Arabpsynet |
||
|
||
الجنــــس و النفــــس في
الحيــاة الإنسانـيــة "مـقــدمـــة كـتــــاب" الدكتور كمــال علــي المؤسسة العربية للدراسات و النشر |
||
لم يكن هذا الكتاب من ضمن أولوياتي في الكتابة، ولعله لم يكن في ذهني على الإطلاق، وهو لذلك ربما يأتي قبل أوانه وفي غير زمانه. والذي يفسر هذه الولادة الطارئة والمبكرة هو أنني دعيت قبل بضع سنوات لإلقاء بحث في مؤتمر عالمي يعقد في بغداد تنظمه الرابطة العالمية لتنظيم الأسرة وطلب مني أن يكون البحث في موضوع من المواضيع المتعلقة بالحياة الجنسية، وقبلت التكليف وأنا لم أتأمل بعد مدى اتساع عابر الحياة الجنسية ومتاهات مجاهل هذه الحياة وصعوبة الاستقرار على ناحية منها تكون موضوعا للبحث. كما أني لم افطن في حينه لما يكتنف البحث في المواضيع الجنسية من محاذير، ذلك أن الأمور الجنسية تظهر أحيانا وفي الكثير من المجتمعات وكأنها أرض حرام، زرع مجالها بما يشبه الألغام من التزمت والجهل والتحيز وسوء الظن وخطأ الفهم والحساسية والنفاق، وغيرها من المواقف التي لها ليس فقط أن تعيق البحث العلمي والهادئ في هذه المواضيع، وإنما أيضا أن تواجه الباحث فيها بخطر الانجراف، وكأنه يضع خطاه في الرمال المتحركة يغيض فيها قبل أن يدري. لقد كان من الصعب علي أن استقر على موضوع واحد أتناوله بالبحث والمتابعة، فسرعان ما تبين لي بأن في الحياة الجنسية أكثر بكثير مما يبدو في الظاهر، وأن هذه الحياة متعددة النواحي متشعبة الجوانب وبعيدة النفاذ في كل ناحية من نواحي الحياة والنشاط الإنساني، وهكذا وجدت نفسي أجوب هذه النواحي، بعضها بفعل التأمل، وبعضها بفعل الاسترسال، ولم أفطن إلى نفسي إلا وأنا في خضم محيط واسع، وإذا بي قد تجاوزت غايتي في بحث موضوع محدد، ووجدت بأن من الأسهل لي أن أتناول بحث الحياة الجنسية في نواحيها المختلفة، وهو ما فعلت. والكتاب الحالي يمثل لذلك وإلى حد بعيد رحلة في البحث عن موضوع في الحياة الجنسية أكثر مما يمثل بحثا في الحياة الجنسية بكامل نواحيها. إن من المفارقات، إن لم تكن من المتناقضات الجديرة بالتأمل والبحث الجاد، هي انه بينما لا يوجد أي شك في أن الدافع للسلوك الجنسي هو دافع أساسي وعام وضروري في حياة الإنسان، وبأنه لا يمكن له أن يوجد أو أن يستمر في البقاء بدونه، ومع انه لايستطيع العيش بدون ممارسته، إلا أنه في الوقت نفسه يتسرر في حياته الجنسية وسلوكه الجنسي وكأن هذا الدافع ليس من دوافعه، وهو يتكتم في هذه الحياة إلى حد إغلاق باب الفهم عنها، كما انه يجد من اللازم عليه أن يتخذ من المواقف المعلنة والظاهرة من الأمور الجنسية مما لا يتوافق، إن لم يكن يتعارض، مع دوافعه ورغباته وممارساته الفعلية للحياة الجنسية. إن هذه المفارقات، لا شبيه لها في حياة الكائنات الحية الأخرى، ولا مثيل لها بمثل هذه الدرجة من التناقض في أي مجال آخر من مجالات الحياة الإنسانية. ومع أننا نجد ما يفسر دوافع الإنسان للتكتم والتسرر في حياته الجنسية، وما يفسر اتخاذه لمواقف مزدوجة، من فعلية أو معلنة نحو الأمور الجنسية، ونجد في هذه المواقف ضرورة لمطاوعة القواعد الاجتماعية والمعتقدات الدينية، كما أننا نجد في ذلك ما يعطي للجنس خصوصية لازمة وحتى جاذبية خاصة تذكي الرغبة الجنسية وتعززها، إلا أننا في الوقت ذاته نجد بأن الإمعان في التسرر ومد المفارقات الازدواجية بين المكتوم والمعلن إلى حدود كبيرة فإن من شأن ذلك أن يخلق نتائج سلبية في حياة الفرد، وذلك باضطراره لأن يعيش نمطين من الحياة الجنسية والنفسية، وما لذلك أن يؤدي إليه