Arabpsynet

Livres  / كتــب /  Books

شبكة العلوم النفسية العربية

 
هيـا بنـا  يـا جـدي نلعـب مثـل أمـس

أ.د. يحيى الرخاوي

أستاذ الطب النفسي بالقاهرة - مصر

E.mail : yehia_rakhawy@hotmail.com

 

q       فهــرس الموضوعــات /  CONTENTS / SOMMAIRE 

 

§         الجزء الأول

§         هيا بنا نلعب يا جدي مثل أمس  (النص الكامل / Full text)

§         رواية : متتالية قصصية (النص الكامل /  Full text)

§         الجزء الثاني (النص الكامل /  Full text)

§          زووم (النص الكامل / Full text)

§         حقيقة ما حدث (النص الكامل / Full text)

§         المضيفة  والطفل (النص الكامل / Full text)

§         الحلقة والمضرب (النص الكامل / Full text)

§         العجوز والخيط (النص الكامل / Full text)

§         اليقين (النص الكامل / Full text)

§         مقعدان (النص الكامل / Full text)

§         محاولات (النص الكامل / Full text)

§         عربي والثقب الأزرق (النص الكامل / Full text)

§         انتظار (النص الكامل / Full text)

§         خدش الظلام (النص الكامل / Full text)

§         براءة!! (النص الكامل / Full text)

§         حرية (النص الكامل / Full text)

§         إغفاءة (النص الكامل / Full text)

 

q       تقديــم الكتــاب / PREFACE

 

إهداء   إلي روح المرحوم"عم سيد عطوة"

لماذا الأعمال المتكاملة  ؟

 عجزتْ أداة واحدة أن تستوعب "القول الثقيل " الذي حمّلتنى إياه رؤيتي، من خلال الجدل الحي بين ذاتي ومرضاي ودنيأي، فلجأتُ إلي كل ما أتيح لي من أنغام وأشكال، لكنني لم أكتب إلا مسودات، لذلك كنت  أنوي أن يكون العنوان"الأعمال الناقصة" وخاصة أن ترجمة  Collected worksأو  Collected papers  هي "مجموعة أعمال" أو "مجموعة أوراق" فلان، الأمر الذي لا  ينبغي أن يسمى كذلك أو ينشر بهذا الاسم، إلا بعد أن يكف صاحبها عن العطاء، أو عن الحياة.

 ثم قبل ذلك وبعد ذلك: هل يكتمل شيء أبدا؟

وحين آن أوان الحسم، قررت أن تخرج كل المحاولات كما وصلتْ إليه، ولتكتمل بعدُ أو تتكامل مع غيرها. فكان هذا العنوان "الأعمال المتكاملة"  أملا في أن يكون  جمّاع المحاولة هو "توجُّهٌ ضام،  حولَ محورٍ ما".

 يحيى الرخاوى

  

  • مقدمة

هذه المجموعة هي ما استطعت إنقاذه من كتابات كنت أحسبها  في عداد ما يسمّى "القصة القصيرة"،، نُشر بعضها، وترددتُ في نشر الباقي إلي آن أوان المغامرة لتكشف عما لم أستطع الرحيل دون إعلانه.

وقد حاولتُ أن أصنفها مسلسلة تاريخيا، فلم أجد التاريخ مثبتا في كثير منها فضلا عن أن تاريخ النشر غير تاريخ الكتابة بداهة، فعدلت علي الرغم من نصيحة من بعض أهل هذه الصناعة، وعلي الرغم من دلالة ذلك في تطور الكاتب.

ثم إنى لاحظت أنها يمكن أن تتجمع في جزأين:

الجزء الأول هو ما غلبت فيه خبرة شخصٍ ما (ليس الكاتب بالضرورة، وإن كان يمكن أن يكون هو )، ووجدت أنها إذا  قرئت في نفسٍ واحد بدت وكأنها "رواية مستعرضة"، إن صحّ التعبير، أو هي "منتالية قصصية"  في  لوحات متجاورة

 ربما.

 أما الجزء الثاني فقد تمثلّ لي في لوحات أخرى ذات حضور مستقل، رحت أقترب منها وأبتعد وأعيد النظر حتى أسميتها  "زووم"

والآن، أشعر أنني مدين للقارئ باعتذارٍ ما، لا مبرر له.

وبالتالي: فلن أقدّمه  .

 

q       ملخصــات  /  SUMMARY / RESUMES 

 

§          الجزء الأول

 [متتالية قصصية]

  [1] هيجل

 

ـ 1 ـ

   عاد قرب المغرب وهو ينفخ دون سبب ظاهر، سأل عن الأم فوجدها في الخارج دون أن تحدد وجهتها، جلس علي طرف المائدة وحيداً، كشف عن الأطباق المغطاة وراح يأكل دون تمييز وهو ينظر إلي ابنه في أقصى الصالة وهو يُعد واجباته المدرسية في حماس واهتمام، كان الولد قد بدأ مؤخرا يلتزم ويستقل ويواصل التقدم كل"فترة"، وكل عام، حتى أصبح قريبا من أن يكون أوّل فصله بكل جدارة، لم يفرح لهذا الخاطر الذي طالما انتظره وأمل فيه، بل راح يتذكر كل الأوائل الذين كانوا معه في الدراسة.

ـ 2 ـ

 قابل منهم أخيراً ذلك الطبيب المشهور، فتطرق الحديث فاترا طيبا  أطلّت من خلاله ذكريات لا لزم لها ، فلم يرد الطبيب قيمة الكشف، هل هذا هو الفتى  الذي كان  موضع أنظار الزميلات، تراخى جسده حتى ليعجز أن يحيط بمحتواه، ولا بد أن عقله قد تبعه، أو لعل العكس هو ما حدث،  طالما شعر بالنقص الذي كان ينتابه عند المقارنة بين إمكاناته المتواضعة في الدرس والبنات، وبين تفوّق صاحبه هذا الذي صار طبيبا جدا في العلم والجاذبية  معا، راح ينظر إلي ما آل إليه جسده  وحسه جميعا، فاقترب منه همسُ شماتة، فأنكره، هذا الطبيب الزميل لم يكن يكف عن التنافس فإن لم يجد من يتنافس معه تنافس مع نفسه، يبدو أنه ما زال يتنافس وإن اختلفت التفاصيل، تُرى مع من يتنافس هذه الأيام في هذا العمر؟

وعلي الرغم من الفتور السائد وضيق الوقت فقد ذكر له الطبيب الأشهَر عدد العـُمـْرات التي عملها هذا العام، كما سأله حين علم أنه مُحاسب وله  زبائن يتعاملون في البورصة التي لم يألف لغتها بعد عن أي الأوراق أضمن، هو لا يتوقف عن العدّ  واستعمال أفعال التفضيل، لابد أنه سجـّل مضاعفات الركعات: سبع وعشرين ضعفا، مائة ألف، ولا بد أنه حسب كيف  يمكن أن تعوّض تلك الأضعاف الصلوات المتروكة، والمخطوفة،  التي يؤديها غالبا بنصف وعى.

ـ 3 ـ

عاد ينظر إلي ابنه في شكٍّ رافضٍ واحتار:

حين كان الولد بليدا كان يقيم الدنيا ويقعدها حتى يتقدم في الدراسة، وحين تقدم في الدراسة هاجمته خيبة أمل متوقعة وتذكر زميله الطبيب الأشهر.

إذن ماذا؟

ـ 4 ـ

انتهى من غذائه دون أن يدرى، وكان عادة يتصفح الصحف أثناء تناوله طعامه فلا يستطيع أن يميز بين البازلاء من القلقاس، ولا يعوقه من ممارسة هذا النشاط المزدوج إلا طبق ملوخية يحتاج إلي درجة من الانتباه تسمح بلف اللقمة عدة مرات حتى يتقطع "العرق"، أما الآن فالملعقة تمسخ  طعم الملوخية، وعادة ما ينتهي الأمر إلي الإمساك بالطبق من كلتا الناحيتين، بكلتا يديه، لا حبّاً فيه، ولكن من باب العجلة العاجلة. في هذا اليوم  تساوت عنده  ـ أكثر فأكثر ـ الأطعمة والأمور والعادات والأخبار السياسية وصفحة الوفيات  وصفحة الاجتماعيات . ثم نسيها جميعاً، كما نسى أيضا أنه نسيها، ولم يأكل سوى ما هو جاف جاهز بما تطوله يده وهو مستغرق في القراءة، وكأنها هي .

هو مازال يصرّ علي هذه العادة .

ـ 5 ـ

توقف فجأة وهو يمر بابنه دون أن يقترب منه، وسأله عن مكان بقية صحف اليوم، بادر الولد بأنها علي المنضدة بجوار الباب وأنه سيأتي بها حالا، وهـّم أن يقوم لإحضارها، لكن يدا حازمة ربتت عليه بشدة غير مناسبة، ثم تدافعت الأمور علي غير توقع، هكذا:

-        وأنت؟

-        نعم يا والدي؟

-        الصحف؟

-        أُحـْضـِـُرهم حالا؟

-        لم تقرأهم، أليس كذلك؟

-        فعلا

-        وأمس؟ هل قرأت صحف الأمس؟

-        كلا

-        وأول أمس؟

-        ولا أول أمس.

قالها الصبي وهو يتدرج في مراتب الحيرة والتوجس والخوف معا،  انفجر والده يسب ويلعن الصحف والأولاد والحكومة والمهندسين، والتجار وخاصة شقيق زوجته، وزوج شقيقتها، وشقيقته نفسها، وابنها الشاطر في الشطرنج والكرة الطائرة معا. أولئك الأوغاد الذين يعيشون فيها "كالمهاجرين"، أليست هي بلدهم أيضاً؟

لم يستطع الولد أن يتابع كل ما لم يسمع، فوالده لم ينطق بكل هذا السباب .

راح الولد ينظر لوالده، منتظرا تحويل الفوهة إلي ما يخصه هو، لابد لهذا الموقف أن ينتهي.

هدأ الرجل بسرعة غير متوقعة، واستدار مبتعداً.

ـ 6 ـ

أفل راجعاً قبل أن يغلق عليه باب حجرته، عاد مندفعا وكأنه تذكر شيئاً هاماً، وكأن أصل كل ما حدث هو في ذلك الشيء الهام، سحب كرسياً وجلس بجوار ابنه  علي الأريكة، ووضع جسمه في هيئة استعداد متنمر، حتى أحس الولد طعم موت بارد علي وشك أن يغمره

 قال الرجل في نبراتٍ واضحةٍ وببطء مرعب:

ـ هل "تعرف" هيجل؟

خاف الولد أن يرد بالنفي مثلما رد سابقا، كما خاف من الكذب علي حد سواء، وتيقن أن الموضوع "هكذا" لن ينتهي علي خير، إذ لابد أن يتفتق عن إهمال، أو تقصير، أو تجاوز، أو ما يرى والده مادام الأمر هكذا بهذه الصورة الحاسمة القابضة علي مجهول، فانبرى الولد مدافعاً :

ـ ليس "علينا" هذا العام.

- ولن يكون عليكم في أي عام.

راح الولد يتحسس أي ثقب نجاة وهو يحاول أن يعتذر عن ذنب لم يقترفه، وهو لا يعرفه أصلا.

ـ علينا أم ليس علينا؛ كل ما تشير به حضرتك هو علينا، حضرتك أدرى، حضرتك قل لي وأنا أنفذ، أحفظه عن ظهر قلب، فقط قل لي قبلها، وسوف

قاطعه الرجل متحسراً:

ـ أقول لك ماذا؟

ـ أي شيء، هذا الاسم أو غيره، أو أي أحد، وسوف أفعل كل شيء، فقط قل لي.

قال الرجل في نفس الهدوء الواثق الحاسم:

ـ كل ما في الصحف كذب ونفاق وتلفيق، هل تعرف ذلك؟

قال الولد وهو لا يدرى إلي أين يذهب به الرد:

ـ هكذا تقول حضرتك باستمرار، نعم، هو كما تقول حضرتك.

قاطعه أكثر حسما:

ـ أعرف ردّك هذا، توقعتُه بالحرف، عذر أقبح من ذنب،  لابد أن نقرأها يوميا، نستعين علي ما بها بالصبر والعناد والاستمرار علي الرغم منها، نعم، كل يوم، صباح كل يوم تال، صباح كل يوم بعد التالي، الآن فهمتُ لماذا قال هيجل إن قراءة الصحف اليومية هي صلاة الإنسان المعاصر، بل إنها في أيامنا هذه هي الجهاد الأكبر، لابد أن نقرأها ونحن نعرف أنها لا تستحق القراءة، ولا ينبغي أن تصدر أصلاً.

