Arabpsynet | |||
|
|||
مواقـف النـفـّرى بيـن
التفسيـر والاستلهـام يحيي الرخاوي - إيهاب الخرّاط E.mail : yehia_rakhawy@hotmail.com |
|||
|
|||
q
فهــرس
الموضوعــات
/
CONTENTS / SOMMAIRE |
|||
§
مقدمة
§
قراءة يحيى الرخاوى الباكرة
§
تصدير
قديم : علمُ النفس، مقابل
عـلـم
بالنفس
§
فى رحاب نص
صوفى
§
الجزء الأول :
من موقف: ما لا ينقال
§
الجزء الثانى : من موقف : القرب
§
الجزء الثالث : من موقف : قد جاء
وقتى
§
هوامش الكتاب الأول
§
الكتاب الثانى
استلهام موازٍ
§
إيهاب الخراط * يحيى
الرخاوى
§
مقدمتان : (1) مقدمة يحيى
الرخاوى
§
(2) مقدمة
إيهاب الخراط
§
الربع الأول : صلوات
§
الربع الثانى:
حكايات
§
الربع الثالث: رقصات
§
الربع الرابع: تعليقات |
|||
q
الإهداء |
|||
إلى
مولانا النفّري:
حاضراً (هنا والآن) في عمق وعينا لماذا الأعمال المتكاملة ؟ عجزتْ أداة واحدة أن تستوعب "القول
الثقيل " الذي حمّلتني إياه رؤيتي، من خلال الجدل الحي بين ذاتي ومرضاي ودنياي، فلجأتُ إلي كل ما أتيح
لي من أنغام وأشكال، لكنني لم أكتب إلا مسودات، لذلك كنت أنوي أن يكون العنوان"الأعمال
الناقصة" وخاصة أن ترجمة Collected Worksأو Collected Papers
هي "مجموعة أعمال" أو "مجموعة أوراق" فلان،
الأمر الذي لا ينبغي أن يسمي كذلك أو
ينشر بهذا الاسم، إلا بعد أن يكف صاحبها عن العطاء، أو عن الحياة.
ثم قبل ذلك وبعد ذلك: هل
يكتمل شيء أبدا؟
وحين آن أوان الحسم، قررت أن تخرج كل المحاولات كما
وصلتْ إليه، ولتكتمل بعدُ ، أو تتكامل مع غيرها. فكان هذا العنوان
"الأعمال المتكاملة" أملا في أن يكون جمّاع المحاولة هو "توجُّهٌ ضام، حولَ محورٍ ما". وقد ضُمّ هذا العمل المشترك إلي أعمال يحيي
الرخاوي الكاملة ، ربما
ليحمل معني التكامل مع آخر، وليس فقط تكامل الأعمال مع بعضها البعض. يحيى الرخاوى |
|||
q
تقديــم
الكتــاب / PREFACE |
|||
قبل المقدمة أ) ظهر النفري
يلفه غموض كغموض عصره، نحن لا نعرف من هو، ولا نعرف لماذا لم يتحدث عن مصنـفـاته وأساتذته
أو شيوخه، قال: "إذا ضقت ذرعا بدواعي نفسك فاسكن إلي زوجتك، فإن ضقت فإلي أهل علمك، فإن
ضقت فإلي أهل معرفتك، فإن ضقت فسر في الأرض، فإن ضقت فالزم بابي، فإن ضقت فيه
فاصبر، فإن ضقت فيه فاصبر (كررها حتى قال) اصبر ينفتح لك نور" ومن فرط تواضعه
لم يكتب ما كان يقول، إنما كان يؤلف كتابه شفهيا لمريديه، ويكتفي بذلك. أحمد بهجت ، صندوق الدنيا . الأهرام 15/12/1999 ب)
ويبدو أن النفري قد تلقي الأمر بألا يبوح للآخرين بما يقع له من
تجارب، ومن هنا جاءت لغته مجازية تماما، وفيها الكثير من الجرأة والمغامرة في
النحت والاشتقاق، الذي يصل إلي حد الإغراب، وترتب علي ذلك .(الخروج) عن اللسان
المعتاد والمنطق المألوف، ويوقفنا علي هوة، هي حسب قـول النفري : " برزخ فيه قبر العقل ، وفيه قبور الأشياء"
فشرح
نص النفري يصبح مهمة فيها الكثير من المخاطرة، وإن كان البحث
عن الحكمة يستحق المخاطرة.
و"أوقفني"
معناها أن الله أيقظ قابليتي لتلقي التجلي. و"قال
لي" معناها أنه عرّفني بأن رفَعَ حجابي فعرفتُ، فكأنه قال لي. فبدل أن يقول الواحد منهم (من الصوفية): انـقدح في ذهني هذا الخاطر، يقول: قال لي ربي، إيمانا منه بأن نبع
الحقيقة و ملهمها هو الله سبحانه. أحمد بهجت . صندوق الدنيا
. الأهرام
1/1/2000 وقال لي " .
