Arabpsynet

 مقـالات أصيلة  /  Original Articles

شبكة العلوم النفسية العربية

 

اغتــراب الطفــل العربــي

 أ. د. محمد أحمد النابلسي

أستاذ الطب النفسي - لبنان

 

بعد عشر سنوات على إطلاقه "نهاية التاريخ " يستدرك فوكوياما إهماله أهمية "الاعتراف " الهيغيلي فيجري مراجعة تلحظ هذا الاعتراف. مؤكدا على قدرة الثورة البيولوجية على جلب هذا الاعتراف ولو بطريقة اصطناعية هي أقرب إلى نشوة التخدير منها إلى الشعور الواقعي بقيمة الذات. مجالنا هنا لا يتسع لمناقشة طروحات فوكوياما تفصيلا لذلك نطرح المسألة خالية من المقدمات بالتساؤل عما يمكن للإنسان العربي، ولأطفاله تحديدا، أن يفعله بانتظار هذا الاعتراف؟. فعدم الاعتراف وبالتالي الاغتراب هو الكابوس الذي يثقل وعينا ويستجلب معاناتنا ليشكل كارثتنا المعنوية الأثقل. وطفلنا قد لا يدرك الوجوه المادية لهذا الاغتراب لكنه يحس بالقهر المرافق له ويعاني منه. هذه المعاناة واجبة الدراسة والتقصي لوضع جداول تصنيفية لها وخطوات وقاية واقتراحات علاج.

   هذه الدراسة تدخل في إطار التخصص السيكولوجي بمختلف مناهجه وفروعه. وتمازجها مع السياسي لا يلغي مسؤولية دراستها والأعباء الأخلاقية المترتبة على تجاهلها أو إهمالها. خاصة وان اغتراب الطفل العربي يتفاقم وفق انذارية غير مطمئنة تتماشى مع تراجع آمال الحصول العربي على الاعتراف. وهي آمال تتراجع عند شعوب لا تزال تصنف راهنا كمتقدمة.

   في هذه الورقة سنعمد إلى تبيان الشروط الراهنة للحصول على الاعتراف كي ننتقل إلى تصنيف أنواع الاغتراب التي يعايشها الطفل العربي وأثرها على هويته. لنخلص إلى اقتراح جملة خطوات تسهل استجلاب الاعتراف وتعفي الطفل العربي من عصاب الهجر والهجرة. حيث نعتقد أن إعاقة الاغتراب لقدرة الأهل على نقل العناصر القيمية، المكونة لهويتهم، إلى أطفالهم هي الخطوة الأولى نحو فقدان الهوية. ونحو انفصال الأنا لدى أطفالنا الاغترابيين. ومن هنا فإن تصنيفنا لحالات الهجر قد يمتد إلى فئات لا تنطبق عليها المعايير التقليدية لمبدأ التهجير والهجرة.

 

الطفل العربي بين الهجر والتهجير:

   يتكلم التحليل النفسي عن عصاب الهجر لدى الطفل فيعرفه على النحو التالي:... يرتبط الهجر بحالة أساسية من فقدان الأمان العاطفي. الذي ينعكس بحاجة لا محدودة إلى الحب بحثا عن الطمأنينة المفقودة التي تتخذ من اندماج الطفل البدائي بأمه نموذجا أوليا لها. وقد لا يتطابق هذه العصاب مع هجر فعلي من قبل الأم. هو قد يرتبط بموقف عاطفي نابذ من قبل الأم. ومن تجليات عصاب الهجر، التي لا تظهر إلا في سياق التحليل، القلق والعدوانية وانعدام القيمة الذاتية وغيرها من العوارض المؤدية لاضطراب الأنا.

   وإذا كان التحليل يقصر فترة تكون عصاب الهجر على المرحلة ما قبل الأوديبية فان ذلك لا ينفي إمكانيات تكونه لاحقا عبر بدلاء الأم أو من خلال مواقف النبذ في فترات حياتية لاحقة. حيث تتحول مواقف النبذ من أشكالها البدائية إلى أشكال أكثر تطورا وتعقيدا. ومن تلوينات الهجر الملاحظ لدى الأطفال العرب يمكننا تعداد الفئات التالية:

 

1.        الأطفال المهجرون بسبب الحروب: ولنا في هذا المجال تجربة على علاقة بموجات التهجير والفرز الديموغرافي خلال الحرب الأهلية اللبنانية. حيث عانى الأطفال المهجرون من نبذ غير إرادي من قبل أسرهم. وأضيف العجز إلى هذا النبذ ليترك آثاره على صورة الأنا المثالية عند هؤلاء الأطفال. وهي معاناة لا بد لها من أن تؤدي إلى اضطراب الأنا وهويتها في مراحل لاحقة. حيث تتنامى المشاعر العدوانية في مثل هذه الحالات بسبب وجود عدو ممكن التحديد والتعريف (أحيانا أمكن معرفة المعتدين الأفراد).

