Arabpsynet

 Articles Originaux   /  مقـالات أصيلة /  Original Articles

شبكة العلوم النفسية العربية

 

.

الشخصيــة العربيــة و الوفــرة الاقتصاديــة

أ.د. محمد أحمد النابلسي  -  لبنــان

 

  

q       الملخص /  Summary / Résumé

 

تلعب الوفرة الاقتصادية دورا مقررا في تحقيق توازن الشخصية الأممية، في حين يؤدي الشح الاقتصادي إلى تفجير العناصر التفككية في هذه الشخصية بما يشجع اختلال توازنها. فإذا ما أضيفت إلى هذا الشح الإثارة المقصودة لعناصر التفكك، فإن الشخصية تجد نفسها أمام تحديات تدفعها للتثبيت على ماضيها واستنفار ذاكرتها للمحافظة على هويتها. فالحفاظ على الهوية هو ركيزة التموقع بالنسبة إلى الآخر. لكن هذا التموقع لا يكتمل إلا باكتمال تعرفنا إلى الآخر وإلى مواقعه والى أساليبه الخاصة في إدارة الاتصال وطرائقه في اختراق دفاعات شخصيتنا.

من هنا كان للعلوم النفسية، وللتربية على وجه أخص، دورها في دعم سيرورة إعادة تنظيم الشخصية العربية عن طريق تنشيط ذاكرتها وتأكيد موقعها وتعويض آثار الشح الاقتصادي ومواجهة مشاريع استثارة العناصر المففكة للشخصية العربية.

إن التحديات الحضارية التي تواجه أمتنا تقتضي الدراسة المعمقة لهذه التحديات من حيث الخلفيات والأهداف والوسائل المعتمدة لتنفيذها. وباختصار فإننا بحاجة لأن نملك تعريفات دقيقة (ومنسجمة مع شخصيتنا القومية) لهذه التحديات، وفي مقدمتها مصطلحات: العنف والإرهاب والتسوية والسلام والتطبيع والشرق أوسطية... الخ.

 

1-    المعطيات والمصطلحات:

تعتبر الكارثة قمة الأحداث الصدمية، ويعتبر اضطراب الشدة عقب الصدمية أحد أبسط الآثار النفسية للكارثة. وما يصح على المستوى الفردي يصح على المستوى الجمعي في حالات الكوارث الجماعية، خصوصا عندما تكون هذه الكوارث معنوية. ولقد تعرضت أمتنا العربية خلال القرن العشرين إلى سلسلة مترابطة من الإحباطات المعنوية التي انعكست بشكل كوارث معنوية بالغة التهديد للذات العربية. فقد طاولت هذه الكوارث الهوية والانتماء القوميين، كما طاولت جسد الأمة حيث فتتت هذه الكوارث ذلك الجسد وحولته إلى أعضاء مزروعة إما في أجساد غريبة و إما أبقيت نابضة خارج جسد الأمة.

    أيضا نلاحظ ثمة رغبة في القضاء على الدور العلاجي الذي تلعبه الوفرة الاقتصادية غرار ما حدث بحد نكسة 67 عندما ساهمت هذه الوفرة في تخطي آثار النكسة. فقد تحول المفهوم العالمي للصراع من العسكري إلى الاقتصادي، وبات يستعاض عن الاحتلال بسياسة التعويق الاقتصادي التي تثبت نجاحها في إبراز المظاهر التفككية لدى الشعوب.

    لذلك فإنه من الضروري متابعة هذه المظاهر ورصد الآليات الاصطناعية التي تعمل على تفجيرها وفي ما يلي تعريف بعض المصطلحات ذات الصلة بموضوعنا وهي العقل الجمعي، و المظاهر التفككية، والوفرة الاقتصادية، والكارثة المعنوية.