وادخل علي بغير إذن، فإنك إن استأذنتَ حجبتُك" من موقف الدلالة " لا أحد يعبر
الصراط إلا فوق نارٍ اختار احتمال أن يقع فيها" من قراءة "يحيي" في موقف الاختيار مقدمة (يحيي الرخاوى) أولا :
منهج قراءة "النص"بين
التفسير والاستلهام كيف
نقرأ نصّا ما؟ وقبل ذلك : ما هو النصّ؟ النص هو كل منظومة تتماثل في أفق الوعي، فتستثير
الفهم، أو الحوار، أو الإضافة، أو التكملة، أو الجدل، أو التفرع الخلاّق، أو التكامل،
أو كل ذلك مجتمعا. وقارئ النص هو من تفتّح وعيه للمُـدرَك المتاح ليعيد تشكيله بما أمكن،
وهذا موقف لا يشترِط القراءة والكتابة، بقدر ما يشترط الدراية واليقظة. الإنسان هو نفسه "نص" يحتاج في قراءته إلي ما يحتاجه أي نص. و لعل المشروع العملاق المسمي مشروع الجينوم الذي يحاول قراءة الخريطة الجينية
للإنسان، هو محاولة
علمية رائدة لقراءة النص البشري بفك شفرة
مكوناته الجينية. وحتى هذه القراءة بعد أن تتم، وعلي الرغم من
أنها تعد بأن تكون قراءة بيولوجية مستفيضة، سوف تحتاج إلي قراءات كثيرة لاحقة: ناقـدة
ومستلهِـمة. كل "آخر"(كل
إنسان آخر) هو نص "آخر"، مختلف عن أي نص "آخر". المريض النفسي هو نص أكثر تعريا، وأكثر
تحديا، وهو
"نص" يحتاج إلي قراءة، أكثر منه اضطراب يحتاج
إلي"لافتة"(تشخيص). ولعل هذه الحقيقة كانت
تكمن في خلفية المؤلفَيْن وهما يقدمان علي هذه المغامرة في مواجهة نص بهذا
التعـقيد، وهذا العمق، وهذا الخلود. إن أي نص (بما في ذلك "الآخرـ الإنسان"، وأيضا النص
الإلهي) يمكن أن يتناوله الوعي بوسائل كثيرة، علي مستويات متعددة، نورد بعضها
فيما يلي: 1) التسليم لظاهر النص من فرط حضوره الجاهز والكامل. في هذه
الحالة يكون النص بمثابة
مؤسسة سلطوية. يترتب علي ذلك تسليم تختلط فيه الطاعة بالخوف بالتشكّل لما يلوح
منه دون مواجهته 2) ترجمته كله أو بعضه إلي لغة المعاجم الجامدة (حتى التحنيط أحيانا) مع احتمال
الاستعانة بالتاريخ المشكوك في مصداقيته
عادة. 3)
ترجمته إلي لغة منظومة أخري لا ينتمي إليها أصلا . مثل المحاولات الأحدث والأكثر تسطيحا التي تجري تحت اسم: التفسير العلمي (أو الرقمي !!) للقرآن الكريم. 4)
إنكاره أو إهماله جزئيا أو كليا (عجزا عن فهمه ، وربما
هربا من تلقّي رسالته ، أو قبول تحدّيه). 5)
إدراكه علي مستويات متعددة ، تعلَن كلها، أو يُحبس
بعضُها خوفا من سوء تأويل العامة دون الصفوة. (اتجاه كثير من المتصوفة) 6)
استعماله بظاهر شكله كرمز عياني، له مفعوله الأسطوري
الخاص، مـثل التبرّك به بغض النظر عما يقوله مضمونه. نتوقف
هنا لنقول إن ذلك وغيره قد يتم علي مستوي الشعور أو اللاشعور،
وأن ثمة احتمالا يقول : إن بعض ما وصَلَنَـا من النصوص الخالدة
(والمقدسة) قد وصلنا من خلال قراءات تناولت الأصول حسب المتاح في مرحلة تاريخية بذاتها، قراءات
استعملت لغة معيّنة في أرضية معرفية محكومة بالمُتاح لها.
قد
ينجو النص من وصاية هذه التفسيرات فتظل أصوله النقية متاحة معطاء جنبا إلي جنب
مع اجتهادات تفسيره. وقد يختفي في ثنايا تفسيره، أو يحل
التفسير محله، فتحرمنا التفاسير منه في ذاته، لذاته،
وبالتالي تحرمنا من استعادة الحوار معه لاستلهامه علي أن ثمة نصوصا، ليست مقدسة
بالضرورة، تثبت جدارتها وفائدتها للبشر
والحياة دون أن يستطيع الوعي البشري في مرحلة (أو مراحل) من تطوره أن يلمّ
بمستوياتها المتعددة في آنها، فهي تبدو غامضة أحيانا،
ومتناقضة أحيانا، وبعيدة أحيانا، لكنها تبقي واعدة، متجددة، وكأنها تنتظر، أو
تتحدي. (من ذلك بعض المأثورات والأمثال الشعبية). لعل السبب الذي يفسر هذا العطاء المتجدد
هو قدرة هذه النصوص
علي مخاطبة أكثر من مستوي من الوعي دون أن نعرف أي مستوي هو الذي
يحتاجها، في وقت بذاته. وتتجدد
الإيحاءات مع تغيّر مستوي الوعي المتلقي. وقد تصل أصالة نص ما إلي ما يبدو وكأنه خلود دائم
العطاء. ويعتبر خلود مثل هذه النصوص دعوة ضمنية للعودة إليها، وإعادة قراءتها،
واستلهامها، بما يستجد للإنسان من أدوات ولغات باستمرار، وبما يتحرك فيه ومعه من
مستوياتٍ للوعي متجددة ومتضفرة ومتفرعة. تتميز هذه النصوص عادة بأن عطاءها ليس له زمان محدد. فنحن نكتشف فيها كيف أنها قد تتناول المشاكل الحاضرة، بل
وأحيانا المستقبلية وكأنها تعيش بيننا الآن، ثم غداً، مع أن عمرها قد يصل إلي
مئات، أو آلاف، السنين. وهذا لا يعني قدرة تنبؤية
خارقة، أو معجزة خاصة، وإنما هو يشير إلي عمق ما وصل إليه مثل هذا النص من طبقات
الوعي الأساسية التي تشكل الكيان البشري، فتتجلى متجددة، مع تغيّر الزمان
واللغة. إن خلود
النص لا يرتبط بقدراته التنبؤية بقدر ما يرتبط بعمق
غوصه إلي جوهر الوجود الذي لا يتغيّر، وإن تجددت تشكيلاته وتنوّعت لغاتـه. من منظور نفعي بحت، لا بد أن لمثل هذه
النصوص فائدة للمتلقين عبر التاريخ، وإلا فكيف بقيت هكذا حتى الآن علي الرغم من كل شيء؟ وسط الفيضانات الهائلة من الوصاية والإحاطة والملاحقة بقشور المعلومات، يظل نقاء الوعي البشري قادرا علي معاودة
استلهام مثل هذه النصوص الخالدة، دينية كانت أم غير ذلك. ويُحسب للوعي البشري الجماعي، علي الرغم
