Arabpsynet

Livres  / كتــب /  Books

شبكة العلوم النفسية العربية

 

الأعمــال المتكاملــة

ترحالات يحيى الرخاوي

الترحال الثالث /  ذكر ما لا ينقال

أ.د. يحيى الرخاوي

الناشر : مطبعة المدينة - 2000

E.mail : yehia_rakhawy@hotmail.com

 

q       فهــرس الموضوعــات /  CONTENTS / SOMMAIRE 

 

§         مقدمة : (النص الكامل - Full Text)

§         الفصل الأول: من يحكي ماذا؟ : (النص الكامل - Full Text)

§         الفصل الثاني: الجوع (النص الكامل - Full Text)

§         الفصل الثالث: أمي (النص الكامل - Full Text)

§        الفصل الرابع: وهل المرآة (النص الكامل - Full Text)

§         الفصل الخامس: ... بعض ما تبقى مما لاينقال (النص الكامل - Full Text)

§         الفصل السادس: ملامح من ترحال رابع (النص الكامل - Full Text)

§         الفصل السابع: هل انتهيت يا سيدي؟ (النص الكامل - Full Text)

 

q       تقديــم الكتــاب / PREFACE

 

   مدخـــل : لما اختفى الفصل الرابع، من الترحال الثاني، أتيحت لي الفرصة أن أقلب في أوراقي بحثا عنه. ومن بين ما عثرت عليه مما نشر وما لم ينشر: ما هو سيرة ذاتية أصدق وأقرب من كل ما جاء في الترحالين الأول والثاني.

     تأكدت أن السيرة الذاتية لا تكتب بوعي كامل.

     سألت نفسي هل حقا أنا أريد أن أكاشف الناس بما هو "أنا"، أو على الأقل بما أعتقد أنه "أنا" ؟ وبدلا من أن أجيب، تساءلت: لماذا؟

     أكدت دائما، ومكررا، أن كتابة السيرة الذاتية هي أبعد من المتناول، ولعل غاية ما يمكن أن يتحقق، مهما بلغ صدق النية وجهاد المحاولة، هو البوح بما تيسر.

     إذا كان في المكاشفة- بالقدر الممكن- ما يفيد، فإنه يجدر بمن يخاطر بها أن يكتشف نفسه وهو يكاشف الناس، وهكذا اكتشفت أنه لا يمكن استبعاد ما هو "ذاتي" من كل محاولاتي دون استثناء: من أول اللمحات التي يمكن أن تسمى شعرا حتى ما قدمت من فروض ونظريات علمية. يندرج هذا كله أو معظمه تحت لافتة منهج واحد هو المنهج الفنومينولجي.

     إن أغلب ما نشر في كل من الترحال الأول والثاني هو مجرد إشارات موحية عن الكاتب، مع أنني حاولت التعري ما أمكنني أثناء الكتابة الأولى ثم أثناء المراجعة.

     ما دمت قد غامرت بمثل ذلك فلتكتمل المغامرة بأن أتجول بين ما عثرت عليه من أوراق، أنتقى منها ما هو أقرب إلى إكمال الصورة التي أتصور أن حضورها في متناول الآخرين يمكن أن يكون حافزا لما قصد إليه هذا العمل من حيث المبدأ.

     ما دمت قد قبلت مخاطر المحاولة. فتكن كذلك.

     ويظل الأهم والأصدق في غير المتناول. حتى لكاتبه.

     بالرغم من أنه "لا أحد يستطيع أن يكتب سيرته الذاتية"، فإنه يمكن القول أيضا أنه " لا أحد يكتب مبدعا- إلا سيرته الذاتية، بغض النظر عن مجال ولغة إبداعه، هكذا كان الحال مع فرويد، ويونج، وعبد الرحمن بدوي، وعباس العقاد، ونجيب محفوظ، ويوسف إدريس، وحتى نيوتن و أينشتاين والجميع. (استشهاد مع الفارق).

 

تقديــــــم :

عجزتْ أداة واحدة أن تستوعب "القول الثقيل " الذى ألقى علىّ. حملتُهُ. من خلال الجدل الحى بين ذاتى ومرضاى ودنياىَ، فلجأتُ إلى كل ما أتيح لى من أنغام وأشكال.
لم أكتب إلا مسودات، لذلك كنت  أنوى أن يكون العنوان"الأعمال الناقصة" وخاصة أن ترجمة   Collected Worksأو  Collected Papers  هى "مجموعة أعمال" أو "مجموعة أوراق" فلان، الأمر الذى لا  ينبغى أن يسمى كذلك أو ينشر بهذا الاسم، إلا بعد أن يكف صاحبها عن العطاء، أو عن الحياة.
 ثم قبل ذلك وبعد ذلك: هل يكتمل شىء أبدا؟
وحين آن أوان الحسم، قررت أن تخرج كل المحاولات كما وصلتْ إليه، ولتكتمل بعدُ أو تتكامل مع غيرها. فكان هذا العنوان "الأعمال المتكاملة"  أملا فى أن يكون  جمّاع المحاولة هو "توجُّهٌ ضام،  حولَ محورٍ ما".
 
*(رَحَل) عن المكان ـ رحلاً ، ورحِيلاً، وتَرْحالا،  ورِحلةً: سار ومضى.
وفى الحديث: "لتكُـفَّنَّ عن شتمه أو لأَرْحَلَنّك بسيفى".
)رَحّلـَةُ): جعله يرحل.
وفى الحديث: "عند اقتراب الساعة تخرج نارٌ من قمـر عـَدنَ تُرحِّل الناس".
)ارْتـَحـَلَ): رَحَلَ. وارتحل البعيرَ: جعل عليه الرَّحـْلَ. و ـ ركبه.
و ـ وارتحل فلانٌ فلاناً: علا ظهره .
وفى الحديث "أن النبى (ص) سجد فركبه الحـَسـَنُ فأبطأ فى سجوده، فلما فرغ سئل عنه فقال: إن ابنى ارتحلنى فكرهت أن أعْجِلَه".
)الراحلة): من الإبل: الصالح للأسفار والأحمال.
وفى الحديث : "تجدون الناس بعدى كإبل مائةٍ ليس فيها راحلة".
... ويقال: مشت رواحله: شابَ وضعُف.
)الرُّحـْلة): ما يرتحل إليه، يقال: الكعبة رُحْلة المسلمين، وأنتم رُحْلتى.
)الرَّحـُول): كثير الارتحال.
)الرَّحـِيل): الارتحال. و الرحيل القوىٌّ على الارتحال والسير.
)الَمرْحـَلـَة): المسافة يقطعها السائر.... بين المنزلين.
)المعجم الوسيط(
"...، رحلة الشتاء والصيف، فليعبدوا رب هذا البيت ،
الذى أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف" .                  قرآن كريم.
 
وفى الاستعمال المصرى:
  "آصبر على جارك السوّ يا يرحل  ياتجيله مصيبة تاخده".
والترحيلة: هى تشغيل مجموعة من الفلاحين بعيدا عن بلدتهم الأصلية
           بأجور زهيدة، وبلا مأوى مستقل فى العادة.
وعمال التراحيل: فئة من الفلاحين اعتادوا العمل أساسا فى الترحيلة.
و" الحاجة اترحّلت من مكانها"، أى انتقلت إلى موضع آخر، حسن أو سىء.

 

      q      الفصل الأول: من يحكي ماذا؟
 
رموزَهُ ورسومَهُ وعلامةُ الفهم الذى خنق الرُّؤى، وإشارة المتعجّبِ،
والفاصلةْ، ومسافةٌ ضِعْفُ التى لم تُستَتِر...، وتركتُ خلفى عدَّ ما
اكتملتْ به أطرافُ ذيل الدائرةْ. وسعيتُ أسبَحُ فى الشفقْ،
وتلوتُ خاتمـة َالكتاب بلا كتَابْ، فما أَفَاق من السباتِ اللاينامُ،
ولا استبان المُلتقَى، وتَتَعْتعَ الصمتُ الذى أَوْدى بِنَا خلف الركام
بلا أوان، فأردُّ ـ أيضا ـ صامتا : لكنّه الشعر الذى لمّا يُقَل.
ركنٌى الأعلى فوق القاهرة (المقطم)
 9  يوليو سنة 2000
 