لم يعرف الولد ماذا يخصه في كل هذا، كان أبوه يكلم نفسه بصوت عال، ولم يحاول الولد أن يستبين أبعد مما يخصه، مع أنه لم يستطع أن يميز ما يخصه مما لا يخصه. ارتعد وهو يسمع نفس الإسم الغريب من جديد،  ـ "هيجل" ـ فالتقط من كل ذلك كلمة "الصلاة" فلاحت له انفراجةٌ، لعل وعسى

- أنا أصلي يا والدي بانتظام، وحضرتك تعرف، أنني أصلي كل الأوقات.

ـ 7 ـ

أفاق الرجل فوجد نفسه متلبسا، كاد يأخذ رأس ابنه في صدره يعتذر له، تراجع في آخر ثانية، وصله من داخل نفسه نشيج مكتوم، فخاف أن ينتفض جسده أمام ولده، دون أن يلحظ، تمنى  لو أن ثمة وسيلة للاختفاء دون حركة، حاول أن يشير أية إشارة، أو حتى أن يقهقه، يريد أن يزعم أنه كان مزاحا لا أكثر. حاول أن يبدأ أي حديث آخر، هل يقول له إنه كان يختبر أعصابه؟ هل يلفق له رواية تفسر بعض ذلك، كأنه سمعها في المكتب فحاول أن يمثلها معه.

الثقل يزداد في الساقين واللسان علي حد سواء، فتمنى أن يكون كل ذلك حلماً.

 

ـ 8 ـ

حين عاد آخر الليل، اتجه إلي سرير الولد مباشرة، فوجده نائما ينتفض.

انحنى عليه يهم بتقبيله، تراجع في آخر لحظة خشية أن يستيقظ فيفزع، أو يتذكر، أو يسأل.

وحين هم  أن ينسحب في هدوء لم ينتبه  إلي تلك "الدمعة" الدافئة التي سقطت علي خد النائم. وحين تنبه لها بدرجة كافية، لم  يحاول أن يمسحها، ولا أن يمسح لاحِقَتَها عن خده هو.

 

(2) رشفة  ورشفة

 

ـ 1 ـ

قالتْها بحكمة رصينة وهى تهز رأسها بما يفيد الذكاء والتواضع معا، وكان هو يرتشف قهوة الصباح ـ السريعة الذوبان باللبن ـ قبل الانطلاق إلي الدورة اليومية المغلقة،  قالت وهى تنظر في الصفحة قبل الأخيرة في الأهرام وقد جللها السواد رغم الإعلانات المبروزة، قالت:

"لو أن الناس نظروا إلي هذه الصفحة بواقعية وفكروا، ما تعب  أحد منهم قط".

فارتاح إلي اللهجة الوديعة، وأحس بالمسافة تتلاشى بينه وبينها، ودبت الحياة في كل الخلايا، فبدت قريبة حبيبة.

نبضَ وتهدّج، وانتشى، وتحفـَّزَ، وترك نفسه وهمس بلا صوت:

"لستُ وحيداً".

ـ2ـ

أزاحتْ الكوب جانبا بعد أن أكملتْ ما تبقى فيه، وتنهدت، ثم انطلقت  تصف إحدى القريبات: بالحقد، والخيانة والانتهازية، والطمع، والبله، وقصرالنظر.

وسوستْ له نفسه، لكنه ربط بين الأول والآخر من بـُعـْدٍ خاص، وُخـّيـل إليه أنه تخطى التناقض الظاهر إلي حل محتمل.

ومشى الحال.

ـ3ـ

طلبتْ منه بقية ثمن الصالون الذي جددته بغير مناسبة، فأطرق غير معترض، اجتهد ليعود إليه الأمل، مع أنها مضت فجمعت حساب إصلاح السيارة، وتغيير الستائر، وطلبات المطبخ، وعيد الأم، أخذ يرصد تراكمات الغيظ المتصاعدة داخله، فقرر ألا يستسلم لتمام خيبة الأمل، كما قرر ألا ينفجر. دفع كل ما طلبته صامتا ولم يمنعها ذلك من أن تستمر في نفس الاتجاه، فتذكـَّر بإرادة واضحة، وفائدة مؤكدة، أن رزقه يتزايد بسرعة أكثر من تزايد مطالبها، ومع ذلك لم تستمر الفائدة في اتجاه يقلل من غيظه إلا قليلا، عاد الغيظ وقد أصبح شيئا آخر أقل تحديداً، عاد يهجم عليه من كل اتجاه.

تصاعد النقاش، واحتدّ حتى صاحت فيه:

" أنت لا تفهمنى، ولن تفهمنى، ويبدو أننا لن نلتقى أبداً."

صدّقها كما لم يصدقها من قبل.

ـ4ـ

حلّ موعد خروجه "فجأة"، فتنهد كمنْ أُنقذ، واستأذن معتذراً.

ـ5ـ

ترك محرك السيارة دائراً حتى تسخن، وراح يدور حولها يمسح زجاجها، وحين رد عليه تحية الصباح خفير البناية المجاورة "تحت التأسيس" ودعاه "أن يتفضل" (مجاملة أو من قبيل العادة) قـَبـِلَ الدعوة دون تردد بما أدهش الخفير وأدهشه شخصياً.

ـ6ـ

جلس علي الأرض بجوار الغفير مسندا ظهره للحجرة المقامة من الطوب المرصوص وألواح الصفيح، متجاهلاً وقع المفاجأة.

 أخذ ينقل نظره بين كوم الأطفال تحت السقف الصفيح، وبين ملامح زوجته التي تراءت له خلف نوافذ الفيللا المغلقة، فلم يكد يتعرف عليها في خياله، ثم لفت نظره طول سيارته تحت التسخين فتعجب وكأنه يراها لأول مـّرة.

 ما لزوم  كل هذا الطول ؟

ـ7ـ

عاد يرتشف الفقاقيع المتجمعة علي سطح الشأي الأسود اللزج مثل مربى التوت الأسود، فاختلط طعم المرارة بالسكر المعقود بالصدأ بالهباب، فاكتشف مذاقاً ونكهةً لهما مضمون جديد.

فرح أنه لم يجد لهذا المذاق اسماً في قاموس العواطف، والتجارة، والسياسة، والحكمة، والأشياء.

 

[3] سرطان

  

ـ 1 ـ

 قررتُ ألا أذهب.

كم ذهبت، وكم باركتُ، وكم حضنتُ، وكم قبّلتُ، وكم تلقيتُ القبلات، بقايا القبلات اللزجة تستمر معى وقتا، أحيانا يعود ملمسها حين تهبّ علي تهديدات مثلها، هذا الصباح، وأنا أغسل وجهى، شعرت بدهننةٍ ما حين تذكرتُ "الدعوة".

لم أعد أستطيع، لم يعد ممكنا، ومع ذلك فلا يكادون يلوّحون لي  حتى أعد أقنعتى السبعة أخفي بها أفواه الجوعى في الداخل، هذا الصباح أيضا، شعرت أن نداء الأفواه قد فاق سـُمك الأقنعة حتى كاد يفضحنى أمام المرآة.

حين أُضطر للذهاب  أروح أبحث عن شيء لم يـَعدنى أحـٌد بتقديمه، بل لم يُشِر أحد أصلا إلي وجوده، ، وبديهى أنى لم أعثر عليه أبدا.

 صعبٌ كل هذا، صعبٌ ويزداد صعوبة.

 وحين تيقنتُ أنى لم أعد أحتمل  قررت أن الأسلم هو أن أصبر. أنا لست قدر الاستسلام ، ياليت.

 قررت  ألا أذهب.

 تمنيت (كالعادة) أن يضغطوا علي حتى أذهب، لكن أحدا لم يفعل ذلك: احتراماً لرأيى، وتقديراً لتعقلي، وفهماً لحكمتى، وتوفيرا لوقتى، باعتبار أنى لا أحب "هذه المسائل"، من أدراهم هؤلاء ماذا أحب وماذا لا أحب؟، ثم من أين لهم تحديد هذه المسائل من تلك؟ بل من أدرانى أنا؟

ـ 2ـ

قررت أن أذهب.

 كيف السبيل؟

لا يمكن أن أسمح أن أبدو لهم أبلها عديم الرأي مهزوز الموقف،  الوقت يمرّ يثـّاقل علي وعيى حتى يكاد يوقف حركةً كنت أحسبها لا تتوقف، فأزداد عجزا عن القراءة، أروح أستنقذ بالقلم.

الكتابة تربطنى باللحظة، تجذبنى إلي الصفحة حتى لا أتشتت، يخذلنى القلم، ويشمت الورق، الموسيقى الصامتة تزداد صمتا، تتداخل الحروف تتخلل السدود فتُطِل الأفواه الجوعى من الداخل فتتباعد الأقنعة أو تشفّ، فأتخلخل، فأخاف، وأحتاج أكثر فأكثر إلي أي قدر من دفءٍ بشرىٍّ ما.

 أزداد عناداً فيقظة رغم بطء الإيقاع وكثافة الهواء.

لو أن ابنى رجع ناسياً شيئاً فسألتمس مدخلاً للحديث لابد وأن يؤدى بى إلي اصطحابه، لو أن "هاتفاً" رن للاطمئنان أو السؤال أو الطلب أو حتى بدون سبب، فلسوف أجرجره في الحديث حتى يعاود دعوتى، ويلح، فيصر، فأذهب. لماذا صدَّقونى وأنا أعتذر؟ لماذا يصدقونى؟ أنا لم أقصد أن أشوه صورة الأحضان وقبلات الطقطقة، لم أعلن صعوبتى أبدا، أنا لم أدمغ أبدا طَرَبَ الطبل والرقص والغناء، أنا فقط كنت أصفها لنفسى؟ لم سمعنى أحد. قبلاتٌ وأحضانٌ، وأحضان وقبلات، وفيها ماذا ؟ وهم؟ مالهم؟  مالهم هم ؟ كل ذلك لا يعنى أنى أرفضها، هل يعرفون طبعى أكثر منى؟ هكذا يبدو الأمر، بمجرد أن  اعتذرتُ، قـِبلوا، بسرعة، وبكل تقدير واحترام!!!

 الناس طيبون، وأنا متورط، وعلي تصحيح الوضع إن أردت،

 وقد أردت:

أعرف الميعاد، والمكان، والطريق، وأعرف أنهم سيفرحون بقدومى بعد دهشة عابرة، بل قد يعتبرونه "تفضلاً" بل "تنازلاً"، ولسوف أدعهم يحصلون من خلاله علي إقرار ضمنى بأنى لا أرفض ما تصوروا أنى أرفضه.

 ولماذا أرفضه؟

ـ 3 ـ

نزلت من العربة بعد أن وجدت مكانا بالموقف خارج سور النادى، سارعت بنقد المنادى رشوة كبيرة وكأنى أرجوه بها ألا يعلن قدومى علي الملأ، أو كأنى أبعد بها نظراته الشامتة حتى لا يعايرنى أنى "قلت ورجعت". دخلت إلي الحديقة الآهلة بالأضواء، والعربات، والجنود، والورود، وسألت المنادى الآخر (أو لعله البواب) عن صالة الفرح، فأجابنى أن ثمة فرحين: الأول في الدور الأول، والثانى في الدور الثانى !! فأيهما أريد؟ فوجئت مفاجأة ضخمة وكأنى واجهت تناقضاً ليس له حل، وكأن احتمال وجود فرحين معا في نفس المكان والزمان هو المستحيل بعينه، مع أنى لاحظتُ من يومين اثنين وأنا أدور حول ميدان التحرير أن ثلاثة مآتم قد أقيمت معا في مسجد عمر مكرم، وفجأة تركنى الرجل عـَدْواً إلي سيارة تهم بالحركة فعلمت أنه المنادى لا البواب.