 

2-     تعريف المصطلحات:

أ- العقل الجمعي: تحد المعطيات النفسية- الاجتماعية من حرية الفرد في سلوكه الاجتماعي ويتم تعريف هذه المعطيات من خلال الأنظمة الرمزية التي تربط الفرد بمجتمعه. وهذه المعطيات تخضع لقواعد الأنثروبولوجيا الاجتماعية القائمة على توارث واكتساب التراث الحضاري والفولكلوري. ولهذه الأنظمة الرمزية قدرة التواصل عبر الأجيال، وهي ممكنة الاستخدام للتعامل مع الغيبيات. كما أنها مكيفة للتعامل مع الخصائص المميزة لحضارتها، حيث تأتي اللغة في مقدمة هذه النظم الرمزية وتليها العناصر الأنثروبولوجية المتجسدة في تراث الجماعة. وهكذا فإن عناصر العقل الجمعي ليست من صنع الأفراد، وإنما هي تنشأ عن اجتماعهم. لذلك تقاس قيمة الفرد بقدرته على التعديل الإيجابي في النظم الرمزية للعقل الجمعي. في المقابل تقاس صحوة الجماعة بقدرتها على تقبل هذه التعديلات وإدراك قيمة محدثيها.

 

ب- المظاهر التفككية: هي مظاهر تنشأ عن فقدان الشخصية لوحدتها وتكاملها، بحيث ينعدم التلاؤم والتناغم بين أفكار الشخص ومواقفه وانفعالاته العاطفية. وبمعنى آخر، فإن التفكك يرتكز إلى عيب في قدرة الشخصية على مكاملة وتركيب المكونات الدينامية للأنا. ويمكن للتفكك أن يقتصر على صعيد الشخصية، أو أن يتخطاها إلى الجسد.

وهذه المظاهر تصادف في العديد من الاضطرابات النفسية والعقلية وخصوصا في حالة تعدد الشخصيات وفي حالات الفصام العقلي.

أما على الصعيد الأممي، فإن التفكك يرتكز إلى عيب في قدرة الذات الأممية على مكاملة وتركيب المجموعات الدينامية التي يكون اتحادها عناصر هذه الذات. ويستند التفكك الأممي إلى عوامل الاختلاف بين هذه المجموعات الدينامية. ومن أهم هذه العوامل (الفروقات) نذكر: العوامل اللغوية والعرقية والدينية والمذهبية والعشائرية والجنسية.. الخ. فإذا ما ترسخت المظاهر التفككية، رأينا الذات القومية تتحول إلى فتات من الأقليات.

 

ج- الوفرة الاقتصادية: تقوم بعض المجتمعات على الاندماج بين قائمة طويلة من الأقليات المتنافرة بحيث يصبح من غير الموضوعي إطلاق تسمية القومية على هذه المجتمعات التي لا تملك تراثا وذلك على غرار أستراليا والولايات المتحدة الأميركية. حيث نستبدل مصطلح القومية بمصطلح الأممية. الأمر الذي يدفع للتساؤل عن آليات هذا الاندماج ويستتبع جوابا واحدا هو الوفرة الاقتصادية القادرة على جلب أقليات جديدة مستعدة لتقديم التنازلات عن هويتها الأصلية من أجل هذا الاندماج. بحيث يصبح من الطبيعي الافتراض بأن الشح الاقتصادي هو الدافع الرئيسي لتفجير آلية تفكك الذات الأممية.

 

د- الكارثة المعنوية: تمثل فكرة الموت الشخصي أكبر الكوارث الشخصية بالنسبة للفرد.

    ولا يفوقها أهمية بالنسبة للأفراد سوى الكارثة المعنوية التي تطال الأسباب أو المعاني التي يرونها لوجودهم. فيتقبلون عندها فكرة الموت الشخصي باعتبارها أخف وقعا وألما من الكارثة المعنوية.

