Arabpsynet

Livres  / كتــب /  Books

شبكة العلوم النفسية العربية

 

ورطــة قلــم

أ.د. يحيى الرخاوي

المحروسة - 2000

E.mail : yehia_rakhawy@hotmail.com

 

q       فهــرس الموضوعــات /  CONTENTS / SOMMAIRE 

§         الجزء الأول ... القصة النقد

o         قصة في قطار

 

§         الجزء الثانى ... المقال القصة

o         التقرير .. والتوقيع.

o         ولو !!!

o         الذراع  والحزام.

o         دبّرنى يا وزير !!!.

o         عين وصابت

o         قاب قوسين أو أدنى.

o         اللعبة والملعوب

§         الهوامش:

o         هوامش الجزء الأول.

o         هوامش الجزء الثاني

 

q       تقديــم الكتــاب / PREFACE

 

      حين قررت الظهور بعد أن اقتربت الساعة، جمعت قصصي القصيرة التي نشرت والتي لم تنشر، فوجدت بينها قصصا أشبه بالمقال. كما نظرت في بعض مقالاتي فوجدتها مقالات أشبه بالصور القصصية. فجعلت منها الجزء الثاني وسميتها باسم آخر ما كتبت من هذا النوع من الكتابة "اللعبة والملعوب "، (مجلة سطور عدد 40 مارس 2000) وهى المحاولة التي جربت فيها التناوب بين غلبة النصفين الكرويين، حيث نشأت في صورتها التقليدية بعنوان " ماذا بعد أن لعبنا معا لعبة الألفية الأهرام في: 1/18/ 2000 (التي أوردتها في الهامش)، ثم جمعت إلى هذا الجزء ما شابهه مما سبق نشره. أما الجزء الأول ففيه شهادة كاتب يمارس النقد أحيانا، قدمها وهو يمر بتجربة كتابة قصة طويلة أو رواية قصيرة في وقت محدد، كنوع من التجريب التأملي المتوازي مع فعل الإبداع.

    فلعل هذا العمل بجزئيه يمثل عرض جانب من ممارسة خاصة لفعل الإبداع أكثر من دلالة محتواه.

 

q       ملخصــات  /  SUMMARY / RESUMES 

 

الجزء الأول

شهادةٌ في قصة ليست قصيرة!!

الورطة

"قصة في قطار"(1)

 

علي المقهى الذي في ميدان سيدي جابر، بعد شريط الترام وأنت ذاهب نحو المحطة توجد قهوة كبيرة ماسكة ناصيتين، جلس علي الرصيف في الظل ووجهته ناحية الترام، لا ناحية المحطة، مع أنه في المرّة السابقة كان يجلس ووجهه للمحطة، وراح ينظر إلي ناحية القطار كل قليل،  وكأنه سيراه وهو قادم فيجري ليلحق به،بدا وكأنه  لم يصله خبر أن الأمور تغيرت، وأن قطارات هذه الأيام لا تحتاج إلي الحدْس ومباريات الجري، كلّه تمام بالدقيقة، شيء فرنساوي، وشيء توربينو، وشيء أسباني، مصلحة السكك الحديد المتحدة، ثم إنه لمّا تجوّل المرة التي فاتت اكتشف منطقة لم يكن قد تجوّل فيها من قبل، توجد هذه المنطقة علي الناصية المقابلة، الناحية الثانية من شريط الترام، مطعم صغير أمامه شوّاية الفراخ بروائحها التي هي، هذه أيامها بعد حكاية جنون البقر، ثم فرن جميل نظيف تتصاعد منه رائحة الطزاجة الدافئة. هو يحب الخبز هكذا دون غموس (الخبز الحاف)، في جولة سريعة المرة السابقة، تعرف علي المكان وكأنه مسافر إلي الخارج يكتشف حواري بلد متوسط علي الطريق ـ مثلا ـ من تركيا إلي اليونان، هذه المرّة لفّ نفس اللفّة وكأنه يتأكد أنه قد أصبح له حق مواطَــنة وطن جديد اسمه "سيدي جابر" لا يحتاج الأمر إلي دخوله أية إجراءات أو تأشيرات، شوارع ضيقة نسبيا، وعمارات متوسطة قديمة منتصبة في ثقة وهي  تتحاور في همس، ومحلات بسيطة ونظيفة وصغيرة، وانحناءات غير متوقعة، ثم إنه عرف كيف يوحّد الاتجاه رغم الانحناءات التي تصل إلي الزاوية الحادّة، يسار في يسار في يسار تجد نفسك ثانية علي شريط الترام أمام بورصة كذا (لم يعد يهتم بالأسماء بعد أن تكرر نسيانها) والبورصة ـ كما خيل إليه في لغة الإسكندرانية ـ تعني القهوة، ناس يجلسون مع بعضهم البعض، ناس بحق وحقيق، لا ينتظرون القطار، أي قطار، فقط يجلسون ويتصايحون ويلعبون ويتكلمون ويضحكون، والله زمان، هو ليس من رواد المقاهي أصلا، وقته لا يسمح، ومع ذلك، والله زمان، كله من هذه السيارات، وخاصّة هذه السيارة الأخيرة ذات المقعدين، فصلته عن الناس، كيف يمكن أن يتربي الأولاد بلا احتكاكات في الأتوبيس، وبلا بحث عن الفكّة في جيوبهم ثم  حوار مع  المحصّل يعني ("الكمساري"؟!) وكان قد تعمّد، بعد أن كبر الأولاد واستقلّوا، شراء هذه السيارة الشبابي لا ادعاءً للشباب وإنما تجنّباً أن يركّب أحداً معه، سواء من أولاده أو من المارة الذين يشيرون بأيديهم أحيانا فيخجل هو من المقاعد الخالية، ومع ذلك لا يقف لهم، وأيضا هو نجح أن يقاوم إلحاح أولاده وزوجته  أن يوظف سائقاً خاصّا يليق بدخله ويوفر وقته. نقوده  القادرة علي تعيين سائق خاص كادت تحرمه حتي من الاختلاء بنفسه في السيارة وهو  يستمع إلي إذاعات لندن والإذاعات الأخري التي تكرهها زوجتة، فهي تعتقد أنها إذاعات متخصصة في نشرات الأخبار المليئة بالقتل والغم والحوادث، هذه السيارة، كل السيارات، أصبحت حاجزاً فوق الحواجز بينه وبين الناس، ومع ذلك فهو يحب هذه السيارة حبا جما رغم كل شيء، "اثنين صُحبة، ثلاثة زحمة"، قولٌ "خواجاتي" سخيف، أثناء جولته هذه المرّة وقف أمام الدكان الصغير علي ناصية أحد الانحناءات الحادة، أمام الدكان ثلاجة بها "آيس كريم"، فتحها وتناول منها قمع البسكويت الذي يحبّه رغم قشرة الشيكولاته التي لا يحبها، دولسيكا بالبسكويت، هو لا يحب البوظة أم عصا، أصبح قمع الدولسيكا بجنيه، هذا هو الشيء الذي استطاع أن يتابع أسعاره في السنوات الأخيرة، 35 قرشا، ثم 50 قرشا، ثم 65 قرشا، ثم هُبْ قفزة إلي الجنيه الصحيح، إنه لا يشتري ـ شخصياً ـ شيئاً بنفسه، وهو لا يحتاج إلي شيء، وبالتالي لا يعرف إلي أين وصلت الأسعار هذه الأيام، ثم إنه لمح كراريس علي الرف الداخلي للمحل، هذه أيضا من الأشياء التي كان يشتريها من سنوات قبل حكاية الكومبيوتر،"أرخص كرّاسة لو سمحت"، متوسطة، ورق أي كلام لو سمحت، غلاف عادي لو سمحت، ما الحكاية؟. لوسمحت لو سمحت لو سمحت، المهم، اشتري الكراسة، لماذا اشتري الكراسة؟ هذا أمر في علم الغيب حتي هذه اللحظة، اشتراها بجنيه أيضا؟ نفس ثمن الآيس كريم، ثم إنه فرح فرحاً مناسباً، بغير سبب ظاهر، الكراسة بجنيه و الـ"جيلاتي" بجنيه، مثل زمان، دومة بمليم، وعسلياية بمليم، وقرطاس لب بمليم، وتتبقي نكلة، والكراسة (زمان) 32 صفحة كنظام وزارة المعارف العمومية بنكلة، أو تعريفة حسب الورق، هو لا يحب تذكّر الماضي بحنين خاص، ولكنه لا يستطيع أن يحول دون الشعور بهذا الحنين الخاص رغم اختلاطه بمشاعر متداخلة من المذلة والضعف والحيرة والوحدة، نعم والوحدة، منذ هذه السن المبكرة، انقطعت علاقته بالتسوق تقريباً فيما عدا هذه الـ" دولسيكا " وبعض الكشاكيل التي توقف عن شرائها بسبب صديقه الجديد،الحاسوب، ما أسخف الاسم، هو الكمبيوتر وخلاص، فحتي أسعار الكراريس والكشاكيل توقف عن تتبعها، وهو قد اكتفي بإعطاء زوجته مبالغ أكثر من المطلوب حتي يوفّر علي نفسه الشكوي من الأسعار، ومع ذلك فهي لا تكف عن تذكرته، وهو يزوغ، وهي لا تكف،"فيم تـتكلم إذن إذا لم تتكلم في الأسعار"، يا ستي خلّ الهم لأصحابه، نحن قادرون والحمد لله، فتنبري زوجته تحاول أن تـُفَهمه أنها تتكلم من أجل المهمومين، هكذا مرة واحدة؟ طيب كيف؟"؛ إن كثرة الكلام عنهم تجعلنا ننساهم،  أعني قد تجعلنا ننساهم. نعم؟ نعم؟ خلاص، لا أقصد، بل تقصد. أستغفر الله العظيم، آخر كشكول اشتراه كان بعدّة جنيهات، أغلي من روايات نجيب محفوظ، كان كبيراً ومرسوماً عليه صورة ولد من الأولاد المغنيين أو الراقصين (لم يعد هناك فرق)، وحين طلب غلافا سادة لم يجد، فاكتفي بغلاف عليه ميكي ماوس، مع أنه يحب أكثر توم وجيري، وزوجته تواصل الحديث عن الأسعار، وهو لا يستطيع أن يجد ردودا مناسبة كل مرة، وهذه المرّة الأخيرة اكتفي بأن يزوم وهو يهز رأسه، فتمادت ظانّة أنه فهم ويتابع، فيتمتم، فتتمادي، فيزوم مرة أخري بطريقة أخري، فتتمادي وهي تحدثه عن الناس المساكين جدا، وتبدي من أنواع الشفقة ما لا يجوز، وهي تؤكد أن الحديث عن الجوعي والمساكين هو مسئولية كل متحدث،وذلك  حتي لاننساهم، ياحرام.  كذا؟. وهكذا تلقي عن كاهلك كل شيء بمجرد أن تحكيه، هذا رأيه. ياسبحان الله، نحن نخفّض الأسعار بالكلام، نبني مساكن للشباب بالكلام، ونروي لهم الأفدنة الصحراوية التي ضحكنا عليهم بها فتاجروا فيها ما دامت بدون ماء، بالكلام، يبدو أن الكلام مهم جدا فعلاً !! ماشي، كلام الناس هو الرأي العام؟ الرأي ماذا ولا مؤاخذة؟. الرأي العام: يعني الرأي العام، ماذا في هذا؟. ألم نتفق علي التوقف عن المعايرة، وفارس مالبورو ينظر إليه من الإعلان الكبير الموجود علي حائط العمارة المقابلة، والله هذا الفارس أرحم من تلك الراقصة علي غلاف الكشكول اياه، علي الأقل هو فارس يذكرنا بشهامة موقف الفرسان الذين لا يطعنون في الخلف، ثم إن هذا الفارس بالذات يوصيك بالنكهة، حلوة النكهة هذه، وهو لم يعد يدخّن من أصله، فلماذا اشتري الكراس؟ وما علاقة هذا بذاك؟. عجيبة. عموما هو طالع في مقدَّر جديد، منذ قرر أن يستقل القطار ذهاباً وإياباً إلي الإسكندرية التي يحبها جداً، يحبّها أكثر مما يحبها إدوارد الخرّاط وطبعا أكثر من يوسف شاهين، من أين له أن يعرف؟. من فرط حبه لها، لا يوجد أكثر من هذا، فراح يستعيد أشياء صغيرة رائعة كان قد هجرها بسبب الثراء والعربات والجري وراء الجري، وراء الجري، وراء الجري، وراء... (كفي. الله!!)، لكن هذه الكراس التي اشتراها بغير قصد تحل في وقت غير مناسب، وكأنها تريد أن تستفرد به بعيدا عن غريمها الكمبيوتر، ذلك الصديق الجديد العظيم القادر النذل، قال اسمه الحاسوب قال!! يستأهل هذا الاسم بدلا من الكمبيوتر ما دام هو بكل هذه النذالة، لكنه مع نذالته صديق، حين تصادق نذلا وأنت تعرف ذلك لا يحبطك تخلّيه أو تصدمك أنانيته، فتطول الصداقة، وقد حال هذا الكمبيوتر بينه وبين أصحابه القدامي مثل أقلام الحبر الجاف المتعددة الألوان الرفيعة السن جدا،  وكافة  أنواع الكراريس، ولكنّه ظل محتفظا بصداقة الأقلام الرصاص والأساتيك (جمع أستيكة لأني لم أعرف جمع ممحاة، هل هو ممحايات أم مَمَاحٍ)، هذا الصديق النذل (الحاسوب) شفاهُ من عشق القلم والورق معاً، واختصت الأقلام الرصاص بشخبطة الكتب التي يقرؤها،الكمبيوتر صديقٌ حقيقي له حضور، يلقي عليه تحية الصباح، وأحيانا يضغط علي زرّه وهو ذاهب إلي دورة المياه ليسمع زنّة الفتح الرقيقة، ثم يغلقه دون أن يعمل عليه بعد أن ينظر في شاشته الفضية بحنان، ومع ذلك فهو صديق نذل أيضا، ولن أقول لكم لماذا! مقالبه يحتملها بكل صبر، مع أنها أحيانا تكون باردة  وغادرة، يعاتبه، أو يعاقبه، أحيانا بأن   يرفض أن يغطّيه بغطائه وهو خارج بعيدا عنه، كما أنه إذا غضب منه، أو عليه، لا يمسح عنه التراب ولا يربت عليه حين يبدأ العمل، نفس الشكوي كانت تشكو منها زوجته، فهو لم يملّس علي شعرها إلا مرّات قليلة في استجابة غير عفوية لمطلب غامض أشبه بالشروط السرية في معاهدة استسلام، أشياء كثيرة صغيرة شديدة الأهمية في الأنس والمداعبة، لم يتعلم منذ الصغر كيف يتقنها، مع أنه علي يقين من أنها ضرورية، وأنها أهم من الأشياء الكبيرة التي لا يتقنها أيضا، يعتذر لابن حزم بكل خجل لعجزه عن الألفة والإيلاف، لماذا أسمي كتابه "طوق الحمامة؟. الرقة لا تباع ولا تشتري يا أخي، يشفق علي زوجته بقسوه ويتساءل: لم قبـِلَـتْه ما دام هو هكذا؟ ظلمت نفسها هذه السيدة.

 ـ تمسح يا بيه؟.

والله زمان.

 زمان، كانت الكراريس وحدها هي التي "كنظام"، وهو لم يعرف أبدا ما هو نظام وزارة المعارف العمومية التي تحذو حذوها هذه الكراريس، وكان يتصوّر أنه إذا اشتري كراسة مكتوباً عليها "وزارة المعارف العمومية" من غير "كنظام"، فإنها في الأغلب ستكون مغشوشة؛ فالأصل في الكراريس أنها كنظام، أما تلك الكراريس بدون"كنظام" فلا أحد يعرفها، تأكد من ذلك وهو يقرأ مُثُل أفلاطون يبدو أنه كان عنده حق حين نبّه أنه حتي السرير ليس إلا "كنظام" السرير الذي هو "فوق"، في عالم مُثُـل سيدنا أفلاطون بالصلاة علي النبي،حلوة حكاية السرير هذه (2)،. كل شيء  الآن أصبح "كنظام" وخصوصا الكمبيوتر ولكنهم قلبوا كلمة كنظام إلي "كومباتِيبُل"، السبق الذي حققته جمهورية مصر العربية هي أنها نجحت أن تعيش بدون نظام أصلا، وهذا شيء مصري شديد الخصوصية، فكل شيء يسير بنجاح غامض الأسباب في هذا البلد العجيب، لا أحد يجوع فعلاً، ولا أحد يثور، ولا أحد يتعلّم، ولا أحد يأخذها جدا، وكلّه ماشي؛ فالقطارات تأتي في مواعيدها، والمجاري تجري في مجاريها، والجسور تمتد إلي غايتها فتزداد البلد ازدحاما من باب البركة، معجزة هذه والله العظيم، قوانين هذا الشعب لم تُكتشف بعد.

 ـ شكراً يا  ابني شكراً، لا، شكراً.

قدّر أنه لو وافقه فإن القطار قد يفوته مع أنه مازالت أمامه عشرون دقيقة، والمسافة بين مقعده في القهوة ـ كما قاسها المرة الماضية ـ وعتبة القطار هي دقيقتان وعشرون ثانية، ياسلام!. ما كل هذه الدقّة؟. ثم من أدراه؟ ـ ثارت هواجسه وهذا جزء من طبعه السري ـ من أدراه أن هذا الفتي سيأخذ الحذاء وُيرجعه، تبقي فضيحة أن يذهب إلي القطار بالجورب. زمان (تاني؟!) كان ماسح الأحذية يمسح الحذاء وأنت لابسه، وهات يا كلام ودود من هنا وهناك، كان له دور مسامر لطيف، أخف دما من الحلاق، لماذا يتقن ماسح الأحذية الحديث ويتفننَّ فيه أكثر من أي حلاق؛ ربما لأنه يجلس مستريحا علي الأرض وهو يحكي، رأيتَ كيف يؤثر وضع الجسد في السلوك و التفكير، يا أخي، سبحان الله، الآن ماسح الأحذية يخلع عنك حذاءك، يضع تحت قدميك ورقة كارتون مليئة بالألوان المختلفة لكنّها جافّة لا تصبغ جوربك، اطمئن، ومن لم يعتد مثل هذا التخلي عن حذائه ولو بشروط معلنة مسبقا، لا يمكن أن يطمئن إن كان حذاؤه سيرجع له أم لا، طبعا هذا كلام فارغ، فلا بد أن صاحب القهوة والعمّال بها يعرفون هذا الفتي ماسح الأحذية، وإلا لما سمحوا له.

 ـ لا يا ابني، قلت شكرا، أكثر الله خيرك.

نظر إلي الكرّاس الجديد وهو قابع علي المنضدة، لم يكن قد وضعه بعد في الحقيبة الوحيدة الخفيفة التي يحملها، لماذا اشتراه؟ وماذا يمكن أن يفعل به؟ اشتري معه قلماً جافاً، رينولدز الفرنسي الصنع، حتي الأقلام نستوردها، راح الكراس يقول شيئا همسا، حنين قديم، أشبه بالعتاب، لا مشاكل (تعبير مستورد جديد لن أقوله لك بالإنجليزية)جلد الكراس خشن، وله رائحة مثل رائحة ورق اللحم، تري هل مازالوا يبيعون اللحم في ورق أثقل من وزن اللحم؟. جلدة الكراس عليها نقوش غامضة كان لونها ينوي أن يكون "بمبياً!" ثم عدَل، كان الغلاف زمان (كل حاجة زمان زمان؟. هذا الأسلوب  هو من علامات الكهولة، وهو ليس كهلا بعد،والمصحف ليس كهلا)، ظهر الغلاف كان مدرسة نصائحية متحركة، دمّها خفيف، ولا أحد يطالبك بتنفيذها علي أرض الواقع، قارَنَ ما كان يكتب علي ظهر الكراس مثل: "اغسل يديك قبل الأكل وبعده" أو "لا تؤخر عمل اليوم إلي الغد"، بتلك الفتاوي التي يطلقها هذا الطبيب النفسي جدا في التليفزيون إثر سؤال مشكل، تذكر وهو يبتسم كيف كان يقول لا فضّ فوه، دون أي تردد أو تفكير أصلا: إن الأبحاث الأحدث أثبتت أنه علي "الأم أن تحب ابنها"، أما الأبحاث الأكثر حداثة فهي تؤكد أن "الطالب وهو يذاكر لابد أن يركز؛ لأن هذا من أهم الوظائف النفسية للعقل البشري"!!!، الله يخرب بيوتكم، لم يسارع إلي الاستجابة  للنصيحة غير المكتوبة علي ظهر هذا الكراس الحديث الذي لم يصادقه بعد، راح ينظر في حقيبته فلمح ما كان مصدرا آخر للغيظ، ذلك أنه كان قد أخذ معه رواية جديدة اسمها عطلة رضوان، ومؤلفها اسمه عبده جبير، مؤلف يسمع عنه كل خير واجتهاد، وقد قرأ هو هذه الرواية بإصرار لا مثيل له،ثم  قال لنفسه بالعافية، إنها رواية رائعة وتغيظ، أقولها بملء فمي حتي لا يزعل، ولكنني متأكد أن المؤلف حين يبلغه ذلك، إذا بلغه، سوف يتذكر كلمة تغيظ ولن يتذكر كلمة رائعة، كان ما يغيظه زمان أن يحل محل النصائح خفيفة الظل علي ظهر بعض الكراسات جدول الضرب الصغير والكبير بأرقامهما المزدحمة وبينهما خط مائل لا يفض الاشتباك، أما جدول الضرب الصغير فنحن نحفظه عن ظهر قلب فما لزومه، أما جدول الضرب الكبير فهذا هو التحدّي الرائع الذي يغيظ غيظا أقل من غيظه من عطلة رضوان 21*21 =441، 21*31=651، لا لا لا، إلا هذا، وهم يعرفون تماما أن أحدا لن يتخطّي هذين الرقمين، فلماذا يشغلون نصف ظهر الكراس بهذه الأرقام مثل أرقام الميزانية في مجلس الشعب، قال ماذا؟. زيادة الدخل القومي، والألعن أن الولايات المتحدة الأمريكية مدينة لا أدري بكم تريليون دولار، يا صلاة النبي، مدينة لمن؟ لا تدري.كلام، رغم حبكته،يضحكون به علي الناس ويغيظونهم في نفس الوقت مثل عطلة رضوان، ومثل جدول الضرب الكبير ثم يكمّلون عليهم بقصيدة النثر، والذي يشتم إنما يشتم نفسه، هكذا كنا نوقف مباراة التراشق  بالسباب أطفالا،" كل ما تقوله علي الآن هو عليك يا  سعيد يونس يا غراب الآن، هيه !! "، فيتوقف سعيد يونس  غراب خوفا من التورط في سب نفسه، المفروض أن الأدباء ناس طيبون، وعليهم أن يرحموا الناس من جدول الضرب الكبير، ومن ديون أمريكا ولا مؤاخذة، أما أن يأتوا بكل قسوة وإخلاص ليكملوا علي ما تبقي لنا من منطق وأمل بقصيدة النثر هذه، فالله يسامحهم، أنا مازلت أرجح طيبتهم، لذلك فأنا واثق كل الثقة (أقول كل الثقة) من أنهم سوف يرحموننا في يوم من الأيام، الله يخلّيهم، استعراض عضلات هو؟  تناصّ طبعا، هو يعلم  مدي تواضع معلوماته  وفقر أبجديته الخاصة بهذا التخصص، موقفه محدد  ومتواضع من  البداية، مثل موقفه قديما من جدول الضرب الكبير، كان منظر هذا الجدول قيمة، لكن هو ماله هو؟ للمليك اهتفوا، يا نسور الحمي، للمليك اهتفوا، دائماً دائماً، زه، فه، ته، يه، زفتي زفتي زفتي، لا لم تكن أياماً سعيدة كما تحاول أن تثبت لنا سامية الإتربي ويحيي تادرس، كانت أياما فقط، حكايات المقاهي هذه (فصّّحتها بالقصد)، ليست هي، رغم أنها مليئة بالحكايات التي هي، ملآنة آهات، ودموع وأنين، الله يرحمِك يا ست، يعني، بلا زمان بلا كلام فارغ، من يـُرد  أن  يعيش يـَعش الآن، ومن لا يعجبه يذهب إلي زمان ويريحنا، حتي الآثار، سواء في مصر أو أثناء الترحال، لا يحب أن يزورها، إنه لم يزر المتحف المصري حتي الآن، أي والله العظيم، يخشي ألا يستطيع أن يتحمّل مسئولية تاريخه إذا رآه رأي العين، يخشي أن تقوم المومياء التي كانت أم نجيب محفوظ لا تكل من زيارتها وهي تصحبه معها طفلاً، يخشي إن زار هو  هذه  المومياء إذا زارها ووقف قبالتها أن تلتقط عدم احترامه لمن حنّطها، فتخرج له  لسانها، أو قد يكتشف ـ ليس يدري كيف ـ أن توت عنخ آمون كان شاذاً جنسياً، أو أن يرصّهُمْ له رمسيس الثاني أربعة أربعة، يعايره، وقد يحاكمه، مع أنه غير مسئول عن هزيمة 7691 إلا بقدر فرحته وهو في سنة تانية جامعة بالحركة المباركة، لو كان يعرف أنهم سوف يجرسونا هكذا بعد 51 عاما لمنع نفسه من ذلك الفرح حتما، هل يستطيع الآن بعد كل هذا العمر، وما جري، وما يجري أن يتراجع عن فرحته تلك حتي يعفي نفسه من مسئولية  الهزيمة، لا عامر ولا الغول، عبد الناصر إلمسئول، بيان 03 مارس، وحسنين هيكل فجأة يكف عن ذكر عبد الناصر ونشر صوره في الأهرام استعدادا للقادم الجديد، خيبك الله يا زكريا يا بن محيي الدين،، لماذا لم تلقِ بيانك من فورك وتأمر بالقبض عليه لمحاكمته، وقد تثبـُت براءته، وقد تحدد مسئوليته بحجمها لا أكثر، وقد يكون في ذلك بداية كلام آخر، وتاريخ  آخر، كل شيء ينسي بعد حين. لا أبدا، كلام فارغ، مازال طعم مرارة الهزيمة، وقبضة القلب تعاوده بعد ثلاثين عاما بالتمام كلما ذكر صوت أحمد سعيد. ثم إنه يرفض نغمة "العديد" هذه بكل ما أوتي من عقل وحزم، ولكن بلا فائدة، مسئول غير مسئول هو ماله، ما جري جري يا أخي، المصيبة أن ما جري يجري، ما زال يجري، لم يمح نصر 37 مرارة الهزيمة، مع أنه كان نصرا بجد، إلا قليلا، ملعون أبو الثغرة، فيها ماذا؟  العبرة بالخاتمة، وهي زين والحمد لله علي الرغم من قول الحاقدين أنه باع النصر، قال يعني هم الذين اشتروه !!! كيف اجتمع طعم النشوة المنعشة بالنصر مع طعم المرارة الخبيث دون أن يمحو الأول الآخر؟ هذا شيء، وهذا شيء،. الذاكرة المصرية لها قوانينها الخاصة مثل اقتصاد الشعب المصري وتاريخه.

 ـ قرِفة من فضلك، سكّر كثير لو سمحت.

هو  يشرب القهوة سادة، مزاج، ليس بسبب مرض السكري المصاب به كل أفراد عائلته، إلا هو، إيش عرّفه؟ لطعم البن مرارة جميلة فكيف يلغيها بمذاق السكر، ثم إنه يرفض أن يحلل، نعم: كل عائلته  عندهم  هذ المرض، لكنه لن يحلل، هو حر، الله !!. من عاش بالحكمة مات بالمرض، مثلٌ سخيف وكاذب، كثير من الأمثال تقوم بعمليات تبرير ألطف وأتفه من بيانات الحكومة كل عام، لقد توقف عن شرب القهوة مؤخراً بدون أي سبب، هكذا والسلام، مرّت عليه تجارب كثيرة من هذا النوع لم يجد لها تفسيراً، شيء يعمله لمدة سنوات طويلة، وفجأة ينظر إليه من بعيد، ويسأل نفسه، ماذا لو كففت عنه؟. ويكف، وهو الكـففان، المنضدة أمامه تغريه، والكراس تناديه في همس به دلال كان قد نسيه حتي أنكره، والقلم جاهز. وهو لم يقرر أبدا أن يكف عن كتابة القصة، لكنه كفّ، كفّ دون قرار.

والله فكرة.

لماذا لا يكتب قصة قصيرة ممطوطة؟. يجرّب فيها نفسه، قصة ممطوطة بطول الطريق بالضبط؟ يعني علي شرط أن تنتهي قبل وصوله إلي القاهرة، هو لم يكتب إلا الرواية الوحيدة إياها، ثم راح يرسم قصصاً في صفحة أو صفحتين هي أقرب إلي الصور الذاتية المحسومة (لا يعرف لماذا استعمل كلمة محسومة هنا بالذات، ثم إنه أبي أن يشطبها في المراجعة كما تلاحظ). فليكتب هذه القصة الجديدة احتفاءً بالكراس الجديد، ونكاية بالصديق  الحاسوب الطيب النذل القابع في حجرته ينتظره في لهفة، وابتسم وكأنه يبتسم لأحد، ثم اتسعت ابتسامته، هل هو أقل من هذا المسئول الكبير الذي ينشرون له هذه الأيام قصصا كتبها في سن التاسعة عشرة (هو الذي يقول) في صحيفة واسعة الانتشار لها طبعة دولية، لقد ظلّوا يلاحقونا بها أسابيع متتالية دون حياء. اتسعت ابتسامته رغم الملاحقة حتي كاد يضحك،  نظر حوله خوفاً من أن يكون قد ضحك فعلاً بصوت عال، ولكن ما الذي أضحكه، أقول لكم:

فقد حاول أن يلخّص ثلاث قصص من قصص أوراق هذا المسئول الكبير، مع أنه لم يستطع أن يقرأ إلا قصّتين وربع قصّة بالعافية، ومع ذلك فقد صرّح مصدر مسئول (مصدر ثقافي إعلامي متحدث شبه رسمي مجهول الإسم) أن هذه الصحيفة الكبري سوف تجمع هذه القصص في كتاب يصدر قريباً، أي والله. وفيها ماذا؟ بطلوا حقد، سوف أوجز لكم ثلاث قصص ولتحكموا بأنفسكم.

أما القصة الأولي فهي أن "واحدا أحب واحدة، ثم تقدم لأهلها ليتزوجها، فلم يرضوا به، فزعل".

انتهت القصة الأولي.

أما القصة الثانية فهي أن "الواحدة هذه المرّة هي التي أحبت الواحد، ولم تتزوجه أيضا فزعلت جداً جداً جداً".

انتهت القصة الثانية.