ـ 4 ـ

واصلت سيرى نحو الدور الأول، فقابلتنى باقات الورود الكثيرة وقد تناثرتْ في إهمال حول بئر السلم، وحولها يجرى أطفال في عبث صاخب، فقدرت أنها باقات فاضت عن القاعة، فاقتربت من إحداها أفحص البطاقة لعلنى أتعرف منها علي اسم صاحب العرس الأول في الدور الأول، لكنى ضبطت نفسى أفعل ذلك لأدارى وجهى وكأنى أعيد النظر في محاولة اختفاء جديدة، فاختلستُ نظرة من طرف عينى عبر الباب المفتوح فعرفتُ وجوها أعرفها، فسمعتُ صياحا مألوفا، فالتقطتُ قهقهقة مميزة، ها هم أولاءِ، وهذا هو العرس الذي أقصده، وبدلا من أن أطمئن للعثور علي بغيتى غرقت في موجة ربكة كنت قد نسيت نوعها، ارتبكت مثل طفل ذهب يشترى لأبيه شيئا لا يعرفه رغم أنه مكتوب في الورقة التي أعطاها له أبوه، وحين ابتسم البقال عند قراءة الورقة ، زاد ارتباك الطفل حتى كاد يبتل ـ فاقتربتُ أكثر من باقة الزهور أكاد أدفن وجهى فيها، فإذا بى ألاحظ أنها بلا رائحة. بلاستيك هذه أم زهور للإيجار؟ فوجدتنى بجوار بداية دَرَج السلم، فانطلقت عدوا صاعدا أربعا أربعا.

ـ 5 ـ

دخلت إلي العرس الثانى (في الدور الثانى) وأنا في حالة من الطمأنينة القصوى حيث غمرنى اليقين بأن أحدا لا يعرفنى، واستقبلنى أهل العروس ـ هكذا حدست ـ وكأنى من أهل العريس، وهكذا فعل أهل العريس، أو العكس، وفرحت فرحة قديمة أيضا حتى كدت أستمرئ اللعبة لولا أنى انتهيت قبل أن أتورط في الجلوس إلي مائدة محدودة الأفراد، إذْ ماذا لو كان بها ممثلون لكل من العروس والعريس معا؟ فدرت دورة كاملة وعدت أهبط الدرج مسرعا إلي الباب عابراً الفرح الأول حذراً من المطاردة، ولم تعد السكينة إلي ثانية إلا وأنا داخل السيارة أدير مفاتيحها دون أن تنشق الأرض عن شبح المنادى الذي يبدو أنه قد قنع بالرشوة الأولي.

ـ 6 ـ

استجاب المحرك بسرعة غير مألوفة رغم برودة الجو، فانطلقتُ وكأنى علي ميعاد محدد رائع مع شخص غير محدد وغير رائع، وما أن انحرفتُ إلي الشارع الرئيسى فجأة حتى اضطررت للضغط علي "الفرامل" تلقائىا قبل أن أتبيّن لماذا، فسمعت أصوات  أبواق السيارات خلفي كما تخيّلتُ اللعنات بوضوح كاف. رجّحت أن دواراً أصابنى، أو أنه عمى شبكى مفاجىء، وتمنيت ألا أكون في طريقى إلي فقد وعيى، استبعدت ذلك لأنى كنت أزداد في كل ثانية يقظة وعنادا بما لا يقاس. لاحت لي لألآت ساطعة وسط ستار الضباب فحسبتها ثريات الفرح وكأنى لم أنصرف عنه إلا في الخيال، ثم لمحت صفاء الجانبين، كذا صفاء الزجاج الخلفي في المرآة، فبدأت أدرك حقيقة الموقف ومددت يدى أتحسس الزجاج الأمامى فإذا به ينهار كالمطر الوابل المحمل بالثلوج الصغيرة، فقفزت فَِرحا من داخل الداخل، مخترقا الغصة والدهشة والربكة حتى نسيت ما غمر ملابسى وساقى من آثار المطر الثلجى المنهمر.

لماذا أسموه "سرطانا"؟ أبعد الاحتمالات أن يصاب زجاج بسرطان ما،  وهل يحدث السرطان هكذا فجأة ؟السرطان نمو خبيث وليس انهيارا منقضّا هكذا.  ولماذا الآن بالذات؟ السرطان هو زحف الموت الغادر.

  هذه النشوة المتفجرة ضد كل الحسابات ليس لها علاقة بالزحف أو بالموت .

ـ 7 ـ

 اكتشفت أننى لم أتوقف أصلاً رغم كل ذلك، فمازالت  السيارة تواصل السير، تخترقنى الريح الباردة فأخترقها، يصل هواؤها إلي النخاع فيلين بتفجر حبات البَرَدِ مطلقةً دفئاً غير متوقع، فأمد يدى إلي آخر مداها فلا يحول دونها شيء حتى خيل إلي أنها تستطيع أن تمسك بذيل السيارة التي أمامى، أو أن تلتقط بعض ضوء النجوم تفرزه من بين ثنايا الإنارة الصفراء المنبعثة من تلك المصابيح الباهتة القبيحة.

 

[4]البياض  والطارق

 

ـ1ـ

سافر الأولاد مع أمهم إلي بورسعيد لإرضاء الشبق الشرائى الدورى، اليوم جمعة، ورغم أنه قيل مؤخرا ـ هم الذين قالوا بألسنتهم ـ أن الأشياء هناك أصبحت محدودة الأذواق، والأثمان متقاربة، إلا أن الآراء اختلفت حــول جودة المعروض من مثلها في أسواق القاهرة، شد الركب الرحال رغم أن أغلبية الأصوات صوتت في صالح أن "المشوار لا يستأهل".

ـ2ـ

قُرب المغرب ، قلت أنتهز الفرصة وأنهى شيئا مما علي، أخرجتُ رزمة الورق المسطر التي لم تفتح، وأعددت الشأي بنفسى، وجلست علي المكتب في وضع المتأهب في تصميم كاف، فضضت اللفة الخارجية لرزمة الورق، وسحبت منها مجموعة من الأوراق، وضعتها أمامى، فوجئت أن الورق ليس مسطرا، ملكنى الغيظ ولعنت البائع إذ تصورت أنه تعمد خداعى علي الرغم من أن الفرق لا يزيد عن عشرة قروش، وعلي الرغم من  تأكيدى عليه أن تكون الأوراق مسطرة، مفردة، أنا لا أحب الورق الأبيض، السطر يميل منى، لكن هذا هو الله، وهذه هى حكمته.

ـ3ـ

نظرتُ في الورقة البيضاء ملياً، وارتشفت رشفة من الشاي الساخن فأحسست بنشوة هادئة تنساب في كيانى، أعدت النظر إلي البياض الناصع فأحسست أن اللون الأبيض هو جـُمـّاع ألوانٍ بلا حصر، حتى صار أبيض، أخذ البياض ينبض ويتشكل في قوةٍ تارةً، وفي طيبة تارةً، حتى صارت القوة طـِيبـَة، وبالعكس، فإذا به يحركً في داخلي مساحة مقابلة، أكاد أعرفها وأزورها بين الحين والحين في المنام واليقظة، خطر لبالي فجأة أن أدع ما "علي" جانبا، وأن أتجول في تلك المساحة البيضاء أبعد مما اعتدت، فرصة، قلت لنفسى ينبغى أن أسجل هذه الجولة علي الورق حتى لا تهرب منى تماما بعد العودة، وتعهدت ألا أشطب حرفاً أو أراجع كلمةً.

 فشددتُ الرحال.

ـ4ـ

  ترحال؟!، تفجُّــرٌ في المكان يحوى الزمن والألوان.

فعلمت أنها "فعلٌ" لا إسم،

 وهى رغم الفراغ والسكون ليست موتا بل نقيضـه.

 "لا أريد أن أموت".

ـ5ـ

طرق الباب فلم أنزعج كما كنت أتخيّل أنى سأفعل وأنا أتمادى في استغراقي، ثم إني مازلت أفزع باستمرار من أي طرق رغم ملايين الطرقات التي أتلقّاها طول العمر، دعوت الله أن يكون الطارق أحد الذين يقولون كلاما "ذا معنى" حتى يصدقني حين أقسم له أنى حريص كل الحرص "أن أعيش"، وأن الموت لا يخطر علي بالي إلا غصبا، هل هذا أمر صعب؟ لماذا لا يفهمون؟

ألقى الزبال ـ وكان هو الطارق ـ تحية المساء، وسألنى عن القمامة والزوجة والأولاد، أجبته بما يناسب، لكننى لم أذهب لإحضار ما انتظر، ولا أنا صرفته، فعاد ينبهنى برقة إلي وقفتى وإذا ما كان هناك قمامة أم لا، خيل لي أنى همهمت بما يكفي إذ راح يسألنى مرة ثانية وهو يلملم حاجاته عن الست والأولاد، انصرف وهو يدعو لي ولهم بالصحة والسلامة.

خيل إلي أنه كان قد لاح لي أملٌ ما، ثم انطفأ. ماذا كنت أريد منه غير هذا النبل المطلّ من بين ثنايا جلبابه القذر المنتفخ أعلي حزام مجدول؟

 زبال نبيل متسامح حكيم

ـ6ـ

رجعت إليها في بياضها النابض بالإيقاع الحي، رجعت أحاول أن أحدد موقعها بيني وبين الناس، هل ستغنيني عنهم، أم ستثريني بهم بين ثناياها؟ هل سأكتفي ساعتها بما تحيطني به من فيضٍ صامتٍ متحفزٍ يملأ الدنيا دون شروط، أم أنها ستدفعني بطاقتها المتولدة إلي ضرورة أن يشعر بها معي أحدهم فيربت علي دون أن يقترب ؟ ويبتسم مودعاً دون أن ينصرف؟

ـ7ـ

طرق الباب طارق جديد، فقمت مبتسماً لشخص مجهول، فتحته فإذا به ابن جيراننا وصديق ابني، سألني عنه فأخبرته بسفره وعدم علمي بموعد عودته تحديداً، وحين شكرني وانصرف كدت أنزل وراءه غيظاً ، فمنعتُ نفسي.

هذا الولدُ العجوز الأعمى في سن ابني، لم يلحظ ابتسامتي الجديدة، ولا ندائي الملحّ، انقطع نفسه من بضعة سلالم، وانطمس وعيه بلا سبب، شبابٌ هؤلاء!؟ كذبٌ والمصحف الشريف، كذب وافتراء، لماذا لم ينظر في وجهي ثانية واحدة؟ كان لابد سيعرف وحده، متعجل؟ مستعجل ليذهب إلي أين؟ هذا الغبي!! أنا أوْلي به منه، لم يترك في مخيلتي إلا صورة قفاه حديث الحلاقة، لم أكن أريد منه شيئا إلا أن يكون "ممكناً"، هذا كل ما في الأمر، يكفيني الإمكان لأعيش مؤتنساً طول الوقت.

 عدتُ أشد إصراراً علي أن تلك اللحظة النابضة البيضاء قادرة علي تخليق الممكن المناسب، تُحَقِّقُهُ حتى من العدم، نعم  هي كذلك.

ـ8ـ

طرقةٌ ثالثة.

 لطيفة هذه اللعبة الجديدة، أصبحت أفتح الباب وكأني أقلب ورق اللعب، أبحث عن البنت القلب أو السبعة الكومى لأكمل الترتيب التصاعدي للأوراق التي جمعتها، تلكأتُ فعاود الطارق الطرق،  فاستأذنت، منى ومنها، وذهبت.

كان التعبير علي وجهي أقرب إلي اليقين هذه المرة من قبل أن أفتح، فجاء الطارق أبعد ما يكون عن التوقع، عجوز تسأل عن اسم لا أعرفه، لكنني كدت أن أجيبها بالإيجاب وأنه موجود، بيْد أنها انصرفت بمجرد أن تبيّنتْ وجهي، وأنى لست هو انصرفت شاكرة معتذرة، أو  لعلي أنكرت وجود من تسأل عنه بسرعة لم أتبينها، خيّل إلي أنني أسمع دعاءها لي بالستر والصبر حتى أنني أحسست بيدها تربت علي كتفي وتطمئنني، فابتسمت، ومن الغريب أنى لم ألحظ أنها كانت تتوكأ علي عصا إلا حين عدت إلي جلستي الأولي أنظر في الورقة البيضاء، أحاول أن أواصل معها ما بدأناه، أو ما كنا ننوي بدايته.

انتبهت أن محاولة تحديد المعالم في ذاتها هي ضد قواعد هذه الرحلة، هذه المرأة الشابة المتخفية في جلد عجوز بشعرها الثلجي وعمرها المتجدد؛ تخفي قوتها في عصاة سحرية لا تحتاجها، تستعملها لتكفّ الحسد، أنا صدقتها وهى تعلم أنى صادق، واسألوها، فإن أجابت بالإيجاب، وسوف تفعل، فسوف تتحرك الدوائر بيقين ثابت إلي كل المدى المتخلق، فما لزوم أي تحديد بعد ذلك مما كاد ينحرف بي عن خطة الترحال؟

  لن أشطب حرفا مما كتبت.