من كل ما لحقه، أنه ظل يحافظ علي النصوص المقدسة، وعلي أداء المشاعر الدينية، ضد
كل محاولات الشرح والاختزال والإنكار، بل ضد كل محاولات العـلـمنة، والـعــقلنة، والمَنْطَقَـة. إن محاولات العودة المتكررة إلي نصوص بذاتها تؤكد أمرين: الأول: هو أن القراءات الأولي
، مهما بلغ اجتهادها، ليست كافية. الثاني: هو أن
ثمة حاجة إلي إعادة النظر في المنهج باستمرار. إن هذا العمل الذي نقدمه ـ في رحاب النفري ـ إنما يتحرك داخل نص شديد الغموض، واعد بالخلود، إلا أننا
نلاحظ فيه بوضوح تلك الميزة التي أشرنا إليها حالا من تناوله قضايا
"الآن" بكل تفاصيلها وكأنه يعيش بيننا. إننا لا ننوي، ولا نستطيع، أن نترجم مثل
هذا النص إلي عطاء علم النفس، أو فلسفة العلم، أو مقولات النقد عن
الكتابة "عبر النوعية" مثلا، أو عن علاقته بالحداثة، وما بعد الحداثة،
والتفكيكية . إلخ. ولا نحن ننوي، أو نستطيع، أو نريد، أن نربط بينه وبين عودة
الفلسفة إلي الشارع والمقاهي، والحياة العادية. إن مثل
هذه المحاولات تكاد تكون "ضد" ما نريد
تقديمه. لسنا هنا في مجال الحديث عن بعض ما لحق
بالنصوص المقدسة من
تشويه وامتهان حين عوملت بمناهج حديثة
لا تصلح لها حتي لو سمّيت "علمية"،أو "عقلية"، أو
عقلانية، أو ما شئت من مسميات. منهج الاستلهام الذي نطرحه هنا لا يقترب
من جزئيات النص ليحـشرها في قوالب (لغوية أو علمية)
جاهزة مسبقا، قوالب لم ُتعدّ لمفردات مثل هذه النصوص أصلا، ولا بمـقدورها أن
تستوعب مضمونها. يقوم الاستلهام بالتعامل مع النص القادر
الواعد المفيد كوحْي متجدد، باعتبار أن رسالة النص الخالد بمستوياتها المختلفة
قادرة علي تحريك ما
يقابلها في المتلقي، في أحواله المختلفة، وأزمانه المختلفة، فيقرأها فعلا، أو
قولا، أو إبداعا. ثانيا :
هذه المحاولة تتكون
هذه المحاولة من جزأين (كتابين): الكتاب الأول : قراءة منفردة باكرة لأحد المشاركين (يحيي الرخاوي) والكتاب
الثاني: قراءة متعددة المراحل ظهرت في صورتها الأولي علي فترات. المؤلف
المشارِك، د.إيهاب الخراط، هو الذي تناول أولا نصوصا من النفّري
بالأسلوب الذي ميّز هذا الكتاب الثاني. أثارت
هذه المحاولة يحيي
الرخاوي، فراح يواصل القراءة مستلهِما كلا من النص
الأصلي والقراءة الشابة. نحن إذ
نغامر بنشر هذه المحاولة مجتمِعة، إنما نريد أن ننبه إلي ضرورة أخذ مثل هذه النصوص
الخالدة مأخذا مختلفا. ثم لعل اجتماع مؤلفيْن (قارئيْن،
مستلهِميْن) ينتميان إلي دينين مختلفين يقوم بفائدة غير مباشرة
، في وقتنا هذا، في ظرفنا هذا، فائدة نحن أحوج ما نكون إليها الآن، وإن
كان ذلك لم يكن في بؤرة وعي المشاركين حين أقدما علي هذه المحاولة المتواضعة. |
|||
q
ملخصــات
/
SUMMARY /
RESUMES
|
|||
§
الكتاب الأول : قراءة يحيي الرخاوي الباكرة في بعض مواقف مولانا محمد بن عبد الجبار بن الحسن النفري. استهـلال يعتبر هذا الكتاب الأول بمثابة المحاولات الاستطلاعية التي
انتهت إلي الكتاب الثاني، وقد أعيدت
صياغة ما سبق نشره، ولكن دون أن يضاف
إليه ما ينفيه أو يناقضه. في هذا الكتاب الأول سوف يجد القارئ قدراً ليس
يسيرا من عدم التجانس، حيث تتراوح القراءة بين الشرح والتأويل والحوار والتعقيب،
والابتهال والتنظير. الأمل معقود أن يتحمل القارئ هذا التنوع الذي يفسره أيضاً أن هذا الكتاب
قد كتب علي فترات تتراوح بين بضعة أسابيع وعدة شهور، حيث نشر خلال عام ونصف عام في مجلة فصلية*. ويمكن للقارئ أن
يلاحظ تدرّج الانتقال من التفسير إلي الاستلهام مع
تقدّم القراءة. وقد اقتصر هذا الكتاب علي بعض من ثلاثة مواقف
هي: موقف ما لا ينقال،
وموقف القرب، وموقف قد جاء وقتي. تصدير قديم علمُ النفس، مقابل عـلـمٌ بالنفس في رحاب نص صوفي هذا مدخل آخر* لما هو "علمٌ بالنفس"، وهو التعبير الذي
لن نكف عن استعماله حتى نفتح الأبواب لكل مناهل المعرفة، لنتعرف من خلالها علي
أنفسنا، فلا يقتصر
ذلك علي "علم النفس" الذي لم يدّع يوما أنه المصدر الأوحد. نحن نريد أن نعرف ما هو "نحن"؛ "كيف" ؟
"وإلي أين" ؟ نريد علما بالنفس، جنباً إلي
جنب، وربما سبقاً علي عطاء العلوم النفسية جميعا والتي كادت تخنقها ألعاب مؤسسات
التجارة والسلطة، كما قيد خطوتها ضيق المنهج. علي الرغم من يقيننا الواضح بأن التصوف أساساً هو خبرة مُعاشة، غير
قابلة للكتابة، ومن ثم غير قابلة للشرح والتأويل، إلا أننا بعد ما تلكأنا أكثر
مما ينبغي لم نعد نملك إلا أن نعاود المغامرة. فقد اكتشفنا أننا لو استسلمنا
لهذه المقولة (العجز عن الكتابة عن ما لا يـُكتب، (أو ما لا ينقال
بلغة مولانا النفّري) فإننا نساهم في دفن هذه الخبرة
البشرية الإيمانية بعيداً عن وعي من لم يألفها، فلم يَـْرتـَدها، وبالتالي فنحن
إذا انسحبنا إنما نساهم بهذا الانسحاب (المتعالي بشكل أو بآخر) في اختزال الوعي
الإنساني إلي ما أريدَ به من جانب الوصاة
والمستـثمرين!!! نحن لا ندّعي القدرة علي الإلمام بفيض ما يوحِي به هذا النص، كما
وصل إلينا، وإنما نحاول أن نتطفل علي مائدة النفري،
إذ ندور حول متنه، لعلنا نضيف هوامش واعدة نستنشق من خلالها بعض عبير ريح هذا القطب الجليل.