منذ قليل، هاتفنى ابنى الأصغر، مصطفى، يسألنى إن كان الأوان قد آن لأذهب معه إلى ماليزيا وأندونيسيا. منذ ما يقرب من عامين بعد عودته من رحلة زواجه (لا أحب تعبير شهر العسل) وهو يحاول أن يقنعنى أن أذهب لأرى ما لا يمكن حكيه. أنا فى شوق شديد إلى الرحيل شرقا. حين كلّمنى المرحوم أبو شادى الروبى عن رحلته إلى الهند ثم الشرق الأقصى، كان ذلك منذ أكثر من عشر سنوات، قررت أننى لن أعرف العالم ونفسى إلا إذا تعرّضت لهذه المنطقة، تعريت فيها، انكشفتُ أمامها.
كانت باحثة يابانية فى الأنثروبولوجيا قد مرّت علىّ منذ أيام تستفسر منى عن بعض المعلومات عن الطب النفسى، وعجبت أن المشرف على رسالتها قد أوصاها بقراءة الجزءالأول من روايتى المشى على الصراط -الواقعة، أخذت تنحنى وتشكر وتعتذر، وتنحنى وتشكر وتعتذر،  (لست أدرى لماذ، أوعن ماذا)، فذكّرتنى بكتاب هام لم أكمل قراءته لكنّه هام، ألّفه واحد يابانى لا أذكر اسمه، الكتاب اسمه "تشريح الاعتمادية"، وهو يدافع عن حق الشرق فى التميز بما يتميّز به من نظم وعلاقات لا يعرفها الغرب.
أنا مشتاق فعلا لهذا السفر. وأيضا أريد أن أزور أفريقيا السوداء  وأمريكا الجنوبية، وليس استراليا. عاشرت أمريكا الجنوبية فى ذلك العام إياه (68 / 69) فى باريس. كان ممثلوها من بيرو و البرازيل والأرجنين وغير ذلك من بين زملاء المنح التى تمنحها فرنسا للعالم الثالث. كنت أشعر بحرارتهم، وحيويتهم، وطلاقتهم، كأنى نزلت عندهم وزرتهم فعلا. سرعان ما كنت أتراجع وأنا أذكّر نفسى ما علّمتنى إياه أسفارى من أن الناس ليسوا هم بلادهم، لا يعرف مصر من التقى بى فى باريس، الأرض لها لغة أخرى، حتى لو كانت روح أسبانيا والعرب تطل من مواطنى الأرجنتين أو البرازيل أو بيرو أوكوبا أو كولوميبا، حتى لو كانت نفس العجيزات الجسيمات -فى جمال- تترجرجن تحت الجونلات فى ألكالا (بالقرب من مدريد)، أو سوق السلاح أو ريو دى جانيرو، فإنه لا يمكن التعرف على الناس إلا وهم ممتزجون برائحة أرضهم وعبق أشجارهم وهمس موجهم الخاص.
 يبدو أن دعوة ابنى قد جاءت متأخرة قليلا، بل كثيرا.
لا أشعر بأى رغبة للمزيد، ليس لأنى لم أعد فى حاجة إلى الاستكشاف أو لأنى لم أعد قادرا على الدهشة، ولكن لأنى ملئ بما أحتاج لتنظيمه وإعادة معايشته واستيعاب ما لم أستوعبه منه، مثلما أفعل الآن.
 لا يا مصطفى، ليس الآن، وربما ليس أبدا، لكننى فرِح أنك تفعـلها نيابة عنى.
لا أحد يستطيع أن يرى كل شىء،
ولا أحد يستطيع أن يستوعب كل ما يرى،
ولا أحد يستطيع أن يستفيد من كل ما استوعب،
ناهيك عن حكْـيه والإفادة منه.
شكرا يا مصطفى والبركة فيك، فيكم.
 تحدثت عن إبنى هذا فى الترحالين الأول والثانى، هو الذى صاحبنا فى الرحلة الأولى (4891) دون أخيه محمد الذى كان مجندا آنذاك، وهو الذى قهرتـُه فى سن الرابعة عشر ليعمل - معى أو بدونى - فى المزرعة جنبا إلى جنب بالفأس مع الفلاحين، وهو الذى حمى نفسه منى بتديّـن تقليدى، أراحه وأطلق طيبته من ناحية، لكنّه غرّه وأراحه من السعى إلى إيمانه الأعمق من جهة أخرى. إبنى هذا هو الذى حَسِبْتُ أنه الأبعد عنى من أخيه محمد المفكر العنيد الدائم النقد، الفاهم أكثر لما أعيشه وأعايشه وأحاوله، هذا ما كنت أتصوره معظم الوقت. يبدو أن الأمر ليس كذلك.
قلت لمصطفى ردا على دعوته المتكررة الدالّة: إسأل أمك أولا، واطمئن على صحّتها، ثم نرى.
كنت أتهرب منه طبعا.
أنا أتعرّف على عواطف أولادى ليس من حبهم لى ولكن مما يحبون.
 أنا لا أودّع أولادى عند السفر ولا أستقبلهم فى المطار عند الرجوع، ولكن منذ شهور اضطُررت للذهاب لاستقبال مصطفى فى المطار وهو عائد من كوالالامبور. وجدته محمّلا بكل ما لا يهمنى، لكنه يهم أمه وإخوته فى الأغلب، وقد صرّح لهم أنه بما حمل قد استطاع أن يوفر ما يغطى مصاريف رحلته التى استدانها قبل سفره هو وزوجته الحامل. تجارة هى أم ماذا؟ لكننى فرحت بأنه أصبح يحب السفر بطريقته. هو الذى لا يغوى قيادة السيارات مثلى ومثل أخيه، ويفضل الاستقرار فى حجرته، والآن فى بيته الجميل يتأمله، ويسترخى فيه، وكذا وكذا مما لا أعرف، اعتقدتُ زمنا أنه نقيضى تماما، لكن إخوته وبعض زملائه وتلاميذى يقولون إن طبعه هو الأقرب لطبعى.
لا أصدّق.
ربما هم يقررون ذلك بالنسبة إلى حدّة تقلّبه، ووفرة طاقته، وغرابة نزواته، وسرعة تغيير رأيه، وشطح اندفاعاته المادية. إذا كانوا يعنون ذلك، فهو كذلك. هناك احتمال أن يكون هوالأبعد والأقرب فى نفس الوقت،
المهم أننى أعرف عنه أنه ليس رحّالة بالمعنى الذى أمارسه، ولا لـلهدف الذى أتصوره، ولا بالعائد الذى أرجع به. مثلا. حين نذهب إلى دهب، يلحقنا هو بالطائرة، ولا يبقى معنا طويلا، وغير ذلك كثير.
كيف يكرر هذا الشاب، بدخله المحدود، رحلة على هذه المسافة الشاسعة خلال عامين ثلاث مرات؟ الرحلة الثانية لنفس المكان - أندونيسيا وماليزيا- كانت منذ أقل من ستة أشهر. هل يستدين؟ هل المسألة تستأهل؟ وكيف السداد؟
هناك شىء ما  لا أعرفه. بل أشياء.
حين عودته من رحلته الثانية إلى الشرق الأقصى منذ أقل من ستة أشهر، قال لى بعد أن اضطررت لاستقباله فى المطار وحدى (وأنا لا أفعلها عادة، لا وحدى ولا مع آخرين) قال لى ونحن فى طريقنا من المطار إلى البيت، وهو نادرا ما يكلمنى أصلا، قال: لابد أن تذهب يا أبى أنت وأمى. لابد أن ترى مارأيتُ. هذا عالم آخر لا ينفع أن يُحكى عنه. لو أنك فعلت (ما زال يخاطبنى) فستقرُّنى. إنها أقرب ما تكون إلى حلم أىٍّ منا بالجنة التى أعدّها الله للمتقين. ضحكت وربّت عليه، فهو يعلم ـ فى الأغلب ـ أن علاقتى بربى قد تجاوزت مسألة الجنة التى لن أدخلها إلا بفضله تعالى ورحمته، والتى أتصورها بشكل آخر. فأردف: أنا أتصوّر أن الله سيعاقـب مَـن عنده نقود تسمح له برؤية هذا الجمال ثم يتكاسَل عن رؤيته. ضحكت أكثر وفرحت أوسع، واستدفأت أطيب، دون أن أربت عليه هذه المرة، فقد كنت أقرب. تنبهّت أنه التقط أنه لم ينفع فىّ الترغيب، فقلبها ترهيبا طريفا. تأكدت أيضا نوع  علاقته بالجمال، وبالطبيعة، وبمعنى شكر نعمة الله. أن تـُحدّث بنعمة ربّك هو أن تستعملها فى مكانها. من أهم فوائد النقود أن تسمح لك برؤية جمال الطبيعة التى خلقها الله هناك. هذا إذا كنت تدربت على أن تصاحبها هنا، وفى أى مكان.
هذا جانب جديد لم أكن أعرفه هكذا فىك يا مصطفى.
فهمت الآن، أفضل قليلا،  ما يعنيه أغلب من حولى بوجه الشبه بينى وبينه.
على الرغم من أنه يعمل - ربما متورطا حتى الآن- فى نفس تخصصى، وفى نفس معهدى، وفى نفس مستشفاى، إلا أنه أقل طلبتى استفادة منى وتَتَلْمُـذا علىّ.
هو لا يحضر الندوات الثقافية التى أنظمها، بل يكاد ينفر منها.وهو لا يشاركنى- يشاركنا - المناسبات الاجتماعية (حتى الأعياد) إلا بالقدر الاجتماعى الضاغط، وهو.. وهو.. وهو.
حين عاد يعرض دعوته من جديد لم يكن يعلم القرار الذى أبلغته لأمه بعد رحيل د.حلمى نمّر، وهو أن تعتبرنى رحلتُ معه، وبالتالى عليها أن تقرر إن كانت تريد أن تزورنى وأنامازلت فوق التراب أم لا. يبدو أنها لم تُـعِـدُّ بعد "قرَص"(منين) الرحمة. ولم تقرر أن تطلع علىّ أى خميس، أو لعلها تنتظر الأربعين. لكلِّ هذا وغيره أحلتُه عليها.
قلت لزوجتى منذ البداية: منذ أكثر من أربعين سنة(9591- كان زواجنا سنة0691) أنا لا أتزوج، أنا أصاحب من يعرف من أنا، ولتنظِّم هذه الصداقة أية ورقة أو قانون أو مجتمع أو شرع. أنا عندى ما أعمله، وأنا أحتاج لمن يراه (ما أفعله) ويرانى، ويكون بجانبى. الغريب أنها صدّقت ما لم أكن قد صدّقتُه أنا بالقدرالكافى على الرغم من أننى أنا الذى قلته بكل هذا الوضوح. صدّقتْه هى، لكنّها أبدا لم تمارسْ ما صدّقته إلا بعض الوقت. لست متأكدا إن كانت قد مارسته حتى فى هذه الأوقات المتقطعة اختيارا أم تورطا وتأجيلا. كانت أحيانا تنبهنى أننى أتزوج الناس لكننى لا أدع الناس يتزوجوننى، ولم أكن أدقق كثيرا فى قولها هذا رغم أننى كنت ألتقط منه مغزى عميقا، نفس المغزى الذى كنت ألتقطه حين تنبهنى إلى نفورى من المصريين فى الخارج، مع تكرارى الزعم بحب مصر طول الوقت. ثم إننى لاحظتُ فتور علاقتى بزوجتى عقب زواج أىٍّ من أولادنا الواحد تلو الآخر، وكأنى كنت أنتظر انتهاء المدّة المقررة التى كانت تفرضها المؤسسة الزواجية لـستر أولادى فاستقرارهم  واستقلالهم، وقد حدث.  تزوجوا جميعا وأنجب كل منهم ولدا وبنتا، إلا مصطفى رزقه الله بحـَسـَن مؤخرا. أحفادى هم أصدقائى  الجدد الآن،
هكذا سمحت لنفسي أن أرجع إلى قواعدى، فكان  ركنى هذا أعلى المقطم.
حين استقر بى الحال فيه، لم يعد السفر يلح علىّ لا إلى الداخل ولا إلى الخارج، ما الحكاية؟  لم أسافر فى صيف هذا العام إلا يوما ونصف يوم. لم ألعب  مع أحفادى على شاطئ مارينا. لم أعد أطيق مجتمع هذا الشاطئ، كنت قد تحججت فى العام الماضى بأن جارى (الشمجىّ V.I.E.) قفّل "برجولة" مخالفة للقانون دون إذنى. اتخذت من ذلك ذريعة ألا أذهب طول الصيف الماضى. لجأت إلى القانون واثقا بأنه سيخذلنى فلا أذهب حيث لا مكانى، رغم جماله الفائق. فإذا بإدارة مارينا تنفذ القانون ضد شكوكى التبريرية، فقامت بإزالة التعدى هذا العام. لم تعد عندى حجة.