وابتسم ابتسامة أخري غير الابتسامة الأولي التي زرّ عليه فيها الضحك؛ ذلك أن الابتسامة الثانية كانت مثل ابتسامة النقاد الذين يريدون أن يجاملوا بعض الأصدقاء، ولا مانع، لأن المجاملة هذه من أساسيات التليين..، حسب كلام د. حسن وجيه(2)، من باب التليين الاجتماعي(3) والنقد معا، ترجم ابتسامته النقديه الثانية إلي ما يلي:

إن القصة الأولي ليست تكراراً بحال (شفت بحال هذه؟) للقصة الثانية، صحيح أن تبادل الأدوار لم يفرق كثيراً حيث توحّدت النهاية (خل بالك أيضا من توحّدت)، ذلك لأن الواحدة التي أحبت الواحد في القصة الثانية لم تتزوج هذا الواحد لأن أهله رفضوا (مقابل رفض أهل الواحدة التي في القصة الأولي) ولا لأن أهلها هي هم الذين رفضوا، ولكنّها لم تتزوجه لأنه ببساطة ـ لم يتقدم لأهلها أصلا، ولم يكن من المعقول في تلك الأيام (أيام أن كان المسئول الكبير عنده 91 سنة) أن تتقدم هي لخطبته، وهذا هو سبب عدم الزواج، ثم لاحظ ـ سيدي ـ أن الواحد في القصة الأولي زعل فقط، أما في القصة الثانية فالواحدة زعلت جداً جداً جدا (ثلاث مرّات لا مرتين ولا واحدة ولا بدون، مثل الـ"بدون" في الكويت)(4)، وهذه إضافة نوعية؛ لأن المسألة ليست مسألة "كم" فقط، وإن كانت لفظ "جدًّا" تفيد الكم، ولكن المؤلف أراد أن يريك كيف ينقلب الكم كيفا دون تغيير في البنية الأساسية (أي والله)، ثم إنه، من منطلق التعمق في اللمحات الفنية غير المقصودة علنا، ترك لخيال القارئ الفرصة لاستنتاج كل ذلك،

يا نهاراً أسودَ من أوّله، لقد وعد بتلخيص (ونقد بالمرّة) ثلاث قصص، ولم يقدّم إلا قصتين، ماذا سيقول عليه القارئ، نَضِبَ معينه؟. أو رُفع قلمه، أو رُبِطَ والعياذ بالله مثلما يربط العريس في ليلة الدخلة في بلدنا. لا لا هذا لا يصح، خذ عندك: (تذكر أنه لم يقرأ إلا قصتين، "طيب شوف الثالثة"(5)،، عظمة يا ست وردة  الله).

تقول القصة الثالثة (في الأغلب)، وضع يده علي فمه يخفي ابتسامة ثالثة من النوع العادي وليست من نوع ابتسامات النقاد، ثم أردف: أما القصة الثالثة فتقول: إن واحدا لم يحب واحده.. وكان يتمني أن يحبها، لكنّها تزوجت غيره، مع أنها أيضا لم تحبّه أصلاً (لم تحب الواحد وليس زوجها)، وخلاص.

وقبل أن ترتفع الضحكة وتبقي فضيحة، وماسح الأحذية لا ييأس من تكرار المحاولة، وربنا يستر، أحلّ ابتسامة الناقد محل ابتسامة الحاقد (هذه الكلمة ـ الحقد ـ وردت من قبيل الاحتياط، من يدري ماذا يحمل اللاشعور من بلاوٍ، وخاصة أننا لم ندخل بعد في منطقة تيار الوعي العميق الذي يمكن أن يكشف عن خفايا هذا الحقد وغيره من دناءات النفس البشرية، وربنا يستر علي الوَلاَيا من تأويلات سيجموند فرويد البهلوانية التي كان يخفي بها جوعه الذي لا ينتهي للتقدير والحريم الأقرب(6). نجح فعلا أن يُحل ابتسامة الناقد محل ابتسامة الحاقد، وهو لم يقل حلّت ابتسامة كذا محل كيت، فانتبِهْ، لأن "ثَمَّ" فرقاً بين أحلّ، وحلّتْ، ثم إنه راح ينقد وينقد:

إن هذه القصة (الثالثة) أكثر تعقيدا من سابقتيها، وهي أكبر من قدرات المسئول الكبير في سن 91 سنة لأنها تثير في المتلقي قدرا من الدهشة وإعمال (الهمزة تحت الألف) الفكر، وهذا مما لايتناسب مع ما يتميز به قلم الكاتب الشاب الموهوب من بساطة ومباشرة، هذه القصة الثالثة لا بد أنها تنتمي إلي الموجة الجديدة التي أصبحت قديمة، والتي يسمّونها الحداثة، وهي ليست مجرد ماهو "قبل" ما "بعد الحداثة"، لأن بعد هنا لا تفيد التتابع وإنما التعديل والتجاوز، ما بعد الحداثة هو تجاوز الحداثة، الحداثة معدّلة، مثل العربات التي هي، وأيضا التي ليست هي، إيش عرّفه هو في هذه الأمور الخاصة بأصحابها جدا،  لا الحداثة ولا ما بعد الحداثة من الأمور التي يسمح للعامة أمثاله أن يخوضوا فيها، ليست أي منهما بدعة، ولا ضلالة،  لكننا نحن الذين لا نستأهل الخير، ليس إلي هذه الدرجة، فنحن لا ندوس الطعام الذي يوضع لنا بدل أن نأكله كما تقول آية الكتاب المقدس، نحن فقط لا نقدّر الحداثة حق قدرها، لأننا ـ ببساطة ـ لا نعرف قدرها، هذه هي الحكاية، ألم تلاحظ المؤلف وهو يستعمل تعبير "وكان يتمني أن يحبها" والتمني هنا غير الترجي لأنه ـ عادة وليس دائما ـ يطلق علي ما يستحيل تحقيقه، ولم يقل الكاتب الشاب الذي أصبح مسئولاً كبيراً، إنه كان يتمني أن يتزوجها كما نسمع في القصص الأخري التقليدية، التمني هنا للحب وليس للزواج؛ لأنه يبدو أن هذا الفتي لا يستطيع أن يحب من أصله، وهذا تكتيك حديث لا يخرج من شاب عمره 91 سنة في ذلك العهد البعيد الذي لم يعرف مثل هذه التقنيات (!!). فالحداثة ـ سيدي ـ لا تتطلب فقط أن تجعل المألوف معروفا، وإنما هي تستدعي أن تجعل المعروف مسفوحا (حلوة مسفوحاً هذه، خلّ اللغة "تقول") ـ وسعل سعلة عالية لتخفي ضحكة كان يمكن أن تخرج هذه المرّة بصورة صريحة تفضحه بحق.

 ـ لا شكراً، كفاية، شكراً.

تيار الوعي؟ هذا هو، إنه يكتب الآن بتكنيك تيار الوعي، وهذا سيسمح له أن يتداعي، دون مشاكل، حتي يصل إلي القاهرة شخصياً، كل ذلك بجنيه وربع، الكراس بجنيه والقلم الجاف بربع جنيه، وليسرِ تيار الوعي ما شاء له السريان، بل ليفض علينا مثل النيل العظيم، قبل السد وبعده، مازال عظيما، وليذهب إلي الجحيم من لا يفهم في هذه المسائل، ثم إن الجميع لايجُمعون علي اسم هذا النوع من الكتابة. هل  هو تيار الوعي، أم تيار اللاوعي؛ لأن الأسلاك قد ضَربت كلها في بعضها، ولم يعد أحد يعنيه أن يسلـّكها من بعضها البعض (وليس من بعضها فقط)، وكل الإبر التي كان من المفروض أن نلضم فيها الأسلاك أصبحت دون ثقوب، فلماذا نسلـّك الأسلاك أصلاً ما دام ليس ثمة ثقوب للإبر نلضمها فيها، ثم إن الإبر بدون ثقوب ليس لها رؤوس جميلة مهذبة، فلا يمكن أن نطلق عليها اسم دبابيس أو أن نستعملها في الأغراض التي نستعمل فيها الدبابيس، ثم إن الجميع لا يجمعون علي شيء، ثم يبدو، (مازال يتحدث نيابة عنهم) أن "هذا" ـ هذا تعود علي "أن الجميع لا يجْمعون" ـ قد أراح الحكومة جداً جداً، (غير جدا جدا التي في القصة الثانية) هذا قد جعل الغالبية العظمي من أهل الموجة الجديدة لا يجمعَّون هم أيضا، مع أن الذين لا يجمعون هؤلاء من أهل الحداثة يعتقدون أنهم بعدم إجماعهم إنما يغيظون الحكومة، ولكنهم لا يقولونها صراحة، وإنما هم يتكلمون عن السلطة (بضم السين مع تشديدها وتسكين اللام هكذا " السُّــلْطة"، وليس الكلمة الأخري التي هي السلاطة، والتي هي غير سلاطة اللسان)، وهم يعتبرون الحكومة سُلطة، مع أن الشائع في الثقافة المصرية لأولاد البلد أننا نسمّي السُّلطة حكومة، أفلا تسمعهم يتندرون علي الذي يعود مبكرا من المقهي تاركا بقية الثلة مجتمعة: إنه خائف من "الحكومة"(التي تنتظره في البيت)، لكن في الأغلب هذا تعبير مجازي، أما تعبير أهل الحداثة فهو مجازي أيضاً (اكتشفت هذا في آخر لحظة، ربنا ستر) ولكنه مجازي من الناحية الثانية، ما علينا، أهل الحداثة لا يـُجمـعون، أو هكذا يشاع عنهم مع أنهم يصرون علي أنهم يجمعون في السر من وراء الحكومة ومن وراء اللغة أيضا، والمسئول الكبير يكتب قصصاً (أسماها أوراقا من باب التواضع) وتنشرها له الصحيفة الكبيرة الواسعة الانتشار، فلماذا هو "لا"، ولَِم لا؟ (حلوة هذه)، ولم لا يكتب هو أيضا قصّة ما بين المباشرة والحداثة، شيئاً أشبه بالتدوير: دَارَ الصف لفـّّوا لــفّوا، لفّ القيد، قيدي وافي، وافي العهد....، لا يذكر ماذا (تُقْرأ منغّمه من فضلك علي وزن: فَعِلٌ فعِلُ، فعلٌ فعلو، أو أي وزن تراه مناسباً أنت بمعرفتك).

 ـ خلّ الباقي، شكرا.

هذه هي فائدة الكراريس أم جنيه، ملعون أبوالولايات المتحدة الأمريكية، والعربات الفارهة أم مقعدين (مثل عربته الأخيرة) وأم سبعة مقاعد، وجميع صنف سائق خصوصي ليس له لازمة، وجميع صنف قرش يحول بينك وبين الناس، يا كذاب، عيب كذا، لم يبق إلا أن تهتف بحياة الفقر، بطّل تهريج، تنظر من أعلي مرتدياً منظار الحكمة وكأنك تعظ، وكلما قرأتَ نعي أحد الزملاء، وخاصة إذا كان أصغر منك سناً، قلتَ خطبة عصماء في الناس الذين لا يتعظون، وهات يا جري، تدّعي أنك عامل حساب الموت في كل لحظة، ولا عامل حسابه ولا حاجة، وتزعم أنك علّقت نتيجة العدّ التنازلي، تنازلي ماذا وأنت طالع تنهج، تذكر أنك لم تستطع أن تتذكر أنت وصديقك المخرج اسم جمال حمدان، نسيتماه وكأنكما تتذكران اسم قائد معركة ووترلو، أخذتما خمس دقائق لتتذكرا اسمه رغم أن اسمه لايوجد ما هو أسهل منه، جمال حمدان، جمال من جمال عبد الناصر، وحمدان من الحمد لله، وما سمّي الإنسان إلا لنسيه، وما القلب إلا أنه يتقلّب، يا حلاوة، داخلين علي التناصّ، يا عم سيبك، الشيخ عبد العزيز في زفتي، كان اسمه شيخ لمجرد أنه كان مصابا بمرض عصبي يجعل جسمه يترنح (علمتُ بعد ذلك أن اسم المرض هو الرقص الزنجي وأنه روماتيزم في الجهاز العصبي) ومع ذلك كان يمسك الحديدة التي يدق بها حب البن المحمص في الحَجَر دون أن تفلت منه الحديدة أبداً، وفي كل مرة يرفع الحديدة، أتصور أنها ستأخذه وتغوص به، وه و يترنح،  داخل الحجر، أو أنه سيطوح بها بعيداً وتأتي في أحد، سألتُه مرّة عن سبب حركاته هذه الملتوية التي لا تتوقف فقال وهو يمسك بيدي ويشدها إلي مقدمة جلبابه، لست أدري لماذا، كنت في سنة تانية ابتدائي، قال مجيبا إن السبب هو أن  «المخ ساح علي العقل»، إذن يبدو أن هذا ـ ولكن بإيجابية، أي الناحية الثانية ـ هو الذي يفسر مسألة الحداثة، (لاحظ الحذر الذي اتخذتُه باستعمال الجملة الاعتراضية التي تقول: ولكن بإيجابية، الاحتياط واجب)، ليس المخ فحسب الذي ساح علي العقل، وإنما يبدو أن كله ساح علي كله، ليس هكذا بالضبط، يا خبر!! ماذا جري؟ كل ذلك بسبب كراسة بجنيه، فلأدخل علي القصه، وكفي نقداً، فالقاص لا يحاسَب إلا علي قصّة، أمّا الناقد فحدّث ولا حرج (لن أقول لك أكثر من هذا)، فإلي القصّة:

الكراسة تنتظر، والوعد قائم، والوسواس يعمل، إذا لم ينفذ هذه القصة، بالشكل الذي حدده في الوقت الذي قرره، سوف يخسر أهم قضية ينتظر الحكم فيها هذه الأيام، طيب ما علاقة هذا بذاك؟. ألم أقل لك إنه وسواس يا أخي؟. الله! خلّ بالك معي، نعم لا بد من ضبط المسألة تحديداً، لأنه إذا كان الثواب علي قدر المشقة، فلا بد أن تكون القصة علي قدر المشوار، وبالضبط، انتبه:

البداية: تن تن تن، أغش هذه التيمة الصوتية ـ حلوة التيمة دي ولو إنها غلط ـ من رواية عطلة رضوان  التي كانت حافزا لكتابة هذا العمل، وهي رواية  رائعة بلا شك في الأغلب، تن ترن تن، علامة البداية وليس سخرية بالرواية، مرة أخري: البداية، هُبْ:

""......(نقط ـ هي كذا  بدأت القصة بنقط، بمعني أن البداية ليست بداية، ولكنها استمرار لحكاية بلا بداية ولا نهاية يا عم محفوظ، ثم  أنت مالك؟).

..... ومرّت الفتاة الملظلظة (سأبحث عن هذه الكلمة في القاموس حين أصل إلي مكتبتي بالقاهرة) وهي تمشي الهويني، يانهار إسود، هُوَينَي مرّة واحدة، يا لغرابة النطق، يبدو أنني تقمّصت المعتدي وهو المسئول الكبير إياه، الهويني كلمة بسيطة لكنّها لم تعد مألوفة، لذلك يبدو أنهم حرّفوها فأصبحت الهويدا، وبما أن هويدا اسم عَلَم ولا ينبغي أن يعرّف العلم بألف لام التعريف (إلا من باب السب والتحقير) فقد حُذفت كل من الألف واللام فأصبحت "هويدا"، لكن هذا بالنسبة إلي ما يتبعه الناس في تسمية بناتهم هذه الأيام، وهم أحرار فيما يفعلون، أما أنت فلا تستطيع أن تقول إن الفتاة الملظلظة تمشي الهويدا مثلا، لا تستطيع أن تقولها وأنت تكتب قصّة، أو تزعم ذلك (هناك حلّ أسوة بالمسئول الكبير، إذا لم تنفع قصّة، فلتسمّها "أوراق" أو شيئاً كهذا، ماشي؟ خذ راحتك) نقول لا تستطيع أن تقول تمشي الهويدا وأنت تكتب قصّة، لكن ربما تستطيع ذلك وأنت تكتب قصيدة نثر، من أين تأتي هذه الاستطاعة؟. لا تؤاخذني، من قال لا أدري فقد أفتي (من الفتوي وليس من الفتّة) ثم، مرة أخري: إلي القصّة، ومضت الفتاة الملظلظة (بدون علامتي تنصيص)، تمشي "الهويني" اسمع، ما رأيك أن نـترك الكلمة هكذا كما هي دون حرج ودون محاولة تفسير، وسيخرّجها النقاد علي أنها تناص من مقامات الحريري مثلاً، دعها تمر، ولعل أصل التناص من النص نص (بضم النونين في كل نص) فينطقان علي بعضهما هكذا: من النُّص نُصّ، وليس من النص (بفتح النون، يعني النَّص) نون نون نون، إلا حكاية مجلة نون أو الجمعية النسائية لصحابتها ومديرتها نون، نون والقلم وما يسطرون، إنك بنعمة ربك لمجنون، والمصحف الشريف هذا ليس استهزاء ولاحاجة، بل إن الكاتب يستعير التعبير الجميل مخاطباً نفسه منبّهاً إياها أن هذا الذي يفعله الآن يمكن أن يعتبروه جنونا بالتمام والكمال، ذلك لأنه يخرج من موضوع إلي موضوع ـ من غير تيار وعي ولا حاجة ـ لكن والله هو يفعل ذلك قاصدا جداً وهو في كامل قواه الحداثية ومسئول، ويعول، وأنت وذمّتك، ثم علي من يشك أن ينتظر للنهاية ليري أن المسائل ماسكة بعضها، أما كيف يكون الإنسان الذي هو الكاتب الذي يصير، بنعمة ربّه مجنوناً، فهذا وارد من باب الرحمة. من حيث إنه من لم يحتمل، ولم يجدْ، ولم يـفهم، ولم يسمَع، فقد يطلب من الله الرحمة ولو بالجنون، هذا إذا عجز عن قرض قصيدة نثر تنقذه من كل ما سبق، ومن الجنون في آن، كيف؟. لا أعرف،  ثم هو وشطارته، كنا قد وصلنا إلي أين؟. إلي تفسير الشيخ عبد العزيز لمرضه المسمي رقصة الزنجي بأن "المخ ساح علي العقل"، وبتكثيف المسألة مع حكايه نُص علي نُص، تجد أنك إذا وضعت نُصّا علي نص، أصبحت المسألة "نص نص" (وهذا ما ألفه العامة في القاهرة المحروسة حين يعنون نص علي نص أي نص نص، يعني بالإنجليزية. فيفْتي فيفْتي)، وهذا التفسير يناسب مسيرة السلام علي كل حَال، ونحن الآن نتكلم عن ثقافة السلام، يعني ثقافة نص علي نص، شوية إسرائيل علي شوية أردن، علي شوية أسبانيا، علي شوية برتغال. لا يا عم البرتغال الناحية التانية ليست شرق أوسطية، ولا حتي أسبانيا، فهي غرب أوسطية، ويمكن فرنسا تطلع وسط أوسطية، ما علينا، إلي القصة أو ما قبل القصة، والله الظاهر إنها كلها سوف ترسي علي ما قبل القصّة، ولكننا نستدرك فنقول: إن نَصّ علي نَص له معني إيجابي آخر غير نُص علي نُص، فقولك نَصّ علي نصّ هو أشبه بقولهم: قول علي قول(7)، أو أشبه بـ "قهر علي قهر هوَّا العمر فيه كام شهر"، يا للغة العربية ويا لقدرتها علي احتواء العامية دون استئذان، (شفت ذي؟، الدال عليها نقطة من فضلك، ولو أني سأحذفها فيما بعد تجديداً للغة)، ولكن إذا أردنا الأمانة فسوف نكتشف أن اللغة العربية ـ هكذا ـ غيرت المعني، لأنها قلبت أَهْر (بالهمزة) إلي قهر (بالقاف)، مع أنك حين قرأتَها ـ عزيزي القارئ ـ قرأتَها بالهمزة، وهي مكتوبة بالقاف، فلا احتوت العربية العامية، ولا حاجة، فالقهر باللغة العربية يعني التسلط والقمع وأشياء من هذه، أما "أهر" بالعامية، فالمثل يقصد الحزن، والزعل، والهم، فإذا أردت أن تكتبها بالعربية فلا بد من القول "حزن علي حزن"، وهنا سوف تختلف البقية حتي تلتزم بالقافية، وسوف تضطر إلي أن تكمل "هوّا الشعر فيه كام وزن"، فتصبح علي بعضها هكذا: حُزن علي حُزن، هو الشعر فيه كام وزن"؛ ذلك لأنه إذا كان النقاد قد سمحوا بالتجاوز عن الالتزام بالقافية، فلم يسمح إلا ندرة منهم بالتنازل عن الوزن، والوزن هو الموسيقي والشكل هو المضمون، ومن لا يعجبه هو حر، وجهات نظر، نحن لا نريد أن نحرج أحدا، الواحد من هؤلاء (ابحث أنت عن من تعود "هؤلاء") يظل يكتب ويكتب ويكتب حتي تأتي لحظة الصهللة (أي صهيل بشري) وهات يا إبداع.

ـ لا شكرا، أنا أصْلي منتظر صديقا.

 ـ.....

 ـ أشكرك، ممكن أدفع من غير ما أطلب.

 ـ....

 ـ ياخبر، لا أقصد، أشكرك، ذا كرم شديد، أشكرك.

ولا منتظرٌ صديقا ولا حاجة، كل الحكاية أنه من باب مراسيم استعادته لحريته، (لاحظ العودة إلي الحديث "عنه" بضميرالغائب، مع أنه ينسي كثيرا ويتحدث بضمير المتكلم، وهي ليست عودة مقصودة، بقدر ما هي فنية ملعوبة، أكمِلْ) أقول: منذ أن قرر أن يستعيد حريته ما أمكن ذلك، قرر ألا يشرب حاجة ثانية، ما دام هو لا يريد أن يشرب فعلا، وكله بحسابه، الإحراج تدخُّل في الحرية علي كل حال، يا خبر، لماذا لم يمر عليه ولا واحد يبيع اليانصيب، وما الذي ذكّره باليانصيب الآن؟. المهم أنه كلما حاول أن يذكّر نفسه أنه يكتب قصّة لا مذكرات، قفزت إلي ذهنه أوراق هذا المسئول الكبير وجعلت مخّه مثل الصفحة البيضاء، ولا بد الآن أن يعترف أنه أرسل إحدي قصصه القصيرة إلي هذه الصحيفة بالذات التي ينشر فيها المسئول الكبير أوراقه الباكرة، وأنه بطول لسانه (أي بسلاطة قلمه) قدّم في الخطاب المرفق نقدا لمستوي القصص التي تنشر في هذه الصفحة، وكان ذلك قبل حكاية المسئول الكبير وأوراقه، والنتيجة أنهم  لم ينشروا قصته التي أرسلها، فكتمها في نفسه، حتي تذكرها الآن، مع أنه لم ينسها أبدا، وقد أثبت هذه الحادثة عملا بالأمانة المطلوبة من واحد مثله، وأيضا لأنه  مطمئن أن أحداً لن يعرف سبب حقده وإحباطه، لأنه لا ينوي أن ينشر هذا الكلام (كذا، وكذا) اللهم إلا  لو ضغطوا عليه جداً جداً، وساعتها يمكن أن يشطب هذه الفقرة خجلاً أو منظرة، ثم هاهو الآن يقع في إشكالية جدلية (حلوة هذه): فبينما الدافع الأدبي لمحاولة كتابة القصة ـ المزعومة الآن هو أوراق هذا المسئول المنشورة، كما أن المثير المادي هو شراء كراسة بمحض الصدفة، فإن المانع الآن الذي يمنعه من الدخول إلي القصة هو نفس أوراق المسئول الكبير (علي فكرة سرت إشاعهً تقول إن المسئول الكبير كتب هذه القصص هذه الأيام وليس لمّا كان عنده 91 سنة، ولم يعرف إن كانت هذه الإشاعة مدحاً أو ذمّاً، كذلك لم يعرف إن كان المدح أو الذم هذان موجهيْن إليه شخصيا أم إلي القصص، وأيضا هو لم يرفع قضية علي صاحب هذا الكاريكاتير، فلا بد أنه لم يفهم اللمز، أحسن. لا، هكذا زادت جرعة النقد بادّعاء نقل إشاعة مغرضة، فإلي القصة، من الأول:

علامتا تنصيص ونقط في الأول: "...ومرت البنت الملظلظة، مازال مصرا علي أن يترك هذه الكلمة هكذا حتي لو لم يجد لها معني في القاموس (8). إنه  يعتقد بحدس إبداعي مشكوك فيه أنه لا توجد كلمة في الفصحي تفيد مضمون هذه الكلمة ذات الإيقاع الممتلئ الرخو، وبالتالي فلا يمكن الاستغناء عنهاأو استبدالها، قل بضّة، أو سمينة، أو بدينة، أو مليئة، أو ممتلئة، لكنّك لا تستطيع أن توصل ما توصله إليك ليلي علوي  بلظلظتها المتوسطة، قبل مسرحية الجميلة والوحشين (بفتح الواو)، "مضت البنت الملظلظة، وهي لا تدري أن والد خطيبها استشهد في حرب الاستنزاف، ولذلك فإن خطيبها لم يره، كان في الثالثة من عمره، فربّته أمه من معاش محترم، ومكافأة سخية، ولكن ارتفاع الأسعار وبرودة ليالي الشتاء معاً، جعلاها تقبل الزواج عرفيا، وحين شبَّ الفتي (حلوة شبَّ الفتي هذه لكنّها ليست من التناص مثلما ذهبنا إليه بشأن الهويني ومقامات الحريري؛ إذ لا يوجد نص واحد معروف اختص بتعبير شبَّ الفتي، بل نصوص كثيرة متفرقة) حين شب الفتي وأصر علي دخول الكلية الحربية ليكرر أمجاد أبيه، هكذا يقول التليفزيون عند الاحتفال بأعياد النصر والجلاء،  ويمكن بمناسبة الهجرة الشريفة  أو التهجير الاضطراري. الحقيقة أن أمّه لم تحكِ له شيئا عن أمجاد أبيه تلك، ليس تنكرا لذكري أبيه، ولا حرصا علي مشاعر زوجها العرفي، ولكن هذا هو الذي حصل، وقد عارضت أمّه رغبته في دخول الكلية الحربية معارضة شديدة، وأقسمت برأس أبيها وتربته معا ـ وليس بذكري زوجها الشهيد ـ أنه لو دخل الكلية الحربية فسوف تعمل وتسوي، ولكن الولد أصرّ وقدّم أوراقه من ورائها في السر، ولولا ستر الله ورسوبه في اختبار الثقة، لما مرّت المسألة علي خير، كان يوماً أسودَا. إقفز، إقفز يا أستاذ، الحمد لله ما زال أستاذاً لم يجنّد بعد، ودّ لو تنشق الأرض وتبتلعه، واحترم بُعد نظر أمّه، ولم يقفز،فَــلَمّته كلية الحقوق علي خير (قطع) ما هذا؟ إن القصة بدأت بالبنت، والمفروض أن نـقدمها إلي القارئ حتي يتعرف عليها أولاً؛ فهي البطلة، لكن القصة الحديثة ليس فيها بطل ولا بطلة، الشعب هو البطل، الشعب هو القائد. بيان 03 مارس(9)، عندك، كما كنت، إلي القصة، القصة هي البطل. إرجع إلي القصة من فضلك فقد وصلنا دمنهور، هدّأ القطار من سرعته، الهزة زادت، والقلم لا يستقر علي ورق الكراسة، من أغرب الخبرات أن تكتب قصة مهزوزة بغير قصد، لمجرد أن القطار يهتز، ولا بد أن الكلام سيتفكك من بعضه البعض ويعاد تنظيمه وحده فتصبح القصة من نوع جديد لم يقصد إليه الكاتب، ولعل صلاح جاهين كان أسبق إلي اكتشاف هذا النوع من الإبداع حين يقول " لمّا تهشّكها حبّة تلاقيها مفلفلة"(01). آه لو ينشرون فوازيره  في كتاب مستقل، إذن لتعلّموا معني الإبداع، مَنْ ذا الذي يتصوّر أن المعزة، حين أكلت البيت، أن البيت كان معمولا من خشب مُصاصة القصب(11)، الله يرحمك يا صلاح ولو أني زعلان منك، مستعجل لماذا يا رجل فها نحن جالسون، يا الَّلــه،، لكل أجلٍ كتاب، القطار يهتز، والقلم يهتز، واللظلظة تهتز في غير رجرجرة، لأن هذه مسألة محسومة بفضل النقد الحديث، فإنما يتحقق التوازن الموضوعي في السياق المتنامي للأحداث بمثل هذا الهارموني الخفي الكامن وراء أية هزة أو هزهزة، الله!!!. ولمّا كان الكلام عن خطيب البنت قد أخذ أكثر من حقه، فهل ينفع أن نجعل أبا البنت هو الذي استشهد في حرب الاستنزاف، وبالتالي ننقل كل الكلام الذي وصفنا به أبو الخطيب لصالح البنت فيتحقق التوازن الموضوعي إياه؟. طبعا، لا،  لا ينفع؛ ذلك لأن الشعور الذي يتكون عند الشاب وهو لا يري زوج أمه العرفي إلا وهو خارج من عند أمه في الضحي العالي قُرب الظهر، هذا الشعور لا يجوز أن تمرّ به البنت، فهو خاص بشاب له مواصفات هذا الشاب بالضبط، وإلا لما أمكن أن يصل إلي القراء بنبضه الحقيقي، حالة كون الشاب يعيشه أو يعايشه، إن المسألة تحتاج فعلا إلي شاب من الذين يقال عنهم "وشبَّ الفتي"، أما البنت، الملظلظة فهي قد تحب أمها وتتقمصها، فتحب زوج أمّها وبالتالي تفرح بمبيته العملي وخروجه المتأخر، وتستفيد من ذلك في إثراء خيالها، ثم قد يتمادي الأمر فتعتبره بديلاً طيباً للأب، حتي لو لم يعرض عليها أبوته لضيق الوقت الذي يقضيه بعيداً عن حجرة النوم، ثم إنه، والشهادة لله، عمره ما نظر لها نظرة كذا أو كذا. (قطع) ماذا حدث؟. هل نسيتَ أن التي تزوجت عرفيا هي أم خطيب البنت، الذي لم يخطبها بعد،  وليست أم البنت، وأن والد البنت لم يستشهد، بل هو مازال حياً يرزق في السعودية، طنطا هذه أم ماذا؟. لا ليس بعد، القطار هدّأ من سرعته  فقط، منطقة إصلاح، ما رأيك لو قلبناها غما ونكتفي بهذا القدر، ونقتدي بالمسئول الكبير حالة كونه عنده 91 سنة، وننهي القصة بأن تأتي عربة مسرعة يقودها شاب متهور، ويصدم البنت وتروح فيها، وخلاص، وسوف يطلع لي في طنطا بائع الحمص أشتري منه كيساً نظيفاً بجنيه، (نفس ثمن الكراس أو الدولسيكا) وأظل أمضغ كل واحدة علي حدة (لاحظ الموسيقي: كل واحدة، علي حدة) عشرين مضغة قبل أن أبلعها حتي نصل إلي القاهرة، وأكون بذلك قد أبدلتُ وسواساً بوسواس، «خالصين»، بَلا قصة بلا كلام فارغ. لم يكن جنيهاً اشتريت به كراسة، كل حاجة بجنيه، الحمص والآيس كريم زائلان بطبيعتهما إلا هذه الكراسة التي أحرجته كل هذا الإحراج (رجع يحكي بضمير الغائب. خلّ بالك) فعلا هي منطقة إصلاح، سوف يتأخر القطار عن موعد الوصول، حَسَدَ انضباطه كما حَسَدَ من قبل المسئول الكبير علي نشره أوراقه التي أثبت فيها تاريخ التصنيع منذ  19 سنة لكنه ولم يثبت مدة الصلاحيه، المصيبة في التأخير هو أن القصة سوف تطول وهو لا يدري ماذا يفعل، ثم إن النهاية المقترحة كانت تحتاج أن تكون البنت أقل وزنا، بل إنها كانت تشترط أن تكون البنت نحيفة، ولا مانع من أن تكون مصابة بداء النحافة العصبية (21)، أو رُهاب السمنة، مثل الأميرة ديانا التي تأكل وتتقيأ، تأكل وتتقيأ لتأكل وهكذا، ثم إن القصة هكذا ستصبح قصة قصيرة جداً، وهو (أي أنا) كان قد قرر أن ينتهزها فرصة ويجرّب نفسه في هذا النوع من القصص التي هي ليست قصصاً قصيرة ولا طويلة، ثم إن المسألة ليست بالطول ولا بالقصر، المهم الفكرة، وهو كان قد سمع في إذاعة لندن مؤخرا أن مؤلف فكرة لفيلم أمريكي كتبها في أربع صفحات فقط وقبض مقابل ذلك مليون دولار أو أكثر، لا يذكر كم بالضبط، المسألة إبداع أو لا إبداع، فإذا كان إبداعا فأي شيء يكفي، وإذا كان لا إبداع، خلاص بقي، ما الداعي لأي شيء من أصله، ثم إن العربة التي يقودها الشاب المتهور إذا ما صدمت البنت سوف تشوهها دون أن تدشدشها؛ ذلك لأنها (البنت لا العربة) تبدو مخلية من العظام مثل الفراخ المخلية التي أصبح ثمنها ناراً بعد حكاية جنون البقر، فإذا ما حدثت الحادثة بهذه الصورة المفجعة فلن ينفعها لا المسئول الكبير ولا الكراسة أم جنيه ولا خطيبها ابن شهيد الاستنزاف، وستتحول إلي كتلة من الشحم واللحم مغطاة بـ، أو معجونة في، قطعة جلد هنا، وقطعة قماش هناك، منظر مرعب وقبيح قد ينفع مصورا صحفيا مبتدئا لكنه لا يصلح لقصّة كهذه، والألعن لو تركوها يوماً أو بعض يوم.  ناهيك(!!) عن عدة أيام مثلما يتركون الكلاب في الطريق الزراعية، فقد تنتفخ لتصبح مثل جيفة بودلير(31) (يا تري هل هذا تناص أم تشبيه تمثيل أم مجاز مرسل؟. ولا يهمك سوف يجدون لها حلاًّ). قال يعني قرأ جيفة بودلير، وهو لم يعرفه إلا أول أمس، وبفضل واحدة اسمها سلمي الخضراء الجيوشي، وحتي هو لم يلاحظ أن الذي ترجم قصيدة بودلير هذه هو أدونيس وليس سلمي الخضراء (31). لا، هذا اقتراح سخيف حتي لو كان سينهي القصة نهاية من نوع قصص المسئول الكبير، لا بد من قصة وإن طال السفر، قصة حقيقية بالرغم من أنها لن تري القاريء أبداً مثل قصصه السابقة التي لم تـُنشر، هي لم تنشر لسبب بسيط هو أنه لم يتقدم بأغلبها للنشر، تماما مثل فتاة القصة الثانية للمسئول الكبيرالتي لم تتزوج الواحد الذي كانت تحبّه لأنه لم يتقدّم لها أصلا،ً بل ربما لم يعرف عنها أي شي كان، لكن يبدو أن المسألة متعثرة، والملعوب مكشوف، فلم تكن ثمّة قصة ولا يحزنون، وإنما المسألة أنه كان يريد أن يتحدث عن نفسه بزعم أنه يكتب قصة، فكل قصصه القصيرة ـ التي لم تنشر ـ هي هكذا، لا يجرؤ أن يكتب سيرة ذاتية بشجاعة، فماذا يفعل؟. يكتب، أي يرسم، صوراً لاهثة، يطل من خلالها بذاته الحقيقية أو المتصّورة، ثم يختبئ ويدّعي، أنها قصصا، قال يعني، ثم إن كل ما ذكره في موضوع القصة الحالية هذه حتي الآن هو أن ثمة بنتاً ملظلظة، وأن والد خطيبها  استشهد في حرب الاستنزاف، وأن حماتها، التي لم تصبح حماتها بعُد، تزوجت زواجاً عرفياً من رجل لا يراه ابنها (مشروع خطيب الملظلظة) إلا خارجاً في الضحي العالي من حجرة النوم، وكل ما عدا ذلك كانت أفكاراً سخيفة ومرفوضة، حتي النهاية المقترحة كانت تتعارض مع الأرجوزة اللطيفة التي كانوا ينهون بها مسلسلاً لا يذكره وهم يغنّون "تامّت، بحمدالله، تامّت، بحمد الله" صحيح الحمد لله علي كل شيء ولكن كيف نستطيع أن نحمده ونحن نشم رائحة هذه الجيـفة النتنة جيفة بودلير، لا يا عم، الإبداع لابد أن يكون جميلا ولتذهب جيفة بودلير إلي الجحيم يا يوسف وهبي،  ليس من الضروري أن تكون النهاية سعيدة، ولكن لابد أن تكون ثمة نهاية، هكذا قالها الشيخ درويش في نهاية زقاق المدق(41)، وهو يوحوح متنهدا: أليس لكل شيء نهاية؟ بلي، لكل شيء نهاية ومعناها بالإنجليزية end وتهجيتها e,n,d... ولكن نهاية ماذا ونحن لم نبدأ، إن النهاية هنا تكاد تجيء قبل البداية، وسيقول النقاد، "لم تكد القصة تبدأ حتي انتهت" ـ حلوة هذه ـ غادر القطار طنطا دون أن يمر في العربة بائع الحمص، درجة أولي ياعم، هل يأكل هؤلاء الباشاوات حمصاً مثلهم مثل صعاليك الموالد، لا يا سيدي، لابد أن مروره كان خطأ الأسبوع الماضي، ثم هو، يركب الدرجة الأولي مثلهم ويتصوّر أنه لا ينتمي إليهم، يضحك علي نفسه أم علي من؟ قالت له ابنته: لا تركب القطار الفرنساوي سوف يقف بك في كل المحطات، ورد عليها: إن هذا أحسن لأنه يريد أن يقرأ وقتاً أطول، وأن يري الناس وهم ينزلون ويصعدون في كل محطة؛ فقد اشتاق إليهم ولم يكن في حسابه أن هذا القطار الفرنساوي "هكذا" سوف يكلّـفه أن تصبح القصة القصيرة رواية "هكذا" والعياذ بالله. كيف تكون الكتابة قهرية ثم يخرج منها أي عمل إبداعي صادق؟. لقد لاحظ أنه كرر كلمة "هكذا" ثلاث مرات في سطرين؟. هذه ركاكة سخيفة، ولكن دعها فقد يجد النقاد لها حلا، قد يسمونها "تيمة مُمَيـِّزَة"  مثلا، هم أحرار، في التكرار جمال خاص، (!) هذا التكرار بالذات، وحتي هذا الأسلوب الذي ينتهجه الآن هو تكرار لمنهج مسبوق، فهو ليس فيه جديد، لقد قرأ قصصاً من قبل مكتوبة بهذا التكنيك (أي الأسلوب، أو المنهج أو التقنية!!) حيث يبتدع الكاتب الشخوص والأحداث أمام سمع القارئ وبصره، ثم يخرج له (للقارئ) لسانه، وهو يغيظه حين يضبطه  وقد عايش الأشخاص كأنهم حقيقيون، شفت المهارة؟!.  شيء أشبه بالذي يلعب بورق مكشوف ومع ذلك يكسب، زينب والعرش؟يجوز.  ولكن فتحي غانم لعب بورق مكشوف وكسب، والتقليد غير الأصل، فمن أضمنه أن القاريء سيتحمله مثلما تحمل هو عبده جبير، ولو أن عطلة رضوان ليست "كذلك"، ولا هي "ذلك" إذن هي ماذا؟. "لست أدري" يا إيليا أبو ماضي، تناصّ هذا أم تداعٍ؟. هذا شغل النقاد، مالي أنا؟. (كانت في الأصل أنا مالي، ثم قلبتُها فصحي قال باعتبار أنها لما كانت معدولة لم تكن فصحي) فهو (أنا) لم يستحدث هذا النمط من الكتابة (عزيزي القارئ، ليس كل مرة سوف أنبهك أن تلاحظ كلمات وتعبيرات مثل "هذا النمط" أو "يستحدث" أو فنية استعمال العامية أو ما يبدو عامية بالفصحي؛ لأن المسألة زادت، والجمل والقصص الاعتراضية لا تنتهي،  وهذه الطريقة ـ عزيزي القارئ ـ تحمل  معني ضمنياً لا يسرك، ما هو المعني.  ألم تجده بنفسك؟ تستأهل. يا سيدي معني هذه الشروح المعترضة  أن الكاتب يشك في قدراتك (ولا مؤاخذة)!. فإذا كنت قد زعلت، فسوف أكف عن أن أنبهك هكذا علي العمّال علي البطال، ولكن دعنا نتفق علي أن التعبير الذي هو، والذي أريد أن ألفت نظرك إليه، سوف ألحق به علامتي تعجّب بين قوسين هكذا:(!!)، لتأخذ بالك مما أريدك أن تأخذ بالك منه، وأنت وشطارتك، خلاص؟. يالله يا سيدي إلي القصّة، وربنا سوف يسهل إن شاء الله.  ولكن ما رأيك ـ عزيزي القارئ ـ أن أتركك أنت تكمل القصة كما تشاء، لقد ذهب النقد الحديث إلي التأكيد علي أن القراءة مثل التدخين هي مسئولية كل قارئ، وأن علي المتلقي أن ينشئ القصة إن شاءً (!!) (بدأنا في علامات التعجب، خلّ بالك من هنا ورائح) علي القاري أن ينشيء القصة وأن يشارك في تأليفها، لا لأن الكاتب حداثي، أو لأنه عجز عن تأليفها، ولكن لأن المسألة مسئولية مشتركة، فلم يعد ثَمَّ مكان للصوت الواحد، ولا للبطل الواحد، ولا للتسلسل الواحد، ولا للقصة أصلاً، وكل واحد وشطارته، فهل ستفشل أنت ـ عزيزي القارئ ـ أن تلتقط دلالات علامات التعجب، حتي لو لم أضعها أصلا مثلما فشلت أنا في فهم علامات التعجب التي توضع علي الطرق السريعة الطالعة نازلة، والتي عرفت بعد مدّة أنها تعني "إحذر"، وكنت أحسبها تقول مثلما هو مكتوب علي العربات نصف النقل " لا تتعجب فتلك إرادة الله"، و يبدو أنه كان عندي حق، فقد كنت ألاحظ أنه بالقرب من هذه العلامات توجد عربات محطمة، ولا حول ولا قوة إلا بالله،..إلخ، نرجع إلي قصتنا، وما دمت يا عزيزي القارئ لا تبدو عليك أية حماسة للتكملة فسوف أكملها أنا وأمري إلي الله.

تذكرت للتو أنني لم أذكر من شخصيات القصة إلا البنت وخطيبها المزعوم، وحتي اسْمَاهما لم أذكرهما، وهذا نقص شديد ولعله هو السبب في هذا التوقف، ولوأنه، بيني وبينك، القصة لم تبدأ أصلا حتي تتوقف، ولمّا كان الباقي من الزمن أكثر من ساعة يا عمّنا نجيب(51)، فلا بد من تعداد بقية الشخصيات، ولكن كل حي باسمه، فخذ عندك: البنت الملظلظة لها أخ اسمه أحمد، وأختها اسمها عواطف، وأبوها اسمه عبد الغفار حسن عبد الغفار، وبالتالي فهي من عائلة عبد الغفار من الغربية أصلا، بلد صغيرة بين زفتي وبركة السبع اسمها" دمنهور الوحش" اسمها كذا!!،  اسمها مديحة، وأمها عندها حَوَل خفيف من الذي يعطي للعينين جمالا خاصا مثل عنبر إلي الأبد، أعني مثل لندا دارنل(61)، (!!)، أما خطيبها (خطيب البنت لا الأم) فله أخ اسمه عبده (قد يكون عبد الفتاح أو عبد الغفار أو عبد الله..إلخ)، ومع ذلك فقد اكتشف أنه مكتوب هكذا في شهادة الميلاد "عبده" لأنه بالإنجليزية Abdu وهو لم يعرف أنه ليس اسم دلع إلا وهو يستخرج الأوراق للهجرة إلي كندا، إذ يبدو أن حكاية زوج أمّه العرفي لم تمر عليه بالساهل، فسافر، الطيب أحسن، وهو (تعود علي الخطيب أو علي أخيه عبده أيهما أقرب) كانت له أخت اسمها سلوي، وعندها شلل أطفال، ولكنها تزوجت زواجة معقولة، وهذا أمر يتكرر لكثير ممن عندهن شلل أطفال، إذ يبدو أن المسألة فيها أمور جذب وحيوية لا نعرفها نحن الذين ليس عندنا شلل أطفال ولم نتزوج واحدة عندها شلل أطفال، وهكذا يتجمّع عدد من الشخصيات فجأة. يمكن بقليل من التوافيق والتباديل والمصادفات السارة والسيئة، ثم بعض الحذف وكثير من الإضافة يمكن أن يتم نوع من الصياغة المشتبكية (!!) توصلك إلي شرم الشيخ وليس إلي القاهرة فحسب، بل إنني أستطيع أن أتحفك بالمزيد لأنها تبدو عملية أسهل من الحكي الطولي، فعندك مثلا جمهرة من أولاد العم [أولاد عم البنت لا الخطيب] يمكن تسميتهم الواحد تلو الآخر إذا احتاج الأمر، بعضهم يعمل في العراق ويرسل خطابات ولكن بخط غير خطه، يمكن مات وزملاؤه يصّبرون أمه، وبعضهم في إيطاليا، وبعضهم كان يعمل في لندن شخصياً عدداً من السنين حتي أخذ الجنسية الإنجليزية، ثم توقف عن العمل بسبب مرض نفسي، ثم تمادي في التوقف بحركات مصرية أصيلة، وهو يأخذ الآن بدل بطالة ويكتفي به ليتفرغ للأعمال "الأخري"، مع أن البنت لا يبدو عليها إطلاقا أن لها أقارب من هذا النوع، ويمكن لأي واحد من هذه المجموعة غير المتجانسة أن يرسل خطابا يقلب به الدنيا، فتحلو القصة وتمتد بلا صعوبات، أو يمكن واحد منهم يطب فجأة عائدا إلي مصر، ويحاول أن يخطب البنت شخصيا، لا من أجل لظلظتها ولكن لأسباب دينية تتعلق ببناته اللاتي سينجبهن منها في الغربة واللاتي قد يرافقن "الصديق الولد" (Boy-Freind) إذا كانت أمهن إنجليزية (لاحظ أنني اخترت الجدع الذي يعمل في لندن ويأخذ بدل بطالة بالذات دون غيره لأسباب لا تخفي عليك، مثل أنه لو امتدت القصة إلي لندن فسوف تجد هناك جالية عربية لا حصر لها تنفع في حَبــْـك الأحداث)، وصاحبنا هذا ـ ابن العم ـ الذي يمكن أن يطب فجأة ليخطب البنت، يعلم علم اليقين أن زواجه منها لن يمنع بناته مستقبلاً أن يتمتعن بحرّية البنات الإنجليزيات حتي لو كانت أمهن السيدة زينب نفسها، أقول إن هذه "الفرشة" من الأشخاص هنا وهناك قادرة علي عمل ما لا يعمل، فلماذا حبس نفسه من الأول في هذه الشخوص، هذين الشخصين، اللذين لم يقدرا أن يعملا أي شيء يوصله إلي القاهرة، بل إنه علي الناحية الأخري، ناحية الخطيب، يوجد عدد آخر من الشخصيات الجاهزة للدخول إلي بؤرة الأحداث (!!) وسأضرب لك مثلاً واحداً لأن الدنيا ازدحمت بالشخصيات، فزوجة خال الخطيب اسمها إحسان، وقد راودته عن نفسه وهو بعد في سنة ثانية ثانوي حتي صار في كلية الحقوق، كان جسمه فائراً من يومه، وهذا مرتبط ـ بشكل ما ـ بالدور المشابه الذي قامت به معه الغسَّالة التي اسمها أمينة،  والتي تناديها أمه بأم فهمي مع أن ابنها الكبير اسمه لطفي (معلومة ناقصة تستكمل: لعله ابنها الأكبر من زوجها السابق. من يدري) وهو بعد في سنة ثانية إعدادي، شيء أشبه بالبروفة للأحداث التي ستحدث فيما بعد، وبالذات مع زوجة خاله وليست مع البنت، فقد كانت أم فهمي تجرجر الولد في الكلام عن ما يحدث في الحجرة بين أمّه وزوجها العرفي (يسمّونه هذه الأيام "البيات") وكانت بذلك تضرب عصفورين بحجر (!)، فمن ناحية كانت توغر صدره نحو أمّه وزوجها وهو ليس ناقصاً، ومن ناحية أخري كانت تثير فيه مشاعر دافئة ولذيذة وسلِسة وأشياء حلوة جدا جداً لايعرف لها اسماً، وهو إذا وصفها باخَتْ؛ ذلك لأنه لا يعرف كنهها(!!). فلما جاءت حكاية زوجة خاله هذه لم يستغرب الأمر، لكنه أبدا لم يغفر لزوج أمه ما يفعله مع أمه داخل الحجرة، مع أنه زوجها فعلا، ولو عرفيا.

 أظن ـ عزيزي القارئ ـ أنا عملت ماعلي، ويمكنك بأية درجة من الموهبة، وبدون موهبة حتي، أن تعمل ما تريد من كل هؤلاء، ثم لا حظ أن هذه قصّة داخل قصة داخل قصة، مثل حركات ديستويفسكي الذي كان يكتب بالشبر لزوم القمار والذي منه(71).  الآن فهمت كيف تتولد القصص من بعضها البعض لمجرد أنك مضطر، سواء كان هذا الاضطرار وعداً لمجلة أسبوعية أو بطء القطار الفرنساوي بين القاهرة والاسكندرية، وكاتبنا هنا لن يقبض شيئاً من أي أحد، هو فقط يحاول أن يفي بنذر خفي، فهو مضطر أن يكمل ما بدأه، هكذا، بسبب الارتباط الوسواسي الذي أخذه علي نفسه، والبركة فيك بقي ـ عزيزي (بدون "القارئً، هذه المرّة)، خاصّة وأن المسألة انكشفت بعد أن اعترف الكاتب الأول أنه هو الكاتب الثاني، والآن جاء دورك لتصبح الكاتب الثالث والأخير بإذن الله، وإذا كان الكاتب قد نوّه صراحة (!) علي أنه هو الذي يتحدث بضمير المتكلم ثم بضمير الغائب، فإنه لم يفعل ذلك نتيجة لضعف الثقة بذكائك، ولكن ـ ربما ـ من باب الحداثة، دون قصد طبعاً، ودون أن نسمّيها حداثة، فكما أنَّ قمّة درجات التصوف أنْ تنزع عنك رداء التصوّف فلا تستحق اسم متصوف، فإن قمة درجات الحداثة هي ألا تكون حداثة، باختصار: إن الحداثة لا تصبح حداثة إذا سُـمّيت كذلك،، فأرجوك ـ عزيزي ـ ألا تدق علي مسألة الضمائر هذه وحدها، فالحكاية مهببة من أصله، المهم أن تتمسك بأية فكرة تصل إليك وتقبض عليها بيد، لا أقول من حديد، حتي تستطيع أن تكمل، ولكن تقبض عليها جداً والسلام حتي لا تفلت منّا نحن الاثنين، وأنا ما شرحت نفسي ونفسه في مسألة الضمائر هذه إلا لأترك لك مساحة للاختيار، ضمير غائب ماشي، ضمير متكلم ماشي، ساعة كذا، وساعة كذا: ماشي، لا أحد يعرف أين الخير، الاختيار وإعادة الاختيار وإعادة صياغة النص، ونص صياغة الاستعادة هي أصل التجاوز الغائي بالصلاة علي النبي.

نرجع إلي القصة التي هي في داخل القصّة (أي القصة الوسطي) فقد آن الأوان أن أذكر اسمَي البنت وخطيبها الذي لم يخطبها بعد؛ لأنه ليس من اللائق أن أذكر أسماء كل هؤلاء حتي اسم الغسالة واسم ابنها الحقيقي وابنها المفترض، ثم لا أذكر اسم الشخصيات الأصلية ـ ولا أقول البطل والبطلة ـ أما اسمها فحميدة، صحيح أنه اسم لم تكن تنتظره ـ عزيزي ـ بعد كل هذا الوصف، كنت تنتظر ـ أنا عارف ـ أن يكون اسمها ليلي، أو لُبني، أو حتي يمني؛ لأن لظلظتها من النوع الحديث الذي تليق عليه هذه الأسماء. أما اسم حميدة فيوحي لك بنوع آخر من اللظلظة. حميدة اسم قديم بعض الشيء ولكن له حكاية لأن خالتها هي التي أسمت البنت "حميدة"، ليس علي اسم أمها (أم خالتها أي أم أمها أيضا) وإنما علي اسم المرحومة الزوجة الأولي للوالد، والتي انتقلت إلي رحمة الله قبل زواج والد البنت من أمها، ماتت دون أن تنجب والحمد لله بفضل مرض مجهول، وهذا أحسن، لأنها لو كانت قد أنجبت لتعددت الشخوص في القصة التي كادت تصبح رواية، ونحن عندنا شخوص كفاية الآن، ينفعون لعمل مسرحية زحمة، وساعتها، لو كانت قد تركت ذرية يسمونهم أولاد البلد من "أم ثانية"، كنت لن تستطيع أن تمنع نفسك من الاستطراد إلي مسائل الغيرة القديمة، والشجار، والدسائس ثم الصلح، وأشياء لا تنتهي، والأب غائب في السعودية، والعم (اسمه مختار، تصور!!!) ولا هو سائل، ناهيك عن النظرات التي ينظرها الأسطي مختار لزوجة أخيه وهو يعطيها النقود التي يرسلها أخوه بالحوالة كل كم شهر، هكذا أفضل، ماتت حميدة الأولي ولم تنجب، وخلاص، مثل قصص المسئول الكبير، ونحن لا ندري ماذا كانت تقصد الخالة حين أصرّت علي تسمية حميدة حميدة علي اسم المرحومة، فمن المستبعد بداهةً(!!) أنها كانت تهدف إلي أن يتذكر الزوج المرحومة باستمرار كلما نادي علي ابنته مثلا، فلربما (لست متأكدا أن اللام الزائدة في "ربما" هذه عربية لكن شكلها جميل هكذا) فلربما كانت الخالة تقصد أن تقوم بعملية إحلال تدريجي دون أن يشعر الزوج، بمعني أنه كلما جاء ذكر حميدة قفز إلي ذهنه اسم ابنته لا صورة المرحومة، يا ولد!!، ولا أجدع علاج سلوكي(81)، هكذا بالسليقة. إذن البنت اسمها حميدة، وعلي فكرة أنا لم أذكر لك أن الست إحسان ـ زوجة خال الخطيب المزعوم التي راودته عن نفسه ـ لم تفعل ذلك إلا بعد أن توفي خاله بأربع سنوات، وبالتالي فتسميتها بزوجة الخال ظلم لها وللأحداث (كيف للأحداث لا أدري)، لأنها حين راودت الخطيب المزعوم (أنا متعمّد ألا أذكر اسمه إلا بعد فترة؛ تنشيطاً لخيال القارئ)، أقول حين فعلتها كان المرحوم خاله قد قضي نحبه منذ مدّة، أربع سنوات ليست قليلة في عُـرف البيولوجيا الحيوية، وخصوصاً بيولوجيا الست إحسان، الأصح إذن أن نقول أرملة خاله، هناك فرق. هذه مُحصْنة (زوجة الخال) وتلك غير مُحصْنة (أرملة الخال)، هذه تُرجم حتي الموت، وتلك تـعَــذّر بكم جلدة شريطة حضور أربعة شهود بالتمام يكونون قد رأوا كل شيء رأي العين، وتأكدوا، كيف؟. لا أدري. ياما أنت حليم ستّار يارب، وبقية الظروف تعتبر في عرف أي واحد يفهم في الطبيعة البشرية البيولوجية من الظروف المخفّـفة، وخاصّة إذا كانت الطبيعة البيولوجية من نوع الطبيعة التي تطل من كل فتحات ملابس الست إحسان، وحتي من وراء الفتحات، فإذا أضفت إلي ذلك أن الخطيب المزعوم كان شاباً طويلاً أسمر سابقاً سنّه، خجولاً رياضياً ممتلئاً إلا قليلاً، له حاجبان كثيفان وعيناه الواسعتان تـُظهران حاجبيه بشكل معين، وبالعكس، (يعني حاجباه الكثيفان يظهران أيضا سعة عينيه. ليس أسهل من هذا) إذا أضفت هذا إلي ذاك، وإلي استحالة التأكد من أي شيء بحضور أربعة شهود، لابد أن تعرف أن رحمة ربنا أكبر من كل تصوّر يا أخي، وأنا لست متأكداً مما حدث بالضبط من هذه الناحية، ولا أريد أن أدخل في التفاصيل، لأنها تحصيل حاصل، مع أنني أعرف أنك تريدني أن أحكي لك التفاصيل، لكنني سأغيظك، وفي الوقت ذاته أحاول أن أستثير خيالك، فماذا يعني يمكن أن يحدث بين الست إحسان التي هي كما ذكرنا إجمالا، وبين شاب بمثل تلك المواصفات السالفة الذكر، وعليكَ، ولكَ، أنت أن تتخيل ما تشاء، ولكن كل ما يتخيله خيالك هو مسئوليتك بالتمام، بما في ذلك إذا تجرأ خيالك ورمي المحصنات، أو غير المحصنات، المسألة كلها تتوقف علي نوع وسعة خيالك، أما عن "أنواع"الأخيلة فثَمَّ (!!) خيال خبيث، وخيال ملتو، وخيال نصف نصف، وخيال كسول، وخيال جامح (حلوة جامح هذه) وخيال متعثر في طوب وزلط الواقع، أما عن "سعة" الأخيلة، فهناك الخيال بالطول والخيال بالعرض، والخيال الأسطواني، والخيال القوْسقزحي، وما دام الأمر كذلك فما الحاجة بالله عليك إلي التصريح الذي نلقاه في هذا النوع من الأدب الذي يقال له الأدب الصريح، أو أدب الجنس، لماذا يصرون في هذا الأدب المكشوف علي تسمية الأشياء بأسمائها، لا بد أنهم (أدباء الجنس الصريح) يظنون أنك عاجز جنسياً، أو أنك طفل فاتتك فرصة تعلّم التربية الجنسية، أو أنك تربيت مكبوتاً في كُـتــَّاب القرية؛ وهذا لأن أغلبهم أفندية يتعاطون الأدب في مقاهي المثقفين، ويتصورون أن القراءة عن الجنس هي بمثابة ممارسته، مع أن العكس يمكن أن يكون أصح، لأن معظم الذين تعلّموا في كتاب القرية، علي ما أذكر، ولستُ منهم بالضرورة، كانوا يتعلّمون الجنس من الحيوانات مباشرة، وكانت المباشرة عملية متاحة علي مستويات متعددة، وقد رأوا التلقيح الطبيعي لمعظم أبقار البلدة، بمساعدة الكلاف الذي لا بد أنه كان يجد لذة من تقمّص  هذا الثور السنافيري، كان ثوراً أشقر فحلاً ليس عندك فكرة، وكان اسمه هكذا السنافيري، حتي حسبتُ أنه اسم الدلع لرمسيس الثاني، إلاّ ولمّا كانت خالتك فاطمة تمسك بالبطة لدكر البط حتي " يكسّرها"، وإلاّ لمّا ذكر الحمام يدور حول نفسه والحمامة تطأطئ رأسها وهو لا يقترب منها وإنما يواصل دوراته الاستعراضية، الآن فهمتُ لماذا سمّي ابن حزم كتابه "طوق الحمامة"، يا خبر هذه كلها من نعم الله الطبيعية علي مخلوقاته وإلا انقرضت، فلماذا يستهينون بخيالك هكذا لمجرد تصورهم أنك خرجت من كتاب القرية أو أنك لم تتعلم التربية الجنسية في المرحلة الثانوية، أما أنا فأنا أثق في خيالك الخصب، وأتصوّر أنك تستطيع أن تنسج(!!) قصصاً لا تنتهي من مسألة "راودته عن نفسه"، بأمارة أن كل عمّاتك كنّ يطلبنَ منكَ أن تقرأ لهن سورة سيدنا يوسف للاتعاظ المرّة تلو المرّة، وبالتالي، فلن أدخل في تفاصيل من إياها.

نرجع مرجوعنا إلي الخطيب، وقد آن الأوان أن نسميه، وفي هذا الأمر أسألك المشورة؛ لأن الأسماء التي خطرت ببالي بالنسبة إليه كانت من النوع الرمزي السخيف الذي يوائم بين الدور الذي يقوم به الشخص في القصّة، و بين اسمه، وذلك مثل الكتاب الذين يتعمّدون هذه المقابلات كالتالي: عادل: قاض، همّام: ضابط، ونبيه: خبير كمبيوتر، ماهر: لاعب كرة، ورفيق: مرشد سياحي، ما هذا؟. تبت إلي الله بعد أن أخطأت مرّة بل مرّات أخطاء من هذا النوع، ما رأيك في اسم سلامة، أو أشرف، أو  باسِم، أو مختار؟ بصراحة، كنت قد اخترت له اسم "يوسف" بمحض الصدفة، ليس صدفة تماما ولكنني أعرف محامياً طيباً شاباً وذكياً اسمه يوسف، وكنت أريد أن أكرمه بأن أستعمل اسمه لشخص مناسب، لكنني حين تذكرت مسألة "راودته عن نفسه" هذه قلت: بـناقص يوسف، خلّها: سامي، ماشي سامي؟ لا مانع، هو اسم يصلح لكل العصور، وليس في دوره أي سمو أو تسام، وبالتالي، لا حرج، فليكن، سامي سامي، خلّنا نخلص.

بعد إذنك، عزيزي، القطار مازال يسير ببطء وهناك تأخير قد يقلب هذه القصة إلي رواية، وقد تـُـنـشر علي حلقات، وقد يطلب من الكاتب أن يكتب موجز ما نشر، ومن باب الاحتياط سوف أحاول الآن أن أجرب حكاية "موجز ما نشر" هذه، وقفة قصيرة ثم نستطرد، شكرا.