ـ9ـ

طارقٌ رابع. هذا هو، وكأني كنت منتظرا هذه الطرقة أيضا، والآن تحديداً، أصبح توالي الطرقات وانتظامها جزءا من تشكيل هذه الرحلة، فتحت الباب فوجدته تحت قدمي، قامته لا تكاد ترتفع عن ركبتي إلا قليلا، كان ينظر إلي أعلي في أدب مصطنع وخوف حقيقي، طلب منى أن أحضر له الكرةً التي وقعت في الشرفة، تسمرتُ كأني لم أفهم، ورغم اتساع ابتسامتي فقد بدا أن الخوف يزداد تدريجيا، فخفت عليه، وأسرعت أطلب منه أن يدخل ليحضرها بنفسه من حيث يعرف، تردد قليلا ثم اندفع إلي الداخل عدوا وأحضرها وانصرف عدوا دون أن يشكرني، وكان يبدو أنه فرح بالنجاة أكثر من فرحته باسترداد الكرة.

هذه دَفعة أخرى إلي حيث أرتحل، لا أحد يلومني في هذه المسألة لأني أعلنتُ منذ البداية وبصريح العبارة أنني عدلت عن التنفيذ، هذه قضية حُسمت من قديم، وليطل الانتظار مادام قد أصبح فعلا يغمرني بما لا أعرف.

-10-

الطارق الخامس جاء قبل توقعي، لو كان تأخر قليلا لانقطع الخيط، حملني الطرق المُنقذ إلي الباب حملا حيث لم أكن واعيا بتلاحق المسائل في تسلسل مضمون، فقد طـَمـَسـَتْ حاجتي إلي عمق الاستمرار حرصي علي مواكبة الإيقاع، انقبض قلبي حين طالعتني تلك الحلة البوليسة الرسمية، ورغم ابتسامته العريضة البلهاء، غمرني ما يغمرني حين أواجه الحكومة، علي الرغم من أنني لم أفعل شيئاً أبداً يحتاج زيارة أي مندوب من السلطة هكذا، لم تهدأ الأمور إلا قليلا حين سمعتُ "مساء الخير"، عرفتُ الصوت والملامح، وتبينت أنه الشاويش الذي يأتي لزوجتي بالخادمات من بلده، ليهربْن (حسب تعليماته في الأغلب) بعد أسبوع أو بحد أقصى بعد شهر ، ويكون هو قد لهف المعلوم، وهكذا، أنا لا أحب هذا "الشاويش" وأعجب كيف يخدع زوجتي بنفس الطريقة كل مرّة. وهى لا تنتبه أبدا.

 مرّت لحظات طويلة  وهو يتكلم بأصوات لم أحاول أن أشكّلها كلاما أصلا . كان يتكلم وكأنه راكب علي صدري، أخبرته أن زوجتي ليست هنا، وأن  وأن ، لكنه كان يزيحني بجسمه كالعادة، أو كاد يفعل، فانتصبتُ أكثر: سداً منيعاً مؤكِّداً استحالة عودتهم هذه الليلة أصلا، لم يتحرك بعشمٍ قاس، فكـّرت أن أرشوه لكنني لم أستطع أن أحسن تقدير المبلغ، كما خفت أن يتمادى في لي ذراعي دون أن ينصرف، فقررت الصمود.

 فجأة، أشرق وجهه بلمعة ذكاء ريفي أعرفه، بدا وكأنه اكتشف بحذق خاص لماذا أحولُ دون دخوله، فقفزتْ إلي إحدى عينىَّ دون الأخرى نصف غمزة مناسبة  لعلها تساعده في تأكيد شكوكه ، فحدثت المعجزة، تعاون الذكاء الانتقائي في تناسق رائع مع البلاهة المبتسمة فتوهَّم أنه فقس الفولة، وأظهر ما يشير إلي أنه فهمها وهى طائرة ، ومن الأول، إذ راح يهز رأسه هزة الحاذق الذي يفَــوِّتَها بخاطره، وأن  الله أمر بالستر، ولم يقل حلال عليك، ولم يطلب مقابل انصرافه، فقط أخطرني بعلم وصول أنه سيمر علي الهانم لأن عنده شغالة جديدة "تعجبك"، هو الذي غمز بعينه  هذه المرّة.

ـ11ـ

كانت نشازا هذه الطرقة الفائتة بوجه خاص، فأمِلتُ أن ينزاح الثقل عنى بانصرافه فأشعر بانعتاق مضاعف، إلا أن ذلك لم يحدث، إذ أن خجلاً اجتاحني، وكأني فعلا كنت أخفي سراً نسائياً، وأن حضرة هذا الشاويش قد تفضل علي  فسترني، وحفظ المحضر بعد أن ضبطني متلبسا،  فوجدتني أقل حماساً لما كنت فيه، وأقل قدرة عليه، فقلت أدخل من بابٍ آخر، فقفز إلي جانب عقلي سؤال جنسي غير واضح، فانتشيتُ جزئيا وابتسمت.

 وبقفزة  عملاقة إلي الجانب الآخر الذي هو هو، أحسستُ أن الله هو أعظم وأبسط الحقائق قاطبة، ومن ثمَّ نبضُ البياض.

 انزاح الثقل كثيرا، وقدرت أنه قد آن الأوان أن يحضر الطارق التالي، فأرهفتُ السمع.

-12-

لم يخب ظني، علي الرغم من أنى لم أتأكد من حقيقة الطرق، فوضعت احتمال توهمي، ومع ذلك غامرت بفتح الباب، فوجدتها فعلا بالباب، وقرأت في وجهها أنها لم تكن قد طرقت بعد، ابنة الجيران صديقة ابنتي (وشقيقة الطارق الثاني!!)، سأَلـَتْ وأجبتُ، وسألتْ وأجبتُ، وكان المفروض أن تنصرف مثل أخيها، لكنها لم تفعل، كنت ما زلت فاتراً محبطاً دون أن أدرى، فلماذا لم تنصرف؟ وقبل أن تهاجمني أنوثتها الفائرة فتتحرك تيارات الماء في الاتجاه الخطأ فالغليان: شكرتْ، وتـَثـَنَّتْ، واستدارتْ، وأسرعتْ، فسمحت لجانب من وعى اللحظة بما لم أعتده، وما لا ينبغي.

-13-

قبل أن أتم جلستي أمام الورقة تنتظرني، اكتشفت أنى مضيت أسرع مما ينبغي في اتجاه لم أكن أحب أن أعيَهُ هكذا، وبسرعة رائعة وأنا مستسلم لما غمرني من ضعف متزايد وحاجة ملحة إلي إنقاذٍ سريع، جاء الفرج في صوت وقع أقدام كثيرة علي السلم، فتنهدت منسحبا تماما.

-14-

حمدا لله علي السلامة، ماذا أحضرتم؟

 أروني كل شيء، كل شيء.

ليست عادتي؟

نعم، ولكنى أريد أن أشارككم كل شيء، أي شيء.

 أريد أن تفردوا أمامي وبالتصوير البطيء: الأقمشة، والأحزمة، والقمصان، والجوارب، والحقائب الصغيرة، ومسحوق الصابون وحكايات الشطارة الجمركية.

  

[5]شيكات علي بياض

 

ـ1ـ

لم يكد يضع القلم بعد انتهائه من كتابة ذلك الخطاب إلي ابن أخيه في الخارج حتى دق جرس الباب، ففزع كما تعوّد، ثم  تمنى أن يكون قد سمع صوتا كاذبا فهو لا يريد أن يقطع ما هو فيه، لكن صوت الجرس عاد يؤكد الواقع، إنه أحوج ما يكون الآن بالذات إلي أن يكمل  المراجعة، فابن أخيه هذا يمثل بعض شبابه بشكل ما، وهو الذي فاجأه بالمراسلة بعد سفره رغم أنه لم يصادقه أبدا مثل معظم شباب العائلة الذين يأتنس بهم فيأنسون له، عاد الجرس يدق دقة أقصر، وأكثر ترددا، خيراً ، لا مفر، بحث عن نعل يضعه في قدميه في تباطؤ واضح رغم أنه يمشى في المنزل حافيا في العادة، فخطر بباله أن الإيقاع السريع الذي عاش به حتى الآن هو السبب، ومع ذلك فلا شيء في الدنيا يعدل العدل: بالذات العدل بين الداخل والخارج، بين الصغير والكبير، بين الذات بين الناس، ولكن من يفهم؟ ومن يقبل؟

لم يجد أحداً بالباب، يئس الطارق بسهولة.

 الحمد لله، قدّر ولطف، فليكمل ما هو فيه.

 تبين أنه أنهى لتوه كتابة الرد علي ابن أخيه، واكتشف أنه كتب خطاباً لا ردّاً، وأنه كان علي وشك أن يقول فيه كل ما أجّل البوح به حتى الآن، حتى كاد يخنقه، حتى كاد يـُغـْرقه، أن يعلن له بكل شرف الهزيمة أنه مستعد للتنازل، بل كاد أن  يتقدم خطوة أخرى ليخبره أنه تنازل فعلا ـ  أخيراً ـ عن قانونه الخاص، ما دام الجميع قد أجمعوا أنه يزودها حبات كثيرة، وعموما فلسوف يعترف له بكل بساطة أنه بعد كل هذه السنين ـ لم يعد يحتمل.

ـ2ـ

دق جرس التليفون فرفع السماعة بنفس الرفض المشوب برغبة في النجاة، جاءه صوت غريب، فأوضح خطأ الرقم، تنهد ووضع السماعة وانتظر الشعور بالخلاص لكن القبضة أحكمت عصر القلب أكثر.

ـ3ـ

عاد القلم يجذبه إلي الورق عنوة، فتصور ما يمكن أن يقوله مما سبق أن أعاده حتى مـَلـُّوا وأُنـِهك، مازال القلم في يده، فبحث عن دفتر الشيكات وراح يوقعها جميعا"علي بياض" وبدون تاريخ، ودون أن يشطب علي: "أو لأمر"،  وضع الدفتر في المكان الذي اتفقا عليه منذ حاولا أن يتجنبا محاولات الإقناع والاقتناع، أغلق الباب في هدوء، وحين مر أمام المرآة التي في مدخل العمارة اكتشف أنه نسى أن يحكم رباط عنقه فوقف يعدّله في ثبات تام.

ـ4ـ

خرج إلي الشارع واتجه علي غير عادته إلي جهة اليمين، فمحطة الأتوبيس والجمعية في الاتجاه الآخر، أخذ ينظر إلي وجوه المارة فانتبه إلي أن عيونهم ـ جميعا ـ مغرورقة بنفس الدموع، فتذكر عينيه في المرآة وهو يحكم رباط العنق،  آنسه ذلك حتى شعر أنه ليس وحده، فما شقي كل هذا العمر إلا من أجلهم، حتى لو أنكروه جميعا.

 حتى لو لم يَرَوْه أصلا.

[6]مزاح

 

ـ1ـ

كان يحتاج إلي أي مخلوق يدرك ما به دون تدخل، لكنه تمنى ألا يجدها في الصالة وهو يفتح الباب بمفتاحه الخاص، ماذا لو رأتْ  ولم تشعر؟ ماذا لو لم تر أصلا؟ لم يكن يحاول أن يخفي دموعه هذه المرة، هي حقه دون منازع، ولكن لماذا هنا؟ الآن؟ لم يحاول أن يتمادى، ولمَ يتردد في الدخول، ولم يتصنع الثبات.