من صراعات نفسية، إضافة إلي واقع من الجهل والتحيز والنفاق والانحراف. ومع أننا نميل إلى ضرورة الإبقاء عل خصوصية الحياة الجنسية في أقصى حدودها، إلا أن ذلك يجب أن لا يحدث على خلفية من الجهل بالحياة الجنسية ومحلها من الحياة الإنسانية، كما انه يجب أن لا يتم مع حالة من المبالغة في التستر على هذه الحياة وإلى الحد الذي يناقض الإنسان فيها نفسه بين ما هو معلن وبين ما هو عليه في الفعل، وهو تناقض من شأنه أن يفقد الجنس ليس خصوصيته فحسب، أو قيمته كقوة اجتماعية، وإنما أيضا قيمته كطاقة محركة جميلة وخلاقة في حياة الفرد وحياة المجتمع والحياة الإنسانية بكاملها، والتي لا مثيل لها في طاقات الإنسان كلها. إن أهم ما يلاحظه الباحث في موضوع الحياة الجنسية لبني الإنسان هو تعدد المواقف من الأمور الجنسية بين مجتمع وآخر وزمن وآخر وحتى بين فرد وآخر وحتى في الفرد نفسه بين حين وآخر، كما أن الأبحاث والاستبيانات تفيد بوجود الكثير من مظاهر عدم التوافق بين المواقف الظاهرية من الأمور الجنسية والمواقف الفعلية كما يمارسها الفرد أو يتمنى ممارستها لو أمكن له ذلك، وهذه الحالة من عدم التوافق ولدت عند غالبية الناس مقاييس ثنائية في النظر إلى الأمور الجنسية، واحد منها، وهو المقياس المعلن، يتوافق مع الضرورات الاجتماعية السائدة، والموقف الثاني، وهو الموقف الخفي، يتوافق مع ما يشعر به الفرد ويتوق إليه في أعماق نفسه أو يمارسه بالفعل في السر. ومثل هذه الحالة من ازدواجية المواقف قد لا يكون لها مثيل وبنفس الدرجة من مواقف الإنسان من أمور حياتية أخرى، ولها أن تخلق في الذي يحملها حالة من الصراع النفسي بين ضرورة الامتثال لقانون المجتمع ومثله، وبين ضرورة الاستجابة لحاجات الفرد وخيالاته وميوله التي قد تخرج عن قواعد هذا القانون ومثله. ومع أن الآثار السلبية الناجمة عن مثل هذا الصراع عديدة سواء كانت في الحياة النفسية للفرد أو في سلوكه وتصرفاته إلا أن لهذه الثنائية في المواقف بعض الفوائد الإيجابية إذ أن لها أن تحد من إمكانية التسامح والتحرر والإباحة في الأمور الجنسية، وهي الحالات التي لها أن تجعل من الحياة الجنسية مجرد حاجة بيولوجية حيوانية قائمة في ذاتها وفي معزل عن حياتنا النفسية وواقعنا الإنساني، ولا بد لذلك من تبني صيغة معقولة من المواقف تضمن توافر أكبر قدر ممكن من التوازن النفسي مع أكبر قدر ممكن من القيم الخصوصية والمثالية للحياة الجنسية، وهي صيغة يبدو بأن من الصعب التوصل إليها أو التصرف بموجبها في شعورنا وفي سلوكنا في آن واحد. هنالك كما هو معروف تخلف كبير في ثقافتنا الخاصة والعامة حول المواضيع الجنسية من حيث طبيعة ومسالك هذه الحياة ومن حيث أبعادها ومشاكلها إلى غير ذلك من الأمور المتعلقة بها. وهذا لا يقتصر على الثقافة الفردية لعامة الناس، وإنما يشمل أيضا أولئك الذين يجب أن يلموا بالحقائق الأساسية والمناسبة عن الأمور الجنسية، فالمناهج الدراسية المقررة أو غير المقررة وفي جميع مراحل الدراسة من ابتدائية ومتوسطة وثانوية، وفي الكليات والجامعات، تكاد تكون خالية إن لم تكن خالية كليا من أي إشارة إلى المواضيع الجنسية، وفي كليات الطب لا تدرج الحياة الجنسية في مناهجها، ويغض النظر عنها عادة حتى في تلك المجالات من الدراسة التي تتطلب بالضرورة الإحاطة بها. إن مثل هذا الواقع يعكس قيام حالة من الحرج فيما يتعلق بالأمور الجنسية، وما يتسبب عنه ذلك من النهي والتكتم والجهل، وقد لا يكون ذلك الخطر الوحيد من هذا الإغفال. ولعل الخطر الثاني والأعظم هو أن الفجوة الناجمة