قابع أنا حاليا، أو مرحليا، فى ركنى أعلى القاهرة حيث صدر قرار موتى الاختبارى (أو التجريبى) ليضعنى فى هذه اللحظة أمام مسئولية جمع ما يمثلنى مما أتصوّر أنه "أنا" ليصل لأصحابه بأى وسيلة، وكل وسيلة، قبل أن يحل القضاء غير الاختيارى فى وقت لا أحدده أنا.
ثم إنه حتى إخراج هذا العمل تمّ فى ظروف شخصية، لها دلالتها أيضا:
 ذلك أنه بعد أن تفضل صاحب مركز المحروسة الأستاذ فريد زهران بتشجيعى بمواصلة إصدار مجلة "الإنسان والتطور"، التى كان له فضل عودتها، وأيضا قام بتمويلها وتعهدها فى السنوات القليلة المنصرمة، امتد حماسه لكى ينشر لى-مشكورا -أعمالى المتكاملة. وفعلا، صدر منها أربعة أْعمال فى بضعة أشهر. لكن حدث بمحض الصدفة، ولظروف خارجة عن إرادته، أن صدرت هذه الكتب وفيها أخطاء تنظيمية جسيمة يبدو أنه ليس له ذنب مباشر فيها، مما جعلنى أعيد نشرها بمعرفتى شاكرا له فضله من قبل ومن بعد،. تواكب ذلك مع نقل مكتبتى القديمة والمخزونة إلى هذا الركن الجديد أعلى المقطم، فإذا بى أكتشف كمّا من الكتابة لم أكن أتصور أننى محتفظ به. وجدته ليس فقط على شرائح الحاسوب، وإنما أيضا فى أوراق قديمة، وكراسات عديدة. فواجهتُ السيرة الذاتية الحقيقية مكتوبة بتفصيل دقيق، أصدق وأشرف من كل هذا الذى أزعم البوح به (كما أشرت فى مقدمة هذا الترحال). بل إننى تذكرت ما ينبغى أن أذكره أصدق فيما يتعلق بسيرتى الذاتية (وخاصة سيرة فكرى). مثلا:
سنة 2791،  قابلت مصادفة فى القاهرة الدكتور فُــلَر تورى. كنت أعرف أنه صاحب فرض (أو نظرية) تقول إن مرض الفصام هو نتيجة للإصابة بفيروس فى مرحلة الطفولة الباكرة، وكذا وكيت، وكنت أيامها قد بدأ احترامى وفهمى لمرض الفصام بصفة خاصة يتزايدان، وكنت معجبا إعجابا شديدا بفرض "بوك" الذى يفسر الاستعداد الوراثى للفصام بحمل مورثات (جينات) ذات صفات فائقة تطوريا، وأن الفصام هو نتيجة مصادفات سيئة (تحدث بنسبة معينة) ينتج عنها انحراف مسار هذه الميزة التطورية إلى عكسها، وأيضا كنت فى مواجهة حادّة مع هذه المقولات شبه العلمية فى محاولة اختزال الفصام إلى زيادة كَمِّية فى هذه المادة الموصّلة فى الجهاز العصبى أو تلك.
حدّثتُ فولـر هذا(ما زلت أتذكر،  سنة 2791) عن اعتراضاتى وتحفظاتى ضد حكاية التفسير السلبى الفيروسى  لمرض الفصام، فهو من ناحية يؤكد حتمية سببية مسطحة، ومن ناحية أخرى يفرّغ لغة الفصام من أى معنى وأى غائية، فيحرمنا من حسن الانصات للغة أعراضه احتراما، ومن الاستفادة من فهمها لصالح العلاج فالشفاء، وربما لصالح التطور. لكنّه كان متحمسا الناحية الأخرى بشكل شكّكنى فى سبب تحمّسه.
 سألته عن كيف يصاب المريض بفيروس فى الطفولة قد لا تظهر آثاره إلا بعد عشرة أو عشرين سنة أو أكثر؟ ثم كيف يسبب هذا الفيروس الواحد كل هذه التنويعات المختلفة عن بعضها البعض.
 أجاب بأن فترة الحضانة تمتد من بضعة أشهر إلى عشرات السنين، وأنه ثبت أن الذين يولدون فى الشتاء يصابون أكثر بالفصام، لأن هذا الفيروس ينتشر مثل فيروس الانفلونزا فى الشتاء، وكلام من هذا.
أتذكر صلاح جاهين وهو يقول " الحزن ما بقالهوش جلال يا جدع، الحزن زى البرد زى الصداع"، فأكاد أقول للخواجة فولر: الفصام ما بقالهوش "معنى" يا جدع، الفصام زى السكرى زى الجديرى.
يزداد شكى فى حماس هذا العالم الذى يستعمل الإحصاء لإثبات ما لا يُـثبَـت، وقد  استطاع فولر (فيما بعد) أن تصبح نظريته هذه إحدى النظريات المعترف بها فى العالم وفى المراجع المرعية،
لاح لى احتمال غامض  قد يفسّر حماسه أكثر مما يفسر نظريته.
سألته مباشرة عن تفسيره لنسب تواتر الفصام فى نفس العائلة، أى عن العامل الوراثى فى هذا المرض وعلاقته بنظريته.
 أجاب: لأنهم يعيشون فى نفس البيئة فهم معرّضون لنفس الفيروس.
 أتمادى وأسأله عما إذا كان له قريب مصاب بهذا المرض، ويرد دون تردد أن شقيقته مصابة بالفصام منذ عشرين سنة، وأن الفيروس أصابها مبكرا(قالها هكذا ذون أن يتذكر أن ذلك مجرد فرض) ولهذا لم تُشْفَ، وربما لن تشفى.
ولا أقول له إننى توقعت ذلك.
 هذا الموقف وتفسيره من جانبى أوضحَ لى لاحقاً الموقف "العلمى" لزميل مصرى أخر عالم جدا، ومبدع أيضا فى فرعه، وهو ليس متخصصا فى الطب النفسى تحديدا، لكنّه يعمم حكاية الفيروس هذه على معظم (بل كل) الأمراض النفسية والعقلية، إذ يعزوها لإصابة جذع المخ إصابات مختلفة الحدة بما يشبه ذلك الفيروس المفُتْرَض. ذلك أننى أكتشف أن لزميلى الفاضل المبدع هذا شقيق فصامى مزمن.
أتعاطف مع هذا وذاك وأدعو لأقربائهم بالشفاء.
 أرجح أن مثل هذه النظريات إنما تفتقـر إلى وعى صاحبها بدوافع الاقتناع بها، أو ابتداعها. وهى لا تجد من المناهج ما يدعمها كنوع من تبرئة جيناته من أى احتمال حمْل مرض بهذه السمعة السيئة،
 إن الواحد منهم (منا) يطمْئِن نفسه، أنه ليس عرضة لمثل هذه الوصمة إلا بفعل فاعل خارجى لا رادّ لقضائه. ليس للوراثة ولا للظروف الخاصة دخل فيه ولا للإرادة الداخلية شأن به.
 وحتى النظريات الأحدث تطمئن الأطباء الذين يظنون أنهم أسوياء إلى أن هذا المرض ذا السمعة السيئة  هو بفعل تغير كيميائى داخلى أيضا. وبالتالى فهو - الطبيب -  غير معرض له فى الأغلب،  "لماذا"؟  لا أحد يدرى.
أنظرُ بدورى، من باب الأمانة والمعاملة بالمثل، لأبحث عن جذور نظريتى المسماة "النظرية الإيقاعية التطورية" ِEvolutionary Rhythmic Theory فيما هو سيرة ذاتية نابعة من تكوينى الجينى،  وموقفى الحرفى، ومحاولاتى الإبداعية جميعا.
عرفتُ من قديم أن عائلتى بها هذه الأمراض بشكل متواتر جدا، جدا. (جدًّا). أكاد أقول إنها أكثر تواترا من كل من عرفت من عائلات مرضاى.
كان أول ما سمعت عن وجود هذا المرض فى عائلتى حين كانت ابنة عمّ لى (غير شقيق) تصاب بنوع من الهياج الدورى كل عام. هياج يعرفه أقربائى ويتحمّلونه ويصبرون عليه. يعالج أو لا يعالج (لم أسمع أنها عولجت أصلا)، ثم يختفى فى خلال أسابيع أو شهور، ثم تعود ابنة عمى إلى طيبتها ودماثتها. وكان من سلوكها الذى يتكرر مع كل نوبة أن تقذف الناس (الحقيقيين أو المتخيّلين) بالحجارة، وكان هذا السلوك (القذف بالحجارة) فى بلدنا علامة من علامات الجنون. إذا دعت امرأة على أحد أو حتى على ابنها أثناء شجار أو ضجر تقول له:"روح يا شيخ إلهى تنهبل وتزقّل"، ولعل هذه هى أول "ثورة" (أو انتفاضة) حجارة أعرفها فى حياتى. كذلك هى أول تلميح إلى احتمال أن يكون الجنون ثورة مُجهضة.
أذكر أننى سمعت من والدى احتجاجا على جنون بنت عمى هذه،  احتجاجا وصل إلى درجة اللمز والتشكيك. كانت إذا أصابها "الدور" ذهبت إلى جرننا (جرن والدى) دون سواه حيث توجد فى أحد جوانب الجرن "أمينة" (وهى كيان من طوب لبن مرصوص جاهز للحرق ليصبح طوبا أحمر)، وهى عملية بدائية تساعد على توفير نوع جيّد من طوب رخيص. كان ذلك أيام كان طمى النيل يبنى البيوت، والمناعة، والخصب جميعا. كان والدى يتساءل عن سلوك ابنة عمى هذه أثناء النوبة:
"لماذا " تنتقى  طوبِى أنا بالذات وتلقيه فى المصرف يوما بعد يوم؟"
 ثم يردف:
"البلد مليئة "بالأماين" والطوب فى كل مكان. لماذا لا يظهر جنونها إلا على "أمينتى" أنا  دون غيرى؟".
 وأتصوّر أنه بذلك يكاد يتهمها بالتصنّع، أو يتهم أقاربه الذين بينه وبينهم حزازات (عادى)، مع أن الحقد كان واردا بين الأقارب دون حزازات، بتهمهم بالتحريض.
 والدى هذا نفسه كان يعطف على شقيقةٍ لها مريضة أيضا لدرجة أنه كان يؤويها فى بيتنا، لكن هذه الشقيقة كانت مصابة بالصرْع دون نوبات جنون، كانت متوسطة الذكاء أو تبدو كذلك،
 كان والدى - من حيث المبدأ - لا يتردد فى أن يعيش فى بيتنا من يرى أنه يحتاج ذلك من العائـلة: فكان لى ابن عم  فى مثل سنى لكنه متعثر دراسيا، وبالتالى فهو بعدى بعدّة سنوات دراسية، فاستضافه والدى حتى يتحمّس مثلنا ويذاكر وينجح وسط جو معد لذلك- هو بيتنا!!، ثم أيضا إن ذلك كان يخفف عن عمى  بعض تكاليف دراسة ابنه المتعثر هذا. أذكر أن والدى فعل ذلك مع أنه لم يكن على وفاق مع عمى (غير الشقيق) والد الفتى المتعثر، وتتحمل والدتى كرم والدى الذى لا يكلفه إلا أن يصدر القرار، ثم يستغرق هو فى انشغالاته، وتقوم أمى بالتنفيذ. هى التى تخدم وتغسل وتؤكّل، وتسامر، رضيَـتْ أم لم ترضَ. كانت والدتى تعطف على ابن عمى هذا، وكان  هو يحبها حبا شديدا، وقد ظل يحبها، ويحبنا، حتى مات قبلها فحزنتْ عليه حزنا هائلا، فعرفتُ أنها كانت تبادله نفس الحب. رحمهما الله.
لكن أن يصل أمر بيتنا المضياف  إلى إيواء قريبة شابّة غير متزوجة وجميلة، بغض النظر عن مرضها، تحت نفس بند "صلة الرحم"، فإن هذا هو ما بدا فوق احتمال أمى، بل وفوق احتمالنا جميعا، وأذكر تحديداً أنه كان فوق احتمالى أنا بالذات.