§
الجزء الأول : من موقف:
ما لا ينقال 1) أوقفني فيما لا ينقال
وقال لي: به تجتمع فيما ينقال لاحِــظ الجر والمجرور: "به".
ثم لاحظ "تجتمع". فهو لم يقل به
تعرف ماذا ينقال، وإنما قال "به تجتمع".
ثم انظر في جرٍّ آخر بحرف الجر "في"، تجتمع في/ما، وليس
تجتمع فقط، ولا حتى تجتمع إلي، تجتمع "في" ماذا!؟ "فيما ينقال". صـَوّرتْ لنا قشور العلم "الحديث" أن المخ
البشري لا يفرز إلا فكراً أو كلاماً (ينقال).
تـُذكرنا هذه الوقفة أننا لا نفرز ما ينقال فقط،
ولكننا،أيضا، وربما قبلا : "نجتمع به" و "نجتمع فيه"، فــ: ينقال،
أو يقول دون أن ينقال.
وحتى نجتمع فيه، لعله ينقال، علينا
أن نقف فيما لا ينقال أولاً، وكثيراً. ثَمّ وجه شبه، وأيضا ثَمّ فرقٌ، بين ما لا ينقال
هنا، وبين مفهوم سيمياء اللغة(2)، وهو أن تقرأ ما لم
يُقَلْ من خلال ما قيل، ذلك أن ما لا يقال هنا كأنه "لا يمكن أن ينقال أصلا" بالوسائل المتاحة، وأن إخفاءه هو حتمٌ
ليظهر: فعلا أو وعيا أو وجودا متميزا. 2) "وقال لي: إن
لم تشهد مالا ينقال، تشتّتَ بما ينقال" أيضا: شرط أن يكون ما ينقال جديراً
بالإنصات، أو بالحضور، أو خليقاً بالحوار، أو واعداً
بالإضافة، شرط ذلك أن "نشهد" ما لا ينقال.
فإن لم نفعل، أصبح ما ينقال عبئاً علي معرفتنا لا
إضافة إليها. بمعني أننا إذا عجزنا عن أن نشهد ما لا ينقال،
لم ننتفع بما ينقال بل إن"ما ينقال" إذا
استقلّ واستغني فلم يكشف عما لا ينقال، أو لم يُشر
إليه، فإنه ليس فقط يخفيه، وإنما هو أيضا يشتته، وهذا بعض ما تفعله
المناهج الجزئية- مهما كانت محكمة أو رصينة
بالمعرفة الكلية الضرورية. هي تظل تُجَزِّئُ فنجزِّئْ
حتى تتشتت فتُـشتِّتْ. فكأننا بالاقتصار علي منهج "ما ينقال"
دون شهود "ما لا ينقال"، نـُضاعف من تجهيلٍ
منظم، تحت لافتةٍ منهجية خادعة. وقد يكون في هذا أيضاً
إشارة هادية تضيء المعني الإيجابي لما هو: "الإيمان بالغيب"، وهو أساس
جوهري في الإسلام، فقد فهم البعض
الإيمان بالغيب باعتباره ضربًا
من التسليم للمجهول، أو للغائب. وبالتالي فإن
من يفعل ذلك هو جاهل أو مخرّف. إن الغيب ، بما يوحي به هذا الموقف إنما
يتضمن "ما لا ينقال". وبالتالي فالإيمان به
يتطلب الاعتراف بأن "ما لا ينقال"، هو
"غيبٌ فاعلٌ"، وليس غيبا سلبيا. وهو موقف
أصـْلٌّي لا وصاية لآخر عليه، هو حضور قبل الحضور وبعده.
صعبٌ
علي الفكر المغترب المحدود (المادي أو المنطقي الأرسطي،
أو الرياضي النيوتوني) أن يري يقينية الغيب لدرجة
الإيمان به شاهداً شامخاً. الغيب "هو امتداد واعد بالمعرفة المفتوحة
النهاية". الإيمان بالغيب ليس استسلاما لآفاق
الخرافة. 3) "وقال لي: ما
ينقال يصرفك إلي القولية،
والقولية قول والقول حرف، والحرف تصريف". هذا التحذير هو تنبيه إلي خطورة انفصال
اللفظ عن معناه. لعلّ ذلك هو ما أسماه سيلفانو أريتي"اللفظنة"Verbalism(3) ، حين تقف الألفاظ بذاتها
لذاتها، وليس لما تتضمّنه أو تدل عليه. هكذا يشرح النفري مخاطر القولية باعتبارها مدخلا إلي التجزيئ
المغترب، وهو الذي إذا تمادي أدّي إلي التفسخ. حين يعلن النفّري هذا التدرج من القولية (النافية لما ينقال) إلي
القول الذي يـُختـَزَلُ بدوره إلي الحرف، فهو ينبهنا إلي مخاطر إغلاق الدائرة في حركة
لفظية كلامية هامشية تفصيلية مشتِّتة،
ليست كافية للإحاطة بما يمكن الإحاطة
به، بل إن الأمر إذا اقتصر عليها أصبحت
مستبْعِدة لغيرها، فيتقزّم
الوجود. 4) وما لا ينقال
يشهد في كل شيء تعرّفي إليه ويُشهدك من كل شيء مواضع معرفته". هو يؤكد مرة أخري كيف أن ما لا ينقال هو
إشهاد موجَّه إلي المعرفة الغائرة إلي جوهر الشيء،
وفي نفس الوقت فإن ما لا ينقال هو أيضاً وسيلة إشهاد لمواضع المعرفة كمفاتيح إلي الشيء، وليس كمحددات
مغـلقة علي الشيء. هنا تنبيه إلي أن هجومنا علي التجزيء التجهيلي والاختزال، قد
يـُفهم علي أنه إعلاء لشأن كلية شمولية هلامية، وهو ليس كذلك، بل إننا نري أن