 

2.        الأطفال المهجرون بسبب الفقر: يصل في بعض أنحاء الوطن العربي إلى درجة المجاعة وفقدان سبل الرعاية الأولية للأطفال. وفي هذه الحالات تكون الهجرة غير مشروطة وغير مدروسة. إذ ينحصر هدفها في تأمين الحاجات الأولية للمهاجرين. الذين غالبا ما يستقبلون في مخيمات أو في تجمعات سكانية معزولة ليعيشوا على المساعدات. وبغض النظر عن مدى إدراك الطفل لهذه المعايشة فإن حرمانه من حاجاته الأولية هو بحد ذاته انتهاك لإنسانيته ولحقه في الحياة.

 

3.        الأطفال المنفصلون عن الأهل لأسباب مختلفة: وأسباب هذا الانفصال مختلفة وصعبة الحصر في إطار محدد. إذ قد يأتي الانفصال بسبب اليتم (وفاة طبيعية أو اصطناعية). أو بسبب السفر أو الطلاق (بما فيه الطلاق النفسي حيث تستعر الخلافات الزوجية إلى مرحلة يصبح معها الطلاق أكثر أمنا للأطفال). أو بسبب الهجرة القسرية (لجوء سياسي، فقدان الأمن الاجتماعي أو الشخصي... الخ). أو بسبب انتشار ظاهرة التشرد كملازمة للفقر.

 

4.        الأطفال المغتربون داخل بلدانهم: ويدخل في هذا الإطار الأطفال المحرومون من الرعاية الصحية والاجتماعية الملائمة لغاية التشرد. والأطفال المساء استغلالهم معنويا (مثل عمالة الأطفال) أو جسديا (بالضرب أو جنسيا).

 

5.        الأطفال المهاجرون: ونقصد بهم الذين يهاجرون بصحبة أسرهم بعد فترة قضوها في بلدانهم اعتادوا خلالها أنماط الحياة وتقاليدها. وهؤلاء الأطفال يواجهون صعوبات تكيف بالغة مع مجتمع الهجرة. بذلك إن قدرة الطفل على تغيير عاداته اليومية تكاد تكون معدومة. حتى أننا نواجه في العيادة حالات اكتئابية طفولية لمجرد تغيير الطفل لمدرسته.

 

6.        أطفال المهاجرين (المولودين في الخارج): وأطفال هذه الفئة يعانون من غربة مزدوجة. إذ يعيشون تحت وطأة انفصال، يصل إلى حدود التعارض، بين بيئتهم الأسرية وبين بيئتهم الاجتماعية. ويصل هذا التعارض إلى ذروته على الصعيد القيمي. حيث يحاول الأهل نقل قيم هويتهم إلى الطفل في حين يحاول المحيط (مجتمع الهجرة) أن يطبعهم مع جهاز قيمه الخاصة مقدما إغراءات صعبة المقاومة. ومن ضمنها إغراء الاعتراف.

 

 لكل فئة من هذه الفئات معاناتها وظروفها المميزة كما رأينا. بحيث تحتاج كل فئة منها إلى دراساتها الخاصة. فإذا ما أردنا استخلاص علائم مشتركة بينها عدنا إلى العلائم الرئيسية لعصاب الهجر. التي لا نجد بأسا من تكرارها مع رصد انعكاساتها على الانتماء والهوية. فبغض النظر عن أشكال الهجر والنبذ يمكننا الحديث عن العلائم التالية:

 

1.        انخفاض تقدير الذات لدرجة الانعدام: ويتأتى نتيجة لشعور الطفل بالنبذ. سواء بسبب الدوافع العنصرية أو التمييزية أو السياسية، التي ترسخ شعوره بالاختلاف، أو بسبب العزلة المفروضة عليه إما بسبب العجز أو بسبب الاختلاف.

 

2.        العدوانية: وتأتي كردة فعل دفاعية أمام الإحساس بالنبذ وعدم الاعتراف. وهي تزداد حدة ممارسته (يتراوح النبذ ما بين التجاهل وبين الاعتداء المعنوي أو المادي على الطفل مباشرة أو على رموز الأنا المثالية).