 كنت حول التاسعة، و كنت أخاف من نوبات صرْع ابنة عمى هذه التى تأتى فى أى وقت، والتى يسبقها أو تحدث مع بدايتها صرخة مفزعة جدا. لكننى رويدا رويدا تعودت عليها، وتعـلّمنا الإسعافات الأولية التى تحول دون قطع اللسان أثناء النوبة، وكانت أمى تقوم باللازم بمنتهى الإخلاص رغم احتجاجها المعـلن والخفى على تواجدها، (كان ذلك فى زفتى فى أوائل الأربعينيات). ثم جاء يوم سمعنا الصرخة فى الحمام، وعرفنا أن النوبة جاءت ضيفتنا وهى فى الداخل، وجرت أمى كالعادة للإسعاف وإذا بباب الحمام مغلق من الداخل، ونحاول أن نفتحه عنوة بلا فائدة، ونسمع الشخير فى الداخل ونزداد رعبا، ولا ينفعنا تعوّدنا السابق، ثم نرى دما ينساب من تحت عقب الباب، فنعلم أن الأمر جسيم، وتجرى أمى تستعين بالجيران فلا تجد رجلا يستطيع كسر الباب، وأنا منزو مرعوب فى أقصى الممر المؤدى للحمام، وأخيرا يتم كسر الباب، وإذا بضيفتنا غارقة فى دمائها لكنها بدأت تفيق، وإذا بفروة رأسها مشقوقة شقا لا نعلم إن كان عمقه قد وصل للجمجمة أم لا، وأيضا كان حوض الحمام قد تحطم إلى عدد من الشظايا.
 لا أذكر تحديدا ماذا حدث بعد ذلك إلا أن ثم احتمالا أن بقية أسرة أبى اتهموه، مباشرة أو تلميحا، بأنه أهمل فى رعايتها، فتركتْنا ليرعوها هم بطريقتهم (هذا ترجيح لا أكثر).
أثّر فىّ هذا الحادث أثرا آخر، أشد دلالة وأكثر إثارة للأسئلة.
ويتوالى اكتشافى لمرضَى عائلتى بشكل متلاحق.
أشرتُ فى الترحال الثانى (الفصل الخامس/الحادى عشر) كيف عثرت على تسجيل بعض محادثة دارت بينى وبين ابن عم لى كان مصابا بالفصام، وقيل فى تفسير مرضه  إنه كان طالبا نابها جدا فى الأزهر، وكان يعد نفسه ليرث عمَّا لنا كان من أشهر علماء الأزهر، وهو الذى قيل أنه تصوّف قـُـرب آخر حياته حتى بَنَتْ له العائلة ضريحا حّوله ابنه الفاشل دراسيا إلى "زاوية" تحوّلت مؤخرا إلى مسجد صغير، ثم أصبح مقاما بعد أن تمشيخ ابنه هذا على الطريقة النقـشبندية الجودية وأخذ يعمل لوالده عالم الأزهر الجليل مولدا كل عام يعينه على العيش بقية العام.
كنت أعلم من والدى أن ابن عمّى (ابن الشيخ) هذا يدخّن الحشيش، وذات مرّة لامه والدى على ذلك منبها إياه إلى تعارض استشياخه وولايته مع استمراره فى تدخين الحشيش علانية، فردّ عليه ابن عمى (كان فى سن أبى) أنه:
"قُطْعِتْ (ياخيبه) الولاية اللى تضيّعها حتَّةْ حشيش".
ظللت أبتسم كلما تذكرت هذا التعليق، حتى وصلنى منه ما وصلنى.
 الشيخ إسماعيل الفصامى هو إبن عمى غير شقيق،  لكنه شقيق أولاد عمى"الشيخ" والد المريضتين: (الثائرة على طوب أبى فى نوبات، وشقسقتها الصرْعية التى أواها أبى فى منزلنا بعض الوقت).
أول ما سمعت عن نبوغ ابن عمى الفصامى هذا وعلاقة ذلك بالمرض حين كانت أمى تشفق علينا من فرط الاستذكار معظم الوقت حسب تعليمات والدى، فتنبهنا ألا نأخذها جدا هكذا حتى لا نصير مثل "الشيخ اسماعيل" الذى ترى هى، وآخرون، أنه جن من فرط حرصه على طلب العلم والتفوق وهو يسعى ليكون مثل عمنا الشيخ.
حين جن اسماعيل ابن عمى هذا وتوقف عن الدراسة نهائيا ظل محتفظا بلقّب الشيخ اسماعيل (أنا لم أعرفه إلا بهذا اللقب) ربما تبركا، وربما احتراما لطموحاته المحبـَـطة.
 كنت أسير بجواره على شاطئ ترعة الطويل. كنت فى التوجيهية (الثانوية العامة الآن). قال لى فجأة قولته  السابق ذكرها فى الترحال الثانى، والتى أعيدها هنا، قال: ".. النسيان والأمل هما أعظم المعانى التى تدفع الإنسان فى الحياة".
كان جنونه طيبا جدا. كان يعتزل الناس ما يقرب من ثلاثة أشهر كل عام، وحين كان يخرج إلينا كنت ألاحظ أن لونه قد تغير. كان يبدو أبيضا بياضا رائقا جميلا فأحبه أكثر، وكنت أسمع بعضهم يفسر هذا اللون بأنه لم ير الشمس طوال هذه الأشهر الثلاث، وكان آخرون يعزونه إلى طهارة روحه وتنقية نفسه من شوائب الدنيا أثناء خلوته. كانت أمى تكرم "الشيخ سماعين" وترحب به كلما طاف عليها. كم من مرّة وجدتها قد أدخلته إلى القاعة بجوار الباب وقدّمت له اللبن الرائب بقشدته فى ود حقيقى، حتى رجّحت أنها تتبرك به، وربما تستفتيه فى بعض ما لا يدركه العقلاء.
يضطرد اكتشافى لكل أنواع الأمراض النفسية والعقلية فى عائلتى دون استثناء، الفصام والاكتئاب والهوس والصرع "والسيكوباتية" وغيرها، كما يتمادى اكتشافى فى نفس الوقت لنزعة التفرّد والإبداع لعدد آخر من عائلتنا.
 الإبداع ليس إنتاجا فنيا أو كتابيا، وإنما هو طبعٌ وموقف ونوعية وجود.
رحت ألاحظ هذا الاتجاه فى أسرتى كافة، بغض النظر عن المستوى التعليمى أو امتلاكهم أدوات رصد الإبداع المعرفى أوالإبداع التشكيلى أو الإبداع  العلمى.
 سمعت أخى الأكبر - أحمد - وهو يحاول أن يـُقنع من كان يتناقش معه من أهل القرية حول استعمال "وابور حرت" بتبريد الهواء، سمعته  يقولٍ لمُحاوِرهِ المعترض أنه: "ليس له دعوة"، وأنه يعرف ما يفعل، وأن عليه (على المعترض) أن ينتظر النتيجة ليقلّده (يقلد أخى)، ثم استشهد أخى -متباهيا - بقول عن أبينا أنه قال: "أنا ما احبش أمشى على المِدَقّ اللى الناس ماشية عليه، أنا أحب أعمل مِدَقّ والناس تمشى عليه". (والمِدق هو الطريق الذى يتخلّق من السير فى الطين بعد المطر، وهو يتسع لفرد أو اثنين فحسب، ويسير عليه الناس حتى إزالة بقية أثار المطر).
 لم يكن أى من هذا التاريخ العائلى الحافل بالمرض والإبداع معا دافعا لى لكىْ أعمل بالأمراض النفسية أصلا. أنا لم أفكر فى تاريخ عائلتى أصلا وأنا أختار. دوافع تخصصى فى هذا الفرع-على حد وعيى- كانت لأسباب عملية، وتوفيقية بين اهتماماتى الإنسانية، ومقررات الطب العادى الجافة الميكانيكية.
حين تخصصتُ فى هذا الفرع أتيحت لى فرصة جديدة بمنهج محكم أن أشاهد وأراجع سلوك كثير من أفراد عائلتى، وأن أعطى كل مايصلني من شطح أو اختلاف  اسم عرض أو اسم مرض دون إعلان ذلك طبعا. لم أُخَفْ، لا على نفسى، ولا على أحد قريب منى.
 حين تبيّنت جسامة الأمر رحت أقلب فى أوراق عائلتى بقصد منظّم لأكتشف أى فرع فيها أكثر إصابة (وإبداعا)، خيّل إلىّ فى بادئ الأمر أن كل المصابين ليسوا أشقاء والدى، فقد تزوج جدى ثلاث زوجات، وكان الفارق بين أصغر الذكور (والدى) وأكبرهم (عالم الأزهر والد المريضتين السالفتين) حوالى خمسين عاما، كان عمى هذا كفيفا، وعالما، وله لحية طويلة. حكى لى والدى أنه كان يظنه جده، لأن كل من كان يدخل الدوّار كان ينحنى على يده يقبلها، وهو الشيخ ذو اللحية المهيبة، ولا يقبل يد جدى (والد الشيخ) فخيّل لوالدى - طفلاً- أن الملتحى الذى يستحق تقبيل اليد هو الأب وأن أباه (جدى) هو ابنه،
عمّى الشيخ هذا بينه وبين والدى ما يقرب من خمسين عاما، وقد قيل فى زواج جدى من جدتى (أم والدى) إنه كان قد خطبها لابنه (شقيق عمى الشيخ) دون أن يستشيره (دون أن يستشير العريس)، فما كان من العريس  إلا أن هرب يوم الفرح إلى طنطا انتقاما من أبيه وردا على تجاوزه. فما كان من جدّى- بدوره- إلا أن عقد على العروس هو بدلا من ابنه منعا للإحراج، وأنجب منها ثلاث أولاد ثم ثلاث بنات، أحدهم والدى. لست متأكدا من مصداقية هذه الرواية، لكن الذى أنا متأكد منه هو فارق السن بين أبى وعمى الشيخ، وبين جدى وجدتى.
الذى جعلنى أذكر هذه الرواية وأرجح احتمال صدقها، أن أولادى يتصرفون معى أحيانا بنفس المنطق، وإن كان بطريقة عصرية أكثر خفاء، فأرد أنا بطريقة حداثية خائبة ليس فيها عرس ولا زواج ولا فروسية.
كان عمى "الشيخ الرخاوى" هذا ليس فقط عالما تقليديا لكنّه كان أستاذا مبدعا فى طريقة تدريسه. يُضرب المثل بعدد من يتحوطون عاموده بالجامع الأزهر من المحاورين. وقد سمعت أنه كانت له فتاوى متفرّدة فى كثير من مسائل الفقه، فتصورت أنه علامة الريادة التى بلغتنى من إبداع عائلتى. وكان أفراد عائلتى حتى الفلاحين منهم يتباهون بهذا التفرد فى تعليمهم، وزراعتهم، وطبعهم، حتى لو فشلت بعض محاولاتهم التجديدية.
بلدنا يقال إنها أسبق بلد فى التعليم فى القطر، لا ينافسها فى ذلك إلا "كفر المصيلحة" لكن كان يؤخد على بلدنا (فى مجال  التباهى المقارَن مع كفر المصيلحة) أن أغلب متعلميها من "ماركة إلــْز"، يقصدون أنها نالت هذه الشهرة لكثرة مدرسى التعليم "الإلـْزامى" بها، وليس التعليم العالى، فكانت عائلتى تفخر أنها -دون سائر عائلات بلدنا - لا يوجد بها مدرس إلزامى واحد، فنحن (على حد قول عمٍّ لوالدى)، إما أن نفلح الأرض بأذرعتنا أونصبح دكاترة وضباطا، أما "ماركة إلز" فنتركها  لأولاد ناحية  "...."، "،،،،"، فهى أليق بهم !!!،
بعد أن تخصصتُ فى الطب النفسى، شغلنى أمر تواتر هذه الأمراض فى عائلتى بهذا الشكل. قلت لنفسى من باب التهرّب:
 إن كل هؤلاء المرضى (والمبدعين) ليسوا أشقاء  والدى على أى حال،
 ولم أعرف إن كان علىّ أن أفرح بذلك لأن المرض ابتعد، أم أحزن لأن الإبداع أصبح أقل احتمالا، لكننى عاصرتُ إبداع والدى طول عمرى، ليس فقط فيما ذكره أخى عن المدق والناس، ولكن فيما كان يَستحدِثُه من زراعات جديدة، ومن طرق زراعة جديدة: مثلا بشأن عدد خطوط القطن فى القصبة الواحدة، وزراعته على بطن المصطبة وليس فقط على الشوكة، وغير ذلك كثير.