الوقوف فيما لا ينقال يهدي إلي مواضع المعرفة
المحددة، فهو يكشف التفاصيل إلي ما يراد تحديدا. والتفاصيل بهذه الصورة هي جامعة
للكل ومشتملة إليه، وهذا هو التعدد في "الواحد"، حين يقوم كل جزء مقام
الكل لا بديلاً عنه، ولا شذرة نافرة منه.(4) 5) وقال لي:
العبارة ميل، أما أن العبارة
ميل، فهي كذلك. إنك متي عبـَّرتَ، صـُغت الجوهر في ألفاظ لا تكفي عادة للإحاطة
بالكل الذي كان يريد أن يظهر. هي ميل لأنها جزء، والجزء يخدع إذا بدا وكأنه
الكل، فهو بذلك يخفي الكل، حتي ولو كان يحاول أن يُظهره. هي ميل لأن المتلقي إنما يتلقاها بما يصله منها، وما يريد أن
يستقبلها به، وليس تماما بما أرِيدَ أن يُبَلَّغ من خلالها. وهي كما تميل
بقائلها إلي بعض ما يريد، تميل بمتــلقيها إلي الاكتفاء بما يمكن أن يُدرك منها. ليس معني ذلك أن نتجنب التعبير (العبارة)، بل
المطلوب هو أن نجعله مجرد وسيلة ضمن وسائل كثيرة. 6) فإذا شهدت ما لا يتغيّر لم تمل قرأتُ
"المشاهدة" ليس باعتبارها تحديدا مرئيا، وإنما باعتبارها نشاطا متكاملا
للإدراك الخارجي والداخلي معا، بما في ذلك نشاط ما يسمّي بالعين الداخلية(5) التي بها تكتمل الرؤية
إلي الإحاطة. وما لا يتغيّر هنا وصلتني ليس باعتبارها
ما لا يفيد السكون، وإنما بما يعني نهاية سهم التوجّه إلي الغاية القصوي، إلي وجهه تعالي.
هذه مرتبة
لا يطمع أحد أن يـُغْري بها من لا يقدر عليها. لا بأس أن نشير إلي بعض معالمها،
للذي يحاول أن يشهد الحقيقة المطلقة، فيتواضع في تقديس
العبارة تواضعا يجعلها تؤدي وظيفتها في حدود الإشارات والإيحاءات. ولا يجعلها
تسجنه باعتبارها الوسيلة الأولي والأخيرة
في التواصل والتحديد. 7) وقال لي: القول يصرف إلي الوجد، والتواجد بالقول يصرف إلي المواجيد بالمقولات كنت أفضل ألا أقف عند هذه الإنارة لما بها من استعمالات خاصة لما هو مشتقات لفظ
"وجد"، فعندي أن الوجْد (اللفظ العربي الذي لم أجد له ترجمة دقيقة إلي
الإنجليزية(6)) هو" جوهر كلّي معرفي عاطفي إرادي شامل"، لكن النفري هنا يستعمل جانبا محددا خاصا لما هو وَجْد فيما
يتعلق ـ علي ما أعتقد ـ بما هو انفعال، وهذا من واقع السياق لهذا التعبير بربطه
بسياق التعبير السابق مباشرة، والمشار إليه فيما هو ميل. الانفعال متصل بما هو
هوي، والهوي ميل، لذلك سوف آخذ الوجد هنا بهذا المعني
المحدود المتصل بالانفعال، أما المواجيد والتواجد
فسوف تكون أقرب إلي الوجود والموجود. وأبدأ من الآخر: ينبهنا الموقف عامة إلي ضرورة الحذر من،
وترك ما، يصرفنا عن الحقيقة، فكلمة "يصرف" هنا تفيد هجر ما لا يصح أن يٌهجر
: فلا يصح أن تكون المواجيد بالمقولات،
لأن المواجيد (ودعنا نفهمها أولا علي أنها الموجودات) هي قبل وبعد المقولات.
المواجيد ليست أسماؤها، وبالتالي فإنه إذا حلّت
"المقولة" محلّ "الموجود" تراجعت الموضوعية، وهذا الإحلال
إنما ينتج حين نعطي للكلام قيمة تجعله موجودا في ذاته بذاته، فيصبح مبررا للوجود، علي حساب الحقيقة.
إن النفّري لم
يشر مباشرة هنا إلي أولوية الفعل الذي يفرّق بين الكلمة الفعل، والكلمة الصوت. إننا إذا تراجعنا عن تقديس الكلمة لذاتها،
فإن الوجود يرتبط بحركة فعلٍ أولية، وهنا لا يصرفنا القول إلي التواجد بالوجد
(الذي فهمتُ أنه الانفعال عند النفري)، وإنما يدفعنا
إلي الفعل للوجود، أي إلي المواجيد الأصل، وفي هذه
الحال يصبح القول (المقولات) فعلا في ذاته، أي وجودا حقيقيا. هذا ما أقصد إليه بما هو "الكلمة الفعل". 8) وقال لي : المواجيد بالمقولات كفر علي حكم التعريف. إذا كانت معرفتنا ستتوقف عند ما توجِدُهُ المقولات وليس المشاهدة (أو
المباشرة)، فإن ذلك لا يعد انصرافا عن الموضوعية
بمعرفة ناقصة فحسب، بل إنه كفر (بمعني الاغتراب) ثم تأتي عبارة "علي حكم التعريف،
" فنفهمها علي أن هذا
الكفر هو كذلك بنص تعريف الكفر.