ـ2ـ

كانت تجلس منتظرة في غير لهفة أو توقع، لم يكن هذا موعد عودته، لكنها كانت هناك، حمد الله وقلبه يخفق وجلاً، لعلها لاحظت فتجاهلتْ، أو لعلها لم تصدق فسمحت بفرصة لإعادة الاختباء، شكر ترحيبها الطيب، وصمتها السمح، فرح حين تبيّن من  نظرتها أن دموعه كانت سِرّية لم تنسب علي خديه؟ مضى إلي الحمام ينظر ليتأكد، فوجدها، فحمد الله أنها لم ترها، كيف ؟

ـ3ـ

سوف يقول لها أنه  في أشد الحاجة لمن يشاركه، وهى لن تسخر منه، الخبر منشور في الصفحة الأولي علي غير العادة، ثم إن التفاصيل في صفحة الحوادث، ثم إنها تقرأ صفحة الحوادث يوميا قبل أي صفحة أخرى. ذلك الشاب الطيار الوسيم كما ظهرت صورته في الصحيفة، لم تمض علي تخرجه سوى بضعة أسابيع، سقطت به طائرة التدريب . هو أكبر إخوته، خاطب، عرسه بعد أيام، لا بد أن له أب مكافح ، وأم محجبة تدعو له ولمن مثله طول الوقت، لماذا لم يستجب الله لها فيحفظه؟  وجه الشاب أقرب إلي وجه أمه، مع أنهم لم ينشروا صورة أمه الثكلي. خيّل إليه أنه ـ شخصياً ـ مسئول عن سقوط طائرة هذا الشاب العريس بشكل ما، ومع ذلك فإن الأم الثكلي لا تعايره بالاستمرار في الحياة دون ابنها، كان هو الأوْلي فعلا، مهما بلغ حزنه علي الشاب المخطوف، فهو يشعر أنه لم يحزن بالقدر الكافي؟ بالقدر الذي يسمح له بحق الاستمرار من بعدهم، تُخايله أشلاؤهم داخل المخيمات، وعلي سفوح الجبال، وفي جوف الأنهار وبين كثبان الثلج، لكنّها سرعان ما  تتلاشى في طبقات وعيه المخدَّر ليمضى، كما أن أيا من هذا لم يحدث هكذا؟

 نظر إليها فوجدها مازالت جالسة تنتظر منه ردّ تحية العودة، فهَّم أن يجاملها بردٍّ ما، وقبل أن ينطق سألته:

 ـ  مالك؟

حاول التملص بأن سألها عن طبيخ اليوم فأجابتْ، فبدا مندهشا، فاستفسرتْ، فأجاب أن كل شيء لا بد أن يتغيّر ما دام الأمر كذلك، وحين لم تفهم أكثر حوّل الحديث إلي نوع الطعام ، وتفوّق الأولاد، قالت:

 ـ  جاء ابننا بالشهادة، وهو أول فصله هذه الفترة.

قال، و صوته يتصاعد حتى بدا كأنه يصيح، رغم أنه لم يكن يوجه كلامه إليها :

 ـ  أي شرف أن نفعـل نفس الأعمال؟! مع أنهم يموتون بلا منطق، ونحن نظل أحياء بلا مبرر.

كادت تقفز فزعا، لكنها تماسكت، وتساءلت عما يعنى

قال:

 ـ أمزح.

قالت:

 أَخـَفْــتـَنِى.

 

[7] أبـَــدا 

 

ـ1ـ

قالت له وهو يحاورها:

" ـ  كيف؟"

فكر أكثر فأكثر، وكأنه لم يفكر من قبل في إجابة لهذا السؤال ، نفس السؤال، وكأنه لم يعجز عن الإجابة في كل مرّة، كم مرّة ؟ لا تعدّ، ألف مرة ؟ بل آلاف، بل أكثر،  ومع ذلك راح يجتهد من جديد،  التفت إليها فجأة في حماس لا يهمد، وكأنه "وجدها" أخيرا قائلا دون تردد:

 ـ  ثمة وسيلة لا أعرفها، ولكن ليس معنى ذلك أنى مخطئ، أو مخرف، ثمة وسيلة.

صدقتْه بشكل ما، وتعجبت من حماسه هذا الذي يتجدد أبدا، رغم أنه لا يضيف شيئاً أبداً.

ـ2ـ

قال لها وهى تحاوره:

 ـ نعم، لابد أن يحدث كل ذلك لسبب بسيط وهو أنه لا بديل.

قالت وهى تتحكم في احتمال ضجرها (المتسحب والمتزايد باستمرار) مِن هذا الحماس الذي لا ينقطع، وليس له أي مبرر واقعي، كانت تستلهم طاقة استمرارها من نظرته المتوثبة الطفلة:

 ـ ما الفائدة، ما دمنا لا نمسك حتى ببداية الخيط؟

هـّم أن يكتفي بالصمت ردَّا، كاد يتيقَّنُ من صواب رأيها، لكن شحنة جديدة تفجرت من مخزن إضافي مجهول، فمضى يحتج:

 ـ  أية فائدة؟ الكلام بحساب الفائدة لا يغنى شيئا، لأننا لا نعرف فائدةَ ما هو مفيد، هذا الكم الهائل من الفوائد لم يعد يصنع لأي أحد شيئا، فلا تحاسبيني بحساب الفوائد الرقمية.

قالت لنفسها هذه المرة: "وما فائدة الرد المعاد؟"

ـ3ـ

أخذ يجرى في انتظام لاهث، العرق يتصبب منه، والأتوبيس يقترب، وهو لا يفتح ساقيه أكثر، فلا تزيد سرعته، ثقة ما بعدها ثقة، وفعلا: وصل إلي المحطة قبل أن يغادرها الأتوبيس، وكان ثمة موضعا لقدم واثنتين علي السلم، لكنه لم يضع قدمه، ومضى يتجاوز الأوتوبيس الواقف ويواصل هرولته، فكاد يصطدم ببعض الناس، فتجنب البعض الآخر، ثم مرق منه الأتوبيس بسرعة مناسبة، وهو يجرى، وأتوبيس آخر يعبره، وهو يجرى، ومحطة أخرى، لا هو يتوقف عند المحطة، ولا الأتوبيس يتوقف عنده، وترابٌ لزج، وعطشٌ وعرق، وبدايات إفلاس، فانحرف عند أول ناصية، وهدأت خطواته حتى المشي، فترك جسده يسقط علي أقرب كرسي في أقرب مقهى.

أشفق صبى المقهى عليه فتركه في حاله قليلا، حتى هدأ، ثم ذهب يرحب به، ويلاقيه، ويعرض خدماته:

 ـ  الحمد لله علي السلامة.

اطمأن تماما فرد بكل يقين، وكأن الكلمتين تحملان كل ما يريد من معان:

 ـ  الله يسلمك.

ردّ الصبى النادل بحذر:

 ـ  إن شاء الله خير؟

أجابه وهو يمسح وجهه بمنديل أكثر اتساخا:

 ـ  طبعا، ألف حمد.

وطلب "حلبة حصا" ولكن بدون سكر، فمضى الصبي رافعا حاجبيه، مَغيظاً مشفقاً، طيباً، مبتسماً.

ـ4ـ

نظر إلي ساقيه الممتدتين استرخاء، فتعجب من قدرتهما علي أن تتسلق إحداهما الأخرى دون أن تنتبه أي منهما إلي حركة الأخرى.

ـ5ـ

عاد إلي المنزل فـَرِحا فـَرَحـَا لا يخفي، وكأنه يحمل تفاصيل النبأ العظيم، فاستبشرتْ خيرا، "أخيرا !!"، وقالت له بكل أمل نفس كلمات الصبي الظريف:

 ـ  الحمد لله علي السلامة

قال برضا أكثر فأكثر:

 ـ  الله يخليكِ

سألت في أمانٍ سمح

 ـ  أُحضر لك الغداء؟

لكنه كان قد اختفي في الحمام، وسمعت صوت "الدش" بلا إعداد سابق، فلا سخّان، ولا غيار في الداخل، أواخر ديسمبر والماء ثلج، ومع ذلك لم تجرؤ أن تقترب منه لتسأله أو تعينه، فقط أحضرت الغيار ووضعته علي أكرة الباب، وانتظرت تتلهى بأي شيء

 

ـ6ـ

خرج من الحمام  كما توقع وأكثر، أنعشه الماء المثلج حتى انتشى أكثر، جعل يأكل بشهية وهو يحس ـ ربما لأول مرة منذ مدّة طويلة ـ أن للأكل مذاق الأكل، وما أن انتهى حتى لبس حلة قديمة، لكنها نظيفة، وقد كانت هذه الحلة بالذات عزيزة عليه جدا.

ربت علي شعرها بهدوء وهو يجيب علي سؤالها المنتظر وهو يهم بالخروج مع أنه ما كاد يرجع.

 كان سؤالها البديهي يقول:

 ـ "إلي أين"؟

ردّ في غموض لم يتعمده:

ـ "أبداً ."

ولم تلاحظ هذه المرّة أيضا أن عينيه اغرورقتا بالدموع، وهو  لم يتأكد، مثل المرة السابقة، إن كانت دموعه ظاهرة أم خفية.

 

[8]صمت .

  

ـ1ـ

أخذ مكانه لأول مرة في القاعة المهيبة التي لم يعتد الجلوس بمثلها، تلفت حوله فوجد الحائط مزداناً بالصور الجليلة وقد تحددت في أسفل كل صورة الفترة الزمنية التي شغل فيها صاحب كل صورة رئاسة هذا المجلس، أخرج ورقة بيضاء كان قد أعدها وأمسك القلم يدون ملاحظاته، وإذا بالأمور تتلاحق بشكل لم يتوقعه، رفع يده وفتح فمه وقد دوّن ملاحظاته ببطء المبتدئ، لكنه لم يستطع أن يلاحق ما يجرى بأي سرعة مناسبة، مالَ، وهَمَّ، وتنَحْنَحَ، وكاد أن يشير بيده وهو يتعجب للأحاديث الثنائية الجانبية، وحين تصور أن الرئيس يعطيه الكلمة سمع أصوات المقاعد تتحرك، والأجساد تنتصب، فأدرك أن الاجتماع قد انتهى. نظر إلي الورقة أمامه فجذب نظره أن ما تبقى فيها من بياض أكثر مما سود فيها من ملاحظات، لملم أوراقه ووضعها في حقيبته ورفع رأسه نحو الحائط وهو ينظر إلي الصورة معاتباً صف الشوامخ، وأخذ يتابع الضحكات السعيدة بالانصراف وما لا يدرى. حـَسِبَ أن الأصوات تزداد بـُعداً كلما اقترب من أصحابها، فكتم صرخة غريبة لم يسمع مثلها داخله أبدا.

 

ـ2ـ

ذهب إلي مكتبه، وبلا استدعاء دخل عليه العجوز ووجهه ينضح بالألم، ومن ورائه دخل زميله الشاب ووجهه أقل ألماً وأكثر غيظاً، بدا العجوز وكأنه يهم بالكلام، لكنه التفت إلي زميله الشاب قبل أن ينطق وكأنه يدعوه أن يقول هو، لم يستجب الشاب وزاد غيظه، فازداد الكهل ألماً، وطال الحوار بين المتألم والمغيظ .

خرجا كما دخلا.

فترددت علي باله أسئلة جديدة تماماً.

ـ3ـ

لابد أ ن يقول لها رأيه بصراحة وليحدث ما يحدث، ما كل هذا القَذَى في عينيه؟. قبيحٌ هذا الرداء علي الرغم من  كل ما دفع فيه، وعلي الرغم من  اسم الحائك الشهير، ورغم القماش المستورد من جوار رسول الله مع غنائم آخر عُمرة. نظر إلي ساعته فوجد أنه لم يبق إلا نصف ساعة، مسافة الطريق، فتعجب متى ينتهي هذا الإصرار علي تصاعد التنافر بكل هذا الحماس، تردد نظره بين المرأة والمرآة، فجعل يتابع تدريبات الحركات المياسة و الرصينة معاً، ولمسات العطر تستقر خلف الأذن. لماذا خلف الأذن بالذات؟ هزت رأسها فتصورت أن "فورمة" الشعر قد استقرت أكثر، فسبقها يسخن العربة حتى تنزل، فخيل إليه أن صوت الموتور أعلي من المعتاد، ثم تبين أنه لم يضع المفتاح ولم يدر الموتور بعد، فبدا له وجهه في المرآة الجانبية أكبر من حجمه وكأنه يبتسم، مع أنه كان في حال.

ـ4ـ

نظر ابنه في عينه وهو يهم بالخروج أن "ماله"؟ فربت علي رأسه في هدوء وهو يـُحكم إخفاء رقّته التي كادت تذيبُه، تذكر أن الولد كان قد طلب منه أمس طلباً ما، يحتاج إلي نقودٍ ما، فدس يده في جيبه وأعطاه ما تصور أنه يكفي.

ومضى مسرعاً قبل أن ينكشف

 

ـ5ـ

زادت الحكاية حتى لاحظها الناس من حوله، لم يعد يبدأ، ونادراً ما يرد، كلمة أو اثنتين لا أكثر، خاف علي نفسه خشية أن تكون الحكاية أكبر من مجرد خيبة أمل.

فقرر في ذلك أمراً.

ظل جالساً في حجرة الانتظار أكثر من ساعة يتأمل الوجوه الضاحكة والعابسة والملساء، وتعجب أن أغلب الجالسين يتكلمون كثيراً، وبصوت مرتفع، وحين جاء دوره تظاهر بالذهاب إلي دورة المياه.

وانصرف لا يلوى علي شيء.