 

3-    تنظيم الشخصية:

    تمر الشخصية بمراحل متعاقبة من اختلالات التنظيم. وغالبا ما تعود هذه الاختلالات إلى تعرض الشخصية لشدائد و ضغوطات وصدمات تفوق قدرتها على التعقيل. فهي تحافظ على توازنها أمام الأحداث التي تملك الشخصية القدرة على تعقيلها بغض النظر عن شدة هذه الأحداث وحدتها. أما حين تعجز الشخصية عن تعقيل ما تتعرض له من أحداث، فإنها تصاب باختلال التوازن (التنظيم). وعندها تبدأ ببذل الجهود الحقيقية لمحاولة تعقيل الأحداث لكي تستعيد توازنها. وغالبا ما يتم هذا التعقيل بالنكوص إلى الماضي، وتحديدا إلى تجارب شبيهة بتلك التي فشلت الشخصية في تعقيلها راهنا. ومساعدة الشخصية للحفاظ على توازنها تمر بدعم قدرتها على التعقيل، كما تمر بإنعاش ذاكرتها لتكون قادرة على استحضار تراث تجاربها بصورة واعية وبدون حاجة للخوض في حقول لاوعيها المزروعة بألغام الصراعات النفسية- الداخلية التي قد تنفجر لتصيب الشخصية بمظاهر التفكك.

لكن إصلاح خلل التنظيم يقتضي أولا التعرف إلى هيكلة هذا التنظيم وإلى مراحل نموه وتطوره. وللاختصار نعطي مثالا على هذه الهيكلية كيفية تنظيم الفكر اللغوي عند الطفل، مفترضين أن الهيكلية التنظيمية نفسها هي المعتمدة من قبل الشخصية الأممية، حيث نسجل المراحل التالية لتعلم اللغة:

1-                   الأحاسيس الجنينية: التي يختلف تشكيلها باختلاف مراحل نمو الجنين وتطوره، وهي تضم الاحساسات السمعية للجنين (إيقاعات ونغمية صوت الأم).

2-                   منذ الولادة وعلى امتداد الفترة العلائقية مع الأم: يلاحظ في هذه الفترة التطور الإدراكي للحواس (ومنها السمع) بحيث تحتل نغمات وإيقاعات صوت الأم (والأب والمحيط) أبعادا إدراكية جديدة وأكثر تطورا. هذا التطور الذي يتيح للطفل ربط أحاسيسه السمعية بعدد لا يحصى من الأجهزة العلائقية المتكونة في هذه المرحلة. من هذه الروابط يشير بيار مارتي إلى ردات الفعل الانعكاسية التي لا تلبث أن تتمايز في انتظامها من طفل لآخر بحيث تؤدي إلى التنظيم الذاتي (الخاص بكل طفل) لانقباض (تحظرب) عضلاته في الأجهزة المسؤولة عن الحفاظ على توازن الجسم ووضعيته. وهذا التنظيم إنما يتم بالتناسق مع تحظرب العضلات في الأجهزة الأخرى المعنية.

3-                   من خلال الروابط النظرية بين الأشكال السمعية والصوتية السابقة والمرافقة للإيماءات وللحركات ولأشكال الأشخاص الذين يراهم الطفل ويسمعهم.

4-                   من خلال توظيف الطفل الغريزي لتعابيره ولاصطلاحاته الصوتية (لغة الطفل الخاصة به) المتطورة باضطراد. وهذا التوظيف الغريزي يكون بالطبع على علاقة أكيدة بمختلف أنواع المزاج النرجسي والعلائقي، ولكنه ذو علاقة أكيدة أيضا بمختلف أنواع التصورات.

أثناء هذه المراحل الأربع يتم بناء "ما قبل الوعي " عند الطفل، وذلك بحيث يلاحظ أن تصورات الأشياء والكلمات تتناسق وتترابط تدريجيا في ما بينها. فالكلمات هي في الأساس أشياء لا تلبث أن تتحول إلى تصورات حسية- حركية أي إلى كلمات.

5-                   مرحلة الانتقال من اللغة المحكية إلى اللغة المكتوبة: وهو انتقال يجعل الوضع أكثر تعقيدا، فهو يقتضي تنظيما جديدا بين الأشياء والكلمات، الأمر الذي يوجب مساهمة أجهزة حسية - حركية جديدة. والشخص يعترف بهذا الانتقال بسهولة أو بصعوبة تحددها بنيته الذاتية. وهذا الانتقال بمنزلة تصور ثنائي البعد بالنسبة للتصور السابق.