أي
أنه لو اقتصر ما هو موجود علي ما هو ُمتضمَّن في مقولة معلنة (عبارة قيلت) فإن
ذلك ينقص من حقيقة الموجود لدرجة الكفر به، أي إنكار جوهره جهلا وعماء. هذا المعني للكفر يجعله مرادفا للاغتراب عن الواقع
الحي الموضوعي بشكل أو بآخر. 9) وقال لي: لا تسمع في من الحرف، ولا تأخذ خبري عن الحرف. الحقيقة الموضوعية المطلقة هي السبيل إلي التعرف علي الوجود الإلهي، والمعرفة
المجزَّأة، أو بتعبير أصح التجزيئية لا يمكن أن
توصلنا إلي الحقيقة الموضوعية المطلقة، إلي الله، علي الرغم من أنها قد تشير
إليه. وصلني لفظ الحرف هنا تفسيرا لكلمتي "العبارة"
و"المقولة"، وحتى المواجيد (بالمقولة أو
بالعبارة)، فكلها حروف. كأن النفّري هنا يشير إلي أن
الكلمة إذا لم تحمل معني الفعل في سياق المعرفة الأقصى، فهي ليست إلا حرفا، أي
جزءا لا يفيد كلمة كاملة، ناهيك عن جملة، ناهيك عن جملة مفيدة، ناهيك عن حقيقة
موضوعية نسبية، ناهيك عن حقيقة موضوعية مطلقة تأخذ بيدك نحو الله سبحانه!! يستحيل أن نعرف الكل من مدخل الجزء إذا ما كان هذا الجزء بهذا النفور
المتحوصِل، أو بهذا الغرور الذي يبدو به أنه قادر علي أن يحل محل الكل في غباء
مختزِل. يأتي هذا التحذير المباشر بأنه يستحيل أن
يصل بنا ما هو حرف، في ذاته بذاته (حرف تَحَوْصَلَ
وانفصل)، إلي ما هو موضوعي مطلق.
الحرف ـ هكذاـ عاجز عن أن يوصل لنا صوتا
دالا إلي الخالق سبحانه. إن هذا لا يعني الاستغناء عن الحرف، ولكنه
يعني ضرورة عدم الوقوف عنده، أو اعتبار أنه وحده هو السبيل للوصول "إليه". 10) وقال لي : الحرف يعجز أن يخبر عن نفسه فكيف
يخبر عني تأكيد أكثر صراحة أن الكلمة (الحرف) لا تستطيع أن تحتوي معناها كما
أريدَ منها، وبها، أصلا. فإذا كان الأمر كذلك، فهي أعجز عن الدلالة عن مضمون الوجود
الجوهر. هي لا تفيد ـ بمجرد رسمها ـ في الكشف عمّا تشير إليه إلا إذا تجاوزت
نفسها، أما إذا اقتصرت علي أن تخبر عن نفسها كما يأتي تعريفها في المعجم مثلا،
أو بما تـسجنها فيه
وصاية المفسرين منفصلة عن
سياقها الطولي (التاريخي)، أو سياقها(العرضي)،
فهي أعجز فأعجز. فكيف نأمل منها أن تخبر عنه سبحانه، وهي علي هذا الحال
من العمي والبلاهة ؟ 11) وقال لي : أنا
جاعل الحرف والمخبر عنه هذا القول في ذاته إنما يـُرجع للكلمة قيمتها المحدودة في مكانها المتواضع
كأداة جزئية تتكامل مع غيرها ساعية إلي الإشارة إلي خالقها.
إن رواية إبراهيم عليه السلام وهو يسعى في البحث عن أصله وحقيقته لا تعني
بالضرورة أن هذه هي الوسيلة الوحيدة للاستدلال عليه، وإنما هي تشير إلي كيفية
الاستفادة من تجميع توجّه الأسهم التي تتجه إليها المخلوقات لتتجمع في المدى غير
المنظور، فيه سبحانه. إن
القضية التي يتناولها النفري هنا هي ضد الدعاوي الأحدث للوصاية المطلقة للتفسير اللغوي، وأيضا هي تبطل البدعة
الجديدة المسماة "التفسير
العلمي"، للنص الإلهي، وهي كذك تنبيه إلي عدم
الرضا بما يبدو إثباتا منطقيا للوجود الإلهي. إن السماوات والأرض والأنعام والبشر وسائر المخلوقات لا تثبت وجوده
مع أنه هو خالقها، وهو المخبر عنها، فهي ليست إلا
تذكرة لما ينبغي أن نتطلع إليه وراءها حالة كونها حرفا/ عبارة/ مقولة هو خالقها لتشير إلي الطريق إليه، لا لتــُـثبته أو تنفي نفيه.
12) وقال لي :
أنا المخبر عني لمن أشاء أن أخبره إنه لا سبيل إليه إلا به، وما هذه الحروف والعبارات والمقولات، والمواجيد، إلا تحريك فرعي، يدورُ ولا يحدِّد، يستثيرُ ولا
يُخبـر، لكنها أدوات لازمة لاستمرار القلقلة الساعية إليه، وتحديد الهوامش المحيطة بالمتوجه إلي وجهه،
وبقدر تمكننا من هذه الأدوات والهوامش دون السجن في داخلها، وبقدر حذقنا
استعمالها دون التوقف عند الاحتكام إليها، بقدر هذا وذاك: نجاهد في اتجاهه،
فنشاء أن يشاء، فيخبرنا عنه لمن شاء منا، ممن اجتهد إليه به، وليس ممن اكتفي
بالاستدلال عليه بحروفه. 13) وقال لي :
لإخباري علامة إشهاد، لا توجد بسواه ولا يبدو إخباري إلا فيه مولانا النفري هنا يمضي يؤكد أن
المشاهدة هي الأصل، وهي الدليل، وهي العلامة، وهي علامة فريدة حاضرة شاملة
مشتملة، وهي خاصة شديدة الخصوصية، لا توجد بسواه، فإذا وُجدت فهي النور الذي
يهدي إليه، وبدون هذا الإشهاد يستحيل الاستنتاج أو
الاستدلال أو الإشارة أو الإخبار.