(موجز ما نشر)

جلس الرجل (الذي هو أنا في الأغلب) علي المقهي بعد أن اشتري كراسة بجنيه، وطلب واحد قرفة، وادعي أنه ينتظر واحدا، وقرر أن يكتب قصة أسوة بالمسئول الكبير الذي نشر قصصه عيني عينك في صحيفة يومية آخر تمام، وذلك من فرط غيظ الرجل الجالس في المقهي من عبده جبير، ومن المسئول الكبير معاً، وكانت الكراسة التي اشتراها  بجنيه، قابعة تنتظر، وكان معه قلم حبر جاف مصادفة، فراح يكتب، وكل ما فتح الله عليه به حتي هذه اللحظة هو أن هناك بنتاً ملظلظة، لها خطيب لم يخطبها، ولم يصدمها شاب متهور يركب عربة مسرعة، وخلاص. أما الفتاة فأبوها يعمل في السعودية. أما الخطيب المزعوم فأبوه مات في حرب الاستنزاف، وأمه تزوجت زواجاً عرفياً، وزوجة خاله، أعني أرملة خاله راودته عن نفسه زمان (بعد الغسالة ما علّمته اللازم)، هذا كل ما كان حتي الآن.

 وكان الكاتب   قد قرر أن ينهي القصة لا قبل ولا بعد أن يدخل القطار محطة القاهرة، وقد أعطاه القطار مقلباً إذ أنه راح يسير ببطء ولا قطار الدلتا بسبب إصلاحات في الطريق في الأغلب،  وهو الآن لا يعرف كيف يكمل، فها هو يحاول، قال:

ولمّا تأخر سامي في التقدم لخطبة حميدة، لست أعرف لماذا(قَطْع) خطر ببالي خاطر الآن تخلّصا من الوسواس الذي ألزمني بكتابة هذه القصة، وهو أن أحسب التحدّي بالساعات لا بعدد الكيلومترات، مضت حتي الآن ثلاث ساعات وربع، وكان المفروض أن يصل القطار في ثلاث ساعات إلا ربع، فالنذر (الوسواسي) قد تم الوفاء به، وهو  لم يكف عن الكتابة من ساعتها، فماذا تريد أكثر من ذلك؟ عليك أن تكمل الحكاية أنت بشهامة المبدعين، ويكفي هذا، ثم إن هناك سبباً آخر وهو أنني أشعر باقتراب حزن خفي، وأنني لو أكملتُ بعد ذلك فسوف أقلبها غمّاً، فما رأيك؟.

نعم؟ نعم؟. أنتَ مالك؟.

 أمّا قارئ أي كلام، ألستَ يا سيدي أنت هو نفس القارئ الذي يتحمّل كلام الحداثة حين يقولون له:  إنك تقوم بدور لست أدري ماذا، وإنك كذا، وإنك مبدع، وإنك وإنك....،فإذا جئتُ أنا  أستسمحك بكل طيبة أن تساعدني، تقوم تهز لي أكتافك هكذا، طيب أنت المسئول عن الغم الذي أشم رائحته قادماً، ثم إن والدتي كانت تكرر أنه "من عمل جميلا يتمّه، وإلا تموت أمه"، فهل معني أن أمي ماتت فعلا وأني لا أخاف أن تموت ثانية إذا لم أتم القصة، هل معني ذلك أن أتحرر فلا أتم العمل الذي أقوم به؟. بالعكس، إكراما لها ولحكمتها سوف أتم هذا العمل،  وسوف أعتبر أنها لم تمت، وسوف أحرص علي ذلك خوفا علي حياتها. ربنا يخلّيها ويطول عمرها لنا جميعا!!

خذ عندك يا سيدي:

البنت حميدة، تعمل في شركة كمبيوتر، وسامي يعمل محاميا تحت التمرين، رغم أن أمّه كانت تصر علي ألا يطلع ضابطا مثل أبيه، كانت تريده أن يكون مهندسا ضاربة عرض الحائط بأنه قسم أدبي، المهم أنه بعُد عن الجيش، وأنهي كلية الحقوق بعد تخلف سنتين ثلاثة، ومرتبه شديد التواضع، ومعاشه انقطع ولم يبق إلا معاش أمّه التي تصرفه علي زوجها العرفي الثاني (= الزوج البيولوجي المُعلَن: الثالث) وهو زوج بيات أيضا لكن بياتة مرتاحة وليست خطفاً مثل الأول، ثم إنه يختلف عن الزوج البيات الأول في أنه أصغر عشر سنين (أصغر من الأم وليس من الزوج الأول) ثم هو يأتي مبكراً، ويبقي في المنزل أحيانا إلي ما بعد الظهر ورغم أمانة سامي مع حميدة إذ أنه لم يعدها أبدا أنه سوف يتقدم إليها. إلا أنها كانت ولا علي بالها، والذي في مخها في مخها، وهذا هو الذي جعلها تخرج معه مراراً وتكراراً (!!). المشكلة في المكان، وقد فكّر سامي ذات يوم أن يستعير عربة "الأستاذ" الذي يتمرّن عنده بعد أن قامت صداقة ـ ليست معتادة ـ بينهما، محام تحت التمرين، وصاحب مكتب مشهور في التعاقدات، لكن المسألة صدَف، وثقة متنامية (!!). والثقة التي تولّدت بينهما لم تكن بسبب إتقان كتابة المذكرات القانونية أو حسن لقاء الزبون، وإنما حدثت بمحض الصدفة؛ ذلك أن المحامي الكبير (سأسميه: "الأستاذ") قد أرسل سامي ذات يوم ليحضر له لفافةً ما من أحد المعلمين الممتازين، وكان هذا المعلم الممتاز يعيش ـ ليس بمحض الصدفة ـ في مكان يحتاج إلي خريطة تفصيلية للوصول إليه، فإذا بسامي يذهب ويرجع بالأمانة (اللفافة) في لمح البصر(!!). [أظنك مازلت تذكر يا عزيزي مغزي علامات التعجب]. نعم رجع سامي في لمح البصر وعرف المكان مائة في المائة حتي لم يعد يستعمل الخريطة بعد ذلك، ومع تكرار ذهابه راحت ثقة الأستاذ فيه تتنامي(!)، بل إن دليلاً آخر قد بدأ في الظهور وهو أن الأستاذ شخصيا هو الذي أخذ يرفع الكلفة تدريجياً بينه وبين سامي، فبعد أن كان لا يناديه إلا بـ "الأستاذ سامي" أصبح يناديه بـ "سامي"، فقط، طبعا هذا دليل علي علاقة أوثق بلا شك، ولكنّ سامي لم يستطب الاسم هكذا "حاف" خاصة أمام الزبائن،  خشية أن يحسبوه فرّاشاً مثلاً، لكن حين وصل الأمر إلي "يابو السّام " تأكد من رفع الكلفة بينه وبين الأستاذ، وهذا ما جعل سامي يفكر أن يستعير سيارة الأستاذ حتي يفسِّح فيها " لا ـ خطيبته" (شيء أشبه بـ "اللا رواية"، أو كما قال) وكان يتمني أن يوافق الأستاذ لأنه في الأغلب سيكسب ثوابا كبيرا، لا لأن ذلك سيسهل عملية التقدم للخطبة، فالزواج، ويا بخت من وفّق.رأسين.. إلخ، ولكن لأن مثل هذه الفسحة في تلك السيارة الفسيحة يمكن أن يساعد سامي في الهبوط بـ "لا خطيبته" إلي أرض الواقع، أو قل إلي "لحـم الواقع"، وهذا لا يعني أن سامي كان يفكر أي تفكير كذا أو كذا، فالالتحام بالواقع في الأغلب هو اشتقاق من حكاية "لحم الواقع" التي خطرت ببال سامي بديلا عن "أرض الواقع"، كله من مادة لحم يلحم، ثم ـ من وفرة إخلاص سامي ـ أنه لم يستبعد أن يهبط هو كذلك إلي أرض الواقع، أو لحم الواقع، أو لظلظة الواقع، وقد يكون هذا دافعاً أن يجعل الذي في مخ حميدة ليس في مخها فقط، من يدري، من ذاق عرف، هذا قول الصوفية ولكن من أين يا حسرة، من أين يمكن له أن يتم هو الآخر ما بدأه خياله؟ أقول لك من أين: (مازال سامي يحدّث نفسه)، فقد فكر  يوما أن يعرض علي المعلم أن يقوم بنفس المهمة التي يقوم بها للأستاذ، يقوم بها ـ في غير أوقات العمل الرسمية ـ لأساتيذ غير الأستاذ؛ وذلك مقابل حسنة محسوبة، وهو محام، صحيح تحت التمرين، ولكنه فاهم كل حاجة، ويا بخت من نفع واستنفع، وهو لن يحتاج ـ حسب حساباته إلي أكثر من عشرة مشاوير، بعدها، يمكن أن يتقدم إليها، وما قدّر يكون، ولكن هذا السيناريو لا يمكن أن يبدأ إلا بعد أن يكون الأستاذ قد وافق علي إعارته عربته حتي يحقق قول الصوفية الأفاضل أن من ذاق عرف، وهنا فقط تذكر أنه لا يعرف قيادة السيارات أصلاً، وهو يستعمل التاكسي حين يذهب إلي هذا المشوار بالذات، مشوار المعلم واللفافة، وعلي التاكسي أن يتغير باستمرار، هكذا وصّاه الأستاذ، وقد عمل بوصيته ردحاً من الزمن (!!) ولكن تاكسياً بذاته عرف مواعيده، وأخذ ينتظره وكأن المسألة صدفة، ثم هب أن كل ما تصوّره بشأن الحلول المادية بالجهود الذاتية قد تحقق، فللأمانة هو غير متأكد إن كان سيقدم علي خطبة حميدة أم لا. فالمانع ليس فقط المادّة التي يعبّر عنها هذه الأيام الشباب بتعبير " يكوّن نفسه"، ولا هو عدم وجود عاطفة كافية، ولا هو أمّه وزوجها البيات، ولعلّ القارئ بذكائه يحاول أن يجتهد معي لنبحث عن المانع لأنه (القاريء) في الأغلب أصغر مني سناً، وهو أدري بشباب هذه الأيام وموانعهم، ثم إن القطار، رغم الإصلاحات المعوّقة، ورغم تأخره عن الميعاد أكثر من ساعة، ورغم بطئه، قد اقترب من باب الحديد، ولو أنني تركت نفسي أحاول تفسير كل مانع ودافع لكان لزاما علي أن أقضي الليل في القطار، وذكريات فيلم باب الحديد ليوسف شاهين لا تسر (فيما عدا هذا الذي فعلته هند رستم بكل الرجال الذين شاهدوا الفيلم) ورواية السكة الحديد لإدواردالخراط تخيفك دون أن تكون فيها عفاريت محددة "الهوية" (!!). أنا قلت أكتب قصّة وليس أمثّل قصة، ثم إن الخطأ خطأ حميدة لأنها تعتبر سامي خطيبها فعلا دون أي دليل أو قرينة، كلام هكذا والسلام دون بينة، والبينة علي من ادّعي،  واليمين علي من أنكر، ومع أن سامي لم ينكر، إلا أنه قد أقسم ألف يمين ويمين، وحتي دون أن يقسم فالقارئ عارف، وأنا قلت له إنه لم يلمّح ولم يصرّح بأي شيء، وأنا شاهد حتي بعيداً عن هذه القصة تماما، شاهد أن هذا لم يحدث بأية صورة من الصور، ولا بد أن يصدقني القارئ، فليس معني أنني تركته يشاركني الإبداع والبحث عن الحلول أن يشك في كلامي وفي قدراتي علي الخلق، فليفعل هو ما بدا له في حدود ما سمح له النقد الحديث (وأنا شخصياً لا أعرف هذه الحدود ولست مهتماً بمعرفتها)، كل ما أعرفه هو أنني ينبغي ألا أعامله (القاريء) وكأنه مثل الإناء الأملس من الداخل، ألقي به ما يعِنّ لي (ملعوبة !!) وما عليه إلا أن يحتويه. لا، هذا كلام قديم، إن النقد الحديث يلزم القارئ أن يكون مثل الفخار المسامي، يمتص ما يلقي إليه، ثم يسيبه الناحية الثانية بلا أي مانع، والاسم استيعاب،  وتمثّل، وكلام من هذاالكلام الجيد الذي يحترم القارئ لدرجة الاستغفال،  أما أنا، فلا بد أن أعترف أنني، حتي هذه اللحظة، لم أجد مبررا كافيا  يبرر أن يرتبط سامي بحميدة، ومسألة الحب التي كانت تبني عليها قصص زمان أصبحت بعد الفيديو كلوب مسألة فيها نظر، فأنت كنت تستطيع أن تجلس  أمام شادية تتملي فيها وهي تسهر طول الليل، "وسهرنا سهرنا سهرنا لحاد الفجر"، وبالتالي تصبح لديك فرصة أن تحبّها، وبالتالي تحب غيرها، مثلها أو نقيضها، المهم تتعلم الحب بإيقاعه البطئ اللذيذ وأنت سهران لحادّ الفجر، ثم بعد ذلك أنت حرّ، أما الآن بعد الفيديوكلوب، فأنت لا تكاد تبدأ في حب أية واحدة تليفزيونية تغني، أو تتصور أنها تغني، حتي تظهر لك عجلة، أو واحد يكتب، أو حمار بجوار ترعة، ثم تظهر ثانية هذه الواحدة، وتحتار هل هي لطيفة أم سحر رامي أم علي الحجار، فكيف بالله عليك يتعلّم شبابنا الحب، وكيف أطالب سامي وهو رائح غاد يجلب اللفافة للأستاذ ويحضّر المذكرات القانونية، كيف أطالبه أو أتوقع منه أن يتقدّم لحميدة بسبب الحب،  وهو لا يعرفه أصلاً، كانت أيام.  أيام مصطفي لطفي المنفلوطي كان يمكن أن تفسّر أشياء كثيرة بهذه العواطف النبيلة (هم الذين كانوا يسمونها كذلك)، أما الآن فالنبل موجود طول الوقت دون أي عواطف ولا تعب ولا خطبة ولا حاجة، هل يمكن أن يكون العائق ـ الذي يؤخّر الخطبة أو يمنعها  ـ في حميدة وليس في سامي؛ لأننا إذا كنّا افتقدنا الدافع للخطبة، فلعل الأمر يفَسّر بفتور الشّدّ الجاذب نحو العلاقة، المسألة جهاز إرسال وجهاز استقبال، فلعل جهاز استقبال حميدة، علي الرغم من لظلظتها، هو الذي به خلل، وهذا يلزمنا أن نعرف أكثر عن حميدة، وبطء سرعة القطار يسمح بذلك:

حميدة ـ كما قلنا ـ تعمل في شركة كمبيوتر، وهي مخلصة إخلاصاً فائقاً في عملها لأنه عمل خاص جدا، ومهم جداً جداً، فهي لا تعمل علي الكمبيوتر جامعة حروف مثل كاتبة الآلة الكاتبة، لكنّها مصمِّمة برامج، وهذا عمل لا يقوم به إلا شباب أذكياء جداً، وهم عادة من الذكور، وهو إبداع حقيقي، وفيه قدر كبير من السرقة الذكية، وهي سرقة تنهَي عنها اتفاقات الجات في حين تشجّعها الأمم النامية، ويرضي عنها رب العالمين (في الأغلب)، وقد استطاعت حميدة ـ بفضل الله ـ أن تفك شفرة برنامج جديد شديد التعقيد، ثم إن هذا البرنامج في صورته الأصلية ثمنه ألف ومائتان وخمسون دولاراً أمريكياً (!!)، أي أربعة آلاف وثمانية وستون جنيهاً مصرياً وكسوراً (قبل أزمة الدولار الأخيرة)، فكافأها رئيسها بمائتي جنيه مصري (!!)، وباع نسخاً من البرنامج المفتوح شفرته كما يريد، باعها هكذا عيني عينك، كل نسخة بمبلغ ثلاثمائة وسبعين جنيهاً، وبهذا ردّ بعض ما أخذه منا الاحتلال، وحميدة لا تنظر إلي هذه المسائل، بل كل ما يهمها هو أن تسأل عن برنامج جديد مُلْغـِز، ومـُؤمـَّن، لتواجهه متحدية عنيدة، مثابـِـرة حتي تفك شفرته، وهكذا، وهي تحب الشاي بلبن، وتضع فيه خمس قطع سكر مرة واحدة، وربما كان هذا ومثله من أسباب اكتسابها وصف ملظلظة، فهو لفظ مكتسب، فلظلظتها ليس لها أي جذور وراثية، بل إنهم كانوا يعايرون أمها بأن لها عرقوباً يذبح الطير، وليس معني انشغال حميدة كل هذا الانشغال بفك شفرة البرامج، وإعداد برامج جديدة، وشرب الشاي "أبو لبن" فائق الحلاوة، أنها كانت مهملة لأنوثتها أو مستهترة بمستقبلها أو كلاماً من هذا؛ ذلك أن جاذبيتها الإنسانية والأنثوية كانتا بعيدتيْن عن أي تشكيك، وفي يوم من الأيام اقترب منها زميل أثناء انهماكها المطلق في تحدّي مشكلة لو حلّتها ستقفز بها إلي المعادلة النهائية التي سوف تفك شفرة هذا البرنامج العنيد، وهو ليس زميلها بالضبط، لكنّها تعتبرهم كلهم زملاء، ساعياً، فراشاً، كاتباً، سكرتيرة، كلهم زملاء، المكتب مكون من زملاء ورؤساء، وخلاص، وبما أن هذا الشاب الذي حضر ليس رئيسا فهو زميل، ساع لكن زميل، وهو قد حضر كالعادة ليطلب منها شيئاً طلبه منه رئيسه، وهو لم يعلن ما جاء من أجله؛ لأنه بمجرد أن دخل الحجرة، وكانت حميدة منهمكة أشد الانهماك فيما بين يديها، و هو يتراوح في الوقت ذاته ذهابا وجيئة بين جانبي دماغها(91)، وربما لذلك   لم يفقدها انهماكها في فك الشفرات والبرمجة أي ذرة من جاذيتها الإنسانية أو الأنثوية، ويبدو أن زميلها هذا انبهر بكل هذا، فاقترب منها وأخذ يبحلق في شاشة الكومبيوتر وكأنه يري صندوق الدنيا، وهو طويل وعريض وأسمر أيضا، لكنه ـ لسبب ما ـ أخذ يبحلق دون أن يثني جذعه، وإنما اقترب وكأنه يفهم رويداً رويداً، وزاد اقترابه رويداً رويداً أيضا، علي قدر فهمه، وكلما اقترب رويداً، فَهِمَ رويدا هكذا، وهي منهمكة إلا قليلاً، ثم إلا قليلين، ثم إلا قلائل كثيرة، وكأن هناك تناسباً عكسياً بين رويداً، وقليلاً، أو قل بدقة أكبر إنه تناسب طردي بين "رويدا"، و"إلا قليلاً"، حتي أصبح الزميل قريباً جداً وهو مازال واقفا لم يمل برأسه نحو الشاشة، فأحسَّــتْ، واندهشتْ، واستلذتْ، واَستمرتْ، وأنكرتْ، وربما تمنّتْ أن يبقي هكذا في محله من غير "إلا قليلاً"، كل هذا وهي لا تعرف عن هذا الذي ذكره الكاتب الآن، كاتب هذه القصة، شيئا بالمرّة، كل الذي تعرفه هو أنها فجأة بعد أن كادت تعترف باستسلامها، ماعت نفسها، نعم فجأة، وشعرت بغثيان كأنه نزل صعقا من حالق، فقامت تعدو كالملسوعة خوفا من أن تنقلب معدتها علي الكومبيوتر، ولم تنسَ وهي تنصرف إلي دورة المياه مسرعة أن تعتذر لزميلها هذا، بل تستأذنه أيضا، وهناك وضعت إصبعها في حلقها، ولم تتقيأ، ولم يكن في بطنها غير هذا الشاي بلبن الزائد السكر السالف الذكر، وحين عادت لم تجده في الحجرة، فكادت أن تذهب تسأل عنه، أعني تسأل عن الذي كان يريده ولم يـُـتمّه، تعني: عن ما كان رئيسه قد طلبه منه، أي منها، أكرر أنها لا تعرف أي شيء من هذه التفاصيل التي حكيتُ عنها حالا،  فهي أمور تحدث علي الجانب الآخر دون إذن صاحبها، إذ كيف لها أن تعرف أنها "كادت" مثلاً، ثم سواءً كادت أو لم تكد، هي لم تفعل شيئآ، لا هي فعلت ولا زميلها حضر ثانية يكمل، يكمل ما طلب رئيسه، ولا سامي تقدم لخطبتها، ولا القطار وصل إلي باب الحديد، وحين رجعتْ إلي أمها ليلاً قالت لها أمها إن أحدا لم يسأل عنها، وكأن المعتاد أن يسأل عنها أحد، وهذا غير صحيح،  وكانت أمها منهمكة في إعداد تلك الحلاوة ذات الرائحة الخاصة، وجارتهم أم محمود تملأ المنزل بضحكتها المجلجلة، وأمها مبتسمة ابتسامة "غير"، فعرفت حميدة كل شيء، وسألت أمّها عن موعد عودة أبيها بالضبط، وعن طول مدة إجازته هذه المرّة لعل سامي يفكر، فابتسمت أمها ابتسامة أخري غير الابتسامات التي تبتسمها لها وهي ذاهبة إلي العمل، وذكرت لها موعداً ومدّةً، وبعد أن غسلت حميدة وجهها، توضأت بالمرّة، ثم نادت بسرعة علي إخوتها الأصغر، ثلاثة صبيان علي بنت واحدة، وهي أكبرهم جميعا، فراحت تسألهم الواحد بعد الثاني عن الواجبات والدروس، وانهمكت في المراجعة والتسميع والتصحيح، والمراجعة والتسميع والتصحيح، والمراجعة وهكذا.

مرّة أخري ـ وربما أخيرة ـ أنذرك عزيزي القارئ أن القصة انتهت، وأن القطار الزاحف تخطي قليوب وأنهم حتي لو جرجروه جرّاً فسيصل في أقل من نصف ساعة، فأرجوك أن تعفيني لأنني أشعر شعوراً قوياً بغمّ قادم، وأنت أقدر علي الاتجاه بهذه القصّة المتعثرة إلي نهاية أخري، ولذلك أقترح عليك أن تكملها أنت بمعرفتك، أمّا إذا أصررتَ كما أنا مضطر استجابة لوسواس لا أعرف تفاصيل مطالبه، فإن المسئولية مشتركة حتما. ليكن، عن نفسي: أنا لا أملك إلا أن أكمل طالما القطار يتحرك.

نرجع مرجوعنا إلي عمّك سامي وهو يحضِــر اللفافة للأستاذ المرة تلو المرة (!!)، وفي مرة من هذه المرات التي هي تلو الأخري، وكان سائق تاكسي معين قد عرف مواعيده، وأصبح يتصنع التسكع في الوقت الذي ينزل فيه سامي إلي هذا المشوار الخاص، فتكرر ركوبه معه، ثم تصارحا وتواعدا رغم تعليمات الأستاذ، في هذا اليوم، وبعد خروج سامي من الحواري إياها إلي الميدان، وركوبه التاكسي وجلوسه في المقعد الخلفي كما اتفقا دائماً، لأسباب أمنية، لم يكد التاكسي ينطلق حتي أشار لهم أحد المارّة إشارة معروفة حسب التقاليد الجديدة لاتفاقيات التعاون المشترك في مسألة التاكسيات في القاهرة، ولكن الاتفاق المتين بين سامي والسائق كان يمنع منعاً باتاً ركوب ثالث، هذه كانت تعليمات الأستاذ، وهذا هو السبب في ارتفاع قيمة المقاولة بشكل واضح، لكن هذه المرّة التفت السائق إلي سامي يرجوه، ويبرر رجاءه بأن "المشير" يظهر عليه أنه غلبان، وأنها المرّة هذه وفقط، ومن الذي سيجعل الأستاذ يعرف، وكلام من هذا. حنّ قلب سامي غصبا وصاحب ذلك شعور برعب خطير لم يظهر عليه بعد، ركب المشير في الكرسي الأمامي، ولم ينظر إلي الخلف ولم يحي سامي أصلا، وطلب بعد قليل بشيء من الصفاقة (هكذا اعتبرها سامي) أن يمروا به علي مصر القديمة أولاً ـ قبل أن يتوجهوا إلي الجيزة، أحسن مستعجل، (سكتْـنا له.....)، فوافق السائق بعد إيماءة لسامي في المرآة، ثم حدثت الأشياء التي تحدث وراء بعضها بتسلسل قدَري ليس له تفسير، لم يحدث تصادم، ولكن الأشياء التي حدثت كانت داخل السيارة لا خارجها مما ينشر بطريقة مثيرة مليئة بعلامات الاستفهام في صفحة الحوادث، ثم إن سامي وهم يستجوبونه في المستشفي لم يستطع أن يتذكر اسم السائق ولا رقم التاكسي الذي ركبه أكثر من مائة مرة، وكان السائق مثل فص ملح وذاب، والراكب (المشير) لا أحد يعرف عنه شيئآ، ومع أن الطبيب طمأن أم سامي، كما طمأن حميدة التي زارته بالرغم من عدم وجود أي شيء رسمي بينهما، ولا حتي هي تعرف أمه شكلاً، بالرغم من أن كل هذا حدث، إلا أن اسم سامي انتقل من صفحة الحوادث إلي الصفحة قبل الأخيرة في الصحيفة  ذاتها التي نشر فيها المسئول الكبير ذو التسعة عشر "ربيعاً" قصصه الباكرة (!!)

المفروض أن أتحدث عن شعور حميدة بشيء أكثر من التفصيل، ولكن ليست عندي أية تفاصيل محددة، ثم إنني في غمّ شديد، كل ما يمكن قوله هو أنها: سمعتْ ودهشتْ، وزارتْ، وبكتْ، ورجعتْ، وعادتْ، ودهشتْ ثانية، وسألتْ، وخافتْ وأحستْ، وتوجستْ،وصرختْ، وانهارتْ، وتماسكتْ، ولم تخجل أن تلبس السواد علي شاب لا أحد يعرف عن علاقتها به شيئا، وحين جاء الزميل الساعي الذي "لم" يكمل، يعزّيها، كادت تقفز في حضنه صارخة، في حماس له طعم خاص، وهي تسأل وتتساءل: ماذا كان يريد رئيسه بالضبط في ذلك اليوم، ولماذا لم يعُد؟، ولماذا لم يكمل (ما طلبه رئيسه)؟ ولماذا أصابها الغثيان فجأة؟

وهكذا انتهت القصة فيما يتعلّق بسامي، والأحسن أن نقفلها أيضا فيما يتعلّق بحميدة، فإذا لم يتوقف القطار الآن فأنا مضطر أن أخبركم عن جانب آخر في حياة حميدة بعيدا كل البعد عن سامي، وعن زميلها ورئيسه، وعن الكومبيوتر:

ذلك أن حميدة كانت تحب الكلاب حبا جما، وكان الذي زاد من حبها للكلاب هو أنها مضطرة أن تحبهم في السر. من وراء أمها؛ لأن أمها تكرههم كره العمي، ناهيك عن مسألة النجاسة والحرام والحلال، وبالتالي فإن حميدة لم تعد تجرؤ أن تذكر لأمها أي  شيء عن هذا الموضوع، وكانت لا تجرؤ أن تشتري للكلاب الضالة العظام وبعض بقايا اللحم من مرتبها التي كانت تسلمه كله إلي أمها أولا بأول، لكنّها كانت تشتري هذه الأشياء من مكافآتها غير المنتظمة التي لا تعلم عنها أمها شيئا، ثم إن الصدف ساقت لحميدة فرصة نادرة حين لمحت في فيلا بجوار الشركة التي تعمل بها كلبة صغيرة الحجم شديدة بياض الشعر المتهدل علي وجهها وجسمها كلّه،  فتعلّقت بها تعلقاً خاصاً جداً، وشعرت نحوها بمشاعر غير مشاعر الشفقة التي كانت تشعر بها نحو كلاب الشارع، أحبتها حباً غير مشروط، وبلا مقابل، فهي ـ الكلبة ـ لا تحتاج منها شيئاً ولا تعلم عنها شيئاً، وزاد من عمق العلاقة أن ابنة صاحب الفيللا لمحت حميدة وهي تشير إلي الكلبة في ود، فلم تنهرها، ولم تعترض، بل تعرّفت عليها، ودعتها للدخول إلي الحديقة وتناول الشاي معها، وقد دخلت فعلا لكنّها لم تتناول الشاي، وسمحت لـ "جولي"، هذا هو اسم الكلبة، أن تجلس علي حجرها، ورفعتها حميدة علي صدرها حتي تجرأت جولي ولعقت خدّها في ودّ لم يذكّرها باقتراب زميلها منها، وإن كان هناك شبه بعيد لا أحد يستطيع أن ينكره، رغم خفاء  وغموض جوهره علي الجميع.

لو كان القطار لا يزحف بكل هذا البطء لجنّبنا غمّا آخر يقترب، ذلك أنه في يوم بعد ذلك اليوم، ذهبت حميدة إلي الفيلا كالعادة، لكنها لمحت نوافد الفيلا مغلقة، فتوقعت ألا تجد "جولي" أيضا، فهم يأخذونها معهم إذا سافروا، لكنها سمعت نباحا كثيرا في الحديقة الخلفية، فاستدارت ووقفت علي ركبة السور من الخارج، فإذا بها تفاجأ بجمهرة من الكلاب مختلفي الأنواع والأحجام، والألوان، وكان كلب واحد ملتصقاً بجولي من الخلف، وكان أقبحهم وأجربهم، لماذا يا جولي هذا بالذات؟، كيف رضيتِ به هكذا وأنت معلقة من مؤخرته كالمشنوقة، لا ليس كذلك، حميدة تعرف الكثير عن علاقة  مختلف الحيوانات بهذه المسألة،صحيح أنها رأت بعض ذلك   وهي تزور خالتها في البلدة،ولكن هذا شيء آخر، كادت تخاصم جولي عتاباً، لماذا يا جولي؟ لماذا هذا بالذات، هكذا؟. لماذا يا حبيبتي؟ ولمّا لم تستطع أن تكمل الانتظار ولّت وكأنها تجري، وهي لا تفهم لماذا تركوا جولي وحدها هذه المرة حتي ينتهز الفرصة ذلك النذل وسط كل هؤلاء الشهود الحاقدين، ولماذا النوافذ مغلقة؟ ولماذا البواب القديم غير موجود، وتحسست خدّها وكأنها تريد أن تتذكر جولي الأخري التي وضعتها علي حجرها والتي لعقت خدّها، وكانت وهي تمسح خدّها لا تدري إن كانت تتذكر ذلك الاقتراب أم تمحو آثاره. وفي اليوم التالي سارعت إلي الفيلا لعلها تجد بعض الإجابات علي كثير من الـ"لماذات" السابقة، وإذا بها لا تجد "جولي" أصلا، وقد سألت الشخص الذي حل محل البواب، والذي بدا خفيرا أكثر منه بوّابا، سألته عن أهل البيت، وعن جولي، ولم يفهم ماذا تعني بجولي، وحين شرحت له أنها تقصد الكلبة البيضاء الصغيرة أجاب: أما عن أهل البيت فقد سافروا، وهو لا يعرف إلي أين، ولكن الذي يعرفه أنهم لن يرجعوا لأنهم باعوا الفيلا لناس من بلاد غير البلاد التي سافروا إليها، وفي إصرار خائف حاولت أن تستزيد، فأضاف الغفير علي مضض ومع شيء من الدهشة التي لا تخلو من شفقة، أن أصحاب الفيلا سافروا إلي بلاد الخواجات البعيدة وليس الخواجات الذين نعرفهم هنا ويحضرون للسياحة مثلاً، وأنهم باعوا الفيلا لناس في السعودية لا يعرفهم رغم أنه الخفير تبعهم،  قالت مقاطعة: "السعودية عند بابا؟" لكنّها لم تنطق بما قالته، فقد كانت متلهفة علي بقية الإجابة التي تتعلق بجولي، أكمل الخفير متعجّباً أنه أعطي الكلبة لسائق عربة القمامة وأعطاه الذي فيه القسمة ليسرّبها في أبعد مكان ممكن، فهي عبء عليه لا تأكل ما يلقيه لها ولا تصلح للحراسة، ولا لأي شيء،ولا بد أن أصحاب الفيلا الجدد من السعوديين لا يطيقون سيرة الكلاب أصلا عملا بالسنة،  بلعتها حميدة في صمت وشكرته. لكنّها رجعت تسأل الغفير هل يعرف إلي أين اتجهت عربة القمامة، فلم يرد مشفقاً غير فاهم علي ما يبدو.