 

    بعد هذا المثال نستطيع الافتراض بأن عملية التعقيل (ونواقصها) هي عبارة عن ظاهرة تطورية منتظمة للوظائف النفسية وذلك على النحو التالي:

- لكل وظيفة نفسية مقدرتها الخاصة على الارتباط بوظائف أخرى، على أن تكون الوظائف منتمية إلى مستوى التنظيم المتطور نفسه أثناء نموه. والوظيفة النفسية تفقد هذه المقدرة على الارتباط عندما تنصهر مع الوظائف الأخرى وتؤلف معها مجموعة وظيفية أكثر تعقيدا لها مقدرتها الخاصة على الارتباط.

- تملك المجموعة الوظيفية بدورها مقدرة الارتباط مع مجموعات وظيفية أخرى (على المستوى التنظيمي ذاته). فإذا ما اتحدت المجموعات الوظيفية فيما بينها فإن كل مجموعة على حدة تفقد مقدرتها على الارتباط، وذلك بأن يتم الارتباط من خلال المجموعة الجديدة الأكثر تعقيدا من سابقتها.

- في كل مرحلة من مراحل الارتباط هذه، والتي تتتابع إلى ما لا نهاية، فإن المجموعات المرتبطة تفقد قدرتها السابقة على الارتباط (كما رأينا). وهذا الفقدان إنما يتم لمصلحة الارتباطات الجديدة. وذلك بحيث لا يبقى لقدرة الارتباط الأساسية سوى دور توجيهي تحدده، بشكل عشوائي، المجموعات المكونة حديثا.

- إن صعوبات التعقيل التي تكلمنا عنها هي، في رأينا، ناتجة عن إحلال الدور التوجيهي مكان القدرة الارتباطية الأساسية.

على هذا النحو نرى التوطد التدريجي للتطورات الطارئة على الشخصية. ونعني بها التوطد الذاتي بكل ما فيه من احتمالات ومصادفات وأصداء شخصية. على هذا المنوال ينشأ تنظيم الآلة العقلية مع ما يعتريه من الشوائب القابلة أحيانا للشفاء. ونحن من خلال تعرفنا على هذا التنظيم الذاتي نستطيع أن نحصر- وبصورة أفضل وأدق- الاحتمالات والمصادفات وكذلك الأصداء الذاتية للشخصية.

 

4-    تنظيم الشخصية العربية:

    إذا انطلقنا من اعتبار الانتماء مثالا على الوظائف النفسية للشخصية الأممية وطبقنا آليات التنظيم المشار إليها أعلاه على الشخصية العربية لوجدنا أن لهذه الشخصية صفاتها الجنينية (التاريخية) الواضحة والمحددة. وإن كان البعض يعتبر أن عدم التدوين قد أفقد هذه الصفات الكثير من وضوحها. ذلك على الرغم من إمكانيات التموقع التاريخي حيث يواجهنا التاريخ بعداء اليهود لأبناء إسماعيل (العرب) وتضمن طقوسهم لهذا العداء. وقس عليه بالنسبة لفترة تعلم اللغة المسموعة وارتباطها بالعضلات المحركة، بما يوازي حقبة بدايات اللغة العربية، حيث نجد من الدراسات الأنثروبولوجية- اللغوية ما يساعدنا على التحديد الدقيق لملامح تلك الحقبة. ونأتي بعد ذلك إلى حقبة الجاهلية (تعادل فترة اللغة المكتوبة) حيث بدأت معالم الشخصية العربية بالتشكل. وحيث نرى أن الانتماء (كوظيفة نفسية للشخصية الأممية) كان يحدد انطلاقا من نطق اللغة العربية وصولا إلى التباري في التعمق بفلسفتها واستخدامها كأداة تفكير إبداعي وفكري. كما نرى في الجاهلية عنصر الانتماء العرقي والصحراوي إلى جانب اللغوي.