مرة
أخري أتصور أن هذا لا يمكن أن ينتهي بنا إلي كلية الغموض، ولكنه يحذرنا من التوقف
عند جزئية الحروف، كما ينبهنا إلي أن أي إخبار دون علامة الإشهاد
هذه هو إخبار مؤقت، أو سطحي، أو مرحلي، لا ينبغي أن نرفضه، ولكنه ليس هو علي كل
حال، قد يكون الطريق إليه، لكنه في نفس الوقت قد يكون الطريق إلي ضده، أو بعيدا
عنه. نتوقف هنا عند التصور الشائع عن لفظ الشهادة، بدءا
بـ "شهادة ألا إله إلا الله". ننتبه إلي التفرقة بين "شهادة" ألا إله إلا الله،
وبين الاعتقاد أنه لا إله إلا هو. فالشهادة حضور مباشر أقرب إلي الإدراك Perception منه إلي إعمال الفكر، وهذا النوع من الإدراك
لا يستبعد الفكر والتفكير، لكنه لا يتبعه.
أما
الاعتقاد فهو لا يتنافى مع الشهادة إلا أنه لا يغني عنها، ولا يحل محلها. 14) وقال لي :
لا تزال تكتبُ ما د متَ تحسب ، فإذا لم تحسبْ لم تكتبْ هو
ينهَي هنا عن نوع من الكتابة (سيتأكد هذا حالا في الإنارات
التالية حتى نهاية موقف ما لا ينقال)، فأي نوع من الكتابة هذا الذي
ينهي عنه؟؟ أول إشارة تقول: إنها الكتابة التي تتعلق بالحساب، فإذا رجعنا إلي
سياق الموقف كله، بل إلي السياق العام كله، أدركنا أن الحساب هنا هو حساب المنطق المسلسل
(منطلق أرسطو مثلا)، وحساب المكسب والخسارة، وحساب المعني الظاهر، وحساب الحرف المغرور،
وحساب التنمية الكمّية، ولأن كل هذه الحسابات لا تدور إلا في الهوامش، فهي تفتقر
إلي الجذب المحوري الذي يضمها إلي بعضها البعض، وإليه، فإنها تحتاج إلي الكتابة،
فأصبحت هي والكتابة سواء. الكتابة/الحساب
هنا وصلتني باعتبارها مرادفة لـ "القيمة الكمّية" الاستهلاكية التي
أفسدت حياتنا المعاصرة. من بعد آخر: وصلني موقف مولانا النفري
وكأنه يعيش معنا الآن يشاركنا أزمة أخري، لعلها أقرب إلي ما يسمّي "مأزق
المثقفين"، حيث أصبحت الكتابة بديلا عن معايشة الخبرة علي أرض الواقع. كأنه ينبه إلي، ويحذر من: النشاط العقلي الاغترابي حتى
لو سمي ثقافة أو إبداعا، وفي هذا السياق بالذات هو يشير إلي أن الكتابة ـ
المتعلقة خاصة بالحساب ـ هي من أسطح أنواع "ما ينقال"
، فإذا صارت بديلا عن "ما لا ينقال"، أو
مـُخفية له، أو مغنية عنه، فهي الاغتراب. 15) وقال لي:إذا لم تحسب ،
ولم تكتب ، ضربت لك بسهم في الأمية ،لأنّ النبي
الأمي لا يكتب ولا يحسب هنا يأتي التفسير الرائع الذي غاب عن كثير
من المفسرين لما هو أمية، وبالذات: كيف أن النبي عليه الصلاة والسلام كان أميا. إن محو الأمية بالصورة المسطحة الشائعة،
قد يكون إسهاما في تجهيل منظم لصالح البعد عن المعرفة الأصل. هذا لا يعني دفاعا
عن العجز عن فك الخط، أو حرصا علي استمراره، إلا أنه تنبيه إلي أن الذي ندعو إليه تحت
عنوان "تعليم القراءة والكتابة" باعتباره محوا للأمية، قد لا يكون فكا لـلخط، وإنما هو قيد بالخط
. أن تكون أميا لا تعني ألا تعرف القراءة والكتابة، وإنما هي تعني ـ
في هذا السياق ـ أن
تكون مفتوحا علي كل لغات الحياة، وليس مقتصرا علي لغات رموز البشر المحدودة
بالتاريخ والجغرافيا والأصل والأصوات،
هذه الأمية هي توسيع مدي الرؤية لتعبر حدود الحرف دون أن تُغْفِلَـهُ. هي
الأمية المعرفة التي هي ضد الكتابة العقلنة. الأمية المعرفة هي ضد الاقتصار علي
الحساب/الكتابة. و الكتابة العقلنة هي ضد الشهادة/المكاشفة. فالنهي عن الكتابة والحسابات هنا هو
الطريق إلي شحذ قدرات المعرفة الفطرية ـ لا الفجة ولا البدائية . سهم الأمية بهذه الصورة
، هو وسيلة معرفة وليس نصيب جهل. هو إعلان المباشرة وتنمية المكاشفة بكل ما يعني ذلك من
مسئولية المجاهدة ، ومعاناة الرؤية. 16) وقال لي : لا
تكتب ولا تـهم، ولا تحاسب ولا تطالع يأتي النهي هنا مباشِـراً، ومحددا، ومع ذلك فينبغي أن نرفض أن يـُفهم
هذا النهي بهذه الصورة باعتباره دعوة إلي الجهل، وخاصة إذا خدعنا ظاهر قوله
"ولا تحاسب" و"لا تطالع". من حيث المبدأ: إن السياق العام هو الذي يحدد لنا ماهية المنهي عنه
تخصيصا دون تعميم، كذلك فإن الإنارة السابقة مباشرة ـ كما أوضحنا ـ هي متعلقة
مباشرة بهذا النهي الصريح. المنهي عنه هنا هو ما اغترب
من هذه النشاطات (الكتابة، الفهم، الحساب، القراءة)، اغترب حتى أضل الإنسان عن أصله،
عن حقيقته، وهو ما شاع حديثا في أغلب فروع علوم الدنيا وكثير مما فسد من علوم
الدين. (بما في ذلك البحث العلمي الشكلي، والتفسير
الديني اللفظي المتجمد) أتتني هذه الإضاءة قياسا علي ما أنهي طلبتي عنه أثناء التدريب علي
العلاج النفسي، حيث أكاد أمنعهم عن القراءة
في العلاج النفسي قبل البدء في الممارسة ، وأن تتناسب القراءة تناسبا محددا مع التقدم في الممارسة العملية تحت الإشراف،
أي بعد مباشرة واقع الحال، حتى لا يكون
العلم المكتوب وصياً علي المعرفة المشاهَدة، والمُعاشة. فإن صحّ هذا في التدريب
علي حرفة مداواة، وهو صحيح، فما بالك
بالساعي إلي الحقيقة الموضوعية المطلقة في كلية جلالها ؟؟ هذا بالنسبة للكتابة والحساب
والمطالعة، فما حكاية "لا تهم" هنا ؟ تصوّرت لأول وهلة أن ثمة فاء سقطت، وأن الكلمة هي "لا
تفهم"، وهي ما يقابل ما قاله لي أحد المرضي "أنا أفكر، إذن أنا لست
موجودا" فأضفت
ما فهمته منه أنه "لا تفكّر، ولكن استعمل التفكير"،
لكنني لم أجد ما يبرر هذا التصحيح في أي
من الطبعات المتاحة للمواقف، فرجعت إلي الالتزام بما قال النفّر أنه "لا
تــهم"، فوجدت ما يبرر أن تظل كذلك حيث ورد في مادة همّ ما يفيد معني:
"لا تختزل أو تجتزئ أو تكتفي بالتفاصيل (7) . 17) وقال لي : الهم
يكتب الحق والباطل ، والمطالعة تحسب الأخذ والترك يعود النفّري ليؤكد معني الهم الذي
رجّحناه، وهو الانشغال بالتفاصيل عن المعني المحوري، فهو ينبهنا مرة أخري إلي خطورة أن نكتفي
بتحسّس الشيء بتفاصيله الظاهرة لنرضي أن نحدد معالم الصواب والخطأ بمقاييس
الصواب والخطأ كما شاعت ظاهريا، ونفس الأمر يسري علي الكتابة التي تكتفي بتحديد حساب المكسب والخسارة، بتفاصيل الأخذ
والترك.