لاح رصيف قطار محطة باب الحديد في الأفق، وفي الوقت ذاته  لمحتْ حميدة بجوار صندوق القمامة كلبة صغيرة بيضاء في حجم جولي، معقول؟. هكذا بسرعة؟. هل يمكن أن تقبل جولي هذه البقايا وهي التي كانت تشمشم في الهامبورجر الذي كانت تشتريه لها حميدة خصيصاً بعد أن عرفت أنها تحبّه رغم أنها هي شخصياً لا تأكله؟. معقول هذا؟ هل هي هذه؟  هي؟. ليست هي؟. هي؟. ليست هي!. اقتربت حميدة أكثر، هي؟. لا مستحيل!. لا بد أن تتأكد، ولن تتأكد إلا إذا أمسكتها وما يحدث يحدث، فإن عرفتها واستسلمت لها كانت هي، وإلا..، وقد حدث ما هو "وإلا....".

 عضةٌ مثل طعنة خنجر مشرشر مسنون، ثم ماذا؟.

ستون حقنة تحت جدار البطن في مستشفي بجوار قصر العيني يوميا، ثم يوماً بعد يوم،

 ولا فائدة.

توقف القطار تماما، وغمرني حزن لا مثيل له، له طعم مختلف عن كل أحزني السابقة، وما أكثرها، وكلما ذكّرت نفسي أنني أنا الذي اخترعت كل هذه الأحداث حتي لا أكف عن الكتابة إلا عندما يقف القطار، وأن المسألة كلها كراسة بجنيه حضرت بمحض الصدفة، وقلم جاف، وغيظ مزدوج،ووسواس سخيف، وأنه لا حميدة ولا سامي قد وجدا أصلا،ً كلما كررت ذلك لأطرد كل هذا الحزن، وجدته يزداد أكثر، حزن شديد شديد بحق،

ولم أستطع أن أميز علي من حزنت أكثر، علي سامي أم علي حميدة؟.

يا ساتر يارب. 

 لِمَ هذا؟.

رجوع إلى الفهرس

الجزء الثاني

مقال في قصة ،

قصة في مقال .

 اللعبة والملعوب

التقرير.. والتوقيع

الصليب الأبيض معلق خلف الظهر لتمييز الجنس الأدني استعدادا للانقضاض، لكن الوجه لا ينم عن ألم مفرط كما كنت أتخيله منذ سمعت الإذاعة تبث هذا العار، يتلاشي الألم إذا زاد. لماذا يتألم الناس إذا كان الألم لا يقتلهم، ولا يدفعهم إلي القتل؟ (الآن ـ وليس بعد؟)

أُمـْسـِكُ بالقلم لأكتب التقرير.  قاضٍ أنا؟.

 العدالة معصوبة العينين وأنا مـُفـَتـَّحـُهـُمـَا

محنةٌ أن يُضطرُّ المحكِّم أن يعري ضميره، أن يتعري أمامه.، لا أستطيع أن أوقـِّـعَ علي هذا الشيء. كيف أوقع علي شيء "ليس بشيء"؟.

بمجرد أن أمسك بالقلم تتدلي من السقف بدلاً من النجفات النادرة، أقفاص من طائرات الهليوكوبتر المغيرة، سجون معلقة، تتراقص الصلبان البيض فوق الصفحة السوداء، فتستحيل الكتابة من حيث المبدأ، ألمح أحد السجناء الفلسطينيين في الأقفاص وكأنه يلوح لي بيده، مودِّعا أو متوعدا، يتحداني أن أُوَقـّع، كل شيء يتحدي، يتحداني شخصياً هذا الذي يجري يتحدي وعي البشرية ويبصق في وجه تاريخ الإنسان جميعاً.

السلام حتمي، والتقرير الفردي حتمي كذلك.

 كيف حكم السادات أنها آخر الحروب؟ نحن نستطيع ـ بالكاد ـ أن نحدد تاريخ بعض ما فات من حروب، فكيف استطاع هو أن يحدد آخرها؟ ربما كان يقصد آخر الحروب الذي سيخوضها هو، ومع ذلك فقد خاض حربا قذرة، قُتل  فيها جدا. رحمه الله.

أتمني لو أستطيع أن أحذو حذوه فأقرر أن هذا التقرير هو آخر التقارير؟ حتي لو كانت نهايته تنتظرني.

ـ3ـ

ليكن.

المجاملة واجبة، والكون لا ينصلح دفعة واحدة، والكل في الإساءة سواء، الظلم الشامل عدل...، والأبحاث كلها مثل بعضها؛ إما كلام فارغ أو كلام مفروغ منه، وأنا مالي؟ مالي أنا؟ أنا عضو في اللجنة الموقرة يا أخي، أمــّا بارد.

جـُرْ ياغراب وأفسِد لن تري أحداً.. إلا مُسيئاً وأي الناس لم يـَجـُرِ".

يا شيخ المعـرّة؟ هل هذا وقته، تبرر لنا الظلم وأنت لم تظلم إلا نفسك بكل إباء

 الصليب أبيض والسجون معلقة والبشر هنا وهناك فقدوا الشيء.

 الباحث الذي ينتظر ملءََ هذه الأوراق ليترقي ينظر لي في لهفة غبية، ولا يجرؤ أن ينظر في السماء ليري ما أراه،  قال رب لم حشرتني أعمي، وقد كنت بصيرا أنا لم أحشُر شيئا في دمـّاغ أحد، هم الذين حشروني في هذه اللجنة حشرا بحكم الأقدمية، ملعون أبو الأقدمية، والأكثرية بالمّرة.

مجتمع الرفاهية، المجموعة الاقتصادية الجديدة علي وشك التنحي، العقل الشاب، شابَ وانتهي، لم يكن شابا أبدا.

ما الطزاجة؟ أين الدهشة؟.بحثٌ علمي بلا طزاجة أو دهشة ينبغي أن يبحث له عن اسم آخر؟ عقول مخزونة في برودة غير ملائمة.

انتهي عمرها الافتراضي، عقول لا تصلح للاستعمال الأدمي، لماذا  إذن؟

لماذا التقرير؟. ولماذا الفردي؟. ولماذا الجماعي؟ ولماذا التوقيع؟

ـ 4 ـ

 لست مثل غيري، هكذا أزعم،  يلاحقني ظلّي أينما تلفتُّ، يلاحقني باستمرار، يحاسبني، يقهقه أحيانا قبل أن أرد، يريد حلا حاسما:"الآن"، دائما "الآن"، وليس بعد، أطلب التأجيل.. يرفض.

"توقيعي" يشحذ السكين التي تذبح الأطفال، يـُحكم قـَفـْل السجن المعلق المدّلي من الهليوكوبتر.

 متي أتوقف عن كل هذا؟.

ـ 5 ـ

لا مفرمن التكـُّيف، التشكّل، التعقّل، نحن دولة نامية. وأي شيء يكفي.

 أمسك القلم وأهم بالتوقيع، أحس بسائل بارد لزج  يتسحّب علي ساقي اليمني حتي فخذي، أرعب فأقوم كالملسوع، أتلفت فيخيل إلي أني أتخيل، أمد يدي أتحسس فتتأكد اللزوجة وأتأكد أنه خيالٌ أوقع من الواقع، تغمر أصابعي اللزوجة لكن دون سائل ودون دماء.

أحسست ـ في جزء من ثانية ـ أن ساقي قد غاصت في بركة دماء تجمعت من أشلاء أطفال بين الثالثة والسادسة، كانوا يغنون ـ قبل القصف مباشرة ـ "وحوي يا وحوي، إياحه،...وكمان وحوي إياحة"، وحين قالوا ".. وحوينا الدار"دمعت عيناي،  يتراجع خيالي السوداوي السخيف، لكن اللزوجة لم تفارق أصابعي التي تتجمع بجوار بعضها في كتلة هلامية هي الأخري تنتقل إلي القلم فتعجز أصابعي عن الامساك به، أتبين اختفاء أصابعي، كتلة رخوة من لحم مدهنن، كيف أمسك القلم  بلا أصابع؟.  داخلني فرح أقرب إلي الخجل ـ حين تصورت أن الامتناع عن التوقيع يمكن أن يبرر بأسباب مرضية.

ليس علي المـُعـَاقِ حرج.

ـ 6 ـ

لابد من التوقيع، حتي لو وجهوا إلي مباشرة تهمة قتل أطفال لا أعرفهم، ليكن التوقيع بماء النار أو بمسحوق النابالم، سأوقع هذه المـرّة بشرط ألا يتكرر مثل ذلك أبداً، لكني علي يقين أني بمجرد أن أوقع سينسي الكل كل شيء، كل شيء، لا بل سيكتفون بنسيان الجانب المؤلم من كل شيء، وخاصة الدماء والأطفال، وصوت تكسير العظام، وإهانة الشيوخ، وجرح حياء العذاري، ومنظر الأشلاء.

قال يعني كانوا تذكّروا أيا من ذلك أصلا؟

ما هذا الربط الفارغ؟. البحث العلمي شيء، والحرب شيء آخر. لابد أن أفيق وأن أوقع، وأن أصدق أنهم قبلوا شروطي ولو مستقبلاً.

عيونهم مركزة علي القلم والورق ومكان التوقيع، وافقوا علي شروطي دون أن ينظروا فيها أصلا، أتوهم أنهم يستحيل أن ينسوا الشروط ماداموا يحتاجون توقيعي.

أقاوم رعشة يدي وقد تخلّقت أصابعي من كتلة اللحم الرخوة اللزجة، أهم أن أوقع، تقفز ابتسامات التهاني فوق برك الدماء وتطمئن وجوه الباحثين النجباء أنني عقلت.

تـُشـَلّ أصابعي عن الحركة مع تنميل متسحّب بطئ كله إغاظة في استرخاء يحيط به غثيان لا يزيد، ولا أتقيأ.

 

ـ7ـ

كان علي ألا أقبل، كان لا بد أن أعتذر من البداية، ولكن من أدراني بتوقيت ظهور طائرات الهليوكوبتر هذه هكذا الآن وهي تحمل  أقفاص السجن المدَلَّي هكذا؟ (2)

وهل ثَمَّ جديد؟.

لم يحدث إلا أنهم جسَّدوا الجاري فعلا، الجاري في كل مكان وليس فقط فوق سماء جنوب لبنان.

أستقيل.

لا بديل.

يفرحون: تـُمصمص الشفاه، يزداد عدد هذه الأبحاث، والأطفال المبتسرين، تتكسّر كرات الدم  الحمراد والبضاء خجلا وانتحارا، تتراكمُ الأرقام، والأشلاء، وصفحات الدوريات، وبقايا الكلمات، و الوظائف الشاغرة علي الرغم من شاغليها، وجثث الأحياء، لا أستطيع أن  أتنفس من تحت كل هذه الأكوام اللزجة ذات الغازات إيهاها، يشكـّون في سلامة عقلي مع قليل من مشاعر العطف وكثير من كلمات الرثاء، جنبا إلي جنب مع لسع سياط الشفقة من بعيد دون أن تظهر الأيدي الممسكة بها.

أرفض..؟!.

لا يرْقَي، أبحاث هذا الباحث  لا ترقَي. ليس لأنها أبحاث سيئة ولكن لأنها ليست أبحاثاً أصلا.

يرفضوني.

 شخصٌ صعٌب، دعـُوه.

شخصٌ لا يوافق إلا من وافقه، دعوه.

دعـُوه... دعوه.... دعوه.

يا ليت!!!!

لا هم يدعوني، ولا أنا أدعهم.

ـ8ـ

دعـُوه، دعـُوه، دعوه.

ـ 9ـ

"أناوِر.."؟

فرقٌ بين التكتيك والاستراتيجية.

هذا هو.

أوقع هذا "التقرير" "الآن" حتي يحين الوقت الذي أملك فيه مقاليد السلطة فأغير كل شيء، كرسي السلطة ـ حينذاك ـ سوف يسمح لي بتعديل الكون بما في ذلك أنظمة البحث العلمي وقواعد الترقية، وساعتها أرفع عنهم الصليب الأبيض وأطلق سراح سجناء الأقفاص المعلقة في الهواء، وأيضا المعلقة علي الأرض، وهكذا  أحرر الأرض المحتلة؛ حين أحرر النفوس المحتلة، وأنا أتحدي كل شرور العالم المتغطرس،والعلم الزائف، والعلم الرديء،والعلم "كنظام" العلم،و العلم اللاعلم.

كلام فارغ، حتي هذا الذي أتمنظر به أمام نفسي الآن: كلام فارغ، ليس تماما، سيحصل.

.. متي؟.

بعد سنة؟ عشرة؟.

 وحتي ذلك الحين: كم طفلا سوف تتناثر أشلاؤه؟. وكم باحثا سوف تفسد أخلاقه ويتفسّخ عقله؟.

 كيف سيكون كل شيء بعد أن ينمحي كل شيء.

متي؟.

لا..

ـ10ـ

هأنذا أضيف إلي نذالة التوقيع جبن التبرير.

الأشرف والأحزم أن أوقع دون غنج قبيح.

أن أشترك في الجريمة علانيةً وبشجاعة الأنذال خير من أن أضحك علي نفسي وأؤجل إلي مالا نهاية.

"أوقَّع" دون تبرير.

أوقِّع.. دون تكتيك أو استراتيجية.

أوقِّع.

وأنتظر دوري لتسليم بيتي ووعيي وعِْرضي لصاحبهما المتغطرس،

رافعا ذراعي الاثنتيْن إلي أعلي.

لم يعد عندي أي شيء أبيض يمكن أن أرفعه.

 

 

...ولـــو !! (6)

 

 

ـ1ـ

قالها الرجل الواقف خلفه: "ولو...!"

تلفت السيد العظيم في فزع كالموت ودار برأسه يمنةً ويسرةً حتي كاد يكمل دورة كاملة، فانزعج المهنئون الذين كانوا يملأون الغرفة الواسعة كالقاعة أو البهو، وتلفتوا يمنةً ويسرةً ـ أيضا ـ في استغراب لم يجرؤ أن ينتقل إلي مرحلتي الدهشة فالتساؤل، ولكن سرعان ما عاد "العظيم" يلتقط ابتسامته الواسعة التي سقطت منه في دورة الفزع، أحكم وضعها علي وجهه وقذف بكل وجوده وسط موج الأحضان المتدفق، كان يتمني ألا تفرغ الحجرة أبدا حتي لا ينفرد به ذلك الكلب الخفي، ذلك الحقود الذي لم يعد يملك إلا أن يعوي كالذئب الضال، ومن خلف ظهره، ذلك الجبان.

ـ 2 ـ

انطلق مندفعا من الحجرة البهو قبل أن تفرغ تماما ـ ومر سريعاً صائحاً مبتهجاً يلقي قبلةً هنا وأمراً هناك، غاص في جوف عربته الفارهة، وحين انطلقت به تمني لو كانت مكشوفة حتي يلقي التحية ذات اليمين وذات اليسار مثل الغزاة العائدين من قهر المدن المحاصرة، وحين سمع صوت "الكلاكس" متغيرا مخنوقا شخط في السائق شخطة كبيرة متسائلا، فاعتذر له هذا بدوره بأن "فردة" "الكلاكس" قد فسدت وأنه لم يتمكن من إصلاحها بعد، فأمره بضجر مشوب بخوف مجهول ألا يضغط عليه أصلاً لأن الصوت الأعور يزعجه.

أطاع السائق حتي كاد يقتل طفلا مرق أمام السيارة فجأة.

 

ـ 3 ـ

نظر في الساعة الرقمية في "تابلوه" السيارة، ملعون أبوها، رقمية؟. لماذا رقمية؟ بدعة حقيرة!.. الأرقام تقفر بغير حياء، وحتي النقط البينيـّة تضيء وتنطفيء بسرعة مذهلة بين القفزة والقفزة. اختراعات سخيفة تضطر الواحد أن يحسب كل شيء، وإذا ما حسب الواحد كل شيء، فعليه أن يعمل حساب كل شيء.كل شيء دون استثناء، يعمل حساب كل شيء قبل أن ينتهي كل شيء: كل الخيوط في يده، وأصوات الصفوة تدفئه، وأكف الأحبة والخائفين تملأ أذنيه دون تمييز، ولم يبق شيء ليس في متناول تحكمه إلا الزمن: 45: 11، 55: 11، 65: 11، 75: 11.

صاح في السائق:

 ـ والساعة؟.

أجاب السائق وقد أشاح بذراعه كلها بعيدا عن النفير "الكلاكس":

 ـ مالها يا سيدي؟.

تراجع السيد بسرعة قبل أن يحتج علي أنها "تمشي"، وتمهــّل حتي يتمكن من تغيير لهجته وقال:

 ـ مُقَدِّمة.

والواقع أن الساعة لم تكن مقدمة، بل إن السائق كان يفخر بها حتي يزعم أنه يضبط عليها ساعة الجامعة، ومع ذلك لم ينبس حتي عاد السيد يصيح:

 ـ ألم تسمع؟. أصـَمٌّ أنت؟.

لكن ساعة الجامعة دقت في المذياع الخافت بالصدفة فطابقت الساعة الرقمية بالثانية، فحاول السائق ألا تلتقي عيناه بعيني سيده في المرآة، فإذا بالأخير يصيح وكأنه يكلم نفسه:

 ـ ولو..!!.

لم يرد السائق، ولم يفهم، وسقط الرجل في داخله حين تذكر أنه سمع اللفظ ذاته هكذا بالضبط، اللهجة ذاتها، الصوت ذاته، قالها له الرجل المجهول في البهو الفسيح، ذلك الرجل القابع في الخلف والذي لم يره أحد.

 فامتقع وجهه.

ـ 4 ـ

دخل البيت متأخراً، وكانت الأسرة الصغيرة مجتمعة تشاهد آخر مشهد في فيلم نادي السينما، كانوا يـُلْبسون الجندي "سلوفيك" الطاقية السوداء استعدادا لإعدامه بعد أن أصر علي أن يقول الحقيقة البسيطة دائما أبداً، تلك الحقيقة التي جعلت سلوفيك يعترف بخوفه وإصراره علي الهرب رغم كل التحذيرات التي نبـّهته إلي إمكان تجنب ذلك بقليل من الكذب المشروع والتظاهر العام، تذكر أنه شاهد هذا الفيلم من سنوات قبل أن يصبح عظيما يشغل منصبا عظيما، وأنه بكي ـ حينذاك ـ علي إعدام هذا الجندي الطفل بكاء قويا غسل روحه فتهجد لربه، أخذ يبحث عن دموعه القديمة فلم يجدها ولم يجد بديلا عنها إلا مزيجاً من الغيظ والخوف والغرور، لمح ما يشبه دموعه القديمة في عيون ابنته، وهو عاجز تماماً التام عن مجرد مشاركتها، فأغلق التليفزيون في عنف في  اللحظة ذاتها التي أطلقوا فيها الرصاص علي الجندي "سلوفيك"(4)

 

الذراع...والحزام !! (5)

 

ـ1ـ

تمتد الذراع الأفعي إلي حيث لم أحتسب، تتسحب المياه الراكدة فوق المجرَي المختبيء في ثنايا الستر، تلصقني اليد الأخري علي قفاي، يتـنخم صوت خشن دون توقف حتي أتبين أنها قهقهة تصدر من أمعاء مخمور لم يتقيأ، يبصق علي وجه ابنتي النائمة في حجري قائلا:

كله بثمنه.. والذي عاجبه.

ـ 2 ـ

الممثل الأكبر يدهن شعره المصبوغ بشحم نتن، يتحدث عن العدل القاتل والرد الملغوم، وصدور تشريع أحدث لتقنين النذالة والوغدنة الموجهة، تحت أسماء حركية تحتفظ بشفرتها في ملفات مجلس الأمن السرية التي لا تفتح إلا بعد انقراض الإنسان بمائة وخمسين سنة ضوئية.

أي والله.

أو كما قال.

ـ 3 ـ

أتقيأ شـِعـْري، تتناثر أوزان قصائده حجارة من سجيل تلطم وعيي، أفتح درج مكتبي لأبحث عن نتائج آخر بحث علمي لم أفسر بعدُ نتائجه، أرقامه مرصوصة في جداول معقدة، يشغلوننا ـ طول الوقت ـ بهذا العبث الدائر حول مسائل لا تهمنا، ولن تهمنا، جزئيات الجزئيات، أعثر مصادفة علي عقد زواجي فأخفيه بعيدا خشية تمزيقه، ألعن ميثاق حقوق الطفل،  والوصايا العشر، وإعلانات العمرة السياحية.

ـ 4 ـ

أخجل من مجرد التفكير هكذا، لا أجرؤ أن أتطلع في وجه حفيدي، يستدير نائما ـ يخفي وجهه في رحم وسادة صغيرة، ليست نظيفة، ألعن الانتخابات والصحف وأبراج المساكن والمدن السياحية وأسعار الدولار وأطمس إحساسي عمداً إذْ أخشي أن يتسرب صوت آذان، أو أريج وردة، أو ضوء فجر، عبرمسام غافلة لم تطمس بعد.

 ما عاد يجوز.. ما عاد يجوز..

ـ 5 ـ

فرضُ كفاية؟  لا يا شيخ !!

 أظن كفاية كل هذا، حتي بعض هذا هو يكفي وزيادة،

 بل فرض عين لا يسقط أبداً.

لا يسـقطه أن تحارب كل الأجنة في بطون أمهاتها.

لا يسـقطه أن يتبدل الناس غير الناس.

العار يصبح عارا أبشع إذا عبثت به عتمة الذاكرة أو مؤتمرات القمة أو  أقوال الصحف أو إعلانات القري السياحية الجديدة.

ـ6ـ

سوف أقبل الدعوة، هذا هو رقم تليفون قريبي الذي كان يعمل بالمخابرات، يكرههم أكثر من كراهيته لذئب مسعور يجري جائعا في روضة أطفال، سوف يدلني علي نوع المتفجرات وطريقة التشغيل، لابد أن تكون الزيارة "العلمية" الثالثة أو الرابعة حتي يطمئنوا، زملائي حسنو النية مهدوا الطريق، هذا هو التطبيع الذي أريده، الأسس النفسية للتفاوض الدولي (!!). ليكن بحثا علميا يحتاج إلي مقابلة الصقور والحمائم مجتمعين، سيكولوجية العلاقات الحازمة الإثنية، (فسّرها أنت علي مزاجك، كله محصّل بعضه) "كاهـْلشا رونميريزين.. دهلَكْ"،  ماذا أعني  بذلك؟ وكيف تنطقها؟ أنت مالك أنت يا بارد؟ لماذا هذه بالذات التي تريد أن تفهمها، كل لغاتهم هكذا، هذه  الكلمات أوضح من لغة المفاوضات البنّاءة والمثمرة، دائمة مثمرة وبناءة.

الحزام رقيق السمك تماما، والمواد بلاستيكية جديدة لا تستطيع أن تكشفها  آلات الفحص حتي الحديثة منها.

 التحكم من خلال قلم حبر جاف

 أثناء النقاش شبه العلمي المختبئ في ثنايا التطبيع، أتَفَجَّرُ بي ـ فيهم.. معلنا وصيتي في مؤتمر غير صحفي.

ـ 7 ـ

أنتقل عبر الحاجز غير المرئي، أخترق نفقا طويلا  ناعما وكأني أسبح دون حراك، أخرج منه فتتولد لي أجنحة من مادة سحرية، أشعر أني أخف وزناً وأن الطيران اللولبي الصاعد سوف يدوم.


ـ 8 ـ

  هذا الثقل  الذي يدب في أطراف أصابع القدمين، يتسحب إلي الساقيْن فالجذع، يجذبني  إلي أدني فأدني، أهبط ـ غير مصدق ـ في رعب ساحق، لماذا؟. ألم أفعل ما ينبغي؟. ألا يكفي هذا تكفيراً عن قعودي وتعقلي؟. لم أفتح مظلة الهبوط، لا أنا أمتلك واحدة، ولا أنا أريدها.

أحاول أن أفيق مرتين بلا جدوي.

لا أعرف السباحة والبركة آسنة بلا قاع، علي الرغم مما بدا لي من أنني سوف أتحطّم فورا فوق "أسفلت" القار المسلّح.

 أغوص مختنقا ببيطء بسبب زئبقية القوام لمنقوع العار والمرارة.

ـ 9 ـ

 لم تكتب سناء المحيدلي قصة،

لم تقرض شعراً،

 ولا خطبت خطبة عالية الصوت بما يشبه البحث العلمي في مؤتمر عالمي يتجشأ أرقاماً جوفاء وهو يستمني.

ـ 10 ـ

لا أجد عذراً أنتحله.

لا أستطيع النظر في وجوه أحفادي.

عنيناَ يتواري خجلاً من استمراره حياً.

 

دبّرني يا وزير !! !!!(6)

 

 

ـ 1 ـ

دخلت الطفلة حديثة العهد بالمشي إلي حيث كانوا، فراقها منظر الصفوف المتراصة، فأخذت تتأمل الجميع، إلاأنها سرعان ما ضجرت من أن أحداً لا يتحرك من مكانه، وتذكرت أيام أن كانت مُقعدة بلا حول، فمدت يدها تحاول تحريك الجمود فإذا بالجميع ينطرحون أرضاً، فزعتْ في البداية ولكنها عادت تتأمل آثار ما كان، واحتارت: أي منهم استلقي علي قفاه، وأي منهم انكفأ علي وجهه، لم تطل حيرتها إذ أنها سمعت صوت أقدام ثقيلة تقترب، فانزوت في الركن الأبعد.

ـ 2 ـ

حدث ذلك بعد فترة قصيرة من تلك الأحداث التي يذكرها أهل الاختصاص في ترتيب رتيب، وينساها سائر الناس وكأنهم يفعلون ذلك بقصد عنيد، والأمر لا يحتاج إلي تكرار الرواية، لكن للتاريخ مطالب غير مفهومة، فتم تحديد المواقع ومراجعة الأدوار السابقة، والتأكيد علي ضرورة سلامة البدايات حتي لو كانت محفوظة، وكان في مقدمة الصفوف جنديان اثنان، وعلي الرغم من أنهما كانا من لونين مختلفين إلا  أن الاتفاق كان أن يكونا معاً حتي تلحق بهما ـ أو بأي منهما ـ سائر القوات كما تقضي الأصول.

قال الملك للوزير:

ـ دبرني يا وزير.

قال الوزير:

ـ التدابير لله يا ملك.

سأل الملك في استطلاع:

ـ ألا نبدأ الآن؟.

قال الوزير في أدب ظاهر:

ـ عفواً يا مولاي.. الأسود يؤخَّر في العادة.. هكذا الأصول.

بدت علي الملك بعض علامات الاستياء وعلق قائلاً:

ـ ولكن لِمَ لَمْ تقل لي ذلك من الأول لأغير لوني؟. ألا تعلم أني أحب المبادأة لأمسك بزمام المواقف؟.

مال الوزير عليه وكأنه يسر إليه:

ـ ليطمئن جلالتكم، فلقد تلقينا وعداً أن الذي يلعب أخيراً يكسب أكيدا.

هز الملك رأسه، ولكن يبدو أنه لم يقتنع تماما، تأكد ذلك لأن شفتيه كانتا قد مُطَّتا بدرجة طفيفة لا يلحظها إلا متخصص، غير أنه قال:

ـ الأمر لله، قل له يبدأ من فوره.

التفت الوزير إلي الناحية الأخري ونادي صائحاً:

 ـ يا أهل الديار... الدور عليكم.

ـ 3 ـ

نظر الجنديان إلي بعضهما البعض وأخذا يعزمان علي بعضهما البعض بالبداية، لكن أحداً منهما ـ يبدو من فرط الذوق أو الخوف أو بعد النظرـ لم يتقدم خطوة واحدة، وساد صمت مثير.

ـ 4 ـ

وكان أن همس فارس الميمنة لجاره:

ـ أين نحن الآن؟.

رد الجار الفيل الثقيل الحركة فيما يشبه الجد:

ـ في الميريلاند.

احتد الفارس قائلا:

ـ لا مجال لسخريتك فإني جاد.

ـ لتكن جادا أو عبد ربه، فليس للسؤال السخيف إلا جواب أسخف منه، ألا تري أين نحن وأنت أدري الناس بالجاري؟.

ـ إنما سألت لأقطع هذا السكون الثقيل.

ـ أنت الذي تقول هذا؟ مع أنك تستطيع أن تقفز بفرسك في أي وقت فوق أي حاجز، ألا تدع الهم لأصحابه من أمثالي ممن لا يستطيع أن يتحرك إلا إذا تحرك العسكر من أمامه.

رد الفارس في زهو اليائس:

ـ لو كان الأمر بيدي لقفزت إلي الوسط وحطمت كل هذا الركود بتضحية شخصية.

ـ 5 ـ

اشرأبت عنق الجار ذات اليمين وذات اليسار وعاد يهمس للفارس وكأنه لا يصدق:

ـ خيبتك قوية، لقد انتهي الدور.

استشاط الفارس غيظاً وتساءل رفضاً:

ـ متي كان ذلك ونحن لم نبرح أماكننا أصلاً؟.

ـ هذا هو ما كان.

ـ لعلها إشاعة.

ـ انظر... ملك الخصم ليس في الميدان.

ـ كيف؟ هل كَشَّ؟ ماتْ؟.

ـ لا بل يبدو أنه غير موجود منذ البداية.

ـ ماذا تقول يا مخّرف... لا يصح اللعب دون وجوده، وإلا فمن يحمي مَنْ؟ ومن يهاجم مَنْ؟.

ـ ليس هذا شأني، وعلي كلٍّ فالدور قد انتهي حقيقة وفعلاً.

صاح الفارس فيما يشبه الصراخ:

ـ هذا عبث في عبث، دور باطل... باطل.

