمتَ عن مجراه العام،  ولو لحظة انتباه إلى تفصيلة واحدة، وصلتنى الرسالة كما لو كان الفيلم يريد أن يعـرّى مثل هذه العلاقة بشكل أو بآخر فى هذا النظام الغربى المغترب، وتصورت أنه يستحيل أن تتعرى مثل هذه العلاقة بهذه المباشرة بغير هذا الفن "هكذا: وإن كنت لم أستطع أن أخفى على نفسى امتعاضى حتى الغثيان أحياناً، لكنّه فن حقيقى. أثّر الفيلم فىّ ، حرّك عندى إشكالة الذاتوية ، وأوهام الحرية بشكل صارخ، حتى صحت :
بعتم للأطفال العزَّل وهم الحرية
وهمو سمكٌ قد ترك الماء بحسن النية
وتقلب فوق الرمل الساخن.
فاحت رائحة شواء
عبثت إصبع زانٍ فى أوتار العانة
وانغمس السيف الخشبى، داخل كهف الكلمة
فانطلقت حشرجة الأغنية الثكلى
"ليس بجوف الناس عصارةْ ،
أغلقت الخمارة.. "
لست أرى إلى أى المستويات أنا  - شخصيا - إلى أقرب، هجوم شعرى وقسوته (رغم تواضع قيمته)، أم  إلى ادعائى السماح والتعلم من الاختلاف ؟  ماذا أفعل؟
 الإبداع يقول، ويثير ويراجع، وكلما كان أكثر صراحةً وإزعاجا، كان أكثر اختراقا.
أتذكر فزِعا تلك البدعة الخطيرة الذى دخلت حياتنا الثقافية تحت عنوان "تجنب ما يخدش الحياء" لدرجة سمحنا معها بقص كل لفظ صريح أو موقف محدد فيه جنس إنسانى دال، تحت عنوان "ما يخدش الحياء"، وقد تجسد هذا التشويه مؤخرا فى قضية ألف ليلة التى انتهت والحمد لله لصالح الثقافة والحقيقة والفن والتراث، لكن القص والجبن ما زالا عاريان يلطخان وجه دواوين شعرية أصيلة مثل ديوان أبى نواس أو بشار بن برد أو عبد الحميد الديب، فاذا أضفنا إلى ذلك ألعاب الرقابة الأحدث، عرفنا أين نحن، وان كنا قد لا نعرف ـ بهذه الصورة ـ "إلى أين"، فالأرجح أننا نسير بظهورنا.
إن هذا النوع من: الأخلاق بالإغماض، والأخلاق بالحذف، والأخلاق بالادعاء، والأخلاق التى تستعمل من الظاهر، كلها تدل على ضعف المواجهة، وعتمة الوعى، والجبن أمام الحقيقة. أنا لست من أنصار الحرية المطلقة، كما أنى لست من مشجعى الإثارة العنيفة للتجارة بالغرائز، وإذا كنت قد أفهم ـ بصعوبة وفى حدود ـ دور الرقابة على الأفلام والتليفزيون مثلا، لأنها مادة مفروضة لجمهور مستسلم، فإنى لا أفهم معنى التدخل فى التراث الأصيل المنشور فى كتب بالحذف الجبان، فهل نحن أكثر أدبا وتدينا وحياء من المسلمين فى القرن الثالث الهجرى مثلا؟
 لابد أن أعترف أنه اذا كانت مواكبة ومشاهدة الجنس عند سائر مخلوقات الله قد سمحت لنموى الجنسى أن يتحرك فى رحاب الطبيعة، فإن قراءة التراث الجنسى كان يغذى خيالى بما ينبغى.