هذا الانتماء بعناصره العامة المشتركة كانت له مقدرة الربط بين انتماءات (وظائف نفسية) أخرى تنتمي إلى المستوى الوظيفي المتطور نفسه أثناء نموه (أي الانتماءات المتعاصرة في تلك الحقبة من تطور الشخصية العربية). من هذه ما هو ديني (اليهود- المسيحيون- الابراهيميون- الوثنيون)، ومنها ما هو سلالي (القبائل ومتفرعاتها من بطون وأفخاذ). فلو عدنا إلى تلك الحقبة لوجدنا تداخل هذه الانتماءات وانصهارها في مجموعة وظيفية معقدة. فقبل مجيء الإسلام كان العرب واليهود والمسيحيون مثلا متعاطفين مع إخوانهم في الديانة ولكنهم أيضا مختلفون عنهم. ولما جاء الإسلام طرح انتماء جديدا يعادل وظيفة نفسية أكثر تطورا، إذ تتضمن هذه الوظيفة اقتراحات محددة للتنظيم داخل المجتمع. وبذلك فقد جمع الإسلام بين أكثر من انتماء (ديني وسلالي) وصهرها في مجموعة وظيفية أفقدت الانتماءات الأساسية الكثير من ارتباطاتها الأصلية. لكن اتساع انتشار الإسلام وإدخاله لانتماءات متباعدة وغير عربية فيه أديا إلى حصول اختلاف وظيفي في المجموعات الوظيفية المتشكلة استنادا إلى الإسلام. ذلك أن الانتماء الأساسي للشعوب الداخلة في الإسلام بقي مؤثرا وإن كان هذا التأثير ضئيلا. لكنه كان كافيا للتفريق بين هذه المجموعات الوظيفية التي تزعمتها في حينه المجموعة الوظيفية العربية.. هذه الزعامة التي أعطت الشخصية العربية قمة توازنها وأفضل درجات تنظيمها الهيكلي. لكن هذا التوازن لم يدم طويلا فقد بدأ الاختلاف مبكرا وإن تأخر ظهوره، شأنه في ذلك شأن سائر الأمراض التي تتطور بصورة خفية. والواقع أن بداية هذا الاختلال كانت مع الانشطار الذي حصل داخل المجموعة الوظيفية العربية (الإسلام العربي)، والذي كانت أولى نقاط انطلاقه موقعة الجمل التي تعتبر نقطة تثبيت- نكوص، وأيضا علامة موت بحسب التعابير التحليلية- السيكوسوماتية.

ثم توالت بعد ذلك علائم الموت وتراكمت حتى أنتجت تجسيدات طاولت تكامل الشخصية وجسدها (أي جغرافيتها)، فكان التفكك التدريجي للدولة العباسية بمنزلة عملية نكوص واسعة حررت بعض الانتماءات الأساسية من القيود التي فرضت عليها من خلال دخولها في المجموعة التنظيمية الكبرى وهكذا عاد كل انتماء منها إلى بعض روابطه الأصلية، وكانت هذه العودة على حساب الروابط التكاملية، وبالتالي على حساب توازن الشخصية الأممية.

بالعودة إلى السيكوسوماتيك، نجد أن توازن الشخصية يرتكز إلى التوازن بين علائم الحياة وعلائم الموت لديها. فإذا ما تعرضت للرضوض فإنها تبحث عن تفريج لها إما بمظاهر نفسية (فكرية في حالة الشخصية الجمعية)، وإما بمظاهر جسدية (جغرافية في حالة الشخصية الجمعية)، وإما بمظاهر مشتركة، فأما المظاهر النفسية (الفكرية- السياسية) فإنها تعتبر علائم حياة، وأما المظاهر الجسدية (الجغرافية) فتعتبر علائم موت.