ترتبط بهذه القضية قضية الأخلاق
بمستوياتها المتعددة . إن هذا المستوي المشار إليه هنا (الصواب والخطأ
ـ الحق والباطل ـ الأخذ والترك ـ المطالعة والحساب) هو مستوي واحد محدود، أما
تجاوزه إلي ما بعده ليكتمل به، فهو مستوي الحقيقة، والمشاهدة ، والموضوعية. 18) وقال لي :
ليس مني ولا من نسبتي من كتب الحق والباطل وحسب الأخذ والترك أن يقتصر ما هو حق علي ما هو "مكتوب" (كما هو الحال في
الرضا بالاكتفاء بالتهليل للمواثيق المسماة بحقوق الإنسان، وما شابه.) هذا هو ما
يتبرأ منه النفري. كذلك هو ينبه إلي اغتراب الصفقات (الأخذ
والترك)، ولكنه لا ينكرها.
تعبير
"ليس مني" بهذا الحكم المرعب قد يعني لأول وهلة نهياً مطلقا، لكن لنا
أن نتحسب ونحن نفهم ذلك لأول وهله ، ذلك لأن هذا النهي
بهذه الصورة لم يأت إلا بعد تمهيد وإيضاح
لماهية الكتابة والحساب في هذا
الموقف بالذات. نفهم ذلك في إطار أن المنهي عنه لدرجة التبرؤ منه
، هو الاكتفاء بذلك دون سواه أو أن تحل الكتابة أو يحل الحساب محل
المسئولية الأعمق والفعل الأشمل. بألفاظ أخري : إن المنهي عنه-كما وصلني
هو ألا نعتبر الكتابة والحساب وما إليهما هما السبيل
الأول أو الأوحد للتوجه إليه، حتى لا تصبح الكتابة والمكتوب بمثابة البديل عن
الحقيقة الموضوعية. إن خطورة التوقف عند الحساب أو الكتابة هو احتمال إجهاض أي إبداع إيماني حقيقي(8). 19) وقال لي : كل كاتب يقرأ كتابته ، وكل
قارئ يحسب قراءته بعد أن أوضح وحذّر، ثم أشار وأرشد، ثم نهي وأنذر، راح يبلغنا ما
وصله من أن مسئولية الكتابة والقراءة، هي مسئولية مباشرة تتوقف علي نوع الكتابة والقراءة،
فحين يتخذ أحدنا الكتابة والقراءة (المطالعة) أساسا مطلقا لما هو حق وباطل،
وسبيلا أوحد لما أخذ وترك، فليشبع بما اختار حيث لن يوصله إلا إلي ما
اختار. سوف يجد نفسه داخل حلقة ذاته، وظاهر ادعاءاته، وغباء حساباته، وتحوصـُلِ معارفه؛ فهو لم
يتجاوز، ولم يغامر، ولم يستسلم، ولم يسلّم، ولم يهاجم، فلم يشاهد ولم يعرف. ليشبع بما كتب، فهو لن يقرأ إلا ما كتب وليفرح بما قرأ، فهو لن يكسب إلا ما حسب. وسوف يظل ليس منا، وليس بشي. أما من كانت كتابته مسئولية، وقراءته مسئولية ، فكفي بنفسه عليه حسيبا. لعل النفري قد
استلهم الآية الكريمة" إقرأ كتابك، كفي بنفسك
اليوم عليك حسيبا " فوصله منها ما هو أبعد من الشائع تفسيرا لها. "أن تقرأ كتابك" يشمل أن تواجَـه بما سُجَـّل من أفعالك، فإذا
شمل ذلك أن تقرأ كتابتك امتدت المسئولية ليس فقط إلي ما كُتب وسجِّل مما فعلت،
وإنما إلي ما كتبته بنفسك، أي إلي ما اخترته لنفسك نوعاً ومحتوي.
فإذا أضفنا
حساب مسئولية ما تــقرأ، فهي أثقل وأعمق، حيث يصبح ما يصلك من كتابتك، أو كتابة
غيرك، بل من أي قراءة بأي لغة، هو رسالة عليك أن تحدد موقفك منها، الكتابة
والقراءة ليستا نهاية مطاف أي مجتهد. الكتابة مسئولية، والقراءة مسئولية، أولا وأخيرا.
|
|||
Document Code PB.0121 |
ترميز المستند PB.0121 |
||
Copyright ©2003 WebPsySoft ArabCompany,
www.arabpsynet.com (All Rights
Reserved) |