مازلت أذكر كيف حصلت على نسخة من كتاب "رجوع الشيخ إلى صباه" وأنا فى مرحلة الثقافة العامة (الرابعة الثانوى/ 15سنة) فرحت أنقله نسْخا باليد، وأفرض شروطى حتى على إخوتى الأكبر مقابل أن يستعيروه منى، ثم اختفى الكتاب المنسوخ بفعل فاعل،، لعله أبى، (دون أن يذكر حرفا لى، أو لإخوتى، إن كان هو) ورغم أنه كتاب موضوع أصلا للإثارة الجنسية، الا أن طريقة كتابته وصور المبالغة فيه أدت وظيفتها فى استكمال ما لم تتحه لى الطبيعة الحيوانية.
 رحنا نبحث عن فيلم مناسب، واكتشفت أن الأفلام التى هى ممنوعة لديهم، انما تمنع لمن هو أقل من 31 سنة، وتصورت أنهم قد يسمحون عندنا بالأفلام الصريحة والشجاعة بعد بلوغنا المائة، لضمان اننا حينذاك سنكتفى بالفرجة مثل أم جرير أو أم الفرزدق. كان ولداهما يتهاجيان بوصف أمٍّ كل منهما كيف حالها حين أصبحت عجوزا.
ما يزعجنى فى موقفنا هذا أكثر فأكثر، أن القهر والحجر والمنع يأتى من الأصغر، فى حين أن السماح يصدر ممن هو أكبر، وكان المتصور أن يكون الجارى هو العكس، وهذا لا يعنى كما يدعى البعض أن الأصغر منا قد أصبح أكثر تدينا والتزاما، وانما قد يعنى أن الأصغر صار أكثر خوفا وعماء، وأن الأكبر مازال أكثر مرونه وموضوعية، وهذه ظاهرة منذرة، لأنها تشير الى أن الشباب قد أصبح شيوخا، فاضطر الشيوخ أن يحافظوا على شباب الأمة بمزيد من المرونة والحركة والسماح فى مواجهة هؤلاء الخائفين المتجمدين وراء كذبهم على أنفسهم.
 أتصور أن المسئول أساسا عن ضيق الأفق وعتمة الوعى وعلو الصوت الأجوف هو الحكم الشمولى بوجهيه الناصرى والساداتى، وأنه لا بديل لاستعادة شباب الأمة فكرا ومواجهة وإبداعا إلا بالحوار الحقيقى وإنهاء كل ما هو جيش، أو تهديد بجيش، سواء كان جيش يوليو أم جيش أكتوبر أم الجيش الأحمر أم جيش الخلاص الدينى الاغترابى أم الجيش دون جيش.
 وندخل فيلم أكاديمية البوليس، ونضحك بما يفرّج عنا آثار مقالب النصب. أحب أن يكون التافه  تافها جدا، إسماعيل يس فى الجيش/ فى البحرية. ما أعظم تفاهة ذلك.
وفى طريق عودتنا نتواعد أن يكون باكر (الأحد) هو يوم حر تماما، ثم بعد ذلك نتفق، فقد كنت محتاجا إلى بعض الانفراد بنفسى لأتنفس ببطء، وأرى...
(استطراد أثناء الكتابة. القاهرة فى: الخميس 13/2/1986)
مرت على ابنتى صباحا بعد أن كنت قد ألغيت سفرا مصلحيا إلى بلدتى الأصلية فى ريفنا الذى لم يعد ريفاً، ألغيت سفرى هذا محتجا على نفسى رافضا أن أُستدرَجَ حتى فى أىام العطَل، فأستعملُنى "هكذا"طول الوقت لصالح من لم يعودوا فى حاجة إلىّ.