فى اللغة كانت لأبى إضافات سجّلها فى كتاب متواضع لكنّه دال حتى من اسمه حيث كان العنوان يقول: "رأى ونقد" فى تدريس اللغة العربية، لم يكن به جديد جد، لكن مجرد أن يكون عنوانه "رأى ونقد" كان ذلك ذا دلالة عندى. هذا فضلا عن موقفه التدينى الخاص سواء بالنسبة للوِرْد الطويل الذى يستغرق عدة ساعات يوميا، أو قيام الليل، أو عدم أدائه صلاة الجمعة فى المسجد،(كما ذكرت ذلك فى الترحال الثانى)،  أم عدم أدائه فريضة الحج والتى لم يتقدم لأدائها إلا سنة وفاته حيث لحقته المنيّة قبل أدائها، ثم موقفه من "داج همرشولد" وترجيحه دخوله الجنة، كل ذلك بدا لى غريبا فى البداية، لكننى حين وسَّعتِ مفهوم الابداع تجلّى لى كل ذلك  تفرداً دالا  مع أنى لم أفهمه جميعه. (أنظر إن شئت حوارى معه عن صلاة الجمعة.الترحال الثانى).
لم ينفع الهرب من فكرة وراثة  كلٍّ من المرض والإبداع معا بافتراض أن ذلك يختص به  الفرع غير الشقيق لوالدى تحت زعم أن من أعرف من الصرعيين والمجانين ليسو من سلالة  أشقاء والدى.
والدي له شقيقان، هو الأصغر. الأوسط اختفى بعد رسوبه فى شهادة الثقافة العامة (حول العشرين) ولم يظهر حتى الآن، (!). أما عمى الشقيق الأكبر فقد حضرتُ حسمَـه فى قرار التوقف عن الاستمرار بيده لا بيد ساقى المنايا. كان ذلك وأنا فى السنة الثانية فى كلية الطب. لم يعد فى الأمر شك.
9  يوليو سنة 2000
أثناء عثورى على هذه الأوراق التى أوحت لى بهذا الجزء الثالث من الترحالات، وجدت صورة حديث  أدليت به لمجلة اسمها "وادى النيل" صدرت لفترة قصيرة. كان ذلك منذ عشرين عاما تقريبا. توقفت. كان الذى أخذ الحديث منى صحفى اسمه "محمد عتمان" لم أكن أحبه مع أنى لم أكن أعرفه بدرجة كافية. فرحت حين عثرت على هذا الحديث، لأننى أذكر أننى اكتشفتُ من خلاله وضوح رأيى من قديم فى كل من الثقافة والحضارة بوجه خاص. كان ما ذكرته من حوالى عشرين عاما له دلالة خاصة طمأنتنى على اجتهادى المتصل. كنت قد نسيت أنى صغته فى هذا الحديث بهذه الدقة رأيت أن أرجع إلى هذا الحديث فى سياق هذا الترحال الثالث. اكتشفت أننى بعد فرحتى بالعثور عليه، ضاع مع ما تخلّصوا منه من أوراق حين حسبوه ضمن الأوراق التى أمرت بإعدامها وحزنت حزنا شديدا، وتمنيت لو أننى لم أعثر عليه. كأن هذا الرأى هو ما ينقصنى، وكأننى لو عثرت عليه فسوف يغيّر شيئا مما أكتبه.
كلما ضاعت منى ورقة تصورت أن الدنيا انتهت. وإذا ما عثرت على ورقة تصورت أنها هى. ثم سرعان ما أكتشف أن كل شىء مثل كل شىء، وأن ما لا أمزّقه بيدى الآن، سوف يمزقونه بعد رحيلى، ربما الفرق هو أننى أقرؤه، أو على الأقل أتعرف على ما به، قبل التخلص منه، أمّا هم. لا أعرف.
كان أحد الأصدقاء المثقفين يقول لشيخنا نجيب محفوظ أن صحيفة كذا الأسبانية (مثلا) كتبت عنه كيت، وأنه أتى له بنسخة منها، وبعد أن يشكره الأستاذ ينبهنا، أو يذكر مصادفة أنه "مَلِكُ التمزيق، اكتشف أنه لو احتفظ بكل ما ينبغى(أويستحسن) أن يحتفظ به،  إذن لاحتاج مثل حجم بيته عدّة مرات، يضيف أنه  اعتاد بين الحين والحين أن يلم ماجمعه، ثم "شَرْمَطْ" "شَرْمَطْ" "شَرْمَطْ". فهمت طبعا أنه يعنى ما يُكتب عنه، لا ما يكتب هو، ومع كل الفوارق طبعاً، وبدهةً، تبينت شجاعته فى عملية التمزيق هذه، وتمنيت لو أستطيع أن أتعلمها منه (مثلما حاولت أن أتعلم أمورا كثيرة أخرى منه) أتعلَّم أن ما يضيع أو يمزَّق لا ينبغى أن أُسقط عليه أهمية خيالية تفسر ما يترتب على ذلك من غمٍّ غير مناسب.
كل شىء سوف يمزق. وهذا الذى سوف ينشر (فى الأغلب) مما أكتبه الآن، وهو  انتقاء من المنتقى سوف يهمل أيضا ويمزق. من أنا؟ وما هذا؟
ومع ذلك أواصل:
من بين ما عثرت عليه من مثل هذه الأوراق التى تعنى ولا تعنى شيئا، ورقة ثلاثة أرباع، ممزقٌ أحد جوانبها، مصبوغٌ نصفها الأسفل ببقايا سائل مجهول الهوية، (أقرب إلى لون الشاى، ليس تماما). ما تبقى مكتوب على أحد وجهيها  ما يلى:
22  مايو 1994
ألقيتُ مفتاح الحروف كسرتُهُ، ألقيت فى وجه الظلام رموزَهُ ورسومَهُ وعلامةُ الفهم الذى خَنَقَ الرُّؤى، وإشارةُ المتعجّبِ، والفاصلةْ، ومسافةٌ ضِعْفُ التى لم تَستَتِر...،
 وتركتُ خلفِى عدَّ ما اكتملتْ به أطرافُ ذيل الدائرةْ.
 وسعيتُ أسبَحُ فى الشفقْ،
وتلوتُ خاتمـة َالكتاب بلا كتَابْ،
فما أَفَاق من السباتِ اللاينامُ، ولا استبان المُلتَقَى،
وتَتَعْتَعَ الصمتُ الذى أَوْدى بِنَا خلف الركامِ بلا أوان،
 فأردُّ ـ أيضا ـ صامتا: لكنّه الشعر الذى لمّا يُقَل.
هذا جناه أبى علىّ، وقد جنيتُ على الجميعِ بما جناه أبى علىّ،
فما أنا إلاخفايا سرّه الحاوى لنا، المتوعِّدِ.
وكأننا مثل العُقاب مُسَرْوَلٌ بالحُلم والوعد النبِى.
وجّهتُ وجهىَ صوبَ موجِ البحر يهذى بالجمالِ المُفتـَقدْ،
 وتبسّمتْ روحى هواءً طازجاً يسرى خفيا رغم قهر "البرمجة".
يا لَـلْمخاض المرتقب.
9  يوليو سنة 2000
على الوجه الآخر للورقة وجدت نفس الكلام، لكنه مسبوق بجملة، أو شطر: "وتركت خلفى القاهرة"، وأيضا وجدت بعض الكسور، والسخف مما أعتقد أنه اختفى فى الوجه الذى أثبتّه حالا.
 السؤال الذى خطر ببالى سؤال غريب لا يتناسب مع أى شىء. سؤال يقول:
إذا كان الوجه الآخر (الذى يبدأ بـ: وتركت خلفى القاهرة"، هو المسودة، والوجه الأول هو تبييضها، فكيف كنت أقـِلب الورقة كلمة بكلمة حتى أبيّضها؟ وما الذى ألقى بهذه الورقة هكذا وسط هذه الكومة من الأشياء التى هى "ليست بشىء".
 وقلت أيضا: يبدو أنه ليس عندى إلا تكرار مثل هذا،
فلماذا السيرة الذاتية؟ ألا تكفى هذه الورقة؟
عثرتُ أيضا على أصول مقال كانت مجلة الهلال قد طلبته منى فى الباب الذى ترصد فيه بعض السيرة الذاتية تحت عنوان "التكوين" ووجدت أنه أنسب ما يمكن أن ألخّص به ما هو أنا، وتوارت أنه يكفى هو أيضا، يمكن أن يغنى عن  مئات الصفحات السابقة؟  شعرت أنى مدين باعتذار للقارئ (إن كان قد وصل إلى هنا!).
 قلت أثبت هذا المقال كما  هو، كل ما سمحت لنفسى أن أفعله هو ب تسويد ما أظن أنه مهم، أو مناسب فى هذا السياق الجديد، وأيضا إضافة بضعة كلمات هنا وهناك وضعتها بين أقواس.
ربما يجد فيه القارئ بعض التكرار، لكننى اعتبرته وقفة لالتقاط الأنفاس، وأن  مشروعية التكرارهى أنه  يعنى التأكيد
 التكوين (نص المقال كما نشر حرفيا فى مجلة الهلال العدد والشهر والسنة) التكوين,من ذا الذى يعرف كيف تكوّن، أو متى، أو حتى إلى أين؟
إن الواحد منّا يجد نفسه "هكذا"، ثم يتذكر، وياتُرى.
حين حاول نجيب محفوظ: كان أمينا أعمق الأمانة وأنبلها، وبدل أن يحكى أنصتَ، فأنشد لنا أصداء سيرته الذاتية دون سيرته، فتيقنتُ أكثر من ذى قبل أن السيرة الذاتية لا يمكن كتابتها أصلا، ثم إنها لا يمكن كتابتها فى العالم العربى بوجه أكثرخصوصية، فماذا لو أن ماحضرنى الآن من عوامل تكوينى كان أمرا لايقال أصلا، أو أنه إذا قيل فإنه لا يـُقبل، وقد يترتب على إعلانه ما لا يمكن حسبانه.
عندى اقتراح مستـَلهمٌ من فكرة الإفراج عن الوثائق الإنجليزية بعد خمسين عاما، وهذا الاقتراح يوصى بـإنشاء مؤسسة تسمّى "الوجه الآخر للتاريخ"، يَـــكتب فيها كل من نريد أن نسمع منه، وعنه، ما نرجو به عمق الرؤية وأمانة الوعى، ثم يودع هذا الذى كتب فى خزانة مؤمّنة من قبل الدولة أو من قبل هيئة عالمية، لا تفتح إلا بعد مائة عام من تاريخ كتابتها، أو من تاريخ رحيله، ثم نرى!!!
ومع وضع التحفظ السابق فى الاعتبار سوف أحاول أن أحدد عوامل ومؤثرات التكوين التى مررت بها أو مرّت بى، من خلال ثلاث محاور: هى الأرضية، ثم موكب الآباء، والأبناء /الآباء، ثم الممارسة والتمثّل.
أما عن الأرضية فإننى أحسب أن تكوينى، على الأقل فى سنيى الأولى لم يتأثر بأحد، ولا بحدث، إلا من خلال أنه جرى فى واقع عام له ما يميزه: بحيث تأتى الأحداث فتتشكل فيه، وتشكلنى بما تسمح به هذه البنية التحتية:
خذ مثلا ذلك الإيقاع البطئ الذى أتيح لى أن أواكبه صغيرا، فحين أتذكر أيامى الأولى وأقارنها بما يجرى اليوم حول أبنائى وأحفادى وبهم، أجدنى قد عشت إيقاعا خاصا هو الذى صنعنى هكذا، وأتساءل:هل كان يمكن أن أكون أنا هو أنا لو أننى لم أنتظر قطار الدلتا خمس ساعات فى محطة زفتى فى طريقى إلى بلدتنا وأنا عائد من المدرسة الابتدائية؟ وهل كان يمكن أن أستوعب معنى الزمن، وأنا أنصت لهمس سنابل القمح، وأن أستنشق غبار المدراة، لو لم أركب النورج لشهر أو اثنين، فى كل إجازة صيفية؟ هذا الإيقاع الذى كان يسمح لنا أن نجلس ننتظرعربة الكافورى ساعتين لنوفّر قرش صاغ وهو الفرق بين سعر الكافورى وسعر التاكس ْ، فيم كنت أفكر وأنا أنتظر هذه الساعات؟، وماذا كان يصلنى وأنا جالس فوق حجر مترب تحت جميزة ضخمة؟ هذا الإيقاع (الهادىء الزاحف الملىء) ما زال يملؤنى، أفتقده وأعود إليه داخلى، وهو الذى علّمنى كيف أستطيع أن أبطئ حركة الزمن لأعيد النظر بين الحين والحين، فأكون أنا "هكذا".