هز الجار غليونه المتدلي وتلفت في بطء خشية أن يسمع أحد الصراخ وحاول تحذير جاره، لكنه قال:

 ـ لن يجدي الصراخ...، لا أحد،  فالآذان لها حوائط.

- بل العكس

- وأيضا العكس

 استمر الفارس في صياحه.

ـ باطل... باطل.. زواج عتريس من فؤادة باطل.

قال الجار في أسي ظاهر وغليونه يتحرك مع خروج كلماته:

ـ "جن الفارس من فرط الركود يا رجال".

ـ 6 ـ

وكان أن تقدم الوزير الأسود ممسكاً بيده صحيفة ملفوفة علي هيئة قرطاس حائل اللون، ومال علي الملك وقال:

ـ والآن.. الأمر لجلالتكم.

نشر الملك القرطاس أمام عينيه بعد أن ارتدي منظار القراءة المدلي في سلسلة حول رقبته ونظر فيما يحوي القرطاس ورد في حدة:

ـ ماذا تعني؟ حتي لوصحَّ كل هذا فأنا مالي؟.

رد الوزير في فداء مشروط:

ـ نحن جميعاً فداك يا مولاي.

قال الملك في اطمئنان خائب:

ـ هذا هو... هذا هو... ليكن.

شكره الوزير وهم بالتراجع بظهره، ثم انحني تحية نصف نصف، وفجأة زادت انحناءته حتي لامست جبهته ـ مع كل الجباه وبعض الأقفية ـ  وجه الأرض.

ولم يلاحظ أحد أن ذلك كان إثر دخول الطفلة الحجرة كما ذكرنا.

ـ 7 ـ

اقترب وقع الأقدام من مسمع الطفلة فازدادت احتماءً بالركن الأبعد.

ـ 8 ـ

دخل الرجل الكبير إلي حيث كانت المعركة، فراعه منظر الدحرجة والخلط والضياع وكل الجباه وبعض الأقفية علي الأرض.

أخذ يزفر وهو يكلم نفسه: "لعن الله أبا الكل، من فعل هذا يا أوغاد، ألا أستطيع أن أكمل دوراً واحداً في هذا الجو الزائط".

ـ 9 ـ

ازدادت الطفلة انزواءً وانكمشت علي نفسها حتي كادت تختفي بين ثنيات كرانيش الفستان القصير.

-10-

عاد الرجل إلي صياحه: "والأدهي يا كلاب أني لا أعرف كيف كان وضع القوات قبل وقوعها، ثم إني لا أذكر من الذي انتصر علي من... رغم أني ألاعب نفسي".

ـ 11 ـ

اهتز جسد الطفلة من فرط محاولاتها الإمساك عن الضحك، ثم تسحبت في صمت وهي لا تتمالك تمام سيطرتها علي نفسها حتي كادت تخرج (وفي رواية أخري: خرجت) منها قهقهة مكتومة أشبه بآثار صوت قُلة تتدحرج علي أرض طينية دون أن تـُكسر، لكن الله ستر فلم يسمع الرجل شيئاً إذ ظل يروح ويجيء في سخط باد، فاستمرت الطفلة تتسحب كاتمة ضحكتها أكثر حتي انصرفت بسلام تماماً.

-12-

توقف الرجل طويلاً ناظراً إلي فلول القوات ثم جلس في تصميم جديد وأخذ يعيد تنظيم الصفوف وكأن شيئاً لم يحدث.

قال الملك للوزير:

ـ ماذا يجري يا وزير؟.

قال الوزير في يقين:

 ـ دور آخر يا مولاي.

قال الملك في فتور:

 ـ الدور الأول لم ينته يا وزير.

قال الوزير في رتابة:

ـ بل انتهي بفوز جلالتكم.

قال الملك:

 ـ إذن لماذا لم تظهر علي جلالتنا آثار الفوز؟. هه؟.

قال الوزير:

 ـ منعاً للحـسد يا مولاي.

-13-

لكن الملاحِظ المتخصص كان يمكن أن يلاحظ أن عين الوزير زائغة وكأنها تغمز لشخص آخر لم يظهر بعد، لكن يبدو أن الوزير كان علي يقين من قدومه.

-14-

قبل أن يحل المساء وتختفي المعالم بين الداخل والخارج شوهدت الطفلة وهي تتلصص من ثقب الباب وهي لا زالت تكتم ضحكتها.

  

عين و صابت (7)

 

 ـ 1 ـ

كان المؤتمر العلمي عالمياً جداً، الراقصة تتلوي،والحفل هائص، والمناقشات تجري علي الموائد بمنتهي الجدية والحماس، جدية أقوي وأصدق مما كان يجري في قاعات المحاضرات حيث تُلقي الأبحاث، والمشاريب تحرك الجمود فيزداد التقارب بين القارات الخمس، دون اعتبار لاحتمال اكتشاف أي قارات مجهولة أخري.

 كان قد نجح أخيرا في عمل ما يكفي من التربيطات والترتيبات والضغوط والوعود، عشر سنوات وهو يسعي إلي ذلك، يسافر، ويتعب، ويضحي، وينفق، ويكتب، وينشر، ويراسل، كل ذلك ليرفع رأس مصر عاليا جدا، ونجح هذه المرّة بعد أن كان قد فشل مرّتين، ورفع رأس مصر وأفريقيا والعرب عاليا جدا، جدا، والنجاح بعد الفشل غير النجاح من أول مرّة، له طعم رائع، ريح الفوز ترتفع به إلي حيث الزهو حتي الخفة، ساعده الشراب علي ذلك، لم يسرف، فاستطاع أن يتخيل بوضوح حقد زملائه وفرحهم، ومجاملتهم، وتهنئتهم، وتهوينهم من الذي كان، ونفخهم في الذي كان، وسعادتهم به، وحسرتهم علي أنهم ليسوا هو، وقال من موقع الزهو بالواقع أنه قد حذق كل أبجدية الحياة العلـمية المعاصرة، وهو يقرّ تماما أن كل من ينتقد هذه المناصب والمؤتمرات هو إما حاقد أو خائب أو متخلف أو جبان أو كل هذا.

قالت له في رقة حانية.. "أو ماذا"؟.

فانتفض يسألها هل كان صوته مسموعا وهو يفكر.

 فلم تفهم وإنما أشارت إلي الشراب، وأنه كان قد أشار إليها بيده إلي نوع معـّين ثم قال: " أو.." وسكـَتَ، فسألتـْه: " أو ماذا؟"، فاعتذر، واختار شرابا بذاته له لون ملتبس، وتبادل الحديث، وردّ علي التهنئة، ولوّح بالوعود إن شاء الله. إن شاء الله، كله بالمشيئة، ربنا يسهل.

ـ 2 ـ

ليلتها انطلق أثناء عودته إلي الطريق الصحراوي يستنشق هواء نقيا قبل العودة، فانفجر إطار السيارة  ليس بعيدا من موقع انطلاقه، انفجر مع أنه جديد جداً، ولم يقف له أي عابر راكب أو راجل، يساعده فيما هو فيه، وكان قد صرف سائقه ليتمتع بوحدته وقيادة سيارته بنفسه مثل زمان، أتم تبديل الإطار بكل مشقة.

حين رفع يديه إلي أعلي ليري مدي تلوثهما تخلل أصابعه هلال آفـل يتواري، فراح يؤكد لنفسه أنه علي صواب دائما، دائما علي صواب، وأنه سوف يهب حياته لخدمة العلم والوطن والتخصص و أصحاب الحاجات، وكل الناس.

فخيل إليه أنه لا يصدّق نفسه، فاغتم غمّا غير مألوف، ومسح يديه الملوثتين في جانبي سرواله (لم يفعلها ـ هكذا ـ طوال عمره) وأدار محرك السيارة فلم يدُر.

 وقرأ قل أعوذ برب الفلق، والغم يزداد تصعيداً بلا مبرر ظاهر.

 دار المحرك أخيراً.

ولم يتنفس الصعداء !!

 

قاب قوسين ،، أو أدني(8)

ـ 1ـ

مواطن أنا من بلد بعيد.

بعيد فعلا... جدا فعلا،

 أحاول أن أبعد أكثر فأزداد اقترابا حتي يتداخل بعضي في بعضي، فأجدني مجتمعا بلا معالم وسط بؤرة ما، بؤرة  عميقة بلا قرار، أنا لست نابعاً منها، ولا راغباً  فيها.

 مالي أنا؟ لم أعد أحتمل.

ـ 2 ـ

هنا لندن،

خيرُ ما نستهل به إذاعتنا هو تلاوة مباركة من آي الذكرالحكيم،

..........، صدق الله العظيم.

السادسة والنصف وخمس دقائق، نشرة الأخبار الموجزة، السابعة، التاسعة، العاشرة إلا ربعا، العالم هذا الصباح، شريط الأخبار، العالم هذا المساء، أقوال الصحف البريطانية، عالم الظهيرة، أقوال الصحف العربية الصادرة في لندن.

 ما الذي يجعلني أتحمل كل هذا؟. لماذا أصر علي أن أعاود الاستماع إلي ما أعرف حول ما يجري مما أعرف.

 زوجتي تكاد تقفز من السيارة كلما سمعت هذا الفاصل الموسيقي اللندني بين الأخبار.

 أشم رائحة التراب، وروحي لم تطلع بعد.

ذات مرّة، حين أوشكتُ علي الغرق،  كنت أحسب أنها أبشع ميتة، لكن  هذا الغرق الآخر هو الأبشع قاطبة، غرقٌ في تراب لزج  يدفنني فيه مسخٌ بشري لا يكلّف خاطره  أن يرتدي قناعا ما. لا يخجل من بشاعته وجبروته، وأنا ـ الضحية ـ أخجل له نيابة عنه.

ما كل هذا التعذيب الذاتي؟.

أكتب مقالا يفرّج عني.

ـ 3 ـ

لا أريد أن أكتب حرفا،

أكتب مقالا  ينشر في الأهرام !!. أصبحوا يحترمون ما أخط.

لماذا؟.

 لمن؟ أكتب؟  ثم ماذا؟.

لا أستطيع أن أصمت، أكاد أنفجر.

عدت أتعجّب: لماذا أنا ـ وليس هو ـ الذي يشعر بالخجل مما يفعله هو بنا.

ـ 4 ـ

يبدو أن مجرد الاستمرار في الحياة هو ذنب يستأهل الاستغفار.

ـ 5 ـ

أعاتبه وأنا أستغفر، فأشعر أنني كاذب في استغفاري،

 فأعاتبه أكثر. أذهب للنوم.

أنا أنام مبكرا عادة، حتي هذه الليلة، أستطيع أن أنام مبكرا.

ـ 6 ـ

  الأطفال الخواجات المسلمون الشُّقــر يختبئون معي تحت الغطاء، أهدهدهم لكنّهم لا ينامون، لا أستطيع أن أكذب عليهم أو أطَمئِنُهُـم، يطلبون أن أحكي لهم حدّوتة،  لا تحضرني أية كلمة، يهربون مني فأفرح حيث لا أعرف كيف أعدّ لهم ما يأكلون، لم بهربوا بل ازدادوا اختباء  تحت السرير خوفا من أن يعود القصف، ذهب النوم ولم أجرؤ أن أناديه.

حين ذهبتُ إلي دورة المياه وجدتــُـهم قد أحاطوا بي من جديد، ولم يترددوا أن يدخلوا خلفي إليها وهم يمسكون بطرف ثوبي فزعا وحيرة.

  أو عتابا ولوما. لست أنا، مع أنني أشعر بالذنب فعلا. ماذا أفعل

   هم لا يبكون، ولا هم يضحكون.

ـ 7ـ

 قصيدة فاروق جويدة عن البوسنة جميلة مؤلمة،

الشعر رائقٌ، مخترقٌ، حارقٌ.  مزعجٌ.  مفيقْ.

 ثم ماذا؟.

أقول لشيخي إن كتابة مثل هذه القصيدة وأجمل منها هي خيانة لهؤلاء الأطفال المشردين، وللنساء المغتصَبات، وللشباب تحت السادسة عشرة المدفونين أحياء بتهمة أنهم مجرمو حرب !!.

يدهش شيخي، ويصمت شفقة أو حرجا، لا أعرف. يربت علي كتفي بيد حانية علي الرغم من أنه لم يمد ساعده أصلا، فأفهم إشارته بما أحتاجه ولا أفهم ماذا يعني، ولا ينفعني شيء من كل هذا.

أي تسكين ـ مهما بدا رحيما ـ هو تغييب خطير.

ـ 8 ـ

أحاول أن أتعلّم من مرضاي.

مرضاي حين يسحقهم الألم يحتمون منه بفقد الشعور واللامبالاة.

أتذكر ما كتبتُه ونشر في الأهرام بعد استشهاد سناء المحيدلي  أو بعد ضرب جنوب لبنان، لا أستطيع أن أحدد، كتبت ما معناه: "لماذا يتألم الناس إذا كان الألم لا يقتلهم ولا يدفعهم إلي القتل (الآن ـ وليس بعد)؟ ".

 أتذكر ذلك خجلا من جديد وأنا أشعر أنني إنما أكرر نفسي، فأجدني أكثر ألما وأشد عجزا؟.

عندي عادة كنت أفخر بها،(قال يعني): باعتبارها دليلاً علي أنني أهتم بالناس، ومع ذلك، مع فخري بها، كنت أدعو الله أن يخلصني منها، وهي: اختلاط الخاص بالعام.

الحدث العام يدخلـُني حتي النخاع، أتقمص الظالم وكأنني هو، فأنا مسئول عمّا فعل، وأتقمص المظلوم فأشعر بالانسحاق والخزي أنني ما زلت أعيش !!.

ـ 9ـ

روبنشتاين، الحرم الإبراهيمي

نحن الذين قتلناهم وهم سجود في الفجر، نخرب اقتصادنا، نتهاون، نقصّر، نخنع، نتنازل، نؤجل، نحن المجرمون فعلا.

فهل معني ذلك أن روبنشتاين برئ؟.

خيبني الله.

رادوفان كاراجيتشي، طبيب نفسي، أنا طبيب نفسي، إبن   الكلب، كان محررا لمجلة علمية اسمها "طب نفس البحر المتوسط"، كنت أكتب لها الموجز باللغة العربية، إبن الكلب.

كل الذي أكتبُه الآن عن هذا الموضوع، وربما ما أكتبه عموما،قصة، مقال، بحث، كل هذا لا لزوم له فعلا، لا جدوي منه، ومع ذلك أكتب، وسأظل أكتب من يدري؟.

الأمم المتحدة، المؤتمر الإسلامي، منظمة العفو، حقوق الإنسان، الثعلب فات فات وفي ذيله سبع لفات.

ولاعزاء للسيدات.

هل هذا وقته؟ !!.

كل ما أرجوه من المجتمع العالمي الجدي، بل من محمة العدل الدولة، ألا يضيعوا وقتهم في أمور حسومة بفضل القاتل والمقتول معا، كل ما أرجوه  هو أن يوصوا القتلة أن يشحذوا سيوفهم أكثر حتي يسرعوا في القتل بدلا من كل هذا الجزّ ـ هكذا ـ بسكين بارد.

أريحونا بالله عليكم،  وسوف تجدون روبوتات أحدث تغنيكم عنا.

ـ 10 ـ

أهرب في تذكّر مصائبنا المحلية، وأصرف انتباهي إلي معاناة أهلي وناسي الأقربين، أعمّق وعيي بالإهانة، الإهانات القريبة، أحاول أن أخدع نفسي بادعاء الاهتمام بمعاناة أهلي وناسي، هم أوْلي بمشاعري وفعلي، الفلسطينيون، العراقيون، أهلي في الصعيد أولي بي.

 لا يا شيخ؟!!!

وكأن قضية الظلم يمكن أن تتجزأ.

ـ 11 ـ

ياسيدي علي عزت بيجوفتش:

 لم َتعجّلت الاستقلال ولم تلحظ مصيدة الإبادة؟.

متي يـُلغَي حق الفيتو في الأمم المتحدة؟.

متي تُـلغي الأمم المتحدة؟.

أكره صدام حسين، جدا، جدا. ضبطت نفسي وأنا أدعو له بطول العمر، فعرفت مَن المسئول عن ذلك.

ـ 12 ـ

النظام العالمي الجديد..!!، "أ....." "إسكندراني".

إن من يعيش هذه الأيام، ويصله ما يصلني، لو أنه يشعر، لو أنه يحس، و لم يجن أو يكفر فليس أمامه إلا القتل الآن وليس بعد.

ـ 13ـ

القيم العربية القديمة تبدو تاريخية هزلية سمجة إجارة المستجير!! كذا يا دكتور أحمد يا مستجير؟ "أقتل أسيرك إني مانع جاري"!! لا يا شيخ ـ ميثاق قوق الغيلان: اقتل جارك وأسيرك وكل من يخالفك، هكذا أضمن.

محكمة العدل الدولية تحتاج إلي مافيا شرعية لتقوم بمهمتها المستحيلة.

أُرشق طفلك يا جبان في رحم ابنتي، جنينا ليس له ذنب حتي لو كان صربيا.

لا أستطيع أن أنتظر. لا أريد أن أعيش.

ـ 14 ـ

علي عزت بيجوفتش:

الإسلام يأخذ اسمه من: "...لحظة مفارقة تنقدح فيها شرارة وعي ٍباطني.. من قوة النفس في مواجهة محن الزمان، من التهيؤ لاحتمال كل ما يأتي به الوجود، من حقيقة التسليم لله ".

لا يا شيخ؟!.

أنا لا أظلمك يا عم علي عزت، أنا لا أشك فيك، إن كلماتك هذه يستحيل أن تصدر من شخص لا يعنيها، فقط: أنا لست قدرها، أعرف أنك وقومك تتألمون أكثر من ادعائي مليون مرة، فمن أين لي بتلك اللحظة المفارقة؟. وكيف ينقدح وعيي الباطن لأسلّم لله، وأنا عاجز مقصّر مهزوم هكذا أمام هؤلاء القتلة الذين يدفنوننا أحياء، ويقتلوننا بالسلاح والكذب والشعر والديمقراطية والمنظمات؟.

قتلة اليوم يا عم علي يا بيجوفتش، يا عم صلاح يا عبد الصبور، يا سيدنا محمداً صلي الله عليك وسلم، قتلة اليوم: مهذبون، سياسيون، ديمقراطيون، دبلوماسيون، كونجريسيون، و أحرار.

   جدا...جدا.

ـ 15 ـ

عزيزي القاريء:

إياكَ أن تأخذ ما كتبتـُه هذا مأخذ الجد. أخشي أن يحدث لك ما هو أنا فيه الآن. أنتَ مالك أنتَ حتي تحمل همّ كل هؤلاء؟.

مالكَ أنت وما لهؤلاء؟ مالكَ أنت وما لكل هذا؟.

ألا يكفيك ما أنت فيه هنا والآن حتي أحمّلك هم هؤلاء الخواجات الشقر المسلمين وغير المسلمين؟.حتي أحمّلك همّي.

ـ 16 ـ

أريد أن أسكت،

 "وليتكلم عني صمتي المفعم".

لا أستطيع أن أسكت.

" لا أملك إلا أن أتكلم:

 يا أهل مدينتنا، يا أهل مدينتنا، هذا قولي: انفجروا أو موتوا".

المسألة ـ يا صلاح يابن عبد الصبور ـ  تخطت أهل مدينتنا.

 لم نعد نملك ـ يا صلاح ـ حتي أن ننفجر.

 الذين ينفجرون يموتمون في سياراتهم الملغومة دون ضحايا،

لا يترحم عليهم أحد منهم لأنهم يـُصنّفون إرهابيين.

ـ 17 ـ

نكفر؟.

شعرت أنني قاب قوسين أو أدني.

وحتي هذا، وجدتُ أنه لا معني له، ولا فائدة منه.

لا أظن أن الكافر يتألّم أقل، ثم إن الكفر مستحيل لمن ما زال حيا

كل ما يمكننا هو أن ندعي الكفر، ثم نفشل في الاستمرار فيه.

ـ 18 ـ

أنا مواطن من بلد بعيد.

نحن كلنا مواطنون من بلاد بعيدة.

بعيدة جدا.

بلادٍ سوف تنتصر حتما.

مائة

في

المائة.

ـ 19 ـ

ـ كيف؟.

ـ الذي حصل.

 

 اللعبة  و  الملعوب(9)

ـ 1 ـ

وحدي تماما،.مختبئ  في شقتي المتواضعة (نجمة ونصف، أو نجمتين بعد التعديل)، هناك في أقصي الجنوب، بين جيران طيبين، مساكن شعبية جميلة، ناسها ليس لهم  علاقة بهذه الحكاية، وقد زاد من اطمئناني إلي نجاح خطة هروبي أنه ليس عندي طبق (دش) في هذا المكان البعيد الجميل،"دهب". الشقة ـ شديدة الشعبية ـ تقع بين البحر والجبل، رأيتَ كيف؟!!!  قلبت ُالمطبخ  والممر الذي أمامه إلي حجرة  تطل علي البحر، وجعلت المطبخ الناحية الأخري،  أما الصالة فهي تقبع في حضن الجبل، أحس بالفرق بين ما أكتبه  في الصالة في حضن الجبل، وبين ما أكتبه في تلك الحجرة والبحر علي مرمي البصر، لا أفضّل هذا عن ذاك، لكن لكلٍّ روحه ورائحته. عبر النافذة، أري الشجر يتمايل في نشوة نشطة،  لو رأيتُ نفس حركته هذه  في القاهرة لحسبتُها العاصفة،  ليس عندي  طبق فضائي، ولو أنني كنت أنوي أن  أفعلها هنا أيضا حتي أواصل مبادءاتي إلي  العالم  قبل أن يقتحمني هو.  زوّدوا "دهب" أخيرا  بمحطة تقوية  جعلت القناة الأولي والثانية متاحة  لي ولجيراني، بمجرد استعمال هوائي (إيريال) داخلي، سوف أحتفل وحدي برأس السنة، ما زلت أذكر ليلتها في باريس، ياه !! كم هي الفرحة مُعدية شريطة ألا يفسدها السُّكْـرُ البيّن، ليس عندي مانع أن أحتفل بطريقتي وحدي بالسنة الجديدة، لكن عندي ألف مانع ومانع أن  أحتفل ببداية ألفية لم تبدأ بعد، سوف أحتفل وحدي  وسط خواجات لا أعرفهم، ولا يعرفوني.

هنا، أشعر أني أنزل ضيفاً علي ضيوف بلدي.

ـ 2 ـ

منذ ساعات، وأنا أتناول عشائي، (الذي هو السحور في واقع الأمر) في المطعم الصيني الجميل في العسلة. جاءني النادل وهمس في أذني، وادّعي أنه متعجّب كيف يحبني الناس هكذا من بعيد دون معرفة، وأن دليله علي ذلك أن أحد  الخواجات الجالسين علي المائدة المقابلة يعزمني علي شرابٍ ما، صحيح أنني أبالغ في ما أنفح هذا النادل بالذات من منح (بقشيش) زيادة عن الحساب، وكأني أشتري صمته، أو أجهض تساؤلاتِه، أضمن بذلك أن يتركني في حالي، ألاحظ أنه يفهم جيِّدا ما أريد، يبدو دائما ممتنا مرحبا مجاملا، لكن ليس لدرجة أن يحبب الناس في هكذا، أو أن يدّعي ذلك، نظرتُ إلي المائدة المشار إليها فوجدت مجموعة من الأجانب الشباب الذين أدعو لهم عادة بالسعادة الحقيقية، مرة لأنني أتصور أنهم يحتاجون لدعوتي هذه، ومرة لأنه يخيّل إلي أن نوع سعادتهم "ليست هي"، ومرة لأصالح من خلالهم كل ما هو خواجة، ومرة لاعتقادي أنني رجل طيب، و أن دعوتي مستجابة، لا أعرف كيف، فلا أستخسرها فيهم، لا أذكر من الذي قال من الخوجات  القدامي: "كن أخي وإلا قتلتك"، أما نحن فكنا نغني أطفالا "يا احنا ياهمّه يا كوم الريش، همّه يموتوا واحنا نعيش"، لم نكن نعني الخوجات طبعا، كنّا نعني أي "هُمّــه". لاحظ من فضلك الفروق الثقافية، لسنا قتلة بطبعنا، كل ما نقدر عليه من عدوان هو أمنية أن يتولي عنا سيدنا عزرائيل المهمة، أما هم، فـ"كن أخي وإلا قتلتك"، ياه!!، كلام فارغ هذا وذاك، لا هُم قتلة، ولا نحن نتمنّي لهم الموت، التنوع البشري الخلاق؟!! القبول بالآخر!! لا يا شيخ!!؟  والشيشان؟ أليسوا آخر؟ وأهل كوسوفو أليسوا "آخر"؟ والفلسطيني في الداخل، والخارج أليس آخر؟

يا أخي. إلي أين أنت ذاهب، لا تذهب بعيدا هكذا إلي الناحية الأخري، الروس والصرب  والصهاينة حاجة ثانية، الدنيا فيها وفيها؟ والتاريخ مليء بالمآسي، ولا يبقي إلا الخير، لست متأكدا من ذلك، لكن لعلّه خيراً، هذه التكنولوجيا  المتسارعة ترفع الحواجز بين الناس بسرعة أكبر من تنامي حقدهم وعماهم، هل يمكن أن تعمل شيئا أكبر يذيب التعصّب ويرسي العدل؟ يزيل التعصب يمكن، لكن يرسي العدل !! كيف؟ هل  يمكن أن "تخلّق" لنا آخرين بطريقة أصدق؟ الآخر موجود ونصف،، ألم يقرر العالم  هذه الليلة أن يتجاوز تاريخه  الدموي، وأن نلعب معا نحن الناس، كل الناس، هذه اللعبة علي مستوي الدنيا بأسرها؟ لعبة بداية الألفية الثالثة، الألفية التي لم تبدأ بعد. بدأت أو  إن شا الله ما بدأت، كله واحد، لماذا بدأناها قبل أن تبدأ؟ نحن أحرار، لماذا ننتظر حتي نبدأها في وقتها؟ وهل يعرف أحد تحديدا وقت بداية أي شيء؟. الأمور دائما تبدأ قبل أن تبدأ، وحين ندرك أنها بدأت تكون قد طابت وطلبت الأكّالة.

لم أصدّق النادل واعتبرتُ كلامه من باب المجاملة، إلا أنه عاد فأصرّ علي إبلاغ الرسالة، مشيرا بتأكيد حار إلي شاب "خواجة" يبدو ظريفا وطيّبا.

ـ 3 ـ

 كنت عندما أحضر إلي هنا أحاول أن أنصت إلي اللهجات من حولي لأتبين الجنسيات، توقفتُ عن ذلك بعد أن اعتبرت أنهم، أننا، كلنا أولاد حواء وآدم. فلماذا البحث؟. لا بد أن التراب الذي خُلق منه سيدنا آدم كان من هذه الجبال النقية الفتية الجميلة من حولي.

ـ4 ـ

أنظر  إلي المائدة المشار إليها، فإذا بالشاب الذي علي طرفها يومئ لي برأسه فعلا، يومئ وهو يرفع ما يشرب إلي أعلي،  فأفعل مثله شاكرا، ثم أربّت علي صدري بمعني أنني لا أستطيع أن أقبل كرمه بما عرض من شراب، فيبتسم ويحني رأسه ثانية في دماثة دافئة، الله !!!!، هؤلاء  الناس بهم دفء خاص بعكس ما أشيعُ ـ أنا ـ عنهم، قلت للنادل إنني لا أعرف هذه الوجوه، فهل يعرفهم هو، قال إن الشاب هو أحد مدربي الغطس هنا، ألماني علي الأرجح، وأن الجلـساء ضيوفه أو زبائنه، (لا فرق) وأنه لا بد قد لاحظ كيف أنني  آتي أجلس وحدي الأسبوع تلو الأسبوع، وسألني النادل إن كنت أعمل هنا، ولم أرد، فلم يلح، إذن فأنا آتي وحدي، تعجبتُ لذلك مع أني آتي وحدي فعلا، ألستُ أنا الذي أعلنت منذ قليل أنني إنما هربت إلي هنا لأحتفل وحدي، كيف لم أنتبه إلي ذلك بنفس المعني الذي لاحظه النادل؟ لماذا أتحدّث عن وحدتي مع أنني لا أمارسها، أو لعلي لا أشعر أنني أمارسها، هل أنا وحدي فعلا؟ لا أظن، الأغلب أنني لست وحدي، كيف؟  لا بد أنني كثيرٌ، وابتسمتُ.

نظرت إلي النادل وإلي المضيف (هكذا اعتبرت ـ كما أشرتُ ـ أني ضيف هذا الخواجة) ودعوت ألا يكون أحدهما قد سمع ما لم أقله.

ـ 5ـ

أعود إلي صديقي الحاسوب، كان ينتظرني في أدب وسماح لا تعرفهما الزوجات العصريات، اعترفتُ له أنني هارب وربما كاذب أدّعي الوحدة، واكتشفت كيف أن لصديقي الحاسوب هذا، فضلُ، أو وزر، خفوت وعيي بوحدتي التي لاحظها كل من الخواجة  والنادل، معا!!،  كنت قد اقتنيت هذا النوع من الحاسوب حديثا، وهو نوع به بطاقة تلفاز تسمح بالاستقبال  علي شاشة  صغيرة يمكن إزاحتها إلي زاوية هامشية علي ناحية، وكنت قد اعتدت أن أشغّل هذه الخلفية  أثناء استغراقي في عملي، وأن أعاود النظر للألوان الصامتة أحيانا، أو الإنصات للأصوات الهامسة أحيانا أخري، أو إغفال هذا وذاك رغم بقاء أي منها في الخلفية. ثم وأنا في هذه الحال متصورا نجاح خطة الهرب المزعوم، وأنا  أدعّم إصراري علي  مقاومة هذه الخدعة الجماعية المسماة الاحتفالية بالألفية، إذا بي أكتشف أن القناة الثانية، التي تصل إلي هذا المكان النائي من خلال محطة تقوية حديثة،  تجرني جرا إلي العالم  كله، كل الناس اتفقوا أن يلعبوا معا هذه اللعبة الجماعية هذه الليلة. ليس أمامي خيار، ورائي ورائي،  أُضطر أن أتابع ما يجري  بجزء من وعيي، أجدني أتسحّب من ورائي  لأنضم إلي هذه المليارات من البشر الذين يلعبون، هكذا أكتشف أنني غير رافض ولا حاجة، علي الأقل لست رافضا كما كنت أتصور.