ـ6ـ

سمع صراخاً من خلف الباب فاختلطت لديه معاني الاستغاثة والألم واللذة، توقف قليلاً عن مواصلة صعود الدرج وود لو يستطيع المساعدة بشكل ما، لكنه كان علي يقين أنها امرأة، وهو لا يملك إزاء ذلك  شيئاً، وقبل أن يواصل التفكير تهادى الصوت تدريجياً حتى اختفي تماماً، فلم يدر هل كان ذلك بسبب الموت أم الاستغراق في النوم عقب ذروة الشهوة.

واصل صعود الدرج، وقبل أن يختفي خلف الباب خيل إليه أنه يسمع صوت بكاء رضيع وقد اختلط بزغرودة مكتومة، فراح يتذكر أشياء شديدة البساطة كان قد نسيها تماماً، تذكرها بكل التفاصيل التي لم يكن يتصور أنه رصدها بهذه الدقة.

أخذ يردد بكل وعيه فرِحا:

 "أهكذا؟؟ علي الرغم من  كل شيء؟؟"

 

[9] الورطة والمسألة

  

ـ1ـ

تحسس جيبه بمحض الصدفة، فوجده منتفخاً بحكم العادة، وبدون مناسبة، حدد بوضوح ما كان اعتاد أن يبقيه بعيدا عن ثورة وعيه، فهذا الانتفاخ هو مجرد عائد هذا اليوم، وهو أقل قليلاً من كل الأيام، لكنه انتفاخ منبعج لا يخفي علي عين.

تسربت جحافل الفئران، فانشرخ الجدار، فتدفقت الحبوب في تلاحق غير متوقع وغير مناسب حتى رأي الأيام كومة تتجمع تعلن رقما بعد الخمسين دون أن يتوقف العد، أو تتأكد الدلالة، استقبل المنظر في يقين ودهشة وحياد منذر، ولم يحاول أن يتلهى عنه بالبحث في الأسباب أو الهرب في التفاصيل، فقال وشفتيه مضمومتان "لا جدوى من التأجيل   الليلة، أو أبداً".

 

ـ2ـ

نظر إلي ساعته الذهبية، فوجدها قد تعدت التاسعة والنصف، وهو لم يتناول غذاء بعد، فقد اعتاد مؤخرا أن يكتفي بكوب الزبادي و"باكو البسكويت" في زحمة العمل، قال "فرصة، ولتكن البداية مثل البدايات القديمة".

فتذكر فندقاً فخماً في أقصى الشمال، مصر الجديدة، كان قد عرفه في إطار المهنة والمؤتمرات، فاعتاد عليه سراً، خوفاً من المغامرات المجهولة في أي مكان فخم آخر، هو يريده باهظاً هذه الليلة، ولابد أنه كذلك، فعلاقته به لم تتعد شراباً خطفاً في ركن قصي.

 

ـ3ـ

نظر في قائمة الطعام ووجدها مقسمة إلي ثلاثة أقسام، وبها ملحق يشير إلي أنواع الشراب، وهو لا يعرف أغلب الأسماء، فقد اعتاد أن تطلب له زوجته ما يشتهى أو ما تشتهى له، لكن لليلة وضع خاص، لابد أن تختلف الأمور كما لابد أن تتضح الأمور، ثمة أمل في اكتشاف جديد لتخطيط جديد، (جِدَّا!!).

أشار بإصبعه إلي ما يقابل أعلي الأثمان في كل مجموعة دون أن يهتم بالاسم، وأجل طلب الحلوى بداهة، وان كان قد تخير شرابا كان قد تمنى أن يذوقه من قديم، ودون أن يقصد وجد نفسه قد جمع الأرقام (بدون الآلة الحاسبة في جيبه) فوجد المجموع لم يتخط العشرة الثامنة مما لن يخفف من ضغط الانتفاخ المنبعج، وبدا أنه أبعد ما يكون عن نجاح التجربة، ليكن، فهو جائع، وهى بداية.

 

ـ4ـ

أكل بشهية جيدة، وبتمتع قليل، فانقبض دون حزن واضح، فالطبق الأول كان حساء مائلا إلي الحمرة الخضراء، وبه أشياء صغيرة كاد يتصور لأول وهلة أنها دودٌ قد أحسن تسمينه، ولو كانت زوجته معه لاكتشفت الحقيقة، إذن لسُدت نفسه لأنه لا يعتقد أنه يحب الجمبري، ولم يجد أبدا ما يبرر أن يحبه لمجرد ندرته أو ارتفاع ثمنه أو لأن الناس الذين يفهمون يحبونه، أما هي فهي لا تطيق رؤيته أصلا أو حتى شم رائحته، في  هذا يتفقان، جاء دور الطبق الرئيسي غريب الاسم أيضا، فوجده لحما مشويا عاديا فتساءل عن حكاية الأسماء الكثيرة المختلفة التي تنتهي كلها، إلي نفس نوع اللحوم والبطاطس المقلية، أما الشراب فكان لاذعا رائعا طمأنه علي القدرة علي إكمال تجربة الليلة بنشاط كاف ونشوة معتدلة

 

ـ5ـ

أخذ يتحسس جيبه، ثم بطنه، بالتتالي، وهو يسير في البهو متجها إلي الخارج، ولم يسترح لبقاء انتفاخ جيبه علي ما كان عليه قبل هذا الافتتاح، لمح قبل أن يبلغ باب الفندق الخارجي أنه يوجد في الطرف الآخر من البهو مطعم آخر، وقد وضع بيانا بقائمة الليلة خلف زجاج مرصع، اقترب فإذا بالثمن يقارب ضعف ما دفع غير الشراب والبقشيش، تململ حتى زحف إليه ندم علي الفرصة التي ضاعت، هذا هو ثمن القائمة المعروضة الجاهزة (المينىو)؛ فما بالك بالذي هو "علي الكارت"! لو أنه كان قد لمح هذا المطعم قبل أن يذهب إلي ما اعتاد لكانت مهمة هذه الليلة أسهل، حمد ربه أنه لم يملؤها حتى التخمة،  ولكن ذلك لم يبرر بأي صورة أن يتناول عشاءه مرتين في نفس المكان لمجرد أن يتخلص من بعض الانبعاج كالورم الحميد في جيبه، وقال لنفسه "مرة ثانية"، فانزعج حين تذكر شرط الليلة:

 لا تأجيل.

ـ6ـ

 نظر في الساعة فوجدها لم تصل إلي الحادية عشرة بعد، أدار مفتاح العربة ونقد المنادى خمسة جنيهات بأكملها ضد كل تحفظاته ضد هذه الفئة الطفيلية، وقبل أن يغلق المنادى باب السيارة بعد أن أصر علي فتح النافذة رغم شدة البرودة، اكتشف وجهَ شبهٍ حاول أن يطمسه، فزاد من  سرعة السيارة دون عجلة.

 

ـ7ـ

قرر أن ينتقل من أقصى الشمال إلي أقصى الجنوب، شارع الهرم، الرأي الليلة لوقود السيارة وليس لحسابات الأحسن، ليكن، منذ عشرين عاما دعاه أحد أقاربه من محدودي الدخل إلي الأوبرج وتعجب لمقدرته المالية المفاجئة، ثم عرف أن المسألة أنه حصل علي بطاقة دعوة بالمجان من ضابط مباحث معروف، فعمل بها أبا علي، وكانت الدعوة إلي أوبرج الهرم. هو لم يحب ذلك التلوي أبدا، اللهم إلا سامية جمال وتحية كاريوكا قديما وهو لا يطيق كل هذه الأشياء الموسيقية القارعة، لكن الليلة ليست ككل ليلة، الليلة ليلة كل ما هو جديد، فمن أين له أن يدرى ماذا حدث من تطور خلال عشرين سنة؟ ثم لابد أن الفاتورة هنا سوف تقترب من سقف الورقة أم مائة التي ألغوها منعا  للتهريب ثم أعادوها تسهيلا ، أو استسلاما له، هذه الأوراق تخفف من ضغط هذا الورم المتحدى، ما علينا، للجديد ـ رغم الذكريات الفاترة ـ جـِدّته.

 

ـ8ـ

 توقف أمام باب الملهى الأكثر أضواء فتقدم إليه شخص لا هو بالمنادى ولا هو صاحب الملهى، لكنه "بين البينين"، همّ الشخص بفتح باب السيارة بترحيب محسوب وأدب ظاهر، كاد يضطر صاحبنا أن ينزل من السيارة ـ إحراجا ـ لكنه لم يكن قد استقر بعد علي الخطوة التالية، قاوم، ثم سارع بوضع يده في جيبه وتحسس أول ورقة وصلت إليها أصابعه ونقدها للشخص "بين البينين"، كل هذا لم يعتده، تأكد أن هذا الكرم الزائف هو  ضد مبادئه التي لا يعرف من أين جاءته! ومن الذي فرضها عليه؟ لماذا غيروا حجم الأوراق هكذا؟ أشار "للشخص إياه" أن يدعه الآن لأنه ينتظر صديقا في السيارة، فابتسم الشخص ابتسامة خاصة مليئة بالفهم والغمز والموافقة، حتى قفاه بدا مبتسما في تقرير طيب.

 

ـ9ـ

قرر أن يفكر أهدأ، ضد رغبته في عدم التخطيط هذه الليلة أصلا، ولكن ما باليد حيلة، ما دامت القرارات تتزاحم والملاهي تتجاور، علما بأن المسألة ليست: ما هو الملهى الأفضل؟ لكنها: ما هو الملهى الأغلي؟ فقفز السؤال السابق إلي وعيه يقول: لا مفر من اختيار، لن يؤثر تفضيله اختياراً عن آخر مادام الهدف واضحا والسؤال محددا، كان السؤال الذي دفعه إلي جولة الليلة يقول: لمن يكسب ما يكسب؟ وعلي من ينفق ما يملك،؟ ثم لحقه سؤال أكثر تحديدا يقول"إلي متى؟" فثار وأجاب في حسم "الليلة   وليس بعد"، فانشرخ الجدار ـ فهو إذا استطاع الليلة، ولو مجرد الليلة، أن ينفق مكسب هذا اليوم بالذات علي نفسه شخصياً، فسوف يستطيع أن يتحسس طريقه للإجابة علي بقية الأسئلة، فاستضاف نفسه هذه الليلة بكل كرم أسطوري سمع عنه، ولا يكون الكرم كرما إلا لو لم يبق فائض أصلا، كل واحد يدلع نفسه، والفائض لو فاض سوف يظل يلعب تحت جلده مثل ذيل عقرب رفض أن يموت مع باقي الجسد، فانفصل يتحدى،  لقد سمع هذا اللفظ قبل ذلك ذات مناقشة بين اثنين من الذين يتناقشون حول أسعار الفائدة، فتصور أن أحدهم يعاير الآخر بمثل هذه الكلمة "الفائض"، وكانا يتكلمان أيضاً عن الاستقلال والاستغلال والسياسة والحرب والنظام والعولمة والجات، وهو عادة لا يحشر نفسه كثيراً في هذه المسائل، ذلك أنه اكتسب بعد التخرج نوعا خاصاً من الذكاء الانتقائي يحميه من تشتيت جهده إلي غير ما يتقن، لكنه كلما أتقن أكثر تراكم فائض أكثر، فوجب العمى أو التحدي، وهذه هي المسألة.

 

-10-

 المطلوب الآن أن ينجح هذه الليلة، لقد قبل التحدي والذي كان قد كان، الليلة وبعدها يحلها ألف حلال، لكن لكي ينجح لابد أن يغامر.

نظر ـ غصباً وبالصدفة معاً ـ إلي الفخذ المطل من حلة الرقص في الإعلان المتسع علي حائط الملهى، وانتقل من الفخذ إلي البطن إلي اسم الملهى فصدحت في رأسه أغنية عن الحرب والبطولة والاستشهاد ومصر، فتداخل الثكل في الجنس في النشوة في الألم، فحاول أن يوقف هذا التلاحق المتكثف أو أن يسلسله أو أن ينقيه، فنجح نسبيا، إلا أن ما تحرّك مما هو جنس تباطأ في التراجع مضطرداً، لم يذهب مع الكتلة المتداخلة، بل تصاعد وانتشر حتى احتل الساحة، هل يكون هذا هو الحل؟ إنه يسمع عن أوراق البنكنوت التي تحرق تحت أقدامهن في المناسبات، وبدون مناسبات في هذه الأماكن، ترى كم تساوى الليلة؟ مائة؟ مائتين؟ ألف؟ ولو !!!، ثم ماذا لو لم يجد عنده رغبة أو مزاجا، والألعن لو تأكد أن قدرته لا تنطلق إلا إذا توفر الظلام والإغماء، وهو الآن في أشد حالات اليقظة إثر تصاعد هذا التحدي الملح، ربما تنتظره فضيحة وهو ليس حملها الآن، ولا في أي آن، عاود النظر إلي الفخذ النافر فشعر أنه قد انحشر في عينيه فطمس وجهه وساح زنِخاً حتى كتم أنفاسه، فأدار مفتاح العربة وهو يتجنب نظرات الشخص الـ " بين البينين"، وحين سمع صوت الموتور أحس بخلاص مؤقت.