عن هذا الإغفال لها أن تملأ بفيض من المعلومات الخاطئة والضارة والعبثية والتي لها أن تزيد من سوء الفهم من ناحية وأن تشوه الحياة الجنسية للجيل الناشئ وإلى الحد الذي قد يتعذر فيه إصلاحه في المستقبل بأي وسيلة تثقيفية أخرى. ومع إدراكنا للمحاذير الكامنة في تناول المواضيع الجنسية بصورة صريحة، إلا أن بالإمكان تجاوز هذه المحاذير باتباع الأساليب التثقيفية الموضوعية والتي اتبعتها بلدان أخرى واجهت مثل هذه المحاذير والحاجة إلى تجاوزها، وكلما فعلنا ذلك بسرعة أعظم، كل ما أمكن لنا تفادي النتائج السلبية للطغيان الإعلامي في المواضيع الجنسية والذي يستهدف الإثارة والعبث والإفساد والانحراف، وهي المظاهر التي تعانيها مجتمعاتنا بتزايد وتسارع واضحين ومزعجين. لعل من أهم ما تمخض من نتائج الأبحاث والدراسات في الأمور الجنسية خلال هذا القرن هو أن للطفولة حياة جنسية من درجة أو أخرى، وبأن إغفال ذلك خطأ تربوي، له أن يؤدي إلى تعقيد الحياة النفسية للطفل في المستقبل، والنتيجة الثانية، هي الإقرار بأن للأنثى حياتها الجنسية، والتي لا تعتمد بالضرورة عل الرجل، وبأن إغفال ذلك هو من الأخطاء الكبرى التي سببت وتسبب المعاناة للأنثى، كما تسبب فقدان التوافق بين الرجل والأنثى. والنتيجة الثالثة، هي الإدراك المتنامي بأن حياتنا الجنسية وثيقة الصلة بحياتنا النفسية، وأن تكامل الحياتين له أن يضمن انفراج وهدوء الحياة الإنسانية، وأن تعثر أي منهما له أن ينعكس على الناحية الأخرى، وله أن يفقد الإنسان هدوءه وتوازنه وفعاليته الحياتية، والنتيجة الرابعة هي أن الحياة الجنسية قد تكون هدفا في حد ذاتها، يسعى إليها المشارك فيها للمتعة والإيناس بدون التقيد بضرورات الإنجاب والبقاء. وهذه النتائج على أهميتها، وبالرغم مما حققته من فهم للحياة الجنسية، إلا أنها لم تستطع بعد أن تقدم أخلاقية جديدة للحياة الجنسية المعاصرة، كما أنها لم تقلل كثيرا من ازدواجية المواقف من هذه الحياة. ولعله ليس من شأن العلم أن يقدم مثل هذه الأخلاقية، وإنما يقع عبء ذلك على الأفراد والمجتمعات، والذين يترتب عليهم مهمة تطوير مواقفهم طبقا للمعطيات العلمية. ولمثل هذا التطوير أن يتأخر كثيرا عن إدراك هذه الحقائق والمعطيات بالوسائل العلمية. لقد اخترت عنوانا لهذا المؤلف من شأنه أن يدلل على الارتباط بين الجنس والنفس في الحياة الإنسانية، وهذا الاختيار يجسد ما أعتقد به من مدى وثوق الصلة بين النواحي الجنسية والنواحي النفسية في حياتنا، وهذا يتجلى بوضوح في المواضيع التي تناولتها بالبحث والتي تشمل أوجها عديدة من النشاط الإنساني والتي لم يكن بالإمكان التطرق إليها لولا هذه الرابطة الوثيقة بين الجنس وبين أوجه الحياة الأخرى. ومن الواضح لمن ألم بموضوع السلوك والدوافع الجنسية ومحلها في الحياة النفسية للإنسان، بأني لست البادئ بادراك مثل هذه المكانة، فقد أدركت من علماء النفس وأخصهم فرويد الذي ربط بين النمو الجنسي والنمو النفسي للفرد في أدوار سماها بالأدوار النفسية الجنسية، ووجد في طبيعة هذه الرابطة وأدوار النمو التي تمر بها ما له أن يؤثر تأثيرا جذريا على نمو الشخصية في الكبر وعلى مستقبل الحياة النفسية للفرد، وقد أدركت هذه الحقيقة ممن سبق فرويد من علماء وفلاسفة عديدين، كما أفادت بها بعض الأديان والمعتقدات في حضارات ومجتمعات عديدة. إن هنالك الكثيرين في كل عصر وحضارة ومجتمع ممن ينظرون إلى الأمور الجنسية نظرة بيولوجية صرفة، وبأنها مجرد شهوة ترضى بأقصر سبلها، وهم لا يجدون مكانة لها في الحياة النفسية، ومنهم