ـ6ـ

مباراة كأس العالم في كرة القدم، كان ذلك منذ أكثر من عامين، لست متأكدا، قفزت فرحاً بالهدف، ليس المهم مَنْ أصاب مَرْمَي مَن، الهم أنني جالس أمام التلفاز أشارك ألف مليون بني آدم نفس الشعور، في نفس اللحظة هل هذا هو "الحج الالكتروني"؟

ـ7ـ

قبل الفجر، اعتدت آنذاك ـ منذ عشرين عاماً ـ أن  أقتطف بضع ساعات أكتب وأقرأ فيها قبل أن تلتقطني عجلة الواجبات اليومية، أفتح المذياع الصغير، لم يكن إرسال البرنامج الموسيقي متصلا 42 ساعة كما هو اليوم،  ألعب في المفتاح علي الموجة القصيرة، أي دندنة تكفي، تكسر صمت الـليل، مع أني لا أشبع من مناجاته، ورائي ما ينبغي إنجازه قبل وبعد مناجاة الصمت. الموسيقي الخالصة تأتيني، وهي لا تحتاج إلي فك رموزها. الأغاني الغريبة  ألفاظها لا تحتاج بدورها إلي فك شفرتها، أعتبرها ضمن الموسيقي التي لا أفهمها، الأخبار التي تأتيني برطان متدفق أتركها دقيقة، أو أكثر، لا أغيّر المحطة، أنصت إلي جَرْس رطانٍ  فتحضرني أسئلة كثيرة عن معتقدات أصحاب هذا الرطان وعن دينهم، وعن مآلهم، وعن رحمة ربنا بي وبهم، أطمئن إلي عدله طمأنينة لا قبلها ولا بعدها، من قال غير ذلك، الله يخيّبهم، هذا المذياع الصغير "الترانسستور" يساعد الناس أن تتقرب إلي الله،  يقربنا من بعضنا البعض،  من ذا الذي  يستطيع أن يقاوم؟

أهلا !!!

 "أكتب فرِحا":

 غَصْبًا صدفةْ، لمستْ إصبَعِي المفتاحْ، فسَرَت كلماتٌ عجميّةْ،... تنتزع السيفَ من الغمدِ، تلتهم ظلام َالرؤية".

 "أكتب أيضا"

 يجتمع السامرُ من أحباب الله،  البيضُ السودُ السمرُ الحمْر.

 البيذقُ والـفرزُ  ورُُخُّ الشاه"

  أنُهي ما كتبت بأنه:

 "يتراقص سهمُ الأفق يفتّح وعيي المرتجف الأعشي، فيُريني العالمْ.،... مذياعا  مُلقَي، في حجم الكف ْ،  والناس الواحدُ كلٌّ ليس له مـِـثـْـلٌ  أصلا.

   أختم صلاتي قائلا

"... يتصاعد كدحُ الناس إلي خالقهم جَمْعاً في معراج الرحمة".

ـ 8 ـ

أسير في هذه المظاهرة  العالمية وأنا وحدي هكذا في أقصي الجنوب، أنتقل غصبا عني  من جزر "الأوكلاند" شرقاً حتي جزيرة "سماو" غرباً،  أنبهر من هذه الألعاب النارية في سيدني، و أرقص مع الراقصين  في  هاواي.

يا حلاوة!! لماذ اتفقَ العالم علي الاحتفال معا هكذا  بألفية لم تبدأ بعد؟

لا أقصد لماذا، بل كيف؟

كيف أقنع الناس بعضهم البعض أن يغيظوا التاريخ الحقيقي وهم يحتفلون بما اتفقوا عليه، وليس بما يفرضه عليهم هذا التاريخ الأعشي؟.

أشعر فجأة أن  من حق الناس عبر العالم أن تلعب معا متي شاءت كيف شاءت، أفرح أنني واحدٌ من هؤلاد الناس.

 

ـ 9 ـ

هذه الأرقام الأربعة التي تبدأ من اليسار بواحد ثم تسعة تلحّ علي منذ تعلمت القراءه والكتابة 1191ـ9191 ـ3391 ـ 5491ـ 2591ـ 7691ـ 3791 ـ 9991، لابد أن كل الناس مثلي، ثم نمي إلي علمنا ـ جميعا ـ أن هذا الشكل اللحوح، سوف يتغيّر، وماذا في ذلك؟ يتغيّر كما يشاء، أنا مالي؟ نحن مالنا، كيف سيكون منظر التاريخ وأنا أكتبه قبل بداية أي رسالة، كيف  سأكتب الرقم الجديد؟ تحريرا في  كذا شهر كذا  سنة 0002، يا صلاة النبي، سنة  مثل كل السنين، لماذا تغمرني  هذه الدهشة البريئة وأنا أتصور منظر التاريخ الجديد؟  يبدو أن هذه التسعات اللحوح أخذت حقها وزيادة. من يدري؟ بشري، تختفي التسعات، ويختفي معها كل ما نريده أن يختفي ليحل محله ما لا بد أن يحل محله. من يدري؟

 من فـَمـِكَ إلي باب السماء.

ما دامت السنون تجري وراء بعضها، حتي وصلنا إلي سنة 0002 هكذا فلا بد أن العالم يتغيّر، لابد أن شيئا ما سوف يتغيّر، ليست المسألة فيما هو ليزر أو غير ليزر، المسألة هي نحن، ما هذا الليزر؟ طز، لا أريد  أن تمتد هذه "الطز" إلي فانتوثانية زويل، نحن ما صدّقنا فرحنا به وبها. كم فانتو ثانية مرّت  بنا حتي وصلنا إلي هذه السنة ذات الدم الخفيف هكذا؟ 

ثلاثة أصفار وبجوارها اثنين، منظر طبعا.

أقاوم  أن يسحبوني أكثر من هذا، لابد أن آخذ حذري، ليس كل سحب مثل الآخر، ربما يسحبوني  لأشارك بالمرة في النظام العالمي الجديد أو في بورصة نيويورك بقروشي الخائفة قليلة الخبرة، من يدري؟ حتي لو لم يكن  ملعوبا أو مؤامرة، فقد ضحكنا عليهم، أنا والناس، كل الناس ضحكوا علي كل الناس. فـَرِحـْنا - نحن الناس -بهذا الرسم الجديد ورحنا نلعب.

 

-10-

 "أخيـــــرْ".

ألُقي بإحدي البليات الثلاث فتقع داخل المثلث بالكاد، فالبلية الثانية، فالبلية الثالثة، أجمعهم وأرصهم، يتقدّم  الرقم اثنين  فـَاِرِدًا جذعه  مختالا، يميل برقة حانية، يبتسم،أطمئن إليه فأترك البلـْي بجوار بعضها في رعايته، لعله يحرسهم.

الخواجات  يلعبون بالأصفار الدوائر الكرات مثل رجل السيرك في مولد السيد البدوي، رقمهم الاثنين بالإنجليزية يهتز علي موسيقي الراي، ثم ينتظر رصّتهم أمامه وهو لا يكف عن الرقص.

فيمَ  كان اعتراضي إذن علي ما اتفق الناس عليه؟

آه!  تذكرت، كنت معترضا أن يغالطونا وهم متجهمون يفرضون علينا حساباتهم  لمجرد أنهم تورطوا في فرحة طفلية مثلما أكتشف الآن.

 كل ما أطالب به الآن هو أن يعترفوا أنه ليس احتفالا بالألفية الثالثة، ليكن الحفل هو الحفل، لكن فلنسمه حفل وداع الألفية الثانية، وداعا يمكن أن يستغرق عاما بأكمله.

لا يعنيني أن تبدأ ألفية ثالثة أو تنتهي ثانية، ما يغيظني هو الاستعباط، يعايرونا كل رمضان وكل عيد ويقرصون أذننا أنه "عيب كذا"، وأننا  لا بد أن نسمع كلام علم الفلك، يعني كلامهم، فهم أصحاب توكيل شركات العلم الحديث، فلماذا لم يسمعوا  هم الآن  كلام علم حساب يحذقه  طفل  ذو  سبعة أعوام. ما الفرق بين أن نحتفل اليوم بألفية لم تأت بعد أو أن نحتفل بها بعد عام أو خمسة، حتي لو  أعلنوا أنهم أجّلوا الألفية الثالثة لتأتي بعد الرابعة، مسموح. كل شيء مسموح ما دمنا نلعب جميعا معا، حلوة هذه، فقط علينا وعليهم، شروط أي لعب أن  تسري القواعد "علينا وعليهم" حتي لعبة الحرب، حتي الإجراءات الأمنية علي الحدود، علينا وعليهم، أليس كذلك؟.

أين الحَكَم؟

يطل علي فيدل كاسترو  من الشاشة المظلمة، كنت قد أغلقت الحاسوب والتلفاز معه،  تملأ لحيته واجهة النافذة، يمسك ورقة كبيرة يقرأ منها فرماناً سلطانياً،  يختفي وجهه ليحل محله وجه فؤاد المهندس، كم هو ثقيل الظل في الافلام رائع الحضور في المسرحيات، يعود وجه كاسترو وهو يصيح "والله ما انا لاعب"، فيصفق له مارادونا وينتقلان معا من شاشة الكمبيوتر إلي الشاشة الصغيرة في الركن يقفزان من النافذة دون أن تـُـفتح، لست متأكدا من الذي قفز أولا: فؤاد المهندس أم كاسترو، لم أكن أعلم أن فيدِلْ خفيف الظل هكذا. فيجدان الظلام الدامس، يـُرْعبان.

افتح التلفاز فإذا مذيع صيني يشترط سرا أو علانية، كذا وكيت وأن الرئيس الصيني قد قرر بالنسبة لاحتفال الألفية، واتفاقية الجات معاً،  أنه "فيها لاخفيها"، وذلك بعد أن أملي شروطه، ولم ينتظر ليعرف إن كانوا قد  قبلوها أم لا. خاف أن تنتهي اللعبة دون أن يحسبوا حسابه، سوف يشترك ويـُطـَنـْبـِل، ثم يأتي الحساب  فيما بعد.  ونحن؟

متي نقبض ثمن سماع الكلام؟

ـ 11 ـ

 سوق النخاسة لتسويق المحترفين، أجور المدربين بعشرات أو مئات الألوف، تتراءي لي حركات الشابات لاعبات القوي،  وأرقام الفوز تـُحـْسـَبَ بجزء من الثانية.

 لم ذاك يا بناتي الحلوات؟ تفوز الواحدة منكن بفارق يصل إلي  جزء  من عشرة من الثانية؟ هذا ليس لعبا، هذه صفقات (بيزنس).

 أي قسوة يسمونها تدريبا؟ وأي منافسة يسمونها لعبا؟! "إخص"

اللعب  خيال جامح، نشاط حر، فرحة في ذاته وليس في نتيجته، معية زائطة، اتزلي يا بنت أنت وهي حتي نرقص ونلعب معاً دون شقاوه. نحتفل معا بأي كلام، المهم نحتفل بعيدا عن سوق النخاسة ومزادات أجزاء الثانية.

 تلك  الهيْجة  البهيجة الراقصة المضيئة لا تعرف  من الذي  يديرها.

 هل يمكن أن نكون قد استطعنا أخيراً أن نلعب هذه الليلة معا، فعلا،

نلعب بجد.

هل يمكن أن يسمح السادة في البيت الأبيض أو السراي الصفراء أن  يلعب العالم دون إذنهم ودون عائد عليهم؟ طبعا لا،

  إذن فهو "بيلي".

  بيلي من يا جدع أنت،؟ كل حاجة كلينتون، بيلي؟ بطّل تفكير تآمري.

 يعني تريدني أن أصدق  أن ناس العالم  الطيبين ـ نحن ـ هم الذين قرروا الاحتفال بالتخلّص من هذه التسعات اللحوح "قبل الهنا بسنة" منهم لأنفسهم؟

والله فكرة !! لماذا ننتظر عاماً آخر؟

ثم من أدرانا أن الألفية الأولي قد بدأت في ميعادها؟

 إن كل ما هو تاريخ هو مجرد لعبة وثائق خائبة. تُبرر عجز الإنسان أن يكون كذلك.

-12-

 أين ذهب رفضي؟ كيف ذابت مقاومتي؟  أنا لا أستطيع أن أشارك فيما ليس لنا، فيما ليس نحن، لماذا نتركهم يقررون لنا متي بدأ التاريخ، ومتي ينتهي؟ فوكوياما يعلن عن نهاية التاريخ، وهاهم يذكرونا ببدايته التي قرروها بغير استئذان من أصحابها،  نعم هم الذين فرضوا علينا ما يجري هكذا، وليس نحن ناس العالم الذين قررنا أن نلعب سويا.

-13-

أدخل مترددا  إلي حجرة حضرة الناظر لآخذ إذنا أن ألعب  في الخمس دقائق التي  بين الحصص، التي بين العقدين، التي بين القرنين،،التي بين الألفيتين،  يصرفني الناظر وهو يضحك دون سخرية،   أسأل الفراش لماذا كان يضحك حضرة الناظر، فيخبرني بإجابتين، الأولي : لأن اللعب لا يتطلب إذنا، والثانية: لأنه لا توجد فواصل بين أي وقت وأي وقت.

نحن الذين ابتدعنا الفصل بين أي شيء و أي شيء، كله متصل  بكله، ونحن الذين  نوقف الحركة اصطناعا لنتأمل، ونأمل،لعل وعسي. من يدري؟

-14-

أدرك التلفاز الصغير القابع في زاوية الحاسوب  الصباح، فسكت عن  الاحتفال المباح،. فعاودتني التساؤلات والمراجعة.

يبدو أنني سُرقتُ مثل غيري، والذي كان قد كان. أحسن.

-15-

 الألفية الثالثة لم تبدأ بعد، والمسألة لا تحتاج إلي مناقشات وإثباتات، لكن للأمر دلالات مطـْمـِـئنْة، ذلك أننا أثبتنا نحن البشر (حلوة هذه) أننا حتي لو استُدرجنا إلي ما لم نقرره، فإن اتفاق الناس أهم من حسبة الأوصياء.

 مرّة أخري، "علينا وعليهم".

-16-

مدرسة رياض الأطفال بالمعادي، كي چي تو، زفتا، بركة السبع، "سلطانية مهلبية، بابا قال لي عدّ لميّة،  عشرة عشرين تلاتين  اربعين... سبعين تمانين تسعين ميّة"،  فسنة ألفين ليست هي، فلماذا يعايرونا  في مسألة تحديد رمضان والأعياد؟ لماذا نسوا  أن اتفاق الناس وتوثيق العلاقة بالطبيعة أهم من أي علم للفلك أو الحساب أو المنطق؟

-17-

يرفع لي  أرسطو(10)حاجبيه  فأنهره وأعايره أن منطقه هذا هو الذي أخّر مسيرتنا نحن البشر ألفيّتين بالتمام، يُـلـعِّــب لي حواجبه وهو يغمز بإحدي عينيه، فأضطر أن أخرج له لساني، وأنا استغيث بصديقي فون دوماروس(11) الذي لا يعرفه أحد، مع أن صديقنا المشترك سلفانو أريتي(12) هو الذي أبلغني وجهة نظره، كان أريتي وقتها  يدافع عن منطق المجانين الأعمق مستشهدا بفون دوماروس.

-18-

أقول لشيخ الأزهر التنويري الطيب: إن الدين يا مولانا لن ينقص أو يزيد إذا نحن صُمنا يوما زيادة أو يوما ناقصا، إن المهم هو احترام اتفاق الناس وتوثيق العلاقة بالطبيعة، علينا أن نحافظ علي علاقتنا مباشرة بالله سبحانه، وبالطبيعة الأم، بلا وصاية آلات، أو حسابات، ثم ها هو العاَلَُم كله يتفق علي "أنه: "هو  ماله"؟ (يقصدون أرسطو، أو مرصد حلوان ).

 يا عم أرسطو، يا سيدنا أرسطو، الله يخرب بيتك.

 يا فضيلة المفتي، يا مصطفي يا محمود،  إن الناس يا مولانا إذا أجمعوا علي خطأ فقد يكون أصوب من أي صواب.

      لم لا؟

ـ 19 ـ

تنتهي الاحتفالات في جزيرة "سماو" فيعاودني التفكير التآمري الذي هو ليس تآمريا:

من يا تري هذا الذي  ضحك علي  العالم  هكذا، لتحديد هذا الوقت بالذات؟  أقصد من ذا الذي قرر ميعاد اللعب، ومكان اللعب، وطريقة اللعب؟ ليس مهما أن نجد إجابة، وليس لائقا أن نتهم أمريكا مثلا ـ كما اعتدنا ـ بأنها وراء كل هذا الملعوب، المهم أن هذه الشائعة (أن الألفية الثالثة بدأت)، مهما كان مصدرها، قد سرت بسهولة خطرة بين بقاع العالم لمدة عام أو بعض عام (علي الأقل)، حتي صدّق الناس أنهم  يمكن أن يكونوا "معا".

يا عم فهمي يا هويدي، يا دكتور عبد الوهاب يا مسيري، هم يتحيّزون لأفكارهم، وتواريخهم، وآثارهم، وأديانهم، ليكن.  أليسوا أحق بنا منا، أكثر الله خيرهم أنهم سمحوا لنا أن نفرح معهم.

-20-

تقفز الست مونيكا من الشاشة وجسمها البضّ يملأ فراغ الحجرة كله، زاد وزنها سبعين كيلو جرام فظهرت معالم الزيادة داخل الملاءة اللف التي لا تعرف كيف تستعملها فتقع منها   كل خطوتين وهي تتعثر، فلا  أبتسم ولا أشمت، لكني ألمح سهير البابلي وقد ضربت لخمة في قسم اللبان(13) حين لم تستطع أن تحكم الملاءة عليها فصاحت فيها " روحي كتك نيله وأنا مش عارفه وشك من ظهرك" لم أعرف إن كانت تخاطب الملاءة أم تخاطب مونيكا التي رعبت  منها رعباً ليس له مبرر، فاختفت رغم حجمها ولزوجتها. يا بنت يا سهير لم فعلتِ ما فعلت؟ أيرضيك أن تتركي لنا هذه الفيلة  تلعق بقايانا  الهامدة، وهي إنسانة خاوية مثل طاحونة مهجورة؟

طيب

الله يسامحك يا سهير يا بابلي.

أنتِ السبب.

في ماذا؟   لا أعرف.

-21-

ماذا يا سهير لو أنهم  استعملوا نفس الأداة لتسويق وترويج  أفكارهم الأخري، فراحت تسري بين الناس، كل الناس، بهذه السرعة  فصدقوها، صدقناها بنصف وعي، أو حتي بدون وعي، حتي أصبحت  أي فكرة يروجونها حقيقة أكبر من أي حقيقة موضوعية.

 تقولين أن هذا هو الحادث فعلا؟ لا ياشيخة؟

يرقص الناس ويغنون معا في توقيت ليس هو، "قبل الهنا بسنه"، يمر الحال،

هذه المرّة جاءت سليمة، ولعبناها  خطأً معا، لكن ما العمل والسائق مجهول، والوقود غير كاف، والأفكار ليست واضحة ولاجيّدة، وكيف نحول دون أن يسرّبوا لنا أفكارا أخري  تخرب بيوتنا وعقولنا معا؟ أنا مالي، ننقرض جـَمـْعاً كما لعبنا جمـْعاً.

 حين تهاجمني فكرة الانقراض هذه، أتصوّر أنني أمثّل النوع البشري كله، يا ذي الفضيحة، ألا أخجل؟ لكنها حقيقة،حين أتأمّل الأفكار المتسربة عن  الرفاهية، وعن الديقراطية، وعن سيدنا  العلم الفوقي، وعن الشذوذ الجنسي. أتحسس رأسي، وأهرش في أجزاء خاصة من جسمي، وأتجرع  بعض ما تبقي في إناء "المخلل" بعد أن اختفت محتوياته الصلبة، وأمنع نفسي عن التعليق.

ـ 22 ـ

 أصرخ بالمخرج معتذراً أن سامحني، وأنها آخر مرة، كومبارس كومبارس، لكنني مهم في خلفية المشهد، أقسم له أنني لن أفعلها ثانية، يطيب توفيق صالح خاطري، ويطمئنني أنني لم أخطيء في اللقطة ولا حاجة، لأنه ليس لي دور أصلاً في هذا الفيلم، يعدني  توفيق صالح أن يبحث لي عن دور مناسب في الفيلم القادم، وأعلم أنه يكذب رحمة بي، أشعر أكثر يقينا باقتراب نهاية النوع البشري كله، مع أننا نحن البشر كان دمنا خفيف ولا يصح أن ننقرض هكذا بخطأ ما في حسبة البقاء.

 لو كان عند الديناصور وعيي مستقبلي، ربما كان مازال معنا حتي الآن، أخاف منه مثلما كنت أخاف طفلا أن يلتهمني "وابور الزلط".

 

مع تسحب هذه السيرة، سيرة الانقراض، ومع هذا الرعب، رعب الفناء بخطأ غبي، يتسرب مني السماح  الذي عشته بالرغم مني وأنا أشارك فيما جري  هذه الليلة  دون استئذان.

تصورتُنا ـ فرحا ـ عبر العالم  ونحن نخرج لساننا جماعة لأي رقم فيه رسم تسعة، ثم هأنذا أتراجع عن اعتبارها  لعبة  فرحت أبحث عن أصل وفصل فاعلها، هل هي فعلا ملعوب وليست لعبة، ملعوب بفعل فاعل، والفاعل قوي ومجهول؟ لا بد أنه فاعل يملك السلاح، والمال، وكل وسائل الإعلام  مما نعرف، وما لا نعرف.

أريد أن أذهب للخواجة الذي عزمني علي الشراب أمس في المطعم الصيني وأقبّلُ  رأسه و أنا أقبل دعوته.

 

لو أن أمريكا وإنجلترا وفرنسا، اتفقوا منذ عام أو بعض عام  أن يؤجلوا هذه الاحتفالات سنة كاملة حتي يسايروا العلم والموضوعية، هل كان يجرؤ أي واحد غيرهم أن يعملها؟ هل كانت كوريا أو نيجيريا، أو حتي  الهند الذرية تجرؤ أن تحتفل وقتما تشاء؟ تنضم مصر أم الدنيا إليهم، مصر جاهزة للانضمام طول الوقت "سـَنـْتـَتـْنـَضـُّم"(14)حالا، دقيقة واحدة،  هل كان سيستجيب لنا أحد إذا قلنا أننا سنحتفل  مبكرا عاما لمجرد أن سنة 0002 دّمها أخف، ومنظرها أجمل، وأننا زهقنا جدا من حكاية ألف وتسعمائة وكذا هذه، لو حدث ذلك لفتحوا علينا نار السخرية والاتهام بالجهل والتخلف، واتهمونا بقلّة حقوق الإنسان، وقلّة العلم، وقلة العولمة، والسفالة لكنهم لا يستطيعون أن يتهمونا بقلة الذرية أو الضعف الجنسي.

 

أخرج لهم لساني ولا أجرؤ علي التصريح باتهامهم بالعجز الجنسي مع أني أعرف الكثير، خلّ الطابق مستور.

أقفل  نافذة العالم التكنولوجية التي فـَرَضـَتَ علي، وأتاحت لي، فرحة المشاركة،  وفكر التآمر معا.

 

 أكتب مقالا للأهرام(15) أقول فيه أن المسألة كانت لعبة طريفة، وأنني كنت مخطئا، وأن من حق الناس في كل مكان أن تفرح وقتما تريد، حتي لو لم تعرف من ذا الذي يحركها. فقط علينا أن نأخذ الحذر، و أن نتدبر الأمر، وأن نؤكد علي هـُويتنا المميزة، وكلام ماسخ  من هذا، كلام  أعلم أنه لا يقدم ولا يؤخر. كلام مثل عدمه، لكنني أكتبه، وهات يا واحد اثنين ثلاثة، إبرة الخـّياطة...

 

أتساءل عن عدد الذين سوف يقرأون هذا المقال، وعن جدواه، وعن لزومه،

 أتجنّب التمادي في التساؤل، كما أتجنّب محاولة الإجابة.

 أخاف لو أنني صدَقْتُ في الإجابة أن أمزق ما كتبت.

هل أنا أضحك علي نفسي؟ أبرر وجودي بمثل هذا الذي أكتبه. في حماس طفلي لا يهمد، وكأن أحدا ـ يهمه الأمر جدا ـ ينتظره فعلا؟

 تصعب علي نفسي.   أكتشف أنه ليس لي في الأمر شيء.

أحسن.

تصبحون علي خير (ما أمكن ذلك).

 رجوع إلى الفهرس

الهوامش

 أفضّل، بصفة عامة، ألا يكون  للعمل الأدبي هوامش شارحة، أو متحفظة، أو  مستدركة، أو معتذرة،  مع أنني تعـلّمت  من هوامش  ديستويفسكي خاصة، ما جعلني أعتقد أنه لا غني عنها احتراما للقارئ. فرجحت كفّة أن تظهر هوامش هذا العمل، ربما تفسيرا  أو تبريرا لبعض ما أشار إليه من متابعات، ونصوص، وأحداث، قد لا تحضر القارئ بسهولة، وخاصة الأصغر سنا.

  وأيضا: لمّا وجدت هذا النص عصيا عن التصنيف أصلا، إذ يقع بين المقال والقصة مرة، وبين النقد والحكي والشهادة مرة، بدا لي أن الهوامش تصبح لزومية، وخاصة أن أغلب هذه التجارب كانت  مستثارة بأحداث محددة، ومرتبطة بتاريخ معيّن.

هذا، وقد يكون مناسبا،  قبل تقديم هوامش كل جزء، أن  أفسّر  ابتداء  ما عنيته باختيار الاسم "الورطة "، حيث أردت أن  أعلن به حيرتي في تصنيف هذا العمل كما ذكرت، خاصّة وأنني حين استشرت المعجم، وجدت في لفظ "الورطة" ما يعبر  عن حالتي هكذا:

جاء في لسان العرب:

 الورطة: كل غامض.

و الورطة: الهلكة

 قال أبو عمرو:

إن تأت يوماً مثل هذي الخطــّهْ        تلاق من ضرْب نمير هلَكَه

وقال يزيد بن طعمة الخطمي

قذفوا سيدهم في ورطة               قذفـك المـقلة وسـط المـعترك.

ولعل في هذا الاستشهاد ما يحذّر القارئ العزيز من أن  يأت يوما  مثل هذي الخطّة، حتي لا يجد نفسه مقذوفا (مثلي) "قذْفك المقلة وسط المعترك".

رجوع إلى الفهرس 

هوامش الجزء الأول

 

(1) كتبت هذا العمل إثر استفزازات اجتمعت علي، ومن ذلك: أولا: مسئول كبير ينشر في صحيفة كبيرة سلسلة يسميها قصصا يقول إنه كتبها لما كان عمره 19 عاما.وكان أهم نقد وُجِّه إليه هو مجرد نكتة طريفة (قيل ـ أيضاـ  إنها سخيفة). وهي أن هذا المسئول ادّعي أنها قصص باكرة من باب التواضع، وأن الحقيقة أنه كتبها هذه الأيام جدا. ثانيا: دعوة من قبل جمعية النقّاد المصرية أن أقدم دراسة نقدية لقصّة عبده جبير "عطلة رضوان"، فعايشت  خبرة في الناحية الأخري:  أرقي وأصعب. ثالثا: تساؤل شخصي عن: كيف يكتب الكاتب قصّة ما؟. ولماذا؟. وهو ما استدعي شهادتي كاتبا، كما ظهرت في النص الحالي.

فخرج هذا العمل الذي لا أعرف له اسماً جامعاً مانعاً، فجمعته  إلي ما أسميته المقال القصة، حيث يجمع بينهما "العصيان عن التصنيف". من هنا جاءت التسمية الشاملة للجزأين باعتبار أنهما يمثلان ورطة غير مقصودة، مع احتفاظ كل جزء بعنوانه الأصلي.

(2) إشارة إلي نظرية المثُل عند أفلاطون التي تقول ما معناه: إن حقيقة الوجود والموجودات إنما تقع بعيدا عن متناولنا في عالم المثُل، وإن ما تدركه ونعايشه ليس إلا تقليد لهذه المثل، وضرب لذلك مثل "السرير" الذي ينام عليه الذي ليس إلا تقليد للسرير "المثال" البعيد عن متناولنا.

(3) د. حسن وجيه، علم التفاوض الاجتماعي والسياسي. سلسلة عالم المعرفة الكويت 1994.

(4) الـ "بدون" في الكويت هم فئة ليست قليلة، تقيم في الكويت منذ عشرات السنين، ولكن ليس لهم الحق في الحصول علي الجنسية الكويتية، وبالتالي يطلق عليهم الـ"بدون"، أي: "بدون جنسية".

(5) مقطع من أغنية وردة "بطّل نار الغيرة" وأصله "طيب شوف التانية" وليس الثالثة.

(6) إشارة إلي ما صار يتردد عن سيرة فرويد الذاتية وشخصيته وجوعه الشديد إلي التقدير من تلاميذه ومرضاه، وعلاقته بشقيقة زوجته.. الخ.

(7) إشارة إلي برنامج "قوْل علي قول" للأستاذ حسن الكرْمي الذي (كان) يذاع من لندن؛ حيث يتوالي القول من التراث علي قول السائل في تواتر جميل، دون انحشار مفتعل. وليس إشارة إلي باب ينشرـ بنفس الاسم ـ في الأهرام لكاتب لا يريد أن يتوقف.

(8) كنت قد أقحمت هذا الجزء داخل المتن فعلا، ثم انتبهت عند المراجعة إلي أنه بذلك قد أخلّ بالاتفاق المبدئي، وهو أن تتم القصة "في القطار"، فأنزلتـُه إلي هامش سُفلي، ثم فكرت في مسألة الهوامش هذه فنقلته هنا هكذا، وقد تركته بالنص الذي كان مكتوبا به في المتن ليتبين مدي سخف إقحامه، ثم مشروعية حذفه!!! ـ ومع ذلك لم أستطع إلا أن أثبته في الهوامش، وقد كتبته بشكل آخر، وبنط أصغر، حتي لا تقرأه (عزيزي القاريء) كما يلي:

أثناء المراجعة الأخيرة لم يستطع الكاتب أن يقاوم استشارة المعجم، فبدأ "بالوسيط" وهو واثق أنه سيسعفه وتطلع "لظلظة" كلمة عربية، فإذا به يفاجأ أنه: لظلظت الحية رأسها: حرَّكـَتـْه من شدة اغتياظها، ولا شيء غير ذلك. وهذه البنت الملظلظة لا هي حية ولا مغتاظة، أنا المغتاظ، ثم إنها تُحرك جسمها كله لا رأسها فقط، فكاد الكاتب يرجع في كل كلامه السابق ويستبدل الكلمة، لكنه استغاث بلسان العرب فأسعفه بشكل أغراه بلعبة التأويل المتعسف هذه التي هي في واقع الحال نوع من التخريج المزيف، وهي لعبة يتقنها الكاتب بغباء (مالـَك؟. فيه ماذا؟. لاتكملْ القراءة إذا لم يعجبك، أو انتظـْر للآخر، يمكن ربنا يـســهـلها) فقد وجد الكاتب أن من معاني اللظاظة: الملازَمة، "وأشياء" البنت ملازمةٌ بعضها بعضا فقد أنشد "بن برّي" "ألظّ به عَباقيةٌ سَرَنْدَي، جريء الصدر منبسط القرين"ّ، والبنت فعلاً جريئة الصدر، وهو شخصيا منبسط (ولا بأس من إضافة القرين، لا يضر) ووجد أيضا أن "اللظيظ هو الإلحاح"، وحضور البنت الذي هو هكذا، له إلحاح متميز ومتواصل علي وعيه وحواسه وكل شيء، ثم إن بـِشـْراً قال: "ألظَّ بهنّ يحدوهن حتي: تبينت الحبال من الوِساقِ"، وقد فرح بنون النسوة هنا كما لم يفرح بها من قبل، ورغم أن بيت بشر ليس فيه أي معني من معاني لظلظة ليلي علوي، إلا أن الشطر الأول إذا أُخذ بشكلٍّ كلي أي جشتالطي فهو إنما يوحي بنفس الجو: "ألظّ بهن يحدوهن حتي" وليس مُهما الباقي، طبعاً سيقول النقاد إن هذا ليس تناصَّا، واردٌ هذا الرأي، لكن الكاتب لم يقل إنه تناصّ، هو قال إنه داخل علي التناصّ، والداخل علي الشيء قد يدخله وقد لا يدخله، والاحتمال الأخير يسمي الرباط في ليلة الدخلة، ثم إنه يكتب قصة، وليس نقداً، هو يكتب ما يشاء، والنقاد يسمون ما يقرأون بالأسماء المناسبة: تناصاً، فَيهقه، تنطّع، كل واحد ومدرسته، ولا أقول انطباعه؛ لأن النقاد الانطباعيين ليس لهم مكان الآن في أي شيء. المطلوب من القاريء أن يأخذ راحته، ويتصرّف بمعرفته.