قالت ابنتى هذه ـ تستأذننى ـ أنها ذاهبة إلى بور سعيد، فقرفت كالعادة، فأنا أكره هذه الرحلة البورسعيدية مهما حسبوا اقتصادياتها، ودرسوا جدواها، وأنا لم أذهب إلى بورسعيد ـ كما ذكرتِ ـ منذ أربع وعشرين سنة (2691)، كنت أعمل طبيبا ممارسا فى شركة للبترول، وذهبت هناك لاقوم بكشف دورى أو ما شابه، وأذكر أنى لم أنشىء علاقة معها،أبدا،  ثم حدث الاحتلال فانقبضتُ، ثم الجلاء الجزئى، فرفضتُ، وقلت لا يضحكون علىّ أولاد الكلب هؤلاء فيوهمونى بالجلاء وهم على مرمى البصر، ثم جلوا عن سيناء كلها، فلم يعد لى حجة، لكنى لم أستطع الذهاب مع أسرتى أبدا، كنت أراها أراها ثقبا فى اقتصاد بلدى، يتمتع فيه بالإعفاء ذوو الحيثية والتصريحات الخاصة، وبالتهريب ذوو الذكاء والطرق الخاصة، قلت لا، لكنها "لا" خائبة لا تعود إلا على شخصى، أما بقية أسرتى ـ على الرغم من أنهم مازالوا ضمن مسئوليتى ـ فلم أستطع أن أتدخل فى حركتهم، فأصبحتُ رغما عنى مساهما فيما أكره.
المهم ان ابنتى ستسافر، وأنى سأوافق، ويتكررالمضض، والحمد لله على كل حال،
وبديهى أن أمها ـ على الأقل ـ ستسافر معها، فهذه هى هوايتها المفضلة، لكن ابنتى فاجأتنى أنها ستسافر وحدها، أو مع بنت طيبة تساعدنا فى أمر بيتنا، فتعجبت ولم أعلن رفضى صراحة لكنّها التقطته، فعرضتْ علىّ أن أسافر معها، وهى تعلم ردى فرحت ألتمس عذرا جديدا ثانويا، فادعيت ُ أنى موافق على اصطحابها لو أنها غيرت الرداء الذى ترتديه، وأنا واثق أنها لن تفعل، ولن تصدق، فأنا أعلم عناد أولادى جميعا. وإذا بى أجدها تعود إلى بعد خمس دقائق وقد فعلتها، غيرت الرداء كما طلبتٌ، فوقعتُ فى الفخ، ولم أملك التراجع، ورطني حذق مناورتى.
وهكذا وجدت نفسى، ـ فى بور سعيد بعد ربع قرن من المقاطعة،  وذلك بسبب زلة لسان خرجت منى لست أدرى متى. كنت مشغولا وأنا أرد!!!!
دخلنا إلى بورسعيد بسهولة استغربتها، لم يكن واضحا عندى أن الخروج غير الدخول، وكنت أحسب أن ما أسمع من قصص هى تجرى على"الحدود" ذهابا وجيئة طول الوقت، وما أن سرنا بضعة أمتار داخل الحدود حتى انقبض قلبى وجعلت أسأل المارة ـ مداعبا ابنتى ـ عن الطريق إلى القاهرة، بدلا من سؤالى عن وسط البلد فى بورسعيد ـ فحذّرتنى إبنتى وكأنها تصدق رغبتى فى العودة الفورية من أن الخروج قد يستغرق ساعة أو أكثر حتى لو أثبتنا لهم أننا دخلنا من خمس دقائق، حتى لو استدرت فى نفس لحظة دخولى.
سألت عن مخبأ أختبىء فيه بعيدا عن السوق والتسويق حتى تنتهى ابنتى ورفيقتها من انتهاك حرمة اقتصادنا، فقالت لى أنها سمعت أنه يوجد على البحر ما هو "هلتون" قلت علىّ به فأى هلتون عندى يمثل لى مكانا مناسبا حيث تطيب لى القراءة والكتابة (وكنت قد أحضرت معى كالعادة خمسة كتب ورزمة ورق وسبعة أقلام!!!) ـ ولكنى قبل أن أنسحب قلت "أجاملها"، وأشترى شىئا، أى شىء، فدخلتُ معها محل أربطة عنق، وتشاجرت مع البائعة المحجبة فى نصف دقيقة، (دون سبب فى الأغلب) وانصرفت دون أن أشترى شيئا، ثم اشتريتُ حزاما قبيحا من على الرصيف، أخزى به عين السفرية (ولم يكن مقاسى، وكأن للأحزمة مقاسات ـ لم يكن ينقصه طبعا إلا ثقب إضافى) ومضيت على قدمى وحدى نحو الشاطىء أسأل عن هذا الهلتون الذى سمعتْ به ابنتى، وكأنى سائح كاره متورط، حتى وصلت، فاذا بهذا الهلتون ليس فندقا وانما سوقا تجارية تتربص بى شخصيا،، فتماديت فى السؤال حتى أشفقَ على شاب صغير وقال: تقصد هيلتون ايتاب، وقلت: نعم ـ أى شىء، وطبعا كنت أتصور أنه لا يوجد شىء اسمه هيلتون ايتاب، إما هيلتون وإما ايتاب.