ثم خذ عندك: اللغة، وحين أقول اللغة لا أعنى لغة بذاتها، وإن كنت أخص اللغة العربية بأغلب الحديث، فقد نشأتُ فى بيت يعرف للكلمة معناها المُحكم. والدى مدرس لغة عربية، والقرآن - نقرؤه حول والدنا وهو يصححنا، وندفع غرامة الخطأ و يتخَاطَأُ هو ليكافئنا- ومكتبته فى متناولنا، وجلسات والدى مع الشيخ أحمد عبد الله والشيخ محمد الدقن، والشيخ البرماوى وآخرين للتفسير والتذكير تصلنى دون قصد، فأتكوّن هكذا: أحترم الكلمة حتى تصبح كيانا حيّا لها علىّ حقوق الكائن الحي، ولى عندها ما هو جزاء ذلك
ثم الدين، وأعنى به ذلك النوع من الالتزام المطلق فى إطار الحرية الحقيقية، ليصلنى من العادة والعبادة وحرية المراجعة والحوار، يصلنى من كل ذلك ما يفتح حدود وجودى إلى رحابة الطبيعة وامتداد الأكوان: أصلىّ قبل الشروق، ومع الزوال، وحوله. وأصوم مع الهلال، وأحاور الطبيعة فردا وفى جماعة، ووالدى يسألنى متألما عقب سقوط الطائرة بداج همرشولد إن كان هذا الخواجة سيذهب إلى النار أم إلى الجنّة، وكأنى أملك مفاتيح الجنة، لكنّ يبدو أنه كان ينبهنى إلى رحمة ربى بهذا الإنسان العالمى النبيل، والدى هذا كان يقوم الليل ثمان ركعات دون أن يعرف أحد أنه يفعل ذلك، وكان هذا يستغرق منه عدة ساعات، وأول ما عرفت هذا كان حين ارتطمتُ به واقفا فى الظلام يتمتم فحسبته عفريتا، عرفت الدين من سلوكه مع الناس، ومن سماحته، ومن غلوائه أحيانا، ومن التزامه بورده الطويل، وعرفت الدين أكثر من العلاقة المباشرة بالطبيعة، ومن المشاركة مع الجماعة، وأحسب أن هذا البعد مازال يحدد دوافعى ويوجّه خطاى بشكل متجدد.
ثم بعد الحديث عن ثالوث الأرضية هذا:الإيقاع واللغة والدين يأتى الحديث عن الناس، وكيف تكوَّنتُ من خلالهم، وأكاد أوجز علاقتى بالناس فيما يمكن أسميته: موكب الآباء، و الأبناء (الآباء أيضا).
وبدو أنه لا بد ابتداء أن أعلن إدراكى الواضح، وإن كان قد جاء متأخرا بعض الشىء، أن موقفى الحياتى فى العلاقات كان متمحورا طول الوقت حول حاجتى الدائمة إلى "أب"، وبالرغم من أن والدى - رحمه الله- كان "والدا جِدّا " طول الوقت، وأن أثره فىّ لم ينقطع حتى الآن إلا أننى لا أذكر أننى اكتفيت به أبدا أو توقفت عنده، وأعتقد أن تكوينى -وحتى الآن - كان وما زال مرتبطا بهذه البنوّة الدائمة المتجددة، ولا أطيل وقفتى عند أبى الذى ولدنى، رغم أنه أهم شخصية بين كل هؤلاء، وكان أهم ما فيه أنه كان به من العيوب والضعف ما حال بينى وبين تقديسه أكثر مما هو، وكان أهم ما أذكر له - مما أثّر فىّ- هو إصراره الدائم على المحاولة والتجريب والإبداع، صحيح أنه كان مدرسا للغة العربية، وكان يعشقها، وعشقناها منه وبه، لكننى كنت أراه فلاحا مبدعا أكثر من أى دورآخر، كان يردد المثل الذى يقول: " أنا ما أحبش أمشى على المِدقّ إللى الناس ماشية عليه، أنا أحب أعمل مدق والناس تمشى عليه"، (تكرار- تعمّدت ألا  أحذفه) يقول ذلك وهو يناقش أحد المزارعين فى كيف أنه قرّر أن ينقر بذرة القطن على الشوكتين، أو أن يخطط فى القصبة الواحدة أربعة عشر خطا بدلا من أحد عشر، وظلّت علاقته بالأرض وبالإبداع تحضرنى حتى خضت تجربة للعلاج الجمعى التجريبى (المواجِهِى) حول سنة 0791، وظللنا- مجموعة من الأطباء النفسيين والأسوياء- نتبادل العواطف وكلمات عن الإحساس والحب، ونحن جلوس نتواجه!! فى حجرة مليئة بالفوضى والظلال، وكأننا بذلك سوف نعرف أنفسنا أحسن، (قال ماذا؟) وسوف نغيّر الكون ونؤثر فى التاريخ!!! فأتذكر والدى، وأرى وجه الشبه بينى وبينه وأوجه الاختلاف، وأخجل من أنه - وهو عالم اللغة- كان يغيّر العالَمْ وهو يزرع، وليس وهو يتحدّث ويفتى، ومن حبّه للواقع والأرض كان يستطيع أن يميز - فى جوف الليل، وعلى بعد عدّة كيلومترات- صوت مكنتنا دون الأخريات إذا توقّفت، فيركب حمارته ليرى ماذا حدث، ويحضرنى كل ذلك وأنا فى تلك الحجرة مع هؤلاء المتكلمين جلوسا، وأخاطبه شعرا عامّىا يقول:  "وساعات أشوفنى أبويا صُحْ، بسّ الزيادة إنّى لابسْ بدلة وارطُن باللسان،  وأقول كلام: قال إيه لصالح البشر، وللتاريخ، (!!).  لكنّه الله يرحمه، كان يعبد اللوزة وطين الأرض والورّد الطويل،  مزّيكته كانت مكنة الميّه تغنّى تحت جمِّيزه كبيره مضلّلة،  واسأل فى نفسى: أنهو اللى أصلح للتاريخ؟ الكلمة والحب السعيد فى أودة ضلمة منعكشة، أو لوزة حلوة مفتّحة؟"  تعلّمت منه حب الأرض، وحب الواقع، وحب الكلمة الفعل الكائن الحى.  وليس معنى التركيز على دور الأب هكذا فى تكوينى أن دور الأم لم يكن له نفس الأهمية، فقد كان لى والدتان، أمى التى ولدتنى، وأمى خالتى، وكلتاهما كانتا صمام أمان، ومساحة سماح أهرب إليها حين يزداد ثقل حضور أبى، أو تغلق الطرق أو تتلاحق القذائف.
أما موكب آبائى الآخرين الذىن شاركوا فى تكوينى بجوار والدى فهو موكب زاخر من كل الأعمار والأشكال، كنت أنتقىهم - دون إخطارهم أو إخطارى طبعا- لتتكامل مظلة الأبوة دون احتكار قاهر، مثلا:
كان لى زوج عمة: رجل ظريف فى عمر أبى أو أكبر منه بعامٍ، لم يكمل تعليمه، ولا يمارس عملا أصلا كان يقول لنا الفكاهات اياها، وكان يجعلنا نرى أن ثمة طريقا آخر فى الحياة غير كل هذا الجد الصارم، فجعلته يتبنانى سرا دون إذن (وإلا لرفض تحمل المسئولية) ويبدو أننى اخترته لمّا لمحت - أوتصوّرت- غيرة أبى منه،، وكأنه - أبى- يتمنى أن يبحبحها حبّتين، ولا يستطيع. (فيغار من زوج أخته ويهاجمه أحيانا)، فلمَ لا أتمتع أنا بأب صارم هكذا، وأب آخر غير "هكذا"؟ ففعلت
قائمة الآباء بعض الوقت هى قائمة بلاحصر: من أول عم عطيّة الذى كان يحضر كل عام يعقّب حبوب البرسيم فى البدروم، ويحكى لى الحواديت (الخيال الحر) والأمثال (الخيال الهادف) حتى عم على السباك الذى كان جارى فى المنيل، مارا بعم شعبان الذى كان يحضر فى بيتنا بالقرية كل مساء يمسك بذراع الطلمبة "الماصّة كابسة " يملأ بها الخزان فوق البيت، ويحكى خبراته الحقيقية والمؤلـّفة، وكأنه هو بطل قصصه، وخاصة أنه إبن أم خاضت تجربة السجن حتى كانوا يطلقون عليه "إبن اللومانجية
ظلت علاقتى بهذا النوع من الآباء وثيقة حتى الآن، ومازال تأثير عمّ على السباك وحكمته يصحبانى حتى الآن، وقد كتبت فيما تعلّمته منه أقول:  علّمتنى أباالحسنْ: أن أتـْقـِنَ الرماَيـَة السـَّقـَاَيهْ، حتى ولو تخبَّطتْ خـُطاىَ رُعـْباَ، حتى ولو تدفقت مشاعرى فى غير موضع المشاعر "
 فقد كان "عمّ على" شديد الهدوء بالغ الحكمة، وحين أصابه ما يصيب مثله من معاناة وصلت حدّ المرض، واضطررت أن أطببه، كان عسيرا علىّ أن أقلب الأدوار.
 ثم خذ عندك سلسلة من المدرسين مختلفى الهوية، كلهم كانوا آبائى، سليم أفندى رزق الله مدرس الإنجليزى فى مدرسة مصر الجديدة وهو لم يتزوج، لا هو ولا حنّآ أفندى مدرس الرياضة، ولا أشرف أفندى مدرس الفلسفة، وكان ثلاثتهم ثلة نراهم سويا فى المدرسة وخارج المدرسة، فما الذى يجمعهم هؤلاء العزاب ياترى؟
فليسرح خيالى، ولتــُــضاف لبنة من نوع آخر فى تكوينى.
قال لى مصطفى أفندى رياض مدرس الإنجليزى، وكان يلبس طربوشا مائلا جميلا وله شارب أجمل، كما كان يعزف الكمان، قال لى ردا على استشارة مبكرة بشأن مستقبلى وكنت فى سنة ثالثة ثانوى (سنة أولى حاليا)، قال: "إذهب حيث تشاء، أو حيث يتصادف، فإنك سوف تضيف شيئآ جديدا حيثما ذهبت". ولم أفهم ماذا يعنى آنذاك، ولكننى تذكرت كلماته بعد أربعين عاما، وكنت وقتها -وقت أن تذكرت- أسجّل إضافة ذات دلالة فى تخصصى، وترحّمت عليه، كيف رأى هذا هكذا بذلك الوضوح فى ذلك الزمان البعيد؟
ثم انتسبت إلى أب آخر باختيار مطلق،، فما كان الأمر يحتاج إلى إذن منه، عرفته فى سن الرابعة عشر حين انتقلنا إلى مصر الجديدة، الأستاذ محمود محمد شاكر، كانت شقته فى شارع السبق (هكذا كان اسم الشارع قبل أن يتغير إلى ما لا أدرى) كانت شقته مرتفعة مثل هامته وفكره،، أمامها خلاء متسع باتساع خيالنا، وكنت أعجب كيف يفتح هذا الرجل العظيم الكبير بيته لشباب وصبية فى مثل سنّى، كنّا - ومازلت أحيانا- نذهب له فى أى وقت،، ونجد عنده أى أحد، ولا يفصل فى لقائنا بين كبير وصغير، بين جاهل وعالم، بين متطفل وطالب علم، وألاقى عنده فى هذه السن يحيى حقى، ومحمود حسن إسماعيل، وعلال الفاسى، وغيرهم كثير، وعنده ومنه تعلّمت أمرين جوهريين مازلت أستزيد منهما، تعلّمت ضرورة الإتقان (وهو ماصدّر به ديوانه أو قصيدته:القوس العذراء) كما تعلّمت منه الحرية الفكرية، فقد كانت قضيّته معنا ألا نكتفى برسائل الإخوان المسلمين التى توزع علينا كالمنشورات، وأن ننهل العلم والدين من مصادرهما الأولى.
وظللت أنتقل من أب حقيقى، إلى أب أستاذ قريب (الأستاذ الدكتور عبد العزيز عسكر)، إلى أب أستاذ بعيد، (الأستاذ الدكتور أنور المفتى)، إلى أب أستاذ لم أره، (الأستاذ الدكتورمحمد كامل حسين)، إلى أب أستاذ شاب (آلأستاذ الدكتور محمود سامى عبد الجواد)، إلى أب خواجة فرنسى، نصف طليانى، تبنانى -رغم أنه كان أشقى وأظرف طفل عرفته وهو يكبرنى بعشر سنوات- وأنا فى باريس سنة 8691 -إسمه: بيير برينتى، (وقد كتبت عنه كثيرا فى "حيرة طبيب نفسى، وفى رحلتى "الناس والطريق") إلى أب شيخ صامت ملتح لحية بيضاء دائم الابتسام والسماح: هو المرحوم حماى الحاج إبراهيم داوود، حتى وصلت إلى أبى وشيخى الحالى نجيب محفوظ، مما لا مجال لتفصيله هنا فالتكوين نشط متصل.