من يذهب إلى أبعد من ذلك فينزه النفس عن أن تتلوث بشهوة الجنس. وهذه المواقف يمكن إدراكها وفهمها، وهي تتم إما عن جهل أصحابها بالقوى والطاقات الفعالة في الحياة الإنسانية، أو أنها تمثل محاولة واعية منهم لطمس معالم الجنس في النواحي المختلفة من سلوكهم وحياتهم، وهم بذلك يغالطون أنفسهم ويقفلون باب التأمل فيها. ومع أن الجنس في حياتهم يظل فعالا ومؤثرا في حياتهم النفسية بالضرورة التي لا يعونها في أنفسهم، إلا أنهم نتيجة هذا الجهل والمغالطة إنما يحرمون أنفسهم من التمتع بما للجنس من جمالية ونفاذ في حياتنا النفسية. ومع أن هنالك ما يبرر كتابة هذا الكتاب من أجلهم، إلا أن معظم الدوافع لكتابته تأتي من قناعتي بأن في الجنس من المعاني والأهمية في حياتنا النفسية ما هو أكثر وأعظم وأعمق مما يتبادر للذهن من مقام الجنس في الحياة. لم يكن هنالك بد من أن أسأل نفسي في مرحلة أو أخرى من مراحل إعداد هذا الكتاب عن الهدف من تأليفه، وعن الفرد أو الفئة من القراء الذين أتوجه به إليهم. والواقع أنني تجنبت تقييد نفسي بإجابة محددة في الأمرين، واتجهت بدلا من ذلك إلى تحقيق غايتين في نفسي، أولهما إعطاء الحقائق المعروفة كما هي عن حياتنا الجنسية وسلوكنا الجنسي في الحالات الطبيعية وفي حالات الانحراف، أما الغاية الثانية، وهي أكثر إلحاحا وأهمية في نظري، فهي ربط الحياة الجنسية الإنسانية بحياتنا النفسية، وهو الربط الذي يميز الحياة الإنسانية عن غيرها من حياة الكائنات الأخرى، والذي بسببه أمكن تطوير الحياة الإنسانية في النواحي الاجتماعية والحضارية، ولعلي استطعت بذلك أن أضع الجنس في مكانه الصحيح، ورفعه من مجرد الطاقة الغريزية، إلى مكانه اللائق كقوة حياتية رئيسية تنفذ إلى كل ناحية من حياتنا، ويرسي المكانة التي أرادها له خالق كل شيء، لا كوسيلة للخلق والبقاء فقط، وإنما للإيناس والسكون والمتعة، وكرباط لا بديل ولا مثيل له للجمع بين الذكر والأنثى في نفس واحدة، كما بدأ منها. أما لمن كتبت هذا الكتاب ؟، فهو تساؤل لا يجيب عنه إلا القارئ له، والذي آمل أن لا يخطئ في فهم غاية الكتاب، أو أن يسارع في تطبيق المقاييس المزدوجة عليه، أو أن يجد فيه ما ليس منه. فليس في الكتاب ما يمكن أن يتخذه القارئ وسيلة لمتعة أو نزوة جنسية من نوع أو آخر، وليس من أغراضه أن يستغله القارئ للتندر والمسامرة، وليس من أهدافه أن يكون دليلا جنسيا عن السلوك الجنسي الطبيعي أو المنحرف، وليس من أغراضه إدانة المسالك الجنسية من نوع أو آخر، وليس من غاياته أيضا استبدال مواقف جنسية معينة بأخرى غيرها، وهو لا يتجه إلى تشجيع الجنس والتسامح فيه، أو على عكس ذلك، بالنهي عنه والتزمت والزهد فيه. وما عدا ما ليس في الكتاب، فإن فيه ما يقتضي لأي فرد أن يلم به عن موقع حياتنا الجنسية من حياتنا الإنسانية، وعن مدى الرابطة الوثقى بين هذه الحياة الجنسية وبين حياتنا النفسية، وهي الرابطة الأهم في اعتقادي، والتي تبرر النظر إلى الإنسان بأنه المخلوق الأعلى قدرا من بين الكائنات الأخرى. هذا هو ما حاولت إدراكه، وليس لي أن أحكم عل مقدار حظي من الفشل أو الوصول. |
||
سعيا وراء ترجمة جميع صفحات الشبكة إلى
الإنجليزية و الفرنسية نأمل من الزملاء الناطقين بالإنجليزية و الفرنسية
المساهمة في ترجمة هذا البحث و إرساله إلى أحد إصدارات الموقــع : الإصــدار الإنجليــزي – الإصــدار الفرنســي |
||
|
||
Document Code OP.0008 |
ترميز المستند OP.0008 |
Copyright ©2003 WebPsySoft ArabCompany
www.arabpsynet.com (All Rights Reserved) |