فى مقهى الفندق (ايتاب) وجدتنى أجلس فى مكان شديد الجمال، وليس معى جنس مخلوق، إذ لابد ان جميع زوار بورسعيد فى حالة شراء مزمنة، فجلست محتميا بوحدتى وجمال المكان، وأخرجت أوراقى وكتبى وأقلامى، وقلت لهم ( لأوراقى، كتابى، أقلامى): يختارنى من يشاء منكم.
لم يكن قد مضى على وداع سعيد  سوى أسبوعين، واذا بالهدوء والجمال يُحضرانه ماثلا أمامى  يودع الحياة ببطء راسخ،  لم أفهم ما هى علاقة الموت بالجمال، ولم أستطع أن أتبين من الذى يعاند، الموت زاحفا أم الحياة تستغيث،  تحدثت قبلا عن علاقة الشعر بالسفر، لم أكن أعرف أن الشعر يعرض خدماته حين تفرض نفسها ما نسميها تناقضات، وهى ليست كذلك، لا يوجد تناقض بين الموت والحياة، بين الموت والجمال، كيف ؟ لا أعرف، لكننى لم أجد أى مبرر للاستغراب ناهيك عن الرفض.
السفر الذى يعرّى ويحاور يقارب أطراف ما نسميه تناقضا، يحرك دوائر الحياة نحو بعضها وهو يحرّك الناس نحو بعضهم البعض ليتعارفوا،
 يهيج الشعر دون استئذان، بغض النظر عن مستواه من مثلى، لم أكن أتصور أنه حتى هذا السفر إلى بور سعيد، كالمقبوض علىّ رهن  التحقيق،  يمكن أن يصاحبه هذا التحريك الخاص الذى يجمع الصور إلى بعضها يحاول أن يصنع منها لحنا ما.
كنت أحسب أنى خاصمت الشعر الى غير عودة، بعد أن أكدوا لى أنى طرقت بابه عن طريق الخطأ، وبغير داع، أنا لا أكتب شعرا. الأدوات تفرض نفسها كل فيما يخصصه، ليس لهذه الصور اسم آخر، المكاشفة!! ابتسم صديقى وهو يجز على أسنانه ليخفى عنى الألم، دمعتْ عيناى ، تذكرتُ نقده لرثائه ونحن فى مستشفى ماس جنرال فى بوسطن، لم أكن أقرأ عليه شعرى أبدا، لم يكن يحب إلا الشعر العمودى .بورسعيد، لم أزرها ثانية حتى الآن (أكتوبر 0002).أسميتها :"حتى إذا بلغت التراقى".
 ـ 1 ـ
وصاحبى.
يقولُها، يعيدُها، يصارعُ الألمْ.
بلهاء ترعى فى سرابِ الخلـدِ تُفرزُ العدمْ.
 ـ 2 ـ
وصاحبى
يلهثُ خلفَ الموتِ، قَبْل الموتِ، جاء الموتُ،
يسكبُ الحياَةَ قطرةً فقطرهْ،
فتطفحُ البثورُ فوقَ صفحة الكلامْ
أقلِّـب الديوان بَحْثاً عن قصيدةٍ مُهْترئهْ
وصاحبى: يروِّضُ الهواءَ،
ينتظمْ.