 لم أعشْ أبدا دون أب، لكننى لم أرضخ أبدا لأى أب.
 لا أنكر الفضل، ولا أهرب من حوار، ولا أخجل من تبعية، ولا أستسلم،  فتكوّنتُ.
آبائى لم يكونوا كلهم شيوخا أو معلمّين، بل إن مستوى آخر من الأبوة هو الذى يمكن أن أسميه مستوى الإخوة الآباء، ليكن، لم يكونوا إخوة ولا أصدقاء بالمعنى العاطفى المألوف، وإنما كانوا قرناء فى مثل سنى، دخلوا وعيى كأمثلة دالة، وأثروا فىّ بشكل مباشر وغير مباشر، وأهم ما يميّزهم اختلافهم عنّى بما أعتبره مزية أفتقدها بشكل أو بآخر، فأحسدهم علىها، وأقلدهم فيها، فأفشل عادة، وإذا نجحت ولو ظاهريا: أرفض نجاحي، وأتراجع عنه، ثم أستمر معهم معجبا، معتمدا، حذر ا، رائحا غادياٍ: فأكونُنِى، وهاكم بعض من هؤلاء لتوضيح الأمر:
رفعت ناشد أرمانيوس، طالب زميل فى مصر الجديدة الثانوية، عاقل جدا هادئ جدا، مسيحى جدا، متوسط الذكاء، يحسب كل شىء، فاتخذته - فى السر- أبا أتذكره حين يهجم علىّ انفعالى ويهددّنى اندفاعى، فأتراجع وكأنه يمنعنى بهدوئه ورزانته، ثم حسن قنديل (سفيرنا فى أكثر من بلد فيما بعد- رحمه الله)، كان قارئا نهما، لزم الفراش شهورا طويلة بسبب حمّى روماتيزمية أو ما أشبه، فقرأ كثيرا، وأنا قارئ مقل، فأستشيره فيعرّفنى على روايات نجيب محفوظ فى الأربعينات، ومن يومها. ثم خذ عندك المرحوم الأستاذ الدكتور السعيد الرازقى، كان أبا لى ولغيرى، كان أبا أكثر منى، بل أكثر من اللازم، ولم تـنـقـــلب الأدوار فأتبناه إلا فى مرضه الأخيرحتى ودّعته.
أما طبقة الأبناء /الآباء، فهم كُـــثر، ومازالوا حتى هذه اللحظة يمثلون أبوة خاصّة خفيّة، وهم من ثلاثة فئآت، أولادى وبناتى من ظهرى، ثم زملائى الأصغر وطلبتى، وأخيرا وليس آخرا طبعا: مرضاى.
لا مجال للإطالة فى تفصيل ما أعنىيه من أن ابنى هو أبى، مع أن هذا المستوى يحتاج إلى إيضاح، وكان يمكن أن أتجاوزه باعتبار أنه حاضر أكثر منه تاريخا، لكنى أوردته تأكيدا لما زعمته من البداية وهو أن التكوين هو حاضر متجدد، وليس ماضيا محكيّا، وسوف أكتفى فى هذا البعد بتقديم أمثلة لكل فئة لعلّها تكفى فى هذه العجالة:
فإبنى الأكبر من ظهرى كان ومازال يمثل لى تحديا أتعلم منه، وحين تعثرتْ به الخطى فى مرحلة باكرة من حياته، ثم عاد وأنجز، كتبت إليه أدعوه أن يرانى أقرب، فيتبنانى أفضل، قلت فى ذلك: " يا ويحك ولدى: من خوفى جشعى.. تحمل عنّى -ولدى- عجزى، وأنا الأقْوَى، أدفعك تواصل سعىى وسلاحك أقصر، إلى أن قلت: سلّمتك سيفك قبل العدّة...، أشهدتك سرى من قهر الوحدة، "
كل ذلك يشير إلى وعيى الكامل باستعمال ابنى أباً بشكل أو بآخر، وأعتقد أن هذا التراوح وتبادل الأدوار بين الأبوة والبنوة كان من أهم ما تكونتُ به ومن خلاله.
أما الأب الإبن الزميل فهو أ. د. محمد شعلان، فقد كان يمثل شيئا عكس ما هو أنا (ربما بقدر ما كان زوج عمتى يمثله لأبى، أو ما كان عبد الحكيم عامر يمثله لجمال عبد الناصر، أو حتى ما كان لاوْ تسو يمثله بالمقابلة بكونفوشيوس) وقد بدأت علاقتنا وهو طبيب امتياز فكنت الطبيب المقيم الذى أعلّمه ألف باء الحرفة، وفى مهنتنا يقفز الصبى ليوازى المعلّم ويصبح زميله بعد عام أو عامين، وقد كان، ثم تفرقتْ بنا السبل، فكانت الخطابات بينى وبينه سلسلة من التكوين المحاوِرِ العميق، وخاصة فى الفترة التى راسلته فيها وأنا فى باريس وهو فى أمريكا، ثم صارت علاقة زمالة، وشركة، ومواجهة، واختلاف، وانفصال، واتصال، وكل هذا فى إطار من الاحترام والحركة أظن أنه كان لها دور هائل فى تكويني، و أتصور أنه لو أتيحت الفرصة لنشر مراسلاتنا، وأغلبها ما زلت محتفظابه، فربما قالت هذه المراسلات للناس وللزملاء، مثل ما قالته المراسلات بين فرويد يونج، أو حتى بين فرويد وفلايس (مع الفارق طبعا).
أما مرضاى فاعتمادى عليهم لأتعلّم منهم هو البعد الأبوى الوحيد فى آلعلاقة حيث لا مسئولية ولا حماية من جانبهم إلا ما ندر. وأكتفى فى هذا باقتطاف ما وصفت به دورهم فى تكوينى يوما قائلا: بس يا خوانّا دى سكّة مدربكة: المريض فيها طبيب،  والطبيب فيها يا حبّة عينى ماشى فْ بيت جحا، ييجى صاحبك ملط إلا مالحقيقة:  ييجى يزقلها فى وشّى وتنّه ماشى، يبقى نفسى أقول دا مجنون وانتهي، بس ما اقدرتش ياناس.
وأخيرا، لا بد من التنبيه وأنا أتحدّث عن التكوين أن الإنسان إنما يتكوّن ليس بما أحاط به ولا بمن تبناه أو حمله أو هداه، وإنما هو يتكون فى النهاية بحصيلة موقفه من كل هذا، ومدى تفاعله وتمثّله لكل هؤلاء. وأحسب أننى أدركت مؤخرا بعض تفاصيل دورى فى استيعاب وهضم وتمثل وتفعيل العوامل التى أحاطت بى، فقد تبيّت أننى رغم كل هذه المواكب من الآباء والأبناء، ورغم كل التفاعل مع كل البشر، و وسط كل هذه الأرضية من الإيقاع والامتداد، فقد ظللت محافظا على وحدتى، راضيا بها، متحركا منها، عائدا إليها، قلت فى ذلك ذات مرّة: "عشقت وحدتى مسيرتى، رضيتُ بالحياة موتاً نابضاً مفجّرا، أستنشق البشرْ  وقلت فى موقع آخر: "من فرط وحدتى علّمت نفسىَ القراءةْ،  فيما وراء الأسطر المنتظمةْ، كذلك تبيّنت عاملا أخر كان له أ:كبر الأثر فى تكوينى، وهو أننى أخذت الكلام (كل الكلام) مأخذ الجد - فمن خلال علاقتى باللغة شعرت أن الكلام فعل حىّ، وترتب على ذلك أننى -كما وصفنى ذات مرّة أستاذى الدكتور مصطفى زيور - أننى عشت فى مخاض مستمر.
العامل الثالث الذى لا بد أن أبرزه فى هذا المقام هو ما أدركته من قيمة الحركة فى تكوينى، سوآء كانت الحركة جسدية حيث ما زلت أستكشف الدنيا سيرا على الأقدام، أو وراء عجلة قيادة سيارتى، (مما سجلت بعضه فيما يمكن أن يكون من أدب الرحلات نشرمسلسلا باسم: الناس والطريق)، ثم حركة فكرية وجدانية مع كل ما يصلنى من الأصحاء والمرضى من احتمالات أخرى، مستعملا فى ذلك كل ما أمكن امتلاكه من أدوات التعبير، (من أول اللغة العلمية التقليدية حتى اللغة الأدبية بكل أشكالها شعرا ونثرا فصحى وعامية).
خلاصة القول أننى تكوّنت فى إيقاع هادئ، وبلغة محكمة، ووعى ممتد فى رحاب الله، معتمدا على عدد بلا حصر من البشر متفاعلا بهم، أتبادل معهم الأبوة والبنوة فى مرونة نشطة، كل ذلك وأنا محتفظ بوحدتى، مواصلا اندفاعى وتجريبى مما يزيدنى يقينا أنه لم يكتمل تكوينى بعد،
وكيف يكتمل وأنا مازلت حيا أرزق؟
[انتهى مقال الهلال، وسوف يفَصَّل (وقد يعاد) بعض ما جاء فيه فى الفصول التالية]
9 يوليو سنة 2000
أكاد أتقمّص القارئ الآن وهو يقول الآن: فلقتَـنا، كان يكفى أن تقول لنا هذا منذ البداية إن كنتَ مصرّا أن تقول لنا من أنت؟ بدلا من مئات الصفحات التى صدّعتنا بها.
صحيح. اكتشفت ذلك أنا نفسى وأنا أعيد قراءة  هذا "الموجز
ثم إن مئات الصفحات تلك لم تُضِف شيئا فى  المناطق الحرجة.
 أين البيت؟ أين الجنس؟ أين الشك؟
ثم أين الفكر الذى خرج من هذا البنى آدم؟، وهل له علاقة بما هو؟ بمن هو؟
 إذا كانت كل المناطق الأولى "المُأينَنَََََََََََة" حالا (أين - أين - أين.) هى مناطق محظورة بدرجة أو بأخرى فى مجتمعنا هذا، فى زمننا هذا، فإن المنطقة الأخيرة ينبغى أن تُنزع انتزاعا خارج منطقة الحظر. ذلك أنها تتعلق بمسألة أساسية من مسائل المنهج.
المنهج الذى أتبعه كما أشرت سابقا، (وهو منهج تمتد آفاقه إلى الأدب والفن والعلم على حد سواء) هو المنهج الفينومينولوجى، حيث الباحث هو أداة البحث وفى نفس الوقت هو جزء لا يتجزأ من ظاهرة البحث. هذا المنهج ليس هو التأمل الذاتى بحال، بل لعله عكسه. التأمل الذاتى تنشق فيه الذات إلى مُلاحِظ ومُلاَحَظ، لكن هذا المنهج المسمى الفينومينولوجى هو حضور يجمع الذات فى تجلياتها المتضََّمنة فى توجهها الضام مع الموضوع فى آن،
من هنا فإن التعرف على أداة البحث (التى هى أنا فى هذا المقام) هو جزء من التعرف على ما هية البحث، وحين ينتهى مسار البحث فى لحظة بذاته إلى منظومة فروض، ومن ثمّ معالم نظرية، يصبح التعرّف على مُنتجها أهم و أولى.
السؤال الذى يطرح نفسه الآن هو: إلى أى مدى أثرتْ، وتؤثر، السيرة الذاتية فى مسار فكر المفكر؟ وهل هذا التأثير يقلل من مصداقية وموضوعية ناتج فكره، أو أنه يضيف بـعـْدا واجب الاعتبار فى تقييم هذا الفكر، وقد يزيده موضوعية؟
معظم الذىن أضافوا ما يستأهل تكلموا عن سيرتهم، وأكثر منهم فحصوا هذه السيرة فى علاقتها بإنجازاتهم، ومن خلاها. يصدق هذا المدخل أكثر إذا كان موضوع هذا الإنجاز هو ماهية الإنسان، ومساره، ومصيره.
من هذا المنطلق أضع هذا الفرض الذى يقول:
"إن السيرة الذاتية تنضحُ على مسار الفكر أيا كانت مجالاته، سواء فى انتقاء موضوعه، أم فى توجّه تنظيمه، أو فى وعود استخدامه".