(9) بيان 30 مارس هو البيان الذي أذاعه عبد الناصر في 30 مارس 1968 عقب هزيمة يونيو، والذي انتقلت فيه النغمة من الزعامة الفردية إلي نغمة "الشعب هو القائد"وكأنهم تذكروا، ولكنها كانت ذكري مصنوعة تحت ضغط الظروف، وسرعان ما تلاشت، هذه النغمة الجديدة التي أدت الواجب حتي سكت الناس، وعلي الرغم من أن جيلي يعرف تفاصيل كل ذلك إلا أنه وجبت هذه الاشارة الموجَّهة إلي الجيل الأصغر الذي لم يعش هذه الأحداث.

(10) إشارة إلي فوازير نيللي في رمضانٍ ما، عن المهن المختلفة، تأليف صلاح جاهين والمقطع من فزورة "الصحفي".

(11) هذا ما صوّره جاهين في فزورة "المهندس" في رمضان ذاته، إشارة إلي المنازل المصنوعة من الخشب الحبيبي.

(12) المقصود هنا هو مرض فقد الشهية العصبي Anorexia Nervosa  وهو المرض الذي تخاف فيه الفتيات (والسيدات) من السمنة، فإما أن يكففن عن الأكل إلا قليلاً جداً، وإما أن يتعمدن القيء بعد الإفراط في الأكل ثم يتكرر ذلك، وهو المرض الذي قيل إن الأميرة ديانا كانت مصابة به.

(13) إشارة إلي كتاب" الشعر والتجربة" تأليف أرشيبالد مكليش ترجمة سلمي الخضراء الجيوشي، وفيه إشارة إلي قصيدة بودلير "جيفة"، وقد ظهر في طبعة جديدة في سلسلة آفاق الترجمة (الهيئة العامة لقصور الثقافة)، وقد أشارت المترجمة إلي اقتطاف ترجمة أدونيس لقصيدة بودلير، التي قال فيها المؤلف" تلك القصيدة المريعة التي يتزوج فيها الموت والجنس في تجانس لا تجانس فيه، تجانس العهر اللاهث والعفن الفائر".

(14) ظل هذا المقطع من نهاية زقاق المدق في ذاكرتي منذ الأربعينيات، وحين حضرني هنا شككت لثانية أو اثنتين أنه في رواية "بداية ونهاية" لكنني رجحت متيقناً أنه نهاية زقاق المدق، وهذا المقتطف جاء علي لسان الشيخ درويش مدرس الإنجليزي الذي استقال وهام علي وجه، ومشي في حب الله، وبألفاظ ما جاء في نهاية الرواية بعد الرجوع إليها:

"ثم وحوح (الشيخ درويش) متنهداً واستدرك قائلاً:

 ـ يا ست الستات، يا قاضية الحاجات، الرحمة، الرحمة يا آل البيت، والله لأصبرن ما حييت، أليس لكل شيء نهاية؟. بلي لكل شيء نهاية.. ومعناه بالانجليزية end وتهجيتها"e, n, dس ,

(15) إشارة إلي رواية نجيب محفوظ "الباقي من الزمن ساعة".

(16) فيلم عنبر إلي الأبد، قامت بتمثيله لندا دارنل، وقد شاهدته في أوائل الخمسينيات.

(17) قيل في أحد تفسيرات إطناب ديستويفسكي، واستطراداته المترامية إنه كان مضطراً لذلك تنفيذاً لعقد (أو عقود) إحدي المجلات الاسبوعية، المشترط أن يعطيها عدداً معيناً من الصفحات في ميعاد محدد، وكان استغراقه في لعب الميسر يجعله مضطراً للوفاء بالوعد بشكل قهري.

(18) هناك نوع من العلاج السلوكي يستعمل مثل هذه الطريقة: وفكرتها أنه بدلا من تجنب المثير المسئول عن بعض المشاعر الدخيلة أو المزعجة، أو غير المناسبة يدفع المريض إلي مواجهته بالتدريج، وبتصعيد محسوب.

من المأثور عن علي بن أبي طالب قوله " إذا خفتَ شيئا فـَقـَعْ فيه"، وهو قول يحمل نفس الفكرة.

(19) إشارة إلي أن العمليات العقلية التي تلزم فيها درجة عالية من تنشيط التخيل التركيبي الكلي، وفي الوقت ذاته الربط الرمزي المحدد الترابط، هي عمليات، تحتاج إلي عمل نصفَي المخ معا في نشاط متكامل، (وهذا ما يخص الإبداع عامة) والنموذج هنا في عمل الفتاة المتمثل في فك الشفرة أو إنشاء البرامج الجديدة هو من أدق النماذج المعبِّرة عن هذا النوع من النشاط المتكامل للنصفين الكرويين معا، (أنظر أيضا المقارنة بين عمل نصفي المخ في الجزء الثاني إن شئت النظر في الفرق بين المقال القصة "اللعبة والملعوب ص 105) حيث كانت الغلبة للنصف غير الطاغي مقارنا بالمقال "ماذا بعد ما لعبْنا معاً لُعبة الألـفية؟" حيث كانت الغلبة للنصف الطاغي (هامش 15 الجزء الثاني ص 128، وما بعدها).

 رجوع إلى الفهرس

هوامش الجزء الثاني

(1)  الاسم المطول الذي نشر به هذا المقال/ القصة في الأهرام هو: "تقرير عن بحث علمي"،  كتب في اليوم التالي لمذبحة إسرائيلية جرت في جنوب لبنان، في أوائل الثمانينيات، وقد عُنونت بعنوان  فرعي يقول: "مقال في قصة". وهو ما ألهمني جمع هذه المجموعة تحت هذا المسمي.

(2) إشارة إلي ما قام به الاسرائيليون بعد الحادث من عرض بعض المجاهدين المحتجزين لديهم في أقفاص حديدية مدلاة من طائرات الهليوكوبتر، تخويفا وامتهانا.

(3) كان ذلك عقب نجاح عميد كليةٍ ما للمرة الثالثة وهو يحاول أن يظهر كل الفرح، وأن يخفي كل الخوف،  لكنني لمحته دون استئذان، فأشفقتُ عليه في قسوةٍ وحشيةٍ، بهذه القصة المقال التي نشرت في الأهرام أيضا.

(4) إشارة إلي فيلم الجندي سلوفيك الذي كان يمثل البراءة الأقصي لجندي شاب يرفض الحرب، فلا يطيع الأوامر، وحين يحاكم يحاول رؤساءه وزملاؤه أن يساعدوه بأن يحفزوه إلي إنكار التهمة، لكنه ـ بنفس البراءة ـ أصر علي قول الحقيقة وأنه لا يفهم لماذا يحارب، من؟ وبالتالي فإنه رفض الأوامر، ثم يحكم عليه بالإعدام، وهو مازال محتفظا بنفس الدهشة والبراءة.

(5) مرة أخري: تـَوَاكـَبَ قيامي مضطرا بمهمة كتابة تقرير تقييم أبحاث للترقية، مع قراءة خبر استشهاد "سناء المحيدلي" بحزام الديناميت في هجمة  انتحارية علي المحتل في جنوب لبنان.

(6) كتبت هذه القصة أولا تحت اسم "الطفلة والرجل" ونشرت في  أول عدد من مجلة الإنسان والتطور بتاريخ يناير 1981 ص 114 ـ 117،  العدد الأول،  ثم بعد ما يقرب من عشرين عاماً،  حدث التغيير الوزاري الشهير (أكتوبر  1999)  فوجدت أنها تعبّر عن هذا الحدث بدقّة جعلتني أغيّر العنوان هكذا، وأرسلها إلي بعض  الصحف، ولم تنشر حتي كتابة هذه السطور.

(7) كان ذلك  قبيل حصوله علي ذلك التكريم العالمي الذي يستأهله،  بلغته، والذي بدا أنه لم يؤدَّ ما انتـُظر منه، أو أنه لم يـُشـْبعه،  وفي نفس الوقت ظل صاحبي لا يستطع أن يخفي طيبته، وربما خيبة أمله.

(8) كتبت هذا المقال أثناء مأساة سيربرينسكا  في البوسنة من أربع سنوات، حيث جري القتل الجماعي، ودفن الأحياء واغتصاب النساء بالجملة، ونشر الأصل باعتباره مقالا في صفحة الرأي في الأهرام، وحين فكّرت في جمع ما هو "مقال في قصّة" وجدت من المناسب أن أضمنه المجموعة بعد تعديلات متوسطة، لم أذكر فيها مأساة كوسوفو اللاحقة.

(9) كتب أصل  هذا النص أولاً  في شكل مقال نشر في الأهرام باسم " ماذا بعد ما لعبْنا معاً لُعبة الألـفية؟" بتاريخ: 18/1/2000. [أنظر هامش 15]، ثم أعدتُ صياغته بعد أن جمعت هذه المادة "هكذا"  لتقول نفس المعني مع السياق الحالي، وقد نشر لاحقا  كما جاء في هذا المتن بعنوان "اللعبة والملعوب"، في مجلة سطور العدد 40 مارس 2000.

(10) يراجع العاَلَمُ ناقدا فكر أرسطو ومنطق أرسطو بصفة خاصة ومدي إعاقته للتفكير البشري طوال ألفيتين.

(11) ظهر منطق "فون دوماروس" سنة 1947 ليتناقض مع، ويصحح منطق أرسطو ليثبت أن الشيء يكون نفس الشيء وضده في آن... الخ.

(12) سليفانو أريتي طبيب نفسي أمريكي مبدع، صاحب كتاب "تفسير الفصام"، والمحرر الأول للكتاب الأمريكي للطب النفسي في السبعينيات والثمانينيات وهو الذي تبني منطق فون دوماروس ووظفه في فهم لغة الفصامي وغائيته ومن ثم فهم "إرادة المجنون واختياراته وموقفه"

(13) إشارة إلـي مسرحية ريا وسكينه، (شادية وسهير البابلي).

(14) إشارة إلي مسرحية مدرسة المشاغبين.

(15) مقال الأهرام نشر بعنوان: ماذا بعد ما لعبنا معا لعبة الألفية18/1/2000،وقد رأيت أن  أورده في هذا الهامش بنصّه (إلا بضعة سطور) لمن شاء أن يعيش تجربة المقارنة بين ما كتب تحب زعم غلبة نصف الدماغ الكروي الطاغي (مقال الأهرام) في مقابل غلبة النصف الكروي غير الطاغي [مقال سطور: هامش 8]

 

 

ماذا بعد ما لعبْنا معاً لُعبة الألـفية ؟

[الأهرام: 18/1/2000]

 

إن أهم وأطرف ما حدث في هذه المناسبة هو أن العالم كله،  قد شارك في فرحةٍ ما، في مناسبة ما، في لُعبة ما، لعبة بكل قواعد اللعب، بما في ذلك أن واحدا يحرن ويقول "والله ما انا لاعب" (فيدل كاسترو)، وأيضا أن آخر يتلكأ ويهدد  ويشترط، ثم فجأة، يسارع قبل البداية مباشرة أنه:"فيها لاخفيها" (الصين).

لا يشمل تعريف اللعب ـ نفسيا ـ تلك  الألعاب التي تجري في الملاعب أو في الصالات حيث يبلغ سعار التنافس وإرهاق التدريب مبلغا هائلا من القسوة والاحتراف، يؤكد ويبرر هذا وذاك ما وصلته أسعار اللاعبين وأجور المدربين الفلكية، وكذا مكافآت الفوز، ومقاييس التفوق التي تصل في بعض ألعاب القوي إلي جزء  من عشرة من الثانية، هذا ليس لعبا، هذه صفقات وأكل عيش وتنافس قهري (بزينس)، وإنما  يُعرّف اللعب عند علماء النفس والطب النفسي بأنه: نشاط حر، يُعمل لذاته، ولا يُرجي منه ـ ابتداء ـ  عائد نفعي واقعي محدد، وهو نشاط مرغوب فيه، لما يعـِدُ به، ويحققه عادة، من فرحة وانطلاق. ويكون  هذا النشاط (اللعب) أطيب وأبهج إذا تمّ في جماعة. أليس هذا هو  ما حدث بالضبط، هكذا، علي مستوي العالم،حتي الصباح في تللك الليلة الليلاء؟! ألا ينطبق هذا التعريف تحديدا علي تلك  الهيْجة  الهائصة التي عمّت الدنيا من جزيرة  فوكلاند في أقصي الشرق إلي جزيرة سماو في أقصي الغرب؟ عمّت الدنيا بتلقائية  منتشرة شاملة، لا أحد يمكن أن يجزم بمصدرها الأوّل (انظر بعد)، هكذا  اتفق العالَم أن يلعب، لعبة احتفالية الألفية الثالثة، أما كيف كان ذلك؟، فقد قرأت  الحكاية علي الوجه التالي:

تعوّدنا منذ تعلّمنا القراءة والكتابة، بل والاستماع، تعوّدنا علي هذه الأرقام الأربعة التي تبدأ من اليسار بواحد ثم تسعة، 1901ـ1911ـ1919 ـ 1952ـ 1967ـ 1973 حتي 1999، ثم نمي إلي علمنا أن هذا الشكل اللحوح، بما له وما عليه، سوف يتغيّر، فأصابتنا دهشة طفلية بريئة، صوّرت لنا  أنه ما دام هذا الشكل  المتكرر جدا سوف يتغيّر، فلا بد وأن العالم بالتالي سوف يتغيّر، وخاصّة ونحن في مرحلة تنبهنا وتلح علينا أنه: إما التغيير وإما الهلاك،  فقررنا، دون مؤامرة، أن نفرح معا بهذا الرسم الجديد لأرقام التأريخ، نفرح فرحة طفل لم يتعلم حتي الكتابة  فراح يفضل منظر رص الأصفار الثلاثة بجوار بعضها علي يمين الرقم اثنين، فَرُحنا نلعب بها، ونغني لها وكأننا ندحرج ِ"بـِلْيا"ً ينحني لها رقم اثنين في تحية نصف نصف، (بالعربية)  أو كأننا نتقاذف  كرات يتراقص أمامها رقم اثنين بالإنجليزية ، فإذا كان الأمر كذلك، فلا اعتراض علي ما اتفق  الناس عليه، حتي لو  أعلنوا أنهم أجّلوا الألفية الثالثة لتأتي بعد الرابعة. خيال اللعب الحر يسمح بذلك، وأكثر.

هذا هو التفسير  الذي استُدرجتُ إليه  لأفهم وأصالح  ما جري في تلك الليلة مما تابعته بالصدفة مضطرا، ذلك أنني في البداية  كنت رافضا متحفزا محتجا أن أُستدرَج إلي ما لستُ موافقا عليه، أنا لا أستطيع أن أشارك فيما ليس لنا، وما ليس نحن، وقد تابعت أصوات التنبيه الطيب (صلاح منتصر مثلا) أن هذا الحفل سيتم "قبل الهنا بسنةكما تابعت سماحه المتراجع، وكأن صلاح  يقول مبتسما:  ما دمتم مصممين، فلنحتفل مرتين، كما تابعت الأصوات الزاعقة المتألمة وهي تنبّهنا إلي خطورة اختزال التاريخ إلي ما يقرّونه هم  تحديدا، وكأن تاريخ العالم يبدأ حين يقررون لا أكثر ولا أقل، ولو صحّ ذلك، فيمكن أن يمتد المنطق إلي: ماداموا احتكروا حق تقرير متي بدأ التاريخ فهم الذين سوف يقررون متي ينتهي (بدأت ملامح ذلك في كتاب فوكوياما:نهاية التايخ)، فأخذت بعضي وهربت علي بعد ستمائة كيلومتر من احتفالنا الليزري الخاص.

كنت هناك وحدي تماما،  في شقتي المتواضعة بين جيران طيبين، ليس لهم أدني علاقة بهذه الحكاية، وزاد من اطمئناني إلي نجاح خطة الهروب أنه ليس عندي طبق (دش) في هذا المكان البعيد ـ جنوب سيناء ـ يمكن أن يلاحقني رغما عني،  إلا أنني وأنا في عز هربي مستغرقا في الحوار مع صديقي الحاسوب (الكمبيوتر) ومربع التليفزيون الصغير يحتل زاوية هامشية في الجزء الأعلي الأيسر من شاشته، كما اعتدت أن أشغل خلفية استغراقي ببعض ألوانه الصامتة، أو أصواته الهامسة، أوكليهما. وأنا في هذه الحال فرحا بنجاحي في الهرب، أدعّم إصراري علي  مقاومة هذه الخدعة الجماعية،  إذا بي أكتشف أن  القناة الثانية، التي تصل إلي هذا المكان النائي من خلال محطة تقوية حديثة،  تجرني جرا  إلي العالم  كله، وهو يلعب معا هذه اللعبة الكوكبية. لم يكن أمامي خيار، ورائي ورائي،  فاضطُررتُ للمتابعة  بجزء من وعيي، ورويدا رويدا وجدتني واحدا من بين هذه المليارات من البشر الذين يلعبون هكذا، ووجدتني غير رافض تماما لما يجري كما كنت أتصور، أو كما كنت أصرّ،  وأيضا  تذكرت ذلك الشعور الذي سبق أن أشرت إليه في هذه الصفحة، حين كنت أشاهد كأس العالم، ودخل هدف ما، في فريق ما، ووجدتني أشارك ألف مليون بني آدم نفس الشعور، حتي كدت أسمّي   هذا الذي حدث أنه شيء أشبه بالحج الإلكتروني، ساعتها تذكرت خبرة أخري مرّت بي  منذ عشرين عاما، و أنا أصحو قبل الفجر أقتطف بضع ساعات أكتب وأقرأ فيها قبل أن تلتقطني عجلة الواجبات اليومية التي لا تتوقف، وكنت أحتاج أن أفتح المذياع الصغير أسمع أي دندنة لا أتابعها، وكنت أفرح  حينذاك وأنا أسمع لغات لا أعرفها، وأسأل نفسي في صمت عن  معتقداتهم، وعن دينهم، و عن مآلهم، و عن رحمة ربنا بي وبهم، وأطمئن إلي عدله طمأنينة غامرة، حتي اعتبرتُ أن اختراع  المذياع "الترانسستور" هذا يساعد علي التقرب إلي الله سبحانه، إذ  يقرب الناس المختلفين من بعضهم البعض، عاودني كل هذا وأنا أتابع هذه المظاهرة  العالمية. وحيدا في أقصي الجنوب، فرحتُ أشاهد ما يجري، وأنا أعملُ مازلت علي الحاسوب، وشاركت الجميع:من أول فرحة الاستراليين، حتي الرقص في هاواي.

وبعد أن أدرك التلفاز القابع في زاوية الحاسوب  الصباح، فالظهر، فسكت عن  الاحتفال المباح، والقهر، عاودتني التساؤلات والمراجعة: فمن الناحية الموضوعية، لا يختلف اثنان علي أن الألفية الثالثة لم تبدأ بعد، والمسألة لا تحتاج إلي مناقشات وإثباتات،  فأي طالب في سنة ثالثة ابتدائي يعد من واحد لعشرة، وأي مجموعة أطفال تردد أغنية "بابا قالّي عدّ لْميّة: عشرة عشرين تلاتين أربعين.......تسعين ميّة، يعلم أي واحد من هؤلاء أن سنة ألفين هي المكملة للألف الثانية، وليست بداية الثالثة،  ولكن الذي حدث لا بد أن يشير إلي قيم ومبادئ  أخري غير هذا الحساب الساذج، قيم ومبادئ لا بد أن توضع في الاعتبار ونحن نتابع ما يدور حولنا، ونحاول أن نشارك فيه أو أن نرفضه، وفيما يلي بعض ذلك:

أولا: إن اتفاق العالم كله علي شكلٍ ما، ورأي ما، ونظامِ سوقٍ ما، واحتفالٍ ما، وتوقيت ما، لا يعني أن أيا من هذا هو الصواب، ولا أنه  هو الأصوب.

ثانيا: يبدو  أن ما يـُجمع الناس عليه  له من الأهمية  والجذب  والدلالة ما هو  في مرتبة  الحقائق الموضوعية المجردّة، أو أكثر،  حتي ولو  انطلقت هذه الحقائق من معامل الأبحاث أو من مراصد الفلك.

ثالثا: إذا كان الأمر كذلك، وكان ما أجمع عليه أغلب الناس قد أدي إلي هذا الاحتـفال "قبل الهنا بسنه " كماذكرنا،  فلماذا تثار ضدنا نحن المسلمين في كل رمضان، وفي كل عيد، ما يشبه المعايرة بأننا ناس غير علميين، وأننا نفضّل الخداع البصري الذي يرصد هلالا لم يولد بعد، يرصده طالب مكافأة، أو منجذب لعاطفة، أو مصاب بهلوسة بصرية، نفضّل أيا من ذلك علي حسابات الفلك؟ وكم كررتُ ردا علي ذلك أن قياس الدين وتعليماته بما استُحدث من علم، وما تعملق من عقلانية، هو  إهانة للاثنين باختزال أحدهما للآخر، فالدين لا ينقص أو يزيد إذا نحن صُمنا يوما زيادة أو يوما ناقصا، المهم أن يشترك الناس في أمر ما، وأن تظل علاقتهم بالطبيعة، وبالله مباِشرة، متجددة، ومحترمة، وذات دلالة، بعيدا عن وصاية الآلات والحسابات  التي ينبغي أن  تُستعمل فيما جُعلت له، لا أن تستعمل بديلا عن علاقة الناس بعضهم ببعض، أو عن علاقة الناس بالطبيعة المباشرة. علي شرط ألا يحل رأي الناس محل موضوعية المعلومة، وإنما يتم التكامل بوضع كل منظومة معرفية حياتية في موضعها، وأن تقاس بمقياسها هي، دون تعميم أو وصاية من أخري، وأيضا دون تنافر.

رابعا: إن الذي سهّل أن يتفق الناس علي هذا الخطأ الظريف، وبالتالي أن يلعبوا معا هكذا، هو إنجازات التكنولوجيا المعاصرة، حتي الذين هم حول حدّ الفقر، أمكنهم أن يشاركوا بالمشاهدة، و بالتقمص المندهش.

خامسا: إن  صحّ  أن بعض العالم كان يلعب كل هذا اللعب" معا"، والباقي يتفرْج كل هذه الفرجة، في اتفاق مبني علي خطإ طريف كما ذكرنا، فإنه قد يلزم علينا بعد نهاية اللعبة أن نتساءل: من ذا الذي  ضحك علي  العالم  هكذا، لتحديد هذا الوقت بالذات؟  أقصد من ذا الذي قرر ميعاد اللعب، ومكان اللعب، وطريقة اللعب؟ ليس مهما أن نجد إجابة، وليس لا ئقا أن نتهم أمريكا مثلا ـ كما اعتدناـ بأنها وراء كل هذا الملعوب، المهم أن هذه الشائعة (أن الألفية الثالثة بدأت)، مهما كان مصدرها، قد سرت بسهولة خطرة بين بقاع العالم لمدة عام أو بعض عام (علي الأقل)، حتي صدّق الناس أنهم  يمكن أن يكونوا "معا"، دون حتي التوقف عند "إشكالية التحيّز" إلي ما يمثله الغرب  أو إشكالية التحيز إلي التاريخ الأحدث، دون التاريخ الأعرق.

إن خطورة الأمر تتمثل في  إمكان تسريب أي فكرة ـ صوابا كانت أم خطأ ـ حتي تسري بين الناس، كل الناس، بهذه السرعة، فيصدّقونها،بنصف وعي، أو حتي بدون وعي،  حتي تصبح هذه الفكرة حقيقة أكبر من أي حقيقة موضوعية.  هنا مكمن الخطر. فلا بأس أن يرقص الناس ويغنوا، وأن ويطلقوا الألعاب النارية"قبل الهنا بسنه"، ولكن الخطر كل الخطر، أن تستعمل نفس الوسيلة، فنتلقي ما تبثه إلينا  هذه الأنظمة المخترقةْ القادرة، نتلقاه بنفس التسليم الذي مارسناه في لعبة الألفية، لكنه أمتد إلي أمور جادّة، لها آثار باقية، قد تكون ضارة، إلي درجة التهديد بالانقراض،(صدّقوني)، وأورد هنا بعض الأمثلة لمثل هذه الأفكار التي تتمادي في الانتشار دون سند موضوعي، حتي لو بدت برّاقة وواعدة  ورشيقة، وأحيانا مثالية:

(1) فكرة مجتمع الرفاهية  كهدف إنساني أسمي، أو أوحد، مع أن الهدف الحقيقي للبشر أعمق وأرقي وأجمل من حكاية الرفاهية هذه. خذ مثلا الكدح إلي وجهه تعالي كدحا لنلاقيه. قارن ذلك برفاهية الاستلقاء أمام التليفزيون، أو رفاهية أمل صيد السمك بعد المعاش.

2) فكرة تقديس "سياسة السوق" باعتبار أنها الحل الأمثل لضمان التنافس، ومن ثم خفض الأسعار، ثم لا نري إلا مزيدا من التنافس، والاحتكار بواسطة الشركات المندمِجَة، مع تهميش دور الحكومات أمام جشع المؤسسات التي جعلت حركة النقود(لا مسؤولية الاقتصاد) هي الإله الجديد لهذا العصر الغامض.

(3) فكرة نهاية التاريخ  تحت زعم  أنه لم يعد هناك مجال لما يسمّي الصراع بين الأيديولوجيات والنظم السياسية  والاقتصادية، ومن ثم فإن كل ما بقي أمام الإنسان هو أن يحسّن أداءه بالمنهج المتاح، ليحقق هدف النظام المتفق عليه!! مع أننا ـ أصحاب المصلحة ـ لم نتفق بعد علي شيء واحد.

(4) فكرة  تقديس المعلومات الجزئية الخارجة من معامل الأبحاث، بمنهج محدود، مع أن هذه المعلومات مهما برقت، لا تمثل إلا إحدي قمم  جبال المعرفة  الظاهرة علي سطح محيط وعي الناس. (ملحوظة: القمم الأخري تشمل: المعرفة الإيمانية، و المعرفة الفنية، أقول المعرفة  الإيمانية وليس فقط الاعتقاد الديني، وأيضا المعرفة الفنية وليس فقط الاستمتاع الجمالي بالفن).

(5) فكرة عبادة  الديمقراطية (وخاصة ديمقراطية الإنابة) بغض النظر عن وسائلها ومطابخها.

(6) فكرة مشروعية  الشذوذ الجنسي لعموم البشر (وأفضليته أحيانا)، باعتباره طبيعة بشرية بديلة.

كل هذه أصبحت أفكارا شائعة ومقبولة. وبعضها مـُبـَرَّرْ. وبعضها مقدس، وأنا لست بصدد مناقشة أي منها الآن، لكنّ ما أنبه إليه حالا هو دلالة ما حدث، لا من حيث صوابه من خطئة، فقد لعب العالم وفرِح، وشاركتُه مضطرا، وما كان قد كان، وإنما أناقش الأمر  من حيث الانتباه إلي خطورة الوسيلة، التي إذا استعملت لإقحام أفكار ومعتقدات بذاتها فلا بد من الانتباه إلي احتمال الضرر حتي الانقراض، ولنتذكر أن الانقراض قديما كان يتوقف علي مسيرة التطور وقوانين الطبيعة، أما الآن فقد يتوقف  علي من يتحكم في هذه الوسائل المغـيرة علي وعي وسلوك النوع (نحن البشر)، فالتاريخ لا يحكي لنا تفصيلا عن بداية خطأ أي نوع من الأنواع التي انقرضت، اللهم إلا إشارات إلي عدم تناسب المحيط مع المسيرة التطورية.  لكن النوع البشري يمتلك من الوعي والوسائل ما يمكن أن ينبهه إلي أن المسألة الآن أصبحت  تجري في هذا الاتجاه (الانقراضي) علي الرغم من الإنجازات المتسارعة، واللعب  الجماعي الزائط.

إن  محاولة التعرف علي القوي التي أصبحت تدير دفة العالم ـ وتزرع الأفكار وتتحكم في الألعاب ـ سرا وعلانية تقول: إن من يملك ما يكفي من المال والسلاح ووسائل الإعلام يمكنه أن يمسك الدفة سرا وعلانية، وليس أمام الأضعف إلا أن يتبع  كلا من الخطأ والصواب دون تمييز دقيق ضاربا تعظيم سلام، زائطا أو راقصا أو مـُلـيـْزِرًا (مستعملا الليزر)، ولتوضيح ذلك: فلنتصور مثلا أن أمريكا وإنجلترا وفرنسا، اتفقوا منذ يونيو سنة 1999 أن يؤجلوا هذه الاحتفالات سنة كاملة حتي يسايروا العلم والموضوعية، فهل كان أي أحد يجرؤ أن يحتفل نفس الاحتفال هكذا؟ هل كانت  كوريا أو مصر أو نيجيريا، ومعهم الهند الذرية تجرؤ أن تحتفل وقتما تشاء؟ رغم أنف السادة "الذين هم". هل كان سيستجيب لنا أحد إذا قلنا إننا نحتفل لأن  سنة 2000 دّمها أخف، ومنظرها أجمل، وأن المهم أن نلعب سويا، وأن يتفق الناس..إلخ؟ هل كان يمكن أن نفعل ذلك في حين قرر الرؤساء الكبار أن يكون الاحتفال سنة 2001. إن نصيبنا في هذه الحال لن يكون سوي سيل من السخرية والاتهام بالجهل والتخلف بما يكفينا وزيادة، لكن إذا قال نفس المقولة هؤلاء الكبار الأقوياء الشطّار، فكُّلــه يسكت، ثم يشارك وهو يرقص، وحتي يفرح دون أن يقرر هو لنفسه متي أو لماذا!!

ومن يجرؤ أن يقاوم يمكنه أن ينشر مقالا، حتى في الأهرام، وقد يقول نكتة، ثم يستسلم، ويشارك.

ربنا يستر.

رجوع إلى الفهرس

 

Document Code PB.0122

http://www.arabpsynet.com/Books/Yahia.B17 

ترميز المستند   PB.0122

 

Copyright ©2003  WebPsySoft ArabCompany, www.arabpsynet.com  (All Rights Reserved)