 ـ 3 ـ
مَرْحى انطلاَقةَ التَّحَررِ
مَرْحَى استدارةَ الزَمنْ
[العارُ ياسيدتى الكريمة،
العارُ ألاّ تختفى الأبدانُ.
 أجسادُنا تكبّل الإلهامَ،
تبررُ العفنْ ]
 ـ 4 ـ
يُجمّد الجليدُ ذرّاتِ المناوبهْ
لم يبقَ إلاّ ما تبقّى.
 
ياصاحبى:
لا تطفئ الشموعَ قَبْل الرَّجْفةَِ المسافَِرةْ.
-5-
الآن؟
ليس الآن،  حتّى الآن،
 قبل الآن،
يا نبضها:
 حقيقة الرَّانِ المكثَّفِ فوق قلب الخائبين العزَّلِ.
 ـ 6 ـ
يشهقُ فى رتابةْ.
سرٌ توارى فى لحَِاء الشْوكَةِ المزدهرهْ
يحنو عليها ـ تنطلقْ،
يزفِـرُهَا
يطلّ من ورائها الوعدُ الذى لمّآ يعِدْ.
تراقصَ الضياءُ فى  تسابق التتابعِ،
 تُسلِّمُ الَعلَمْ
-7-
..لا سَهْلَ إلا ما جعلتَ منه سهلاَ.
[ شيخٌ إذا ما لبس الدِّرْعَ حَرَنْ،
سهلٌ لمنْ سَاَهلَ، حزْنْ للحزِنْ]
 هل يا تـُـرى تَسَـلـَّمَ القيادةْ؟
هل يا تُرى قد أصبحا فى واحدٍ،
إن قال: كُـنْ، يكنْ؟
 ـ 8 ـ
دائرةٌ حائرةٌ،
تقولُ؟ لا تقولُ؟ تَعْتَِملْ
[لم أبدُ يوما، لاَ،  ولمّا أستَتِـرْ]
يا بيضةَ الحَجَرْ
لا تَفْقِسِى الكآبهْ
 ـ 9 ـ
يعاودُ الشهيقَ، والزفيرُ يرتقبْ
ليست كتابةٌ كما الحسابْ
فالقولُ: للأحلامِ، لِلْجُنُونِ، للسَّرابِ، للعبثْ.
القول: للعذراءِ، باحتْ؟ لم تَبُحْ.
لا، ليس سرّا أننا لمّا نكن أبدا سوى ما لم نكُـنْهُ.
-10-
ماءٌ تَزَمْزَمَ، يقصفُ القَلمْ:
لبّيكَ، مرسِل اللواقحْ،
لبّيكَ، ينزلُ المطرْ،
لبّيكَ، وعىُ الناسِ يزدهرْ
 لبّيكَ، ريحُك الذرات والتخلّق الضفيرهْ
لبّيكَ، عادتْ نحو عُشِّهاَ اليمامهْ،
لبّيكَ، أفلتَتْ من قبضةِ العَدَمْ.
 ـ 11 ـ
إيقاعها انتظمْ.
الحمدُ للَّذهاب للمجيِء للدوائرِ النغمْ
تَسَّّـاقطُ المشاعلْ
تحشرجَتْ فى سَـمّ خيطٍ أفرزتهُ دورة المشانقِ
يشحذُ سنَّ شوكةِ المحاوَلهْ
خيّبتُ ظنّ الموتِ،
لم أستترْ
 لم أمْحُ نبَْضَ الحُلَمِ.
سارعتُ أنفخُ المقولةَ القديمةْ،
دارتْ تئنُّ
ترَّددَ الصَّدَى.
 ـ 12 ـ
هذا، ولمّا كان يوُمُها بلا غدِ،
وريحُها بلا اتجّاَهْ،
مزّقتُ ثوبَ الشِّعْرِ،
 تراجعتْ قصيدةٌ وليدةٌ، وأسبلتْ جفونَها
 فى وَعْدِها القتيلْ
 ـ 13ـ
 فى كلِّ وِجهةٍ نبى.