بناء على ما تقدم نستطيع شرح تفكك الدولة العباسية على أنه تجسيدات موازية لعلائم الموت. وإذا كانت هذه التجسيدات غير كافية للتسبب في الموت إلا أنها كانت كافية لإحداث خلل عميق في توازن الشخصية العربية، الأمر الذي انعكس بحلول الإسلام الطوراني مكان الإسلام العربي. وكانت جهود حقيقية من قبل الأتراك للقضاء على الروابط الأصلية للشخصية العربية وإحلال روابط تنظيمية- إسلامية (على النمط التركي) مكانها. إلا أن الضربة القاسمة لتوازن الشخصية العربية أتت من خلال عمليات تشريح لعقلها الجمعي بهدف البحث عن تناقضاته (أي عن علائم الموت فيه) حيث جرى تحديد هذه التناقضات بدقة. فكانت اتفاقية سايكس- بيكو أول تطبيق عملي لهذه المعلومات. والأخطر من هذا وذاك أن الشخصية العربية اليوم تواجه محتويات لاوعيها بصورة صادمة (تماما كما يحصل في التحليل النفسي الوحشي)، وهي تضطر للاعتراف بهذه المحتويات ولتعقيلها بصورة قهرية وإجبارية. حتى إنها تكاد تحرم من الاشتراك في مناقشة هذه المحتويات وسبل تعقيلها الموضوعي (بدلا من التعقيل الفظ والإجباري). ومثال ذلك ما يعقد من مؤتمرات تناقش أزمات الوطن العربي في دول أجنبية وتستبعد ممثلي الشخصية الجمعية خصوصا عندما تركز هذه المؤتمرات على نقاط التثبيت القابلة لإحداث انفجارات جديدة في عقل الأمة وفي جسدها.

 

5-    التحديات التي تواجه الشخصية العربية:

إن استعادة الشخصية لتوازنها يمر بعمليات نكوص مدروسة تتم من خلالها مراجعة نقاط التثبيت- النكوص (علائم الموت) واكتشافها بهدف التخلص من ثقل تأثيرها على الوعي الراهن للشخصية. لكن هذا النكوص يجب أن يتم بحذر لأن اللاوعي هو حقل مليء بالمتفجرات. وبالتالي فإن إجبار الشخص على النكوص ودفعـه قصرا وبفظاظة في حقل لاوعيه هو ممارسة وحشية، و التي يطلق عليها المحللون تسمية "التحليل الوحشي ". وهذا النوع من الإجبار يأتي في مواجهة التحديات التي تواجهها الشخصية العربية راهنا، حيث تتعرض للإجبار على خوض المناقشات وعلى قبول الحلول لمواضيع غير مطروحة في جدول أولوياتها. وفي ذلك تجاهل مفتعل لحاجة الشخصية إلى العلاج. ذلك أن أبسط تطبيق عملي لهذا المبدأ أننا نحتاج إلى حلول لمشاكلنا الراهنة والمعاصرة ولسنا بحاجة إلى أن تفرض علينا الحلول لمشاكل قتلها التاريخ وأعاد إحياءها المحللون المتوحشون. ومن هذه المشاكل المفروضة: الأقليات والإرهاب والتسوية والسلام والتطبيع والشرق أوسطية وغيرها..

أ- أزمة المصطلحات:

إن أبسط حقوقنا أن نرفض المصطلحات التي تسيء إلى قناعتنا والى شخصيتنا. فنحن نستوعب المبادئ التي تكون ليبرالية في بلدها لتتحول إلى استعمارية خارجه. ونوفر الكثير هذا المجال عن طريق الاستشهاد بنقاد الليبرالية من أمثال نعوم تشومسكي، وأيضا بالذين يحاولون إعادة قراءة الأساطير عن طريق نكوصات آمنة وموضوعية من أمثال غارودي. ولعله من المؤسف أننا تركنا لهؤلاء مواضيع كنا أجدر بمناقشتها والتصدي لها. لقد سأل هؤلاء عوضا عن تعريفات أكثر موضوعية لمصطلحات العنف والإرهاب والمحرقة والأسطورة والسلام والشرق أوسطية. ولا بأس من الاستناد إلى طروحاتهم لإكمال طريقنا نحو حقنا في النظر المتساوي تعديل مدلولات المصطلحات بما من شأنه احترام هويتنا وخصوصية شخصيتنا.