تحديدا فى مجال الطب النفسى يمكن أن نعرف من شخصية سيجموند فرويد وتاريخ حياته وحياة عائلته، بل ومن دينه وتدينه (و"لا تدينه")، ما نحَى به هذا المنحى، مقارنةً - مثلا -بكارل جوستاف يونج، الذى يسرى عليه نفس المبدأ، ليختلف المسار، وقس على ذلك.
أشرتُ فى بداية هذا الفصل إلى شكّى فى دوافع  تنظير "فـُلَــر تورى" فى مسألة الفصام والفيروس، وكذا فى دوافع  تنظير الزميل الأستاذ (فى غير الطب النفسى) وتفسيره كل الأمراض النفسية والعقلية تفسيرا فيروسيا قريبا من فكر تورى، وإن كان أكثر تعميما. الأول كانت أخته فصامية، والثانى كان أخوه فصامى. فلماذا وأنا عائلتى هكذا وأكثر من هكذا لم أجد مهربا مثلهما أختبئ فيه بعيدا عن هذه الجينات المتهمة بالإغارة على سلامة العقل وتوازن الذات؟ لماذا لم أنتقى من بين نظريات الإمراض وأسباب الأمراض النفسية ما يبرّئ جيناتى أنا الآخر باعتبار أن كل مرضى عائلتى هؤلاء تعرضوا لهذه الفيروسات قليلة الحياء، أو هذا التلوث الكيميائى الداخلي أوالخارجى، أما أنا فلم أتعرض لهذا أوذاك ولهذا أنا تمام التمام؟ ألم يكن هذا أسهل؟
لماذا ذهبت إلى الناحية الأخرى / وهل ثمة علاقة بين ما ذهبتُ إليه فى تنظيرى الخاص  بكل هذا الذى عرفته عن عائلتى صغيرا وكبيرا؟ طالبا ومتخصصا؟
حين تخصصتُ، وشاع صيتى بين الناس، بما فى ذلك أسرتى الكبيرة، أخذ الكثير منهم يترددون علىّ طالبين المشورة أو العلاج، فأكتشف مزيدا من تجليات المرض العقلى والنفسى بكل أنواعه دون استثناء، وبدرجات جسيمة فعلا، فى أقربائى خاصة، وفى نفس الوقت أكتشف ما يتميّز به السالمون منهم من تفرد وعناد وقدرة خاصة على إعادة النظر والتجديد.
منذ ما يقرب من خمس سنوات مات لى قريب وذهبت أؤدى واجب العزاء، وقليلا ما أفعل، وكان دوّارنا مقابل بيت ابن عم لأبى وقد قارب الثمانين، ويعتبر كبير العائلة وهو فلاح، وشيخ، ونائب، لكنّه لم يكمل تعليمه، وإن كان واسع الاطلاع كثير القراءة. وأيضا كثير التدين عميق الإيمان. ثم إنه كان قد أصيب بما أقعده فى داره فلم يعد يقدر حتى أن يعبر الشارع إلى الدوار. ذهبت أعوده، وأعزّىه، وأقبّل يده، وراح المقرئ يقرأ القرآن فى الدوّار. وكان يتلو الآية التى يقول فيها سبحانه وتعالى ".. وإذ قال ربك للملائكة إنى جاعل فى الأرض خليفة"، وإذا بابن عمّى الفلاح هذا يقول لى، وهو يحاول أن يكتم ألمه مما أصاب دورة ساقيه الدموية، وهو يعرف أن لقاءه بربه - بدوره - قد اقترب جدا، قال لى بطيبة وتلقائىة: "يعنى بقى هوه كان ناويلها"، ولم أعرف عمّ يتحدث، فاستفسرت، فقال:" ربنا سبحانه وتعالى كان ناوى ينزل سيدنا آدم الأرض أهه من الأول". وفهمتُ، وتدرّج الحديث بيننا كأعلى ما يكون التفكير النقدى والإبداع والتفهم والحوار والاستغفار وتحمّل الغموض، وكنت أيامها قد بدأ انشغالى برصد ما يسمّى التفكير النقدى الإبداعى عند الشخص العادى.
أحكى هذه الحكاية كعيّنة مما رحت أرصده فى عائلتى من مرض على ناحية، وإبداع على ناحية أخرى، ويبدو أن هذا البحث المتوازن قد شجّعنى على التمادى فى رصد كل صور المرض (والإبداع) فى فروع الأسرة الأبعد. فلم يعد يقتصر التقصَّى على أولاد العمومة الأشقاء وغير الأشقاء، بل امتد لأقارب الدرجة الرابعة وما بعدها.
ربّما لهذا، تبنّيت عدة أفكار تفسر لى ما أحمل من جينات من جهة، وأيضا تسمح لى بمساحة أكبر فى علاج مرضاى من جهة أخرى. ثم إنى  قمت باقتراح عدة رسائل فى الماجستير والدكتوراه، أشرفت عليها لبحث الظاهرة. كان من أهمها الرسالة التى أشرفت عليها وقام بها المرحوم الأستاذ الدكتور أسامة الشربينى عن تواتر الإبداع في عائلات الفصاميين خاصة. كان أ.د. أسامة  شديد الحماس فوّار العاطفة، وحضرهذا وذاك فى بحثه بشكل ما حتى  أنى وجدت نتائجه تتجاوز حتى فروضى، بل إن بعض المبدعين الذين اكتشف قرابتهم الحميمة لبعض مرضى العينة كانوا من الشهرة والريادة بحيث لا يمكن (ولم يمكن) ذكر أسمائهم تحديدا فى نتائج البحث التزاما بأخلاقيات البحث.
ترتب على كل ذلك ظهور هذا  الفرض الذى ما زلت أعتبره شديد الارتباط بسيرتى الذاتية، وموقفى الشخصى الاستطلاعى حتى ممن لم يلجأ لمشورتى. أصبحت أتحرك مع مرضاى فى مساحة أكبر من التفاؤل والحيطة معا، فكأنى أواجه مع كل مريض مسئولية ناتج تفككه، إما لإعادة تنظيم أرقى، وإما لمزيد من التناثر والتفكك، وأصبحتُ أمارس أنا ومن يعمل معى من الزملاء ومن يدرس علىّ ـ نمارس المهنة باعتبار أننا نواكب مرضانا، خاصة فى أزمات مفترق الطرق:
 إما الابداع أو الجنون.
فمن تمادى فى طريق التناثر نحاول أن نلُمَّه لنرجع به إلى مفترق الطرق، ثم يا تُرى. ومن هو مبتدئ فى طريق المرض واحتمال الإبداع نحاول أن نعيد توجيه مساره إلى الناحية الأخرى.
رحنا نتعرف على مرضانا ليس من لافتة تشخيصية نصـِمـُهـُمْ  بها دوننا، ولكن من خلال النظر فى زخم طاقة الحياة (والإبداع)، ودورية نمطها وتنظيم إيقاعها، نستزيد من المعلومات  التي يمكن أن تشير إلى نوع الإبداع الممكن، أو نوع المرض المتربص، نحصل على ذلك ليس فقط من المريض، أو عن المريض.  بل من، وعند كل من يمكن أن يزودنا بما يعيننا من الأقارب والمعارف.
وليت الأمر اقتصر على ذلك بالنسبة لى، لأننى اعتبرت نفسى مسئولا عن أولادى ليس فقط فى تعليمهم والوقوف بجوارهم حتى يستقلوا ويتثقفوا، ولكن أىضا مسئول عن محاولة الحفاظ على حسن توجيه طاقتهم الحيوية (الحاملة لبذور كلٍّ من المرض والإبداع ) على اعتبار أن البديل المرضى متربص بهم طول الوقت.. فما دمت أنا الذى نقلتُ إليهم هذه الجينات القلقة المليئة بزخم الحركة، فلا بد أن أتحمّل إكمال مسئوليتى بإعطائهم فرصة حقيقية للاستفادة مما يحملون فى اتجاه التفرد فإعادة التشكيل،
 لست متأكدا طبعا إن كنت نجحت أم لا.
وبالنسبة لمسار فكرى التنظيرى، هدانى النظر فى نفسى وفى جينات عائلتى (ومن ثم، مرضاى، ومَـن حولى)  أن يغلب على انتقاءاتى التفسيرية والعلاجية ما يتفق مع فروضى ورؤيتى من مدارس متاحة حالا وتاريخا.
اتفقت مع، واتفق معى، وأخذت من، مننجر Meninger  فكرة المفهوم التوحيدى للمرض النفسى، بمعنى أن أصْل كل الأمراض النفسية واحد لكن تجلياتها تختلف حسب الـظروف والتفاعلات. والزوجة والسن والمرحلة.  ألم تتجلى كل أنواع الأمراض النفسية فى عائلتى على اختلاف درجات القرابة؟
اتفقت مع، واتفق معى، وأخذت من، "هنرى إى" علاقة المرض النفسى بالصرْع، ألم أشاهد وأنا بعد فى التاسعة ابنة عمى وهى تكسر الحوض وتغرق فى دمها، وشقيقتها تصاب بالمرض الدورى ذى العلاقة الوثيقة بالصرّع،
ثم زاوجتُ بين الاستعداد الوراثى وبين مدرسة العلاقة بالموضوع: لأُرجع جذور العلاقة بالموضوع إلى مسارتطور كل عائلة وكل فرد، ذلك المسار الذى تحمله جيناتنا من قديم، وليس لمجرد علاقة الرضيع بأمه مع تجاوز جذور هذه العلاقة الجينية.
وأخيرا والفتُ بين الإيقاع الحيوى الذى يميز دورات الحياة التى عشتها فى علاقة مباشرة مع دورات الليل والنهار، والزرع والفصول، وبين دورات المرض، وحتى دورات النكسة، ودورات التقدم فى العلاج.بل ودورات العبادة.
 ولعل هذا الميل الدورى للإعادة فالبسط من جديد، هو المسئول عن نشاطى الذى تَفَعْلَن أكثر وأطول فى دوراتى الحركية الخاصة ما بين الحل والترحال، ما بين الحنين إلى الركن والإقدام على المجهول، ما بين مهنة الفلاح ومهنة البحار اللتان اخترتهما معا (انظر الترحال الثانى)، فضلا عن تعميق برنامج الذهاب والعودة الذى ظهر فى كل هذا العمل من البداية للنهاية.
.....
وتهرب بذرةْ
إلى جوف أرضٍ جديدةْ،
لتكمن فى الكهف بضع سنين قرونا،
يقولون خمسةُ، ستةُ، سبعةْ
وكلبتٌ أمين.
......
وذات صباحْ
تمطى الجنينُ، أزاح ظلامَ الهروب الجبانْ،
ونادى الوليدُ العنيدُ على الشمس: هيا ابتعينى،
نهارٌ جديد.
هذا بعض ما صوّرته مما جاء فى قصيدة دورة عباد الشمس وأهل الكهف، وهى جزء تجلّى شعرا أثناء تنظيرى للسيكوباثولوجى سنة 9791 مدخلا إلى النظرية الإيقاعية التطورية.
وفى قصيدة "نهاية دورة" فى نفس العمل جاء ما يلى:
أخطُّ على صفحتى الآفِلَــةْ:
نهاية دوْرَةْ،
وأصعدُ ذى المرّةِ العاشرةْ،
وبعد المائةْ.
...
وأسبح فى ضوء يأسى وحيدا
لأمسك خيطا جديدا،
وأمضى عنيداً عنيدا.
وحيدا عنيداً،
 عنيداً وحيدا
أخطُّ على الدرب سر الوجود.
28 يوليو 2000
أقلّب فى كتاب "دراسة فى علم السيكوباثولوجى" جميعه، ذلك الكتاب الذى هو شرح لديوان "سراللعبة"، الذى اقتطفتُ منه هذا الكلام، وأحاول أن أميّز بين ما وصلنى من مرضاى وعائلاتهم وحواراتهم ومسيراتهم وشفائهم وتدهورهم، وما وصلنى من أنباء وأمراض وإبداع وواقع عائلتى، وما وصلنى من سيرتى، فأجد ما يبرر ما ذهبتُ إليه من فروض  تربط بين هذا النوع من النشاط "العلمى" خاصة وبين ما هو سيرة ذاتية.
وأرفض كل المناهج التى تسطح الوجود البشرى إلى ما ليس هو.
كما أحذر نفسى من التمادى.
 
Document Code PB.0116
http://www.arabpsynet.com/Books/Yahia.B1.3  

ترميز المستند   PB.0116

 

Copyright ©2003  WebPsySoft ArabCompany, www.arabpsynet.com  (All Rights Reserved)