أجاءها المخاض عند جذع نخلة.
يعاِودُ الشهيقُ، يُشهد الزهورَ والحقبْ:
{"ما مضّنِى سوى الزَّفير ينتحبْ،
ما هدَّ ظهرى غيرُ طوْطَم الَبكَمْ.}
 ـ 14 ـ
غَافَلَنَا َ بلا ودَاعْ
أَرْخَى سُدُولَـهَا.
نظر إلىّ سعيدٌ معاتبا، لكنّه لم يتخل عن ابتسامته، على الرغم من هجمة الألم. لم أعرف ماذا اقترفتُ  حتى يعاتبنى، لكننى تأكدت من أن عنده حق، أهْمَلَ القصيدة تماما. لم يطلب منى أن أقرأها عليه مثلما فعل فى بوسطن حين رثيته حيا. هل مات؟  أنا أيضا لم أجرؤ أن أقرأها بعد أن انتهيتُ منها، لم أعُدْ لها إلا الآن (أكتوبر 0002).
ألتفت حولى فاذا بالمكان نصف ممتلىء فقد قاربت الساعة الثانية، ألمح على مائدة بعيدة، يسمح لى وضعها أن أرى متحلقيها دون أن يرونى، ألمح زملاء بالكلية ورؤساء بالجامعة من كبار القوم جاؤوا يتناولون غداء ويتبادلون كلاما، فأجدنى رافضا تماما، رافضا ماذا؟ لم أحدد.
أنقل بصرى بينهم وبين القصيدة. أقيس المسافة فأجد أنه يستحيل...، يستحيل، يستحيل ماذا؟ يستحيل والسلام.
أنظر للقصيدة وأقول لها: اخترتِ وقت وموقع ولادتك قبل أن يحضروا، وإلا فما كان لك  أن ترى النور أبدا. بحثت عن ابتسامة سعيد، لم أجدها، لم أجده. هل مات؟
 قبل انصرافهم، يلمحنى أقرب واحد منهم، شخص مهم جدا،(ش.م.ج.) شمجىُّ ، يأتى للسلام، و يصمم أن يواعدنى لأغادر معهم المدينة ليمررونى من الجمرك دون رسوم. رسوم ؟ رسوم ماذا؟ هل يأخذون رسوما على كتابة الشعر؟
تلكزنى القصيدة فى وعيى.
تدور أمامى دائرة قبيحة بين التهرب من الضرائب، والشطارة فى الجمارك، ثم إعلانات بأسمائهم فى قوائم تسديد ديون مصر..!!! وقوائم بترشيحات الحزب الوطنى.
أتعجب كيف يكون الموت بكل هذا الحضور، وكيف نتبادل المواعظ فى المآتم، لكننا نبدأ النسيان ونحن نقبـّـل بعضنا البعض مع انصرافنا من السرادق، أو قبل ذلك بقليل.
تحضر ابنتى محملة بأقل القليل، ربما خوفا منى، ونمر من الجمرك فيما يقل عن نصف ساعة فتفرح ابنتى بسلامتها حيث كانت تتصور أننا لو تأخرنا أكثر فقد أقتلها  ـ جاءت سليمة.
أشعر ان السفر هو السفر، وأسأل نفسى:
إذن لمَ لا أكمل هذه الترحالات بالحديث عن تجوالى فى ربوع بلدنا ؟
فهمت أدونيس وهو يقول فى رحيل صلاح عبد الصبور:
"الموت ! ذلك الشعر الآخر !!
أردد مكملا :
"ذلك الترحال الآخر".
هل الشعر إلا ترحال؟
 
Document Code PB.0115
http://www.arabpsynet.com/Books/Yahia.B1.2  

ترميز المستند   PB.0115

 

Copyright ©2003  WebPsySoft ArabCompany, www.arabpsynet.com  (All Rights Reserved)