ب- أزمة المناهج:

خارج الموضوعية العلمية تقع الدراسات التي تحدد نتائجها سلفا. ولهذا التحديد لا بد من منهجية مفبركة لاصطناع هذه النتائج. ولعل أوضح مثال على ذلك دراسات المسح الاجتماعي تستهدف الوصول إلى نتائج تدل على بؤس الدول النامية لأن هذه النتائج تدعم نظرية تدخل الدول المتقدمة بحجة الحد من هذا البؤس. لذلك نرى أن منهجية هذه الدراسات تعتمد على مؤشرات البؤس التالية:

1.      متوسط الأعمار: حيث يتم تجاهل أثر الكوارث المصطنعة في خفض هذا المتوسط في الدول النامية.

2.      مستوى التغذية: دون مراعاة أثر السياسة في سوق الغذاء.

3.      توافر مياه الشرب الصحية: يتعلق بعوامل بيئية وجغرافية وسياسية.

4.      لقاحات الأطفال: دون مراعاة احتكارات صناعة الأدوية.

5.      مستوى التعليم. يتعلق بأولويات تعجز بعض الدول عن تحديدها.

6.      متوسط دخل الفرد: غالبا ما يرتبط بحجم المديونية في الدول الفقيرة.

7.      معدل التضخم المالي: دون مراعاة تدخل السياسة الدولية في الاقتصاد الداخلي.

8.      الإفادة من تقنيات الاتصال: التي لا تمثل أولوية في الدول النامية.

9.      مستوى الحرية السياسية: دون مراعاة اختلاف مدلولات المصطلح.

10.   التمتع بالحقوق المدنية: دون مراعاة اختلاف مدلولات المصطلح.

    وهذه المنهجية تجد سهولة غريبة في لي عنق الحقيقة وفي تجاهل جهود التنمية التي تبذلها بعض الدول النامية. ولعل المنطق يجعلنا نسأل وبإلحاح عن عاملين هما أشد عوامل البؤس دلالة وأهمية. وهذان العاملان هما:

1-     نسبة الانتحار.

2-     انتشار الإدمان.

    لكن المراقب يدرك أسباب تغييب هذين العاملين إذ إن إضافتهما إلى العوامل العشرة أعلاه تجعل من سكان الدول المتقدمة أكثر بؤسا من الفقراء. وهذا البؤس يمكنه أن يتكرر من خلال عوامل فرعية أخرى مثل:

1-     الانحرافات الجنسية.

2-     إساءة استغلال الأطفال الجنسية.

3-     انتشار هوس القتل والعنف الفردي والجماعي.

4-     التفكك الأسري وما يتبعه من جرائم أسرية وجنح.

5-     الحاجة المتهالكة إلى نظام قيمي والتي تكرست بعد الهزات الاجتماعية المتتالية في الدول الغنية (حرب فيتنام، ظهور الإيدز.. الخ).

هذه مجرد عينة من الأسباب التي تدفع دارسي الدول المتقدمة إلى اعتماد منهجية خاصة للبؤس، تربط بينه وبين الفقر فتكون النتيجة تكريس تقسيم سكان العالم إلى فقراء وأغنياء. وهذا الواقع يستتبع ضرورة رفض الباحثين الفقراء لهذه المنهجية والإصرار على إدخال عناصر جديدة تجعلها أكثر موضوعية وعقلانية.