 

ـ11ـ

 وصلت السيارة إلي نهاية الشارع، وقبل المينا هاوس انحرفت إلي بداية الطريق الصحراوي، وعند مفترق الطرق تذكر قصة قرأها عن هذا المكان ـ أو مثله ـ تحكى مثل هذا، لكنه لم يستطع أن يسترجع اسمها تحديداً، ولا اسم مؤلفها مع أنه مشهور جداً وهو يحبه، ومع ذلك فقد تذكر تماما أن اسم البطل كان عُمَراً، ساورته فكرة لكنه عدل عنها بسرعة ورفض أن يتقمص بطل الرواية بوعي مشوش، أدار السيارة حول المفترق وأفل راجعاً وقد شعر أكثر فأكثر بثقل ذلك الانتفاخ بالقرب من تحت الإبط، وفوق أيسر الصدر، فتثاقلت أنفاسه وزاد الضغط تدريجيا علي بدال الوقود.

 

-12-

 تحركت أمعاؤه حركة مبشِّرة فمال وارتاح، ثم ابتسم يتمنى أن يترتب علي ذلك جوع يسمح له بمعاودة العشاء، متعة نسبية يعرف بعض معالمها خيراً من المجهول، فوردت علي عقله فكرة أسخف وهى أن يضع إصبعه في حلقه يفرغ ما في بطنه ليبدأ من جديد، وجاءت النتيجة عكسية، إذ تملكه قرف كاد يجهض التجربة برمتها، فتراجع محاولاً أن ينسى خجلاً.

زادت سرعة السيارة زيادة متوسطة وتذكر فيلما قديما جيدا عن مقامر خسر حتى أفلس، وفرح هذه المرة أنه تذكر اسم الممثل بسهولة، جريجورى بيك، فاكتشف فائدة القمار ومعنى أن يواصل المرء الخسارة حتى تفش أورامه، لكنه نشاط ممنوع علي المصريين فيما سمع.

ثم ماذا لو لعب فكسب؟؟

يا ذي المصيبة السوداء.

-13-

 حين بلغ ميدان الجيزة، انحرف بشكل معاند إلي شارع سعد زغلول الذي لم يدخله راكباً أو راجلاً منذ عشرين عاماً، فرح بالزحمة التي جعلت السيارة تسير بسرعة المارة، فأخذ يتأمل الوجوه بائتناس ودعة، قاوم جذب فكره إلي ما يجرى داخل البيوت المتوارية في أي زقاق جانبي، ونجح كما يبدو، انحرفت السيارة إلي شارع المحطة حتى توقفت ـ وحدها ـ أمام محل تفوح منه رائحة الشواء المميزة، كباب مِنَ الذي يعرفه، هذه الرائحة تفتح شهيته في أي وقت تحت أي ظرف، اطمأن أنه مازال يستطيع أن يجد طريقه في أي وقت خلال أي تجمعات سابقة، نزل لتوه ودخل إلي المحل في تصميم واضح.

 

-14-

 جلس في أبعد منضدة بحيث يشاهد الجميع دون تبادل ملزم، اختفت فكرة الأكل تماما لكن أوان الهرب كان قد فات، أقبل عليه الرجل الصبي هاشًا باشا ًمرحباً وكأنه يستقبل زائرا عزيزا ًفي بيته الخاص حتى تصور أنه أتى إلي هذا المحل من قبل رغم يقينه أنه لم يفعل، في الدورة التالية مباشرة أحضر "الرجل الصبي" في يده بضعة أرغفة وأطباق سلاطة متنوعة يعلو بعضها بعضاً، وأخذ الدورق من علي المنضدة واستبدله بدورق آخر، وذهب كالنحلة. يزداد الرفض كلما زادت المشهيات، صحيح أن أربع ساعات مرت علي وجبة الفندق لكن المسألة فيها متغيرات غير واضحة، ورغم ذلك فقد اضطر في الدورة الثالثة أن يطلب نصفا ًمشكلاً، وتساءل ما الذي أدخله هنا وهو يعلم أنه لو أكل كل ما في المحل مجتمعاً فهو لن يفش ورم جيبه كما خطط ودبر؟ أخذ يتأمل الوجوه من حوله، وركز دون قصد علي دائرة الفم والشدقين، فتضخمت تلك الدوائر حتى كادت تحل محل سائر الوجوه والوجود، فخاف حتى غلبه دوار لم يحله إلا صداع محدد، خجل مما فعله حتى عرق، وكأنه دخل الحمام علي محرم عارية دون استئذان، تحسس الكومة وأخرج بعضها دون عدد، وهم أن ينادى الرجل الصبي ويرشوه بها دون أكل، حتى يطلق سراحه دون سؤال، لكنه في نفس اللحظة فوجئ بالطبق الرائع يهبط أمامه مصحوبا بدعوة شديدة الحرارة بالهناء والشفاء.

أخذ يواصل الجهد ليمنع نفسه من معاودة النظر إلي فوهات البشر الطاحنة، فركز بصره علي الطبق اللامع أمامه وإذا به يرى انعكاس منظر فمه وشدقيه مثلهم تماماً، بل أكثر تنافراً، فانتابه حزن حتى كاد يبكى، أنقذه ملمس ناعم احتك بأسفل ساقه فراح يسرب محتويات الطبق قطعة قطعة إلي هذه القطة الضيفة الكريمة القابعة تحت المنضدة، ثم مزق الأرغفة، وبلع الدمعة، ونادى الرجل، ودفع الحساب، وقام، وانصرف.

  

-15-

 ركن السيارة بعيداً حتى يواصل السير في شارع الأزهر آملاً أن تخفف برودة الهواء آثار ما يجثم علي قلبه فشلاً وخجلاً، كاد يتعثر في كوم اللحم المتجمع علي الرصيف تحت غطاء بال مشترك، رفض انحناءة التفكير ونجح كما نجح من قبل في تجنب محتويات زقاق الجيزة.

ارتفع به المصعد إلي أعلي الفندق المطل علي ميدان سيدنا الحسين، وطلب شايا أخضر. فرح بصغر الكوب الضيق من وسطه حتى كاد ينسى تماما خيبته البليغة، بل إنه كاد ينسى كل تجربة الليلة، جذورها وفروعها، حاول أن يرتشف الشاي بهدوء كأنه في استراحة بين فصلين من مسرحية سخيفة، ثم قرر إنهاء كل شيء بإعلان بسيط ومؤكد، يرد به علي كل التساؤلات المسئولة عن هذه الورطة، يرد بقولة مشهورة تعلن أنها "سُـنة الحياة". من ذا الذي سنّها؟ وكيف؟ وتزاحمت عليه أفكار الجانبين المتضادين الكاذبين معا، فتمنى أن تقوم الحكومة عنه بكل شيء فتريحه وتريح أمثاله من هذه الأسئلة وأشباهها، فقفز إليه رجل الضرائب يساومه ويقسم له أن رئيسه باع له "هذه المنطقة" بالشيء الفلاني، فتراجع وتأكد أنه أولي من الحكومة وأنصح وأقدر علي حمل الأمانة، ثم أخذه الحماس حتى كاد يقسم أنه لو استأمن الحكومة "هكذا" فان الله سوف يدخله النار، فازداد غماً، فتمنى أن يتولي الله شخصياً عنه هذه المهمة، فقفز إليه صديق في وزارة الأوقاف يلعّب له حاجبيه، فتذكر أن الله لا يدير أملاكه بنفسه، وإنما خلق خلقاً وكلفهم بإدارتها، فاغتم غماً علي غم، فدعا علي نفسه، وعلي الحكومة، وعلي هذه الليلة بما تيسر، ثم راح يعاتب ربه بما لا يجوز.

 

-16-

 ما دام الأمر كذلك، فماذا لو لم يذهب إلي حيث يجمع ما ينتفخ به جيبه هكذا كل ليلة، هل يجرّب؟ هذا حل طيب، البتر عند المنبع، فلا يصبح مسئولاً: لا عن المجرى، ولا عن المصب، لا عن الانتفاخ ولا عن التخلص منه،  سوف يفعلها غدا، ويشوف، فرح لمدة نصف دقيقة، زادت بغير توقع حتى صارت دقيقتين، وما إن بدأ في الاطمئنان إلي القرار حتى حدث ما توقعه ـ من خبرات سابقة ـ إذ قفز سؤال يتحدى يقول :

"وماذا عن بعد غد؟"

 

-17-

 نزل من أعلي الفندق وقرر أن يدخل المسجد ليصلي ركعتين (غير تحية المسجد ) سنة لوجه الله رغم أنه لا يذكر أنه صلي الفروض نفسها، منذ شهور، فيما عدا النشاط الصباحي بالصدفة،  وهل تصح السنة دون فرض، لكنه شعر أن هذه الصلاة السنة الآن أبرك من مائة فرض، وأن الله حرّ في حساباته، وهو يديرها بطريقة سرية غير ما يشيعه الأوصياء، وجد باب المسجد القريب مقفولاً، لم يحاول أن يجرب باباً آخر، وخطر بباله ـ خائفا ـ أنه قد يواجه نفس المشكلة في الجنة نفسها.

 

-18-

 وهو عائد إلي موقف السيارات البعيد، مر علي نفس كوم اللحم فتوقف علي رأسه ومال ينصت إلي الأصوات الكورالية المتداخلة، قرر أن يتخلص من الرزمة في جيبه بأن يمنحها لكوم اللحم هذا، انحنى بتصميم مفاجئ وهز جانباً من الكوم داعياً الله أن يتصادف أن يكون ذكراً وإلا  ، جاءت سليمة إذ استيقظ النائم ساخطاً لاعناً بصوت خشن لا شبهة حوله، توالت الأحداث بسرعة لم تمكّن النائم المستيقظ من المتابعة، فخاف، ورفض، وتحسس الكومة الملقاة في حجره، وشك لحظـات في أن تكون لفة مخدرات، وأن تتبلي عليه الحكومة، ثم تراجَعَ واحتضنها بنصف وعى، وقبـِلَ الرزق أو النذر أو المعجزة أو الحلم، وتظاهر بالنوم حتى نام فعلاً واللفة في حضنه.

-19-

زاد انقباض صدره رغم تخلصه من الرزمة بأكملها، انزاح الورم عن صدره، وكان يتصور أن كل شيء سينزاح بانزياحه، وخاصة أن الرزمة ذهبت إلي أولئك المساكين النائمين بلا غطاء كاف علي قارعة الطريق في هذا الثلج المجمد، لكن المسألة لم تمض هكذا بالساهل، فلعن الحلول الفردية المؤقتة.

 

-20-

 وصل إلي "الجراج" بالقرب من المنزل وترك العربة للسايس  الذي كان منهمكاً في غسيل السيارات الفارهة وغير الفارهة، فقال لنفسه: الآن فهمت جدوى أن يغير أصحاب الجيوب المنتفخة سياراتهم عاماً بعد عام.

 

-21-

 فتح الباب بمفتاحه الخاص في صمت هادئ وقبل أن يتوجه إلي مخدعه مر علي أسِرّة الأولاد الواحد تلو الآخر، ثم تسحب إلي مخدع زوجته وهو يقسم أنهم جميعا ـ دون استثناء ـ أخْوَنُ من الحكومة، والأمم المتحدة، ومصلحة الضرائب، ووزارة الأوقاف.

 

[10] فيما بعد

 

ـ1ـ

 الفصل شتاء، والوقت ظهراً، والهرم منظره من بعيد أجمل وأوضح وأفخم، لكن إذا ما اقتربت منه جداً، هكذا، فأنت بجوار حجر قبيح لا يقول شيئاً، ولم يعد الصعود إلي القمة مسموحاً به للهواة مثل زمان، وهو كان قد صعد إليه مع زميله الذي سبق أن صعده عدة مرات، وكانا طالبين في كلية الطب، وكانا في الإخوان المسلمين، وفي جوالة الكلية الموقوفة عن النشاط والتجوال معا، ولم يكن هناك أي هدف للصعود إلا التجربة و التحدي، وهو لم يصعده حينذاك بشكل رياضي، فهو لم يكن رياضيا أبداً رغم دخوله الجوالة، صعده مع زميله خجلاً من التراجع، واستجابة لحماس انطفأ الآن، ونزله زاحفا مرتعدا وكان وهو يصعد لا ينظر إلي أعلي بل إلي موضع قدمه، وكان وهو ينزل يضع نفسه علي الحـَجـَرةِ الضخمة ويدلي ساقيه في حذر مضحك، وهكذا، حتى نزل بالسلامة، وصاحبه نحيف طيب متدين عنيد، يقفز هنا وهناك وكأنه ينتقل من فرع شجرة إلي آخر برشاقة منسابة.