 

3.        القلق: الذي غالبا ما يتبدى على شكل مخاوف طفولية. ويمكنه أن يتحول إلى حالات ذعر ليلي وكوابيس تكرارية وارتجافات لاإرادية (من نوع جبيل دو لاتوريت) وغيرها من المخاوف.

 

4.        تهاوي الأنا المثالي: حيث الأنا المثالي هو استمرارية لا واعية للجبروت النرجسي وللتوحد بالأم فائقة القوة. من هنا اتكاء التوحد بالبطل الأسطوري على الأنا المثالي. ويتضمن الأنا المثالي محاولة إلغاء الآخر، المهدد، إذا لزم ذلك لتأكيد الذات. فإذا ما فشل هذا الإلغاء ظهرت آلية التوحد بالمعتدي.

 

5.        التوحد بالمعتدي: وهو اختصارا سلوك ناجم عن الخوف (من العدوان الفيزيقي أو المعنوي) يؤدي للرضوخ إلى إرادة المعتدي. لدرجة التوحد به واعتماد سلوكه العدائي. وتتمثل خطورة هذا التوحد بالمواقف العدوانية التي يعتمدها بعض الاغترابيين تجاه مجتمعهم ورموزه. حتى يمكن تصنيفهم في فئة "عرب يكرهون أنفسهم ".

 

    وكل هذه الأشكال تشترك في عسر الحصول على الاعتراف فكيف يقترح فوكوياما آلية الحصول على هذا الاعتراف.

 

فوكوياما واقتراحات الحصول على الاعتراف:

    في مراجعته لنهاية التاريخ يعود فوكوياما ليؤكد هذه النهاية وليبرر تأخرها بإهمال طرحه السابق لأهمية الاعتراف (وفق طرح هيغل). إلا أنه يرى أن مضادات الاكتئاب من شأنها أن تزيل الغم والكمد عند الشعوب التي تعجز عن الحصول على الاعتراف. وبانتظار أن تأتي الثورة البيولوجية بترياق جديد للاعتراف (كأن تتمكن ثورة الجينات من إنتاج مواليد يتمتعون بمظهر الإنسان المتفوق دون أية آثار لملامحهم الموروثة التي يتم التمييز على أساسها) فهو ينصح بدواء "بروزاك" (تجدر الإشارة إلى أن قوانين الولايات المتحدة تسمح لغير الأطباء بوصف الأدوية النفسية) وغيره من مضادات الاكتئاب.

    عبر هذا الاختصار الشديد يتبين لنا أن الأمل في رقي البشرية، إلى مرحلة رفض العدوان والقوة وإعطاء قيمة أكبر للحياة الإنسانية وتخفيف معاناتها، هو نوع من السراب. إذ يبدو أن الإنسانية مصرة على أكثر وأقدم أسلحتها العدوانية وهو سلاح النبذ. وحقنا في هذا الاستنتاج مبرر بصدور الفكرة عن مفكر مستقبلي ذي تأثير وليس عن يساري هامشي منبوذ على الطريقة الأميركية. وهلعنا من جرعة هذه العدوانية النابذة يعيدنا لطرح السؤال عما إذا كانت صيرورة التاريخ خاضعة لمشيئة الأفراد أو الجماعات؟ أم أن لها سياقها وصيرورتها المتميزان، عبر التاريخ، بالمفاجآت غير المرتقبة؟ (النابلسي1999).

    الأهم أن نعترف أن الطفل العربي لا يستوفي الشروط الراهنة للاعتراف. وبالتالي فهو يعيش النبذ منذ ولادته ويغترب لحظتها. ليبدأ صراعه من أجل الحصول على الاعتراف مع بداية حياته. شأنه في ذلك شأن أطفال العالم الثالث أو المتخلف بحسب القاموس الراهن. الذي يطرح الليبرالية كوسيلة وحيدة للحصول على الاعتراف. لكنها ليبرالية لا تتسع لنا (النابلسي، 1995). على أننا وقبل أن نغرق في مناقشة المحيط المهدد بالنبذ ومحركاته. لا بد لنا من مراجعة أصناف الاغتراب التي يعيشها الطفل العربي. مما يقتضي منا العودة إلى الاختصاص وعيادته حتى لا يأخذنا النظري فنفقد الصلة بالعيادي التجريبي. وإن كان الجمع بينهما ضرورة لتكوين صورة متكاملة.

 

Document Code OP.0035

NaboulsiArabChildMig 

ترميز المستند OP.0035

 

Copyright ©2003  WebPsySoft ArabCompany, www.arabpsynet.com  (All Rights Reserved)