 

ـ2ـ

في داخل الهرم كره الانحناء والرائحة والظلام.

ـ3ـ

حين أصبح طبيب امتياز تعرف علي "روبير"، شاب مصري رغم الاسم الأجنبي، طالب في كلية طب أخرى في العاصمة، ذي أصل يوناني، واتفق معه في السر أن يعلمه الرقص الإفرنجي في ست مرات، لا أكثر، وأعطاه روبير ستة مواعيد، أربعة قبل أن يطلب توصية خاصة إلي طبيب مقيم في قسم الجراحة ليجرى له عملية ختان، شاب في الواحدة والعشرين من عمره ولم يختن بعد، ذلك أن الختان عندهم ليس ضرورياً، ليسوا مثل اليهود ولا المسلمين، وقد شرح له "روبير" أنه رفض أن يعملها في كليته الأصلية حتى لا يفتضح أمره في هذه السن، وأنه يريد أن يعملها استجابة لطلب صديقته التي لم يعجبها منظره هكذا، المسألة ليست نظافة ولا تديناً، ثم إنه لا يملك تكاليف  العملية في مستشفي أو عيادة خاصة.

 وحين وعده أن يسهل له هذه المهمة في السر، كان يأمل حتما أن يوفي  روبير بوعده له بتعليمه الرقص، ولم يستطع أن يبعد عن خياله منظر روبير وصديقته  واتجاه نظرتها وهى تعترض علي عدم ختانه، وقال لنفسه إن حذقه للرقص سيفتح له أبوابا جديدة.

 

ـ4ـ

عمل روبير العلمية وخرج مختنا غاية الختان  حتى يمكنه أنه يمكنه أن يشهر إسلامه أو حتى يتهوّد إذا شاء.

 

ـ5ـ

 بعد أسبوعين اتصل بروبير هاتفيا، وبعد حمد الله علي السلامة، عرج علي الموضوع الأصلي وكأنه يطلب أتعابه، أربعة مواعيد لم يف روبير بواحد منها، وقد اتفقا علي ست مرات يكون بعدها رقّاصا ماهرا، وها هي العملية انتهت بسلام، ومن حقه أن يسأل:

 ـ  والرقص؟

قال روبير بسهولة تفيد أشياء كثيرة، ولا تعد بشيء.

ـ فيما بعد، فيما بعد.

فقال لنفسه:

"فيما بعد؟ يعنى متى"؟

ـ6ـ

ظل يرددها بعد ذلك مئات المرات في مناسبات مختلفة " فيما بعد" " فيما بعد"،  كانت تصبره مرة وتفقسه مرات، ويبدو أنه نسي متى لطمته أول مرة من روبير، هذا الذي ذهب ولم يعد أبداً، لكنه فجأة تذكر كل ذلك.

 كان الموظف مشغولاً، ومهذباً . قالها وهو ينظر في أوراقه دون أن يرفع رأسه :

ـ " فيما بعد"، آسف الآن ، علي أن أسوى مرتبات الشهر أولاً، إطمئن، إن شاء الله خير "فيما بعد".

 

ـ7ـ

    كانت لهجة الموظف هادئة وواثقة وواعدة مثلما كان وعد روبير . كاد يرجع ليسأل الموظف" كيف يطمئن"، و خشي أن يكون ردّه هو نفس الرد"فيما بعد".

  

 [11] إنـّّـه الهواء

 

ـ1ـ

تقدّم إليه الرجل الذي لا بد أن يكون "ساعيا" أو مثل ذلك، تقدم إليه يعطيه مظروفا مغلقا،  بنّيا، لا هو بالفاتح ولا هو بالقاتم، وليس عليه طابع بريد، لكنّ خاتما غير واضح كان يكفي أن يصل بالرسالة إلي صاحبها ـ  فلا بد وأن تكون من جهة حكومية ـ فهي تحوى، إذن، مطالبة أو إخطارا أو إنذارا.

خفق قلبه بشدة، وصمم ألا يفتح المظروف أصلاً وقال لنفسه ما معناه :

" لست أنا"

ـ2ـ

تذكرها وهى تغلق الباب خلفها بحركة لم يعتدها من قبل، كانت تقول له قبل خروجها: إنها أخيرا أفلحت  أن تواجهه ببعض ما كان ينبغي أن تقوله له منذ ثلاثين عاما، وكان قد قال في سره وهو يتأملها دون أن يميّز كلامها (صورة دون صوت): ملعون أبو الحرية والنقود، ثم قال أيضا: ملعون أبو الحرية والنقود والخمر، ثم أضاف بعد فترة ليست قصيرة، فترة لا تصلح للإضافة بل لبداية كلام جديد، لكنه أضاف وهو يبلع ريقه بصعوبة: "   والجنس أيضا"، ثم جمعها جميعا هكذا :

"ملعون أبو الحرية والنقود والخمر والجنس أيضا".

 

ـ3ـ

ملأ الكوب الفارغ إلي ثلاثة أرباعه بالماء المثلج (نصف نصف). قال وهو يتأمله في يقين مندهش، إن تداخل الألوان هكذا، حتى يصير الماء شفافا هكذا، هو السر الذي لا يوصف، أما طعمه ورائحته فهما كل شيء حي.

وأخذ يرتشف الماء من الكوب ببطء وبصوت: رشفة   رشفة: هكذا.

 

ـ4ـ

ردّ ابتسامة الطفل غير الموجود في ركن الغرفة وقد خيّل إليه أنه  يغمز له بإحدى عينيه، لكنّه أحس بالغيظ يملؤه حين لم يستطع التأكد إن كان قد لــعّبَ للطفل حاجبيه وهو يرد ابتسامته أم لا، ثم إن الطفل راح يواصل لعبه غير مبال وقد خبأ نصف رأسه وراء  الملاءة المدَلاّة التي كان قد شبك أحد أطرافها في مشبك النافذة نصف المفتوحة، في حين أن طرفها الآخر كان مشبوكا في مقبض النافذة الأخرى التي ما زالت مغلقة، والطرف الثالث في عامود السرير  ليظل الطرف الرابع حرا طليقا يسمح بأن يختبئ الطفل وراءه.

كان  الطفل يؤجل أن تضبطه "دادته" بسرعة في لعبة " المسّاكة". هو يخفي أنه يحبها فوق الوصف ويريد أن يستمتع بخياله وهو ينتظر اللذة التي يتمتع فيها بدفء بدنها وهى تحمله علي ظهرها.

 

ـ5ـ

قال  وكأنه يعلن قرار إنهاء الحرب:

الآن، والآن فقط عرفت تحديداً ما أريد، وهكذا أستطيع أن أرسم كل خطوات المستقبل القريب والبعيد بمنتهى الدقة وكل التفاصيل، صحيح أنني تأخرت كثيرا، لكن ذلك كان لازما لأن  القرار الذي أتاني الآن، فقرّرته، كان يستلزم كل ذلك الوقت، فعليه يتوقف مصير اللحظة، وقال:

اللحظة هي كل شيء

 

ـ6ـ

 انصفق الباب  خلف ذلك الشخص الأول الذي كان قد أتى بالخطاب البنّى الذي لم يكن عليه طابع بريد، والذي كان عليه خاتم حكومي غير واضح.

عاد  نفس الشخص الذي هو في الأغلب "ساع" أو مثل ذلك،  يفتح الباب في تردد حذر، ثم أطل برأسه دون أن يدخل، وكان وجهه ممتقعا وهو  يعتذر مؤكدا:

 "آسف سيدي  لم أكن أقصد"  "إنه الهواء".

 

[12]  هيا بنا يا جدي نلعب مثل أمس

 

ـ1ـ

 الوقت قبيل الغروب،  وقرص الشمس يتوسط أفق الوعي إذ يتحدد ويلتهب.

ولمّا كان هو يحب "هذا" حبّا قديما شديدا، فقد راح يتبيّن لِم َظلّ يرفض طول عمره وصف ما يفوق الوصف،  حتى لو رسموه شعرا، حتى لو أشرقت فيه وبه أضواء جنونُ فان جوخ شخصيا.

  فكاد يتوارى خجلا أن يضبطوه متلبّسا بكل هذا الاختلاف.

علي أنه كان قد سمح لكل الحركات الهامسة التي كانت تتكوّر متداخلة باستمرار باستمرار، سمح لها أن تتجمع الآن أكثر من أي وقت مضى، فتخلّقت قبضة قويّة قادرة علي البزوغ في اتجاه بذاته.

ـ 2 ـ

 قرص الشمس يقترب من خط الأفق، ويتوهّج، وتتحدد معالمه، ويهم بالغوص إلي العين الحمِئة،  هذا منظر يعرفه، حضره عشرات المرات، لكنه الآن يجد نفسه في بؤرته، وهو متأكد أن أغلب ما وُصف به هذا المنظر كان  كافيا لهم، لكنهّ لم يكن  له كذلك أبدا، القرص يزداد دموية حانية، الوهج تتجدد حمرته المصفرة إلي سواد رمادي  يوحي بطيف كامن،  لكنّ رذاذ الأفق لا يتقافز وهو يتناثر عليه.  هو يحب هذا جداً.

 

ـ 3 ـ

 ترتبت السنون في شكل لم يعمل حسابه أبدا كما بدت له الآن، لم يخطط له، لم يصدّق أنه هو، وإن كان  ذلك راح يتمّ في هدوء واضح المعالم، لكنّه بلا تفاصيل، كان دائما علي يقين من أن ذلك سوف يحدث، بل من أنه حادث فعلا ولم يبق له إلا أن يَظهر، كان ينتظره  أكثر مما كان يتمنّاه، كان واقعا أكثر من أي واقع، حقيقة ماثلة طول الوقت رغم أنه لم يتبيّنها بهذا الوضوح أبدا.

 

ـ 4 ـ

 غاص القرص المتوهج   فتلقاه الأفق حانيا  بلا أدنى شهوة أو شبهة احتواء،  النار التي عبدها بعض البشر بعض الوقت كانت تنتمي إلي هذا الذي يعيشه الآن، ولو أن سيّدنا إبراهيم عاش هذه اللحظات لما استنكر أفول الشمس، أو لعله كان سوف يحبّ الآفلين، دون أن يعبدهم.

 لماذا تهان الألفاظ والأشياء ونحن نفهمها بالمقلوب؟

 لماذا نستعملها من الظاهر؟

ـ 5 ـ

إن الذي سيشرق من الجانب الآخر لن يكون "هو"، ذلك لأنه لا  الشمس تدور حول الأرض، فهذا تفكير جاهل متخلف نسخه العلم  منذ كوبرنيكس، ولا الأرض تدور حول نفسها أمام  الشمس، فهذا سلوك راقصة خليعة شاذة ترتزق. لا بد من حل آخر يضعنا نحن البشر في اعتباره، حل  يغلّب المنطق السليم، وهو ـ شخصيا ـ  ليس مسئولا عن إيجاد هذا الحل بأي درجة، ولا يوجد سبب واحد يضطره إلي ذلك.

 

ـ 6 ـ

قطرات الحياة تتجمّع في بؤرتها المقعرّة وكأنها لم تتفرق وتتلاحق أبدا، هي وحدات أشف قليلا من القطرات، وأخفي،  لم تقل شيئاً جديدا، لكنهّا قالت ما يكفي لتتضح الأمور.

ليكن

فتقدّم نحو مغرب الشمس  ليهمس لها في خدرها: إنه حزين.  

ثم  راح يتذكّر  أشياء كثيرة كثيرة، أخذت تتضح أكثر فأكثر حتى صارت شديدة البساطة والمباشرة.

 

ـ 7 ـ

قال له حفيده فجأة:

 "هيّا بنا يا جدي نلعب سوياً مثل أمس، كما وعدتني".

 ألقى ما بيده، واستجاب له دون تردد

الرجوع إلي الفهرس

 

Document Code PB.0123

http://www.arabpsynet.com/Books/Yahia.B18 

ترميز المستند   PB.0123

 

Copyright ©2003  WebPsySoft ArabCompany, www.arabpsynet.com  (All Rights Reserved)