ج- التحديات:

في رأينا إن التحدي الأول الذي يواجه شخصيتنا القومية راهنا هو انسياقنا الإيحائي وراء النظرة الظواهرية للأزمات التي تهدد هويتنا. فنحن نتعامل مع مشاريع مثل الشرق أوسطية والتطبيع والقهر الثقافي وغيرها على أنها ظواهر.. الأمر الذي يوقعنا في تناقض يجعلنا نبدو مخالفين للمنطق. فالمسألة ليست مثلا قبول الشرق أوسطية أو رفضها، بل المسألة هي كيف ندخل فيها بما يستتبع السؤال عن وضعنا كشركاء وحيثيات هذا الوضع ومستقبله. فنحن عندما نرفض هذا المشروع أو ذاك فإننا نوافق ضمنا على المنطق الذي يطرحه ونعلن إدراكنا لواقعة سير العالم نحو التجمعات الاقتصادية بين الدول، لنعود بعد ذلك إلى الخروج عن هذا المنطق بالرفض. لذلك فإن موقفنا يجب أن يتجه إما باتجاه رفض الرؤية الظواهرية وطرح السوق العربية المشتركة والإمعان في دراسة معوقاتها والسعي لتذليلها، وإما أن نعتمد هذه الرؤية فنبحث في مدى استعداد المشروع الشرق أوسطي لاحترام خصوصيات هويتنا ومستقبل ونمط علاقاتنا مع أطراف هذا المشروع.

التحدي إذا لا يكمن في المشاريع المطروحة بقدر ما هو متعلق بالرؤية الكامنة خلف طرحها وبأهداف هذا الطرح القريبة والبعيدة. فهل يقصد بالشرق أوسطية تحويلنا من عقل جمعي مشترك إلى مجموعة عقول اقتصادية متنافرة يرى أحدها المردود الاقتصادي المنتج في هذا المشروع ويرى الآخر فيه خسارة واجبة التجنب؟

    بل ماذا نريد نحن من هذه المشاريع؟ فهل نحن نريد أن نكون داخل تجمع اقتصادي- إقليمي من شأنه أن يوفر لنا السلع الاستهلاكية بأسعار أقل، مما يزيد كمية اللحوم ومياه الشرب التي يستهلكها العرب الفقراء وأيضا بعض تقنيات الاتصال الرخيصة؟ أم أننا لا نزال مهتمين بمستقبلنا ونملك من علائم الحياة ما يكفي كي نفكر بضرورة حفظ واستمرارية النوع ومعها ضرورة مقاومة أية محاولة لطمس أي معلم من معالم هويتنا القومية؟

في هذا المجال لنا اجتهادنا الشخصي الذي لا نجرؤ على الرقي به إلى مستوى اقتراح الحل. فنحن ندرك أن لهذه المسائل أبعادا تتخطى الأشخاص ومجموعات الأشخاص وحتى جماعات المثقفين، لأن مثل هذا الاقتراح يجب أن يستند إلى وعي اللحظة السياسية- الاقتصادية. هذا الوعي الذي يحتاج إلى مستقبليات قادرة على قراءة المتغيرات الدولية القادمة.

لذا نكتفي بإيراد اجتهاد لا طموح له سوى إبداء رأي متواضع في التحديات التي تواجه شخصيتنا القومية. قوام هذا الاجتهاد اعتماد سيرورة نكوصية تنطلق من الحاضر إلى الماضي الأقرب ومنه إلى الأبعد فالأبعد. فهذه السيرورة تساعد الذات على استعادة توازنها الذي تدمره النكوصات العشوائية إلى الماضي البعيد والتي تتجاهل الزمن المتراكم بينه وبين الحاضر.

بمعنى آخر، فإن مواجهة التحديات لا تبدأ بمناقشة ظروف وملابسات موقعة الجمل، بل هي تبدأ بالسؤال عن الأسباب التي جعلت الآخر يتجرأ على الدعوة إلى تغيير اسم جامعة الدول العربية، وعن الحالة الراهنة لهذه الجامعة، وعن أثر الخلافات العربية في تنحيتها، وعن أثر كامب ديفيد في زعزعة هيكليتها وعن فشلها في تحقيق تعاون عربي فعلي... إلى ما هنالك من الأسئلة وصولا إلى إعادة النظر بظروف إنشائها وما إذا كانت هيكلتها الأساسية ترشتحها للفعالية الإجرائية أم تحدد دورها بتعويض العرب عن الجراحات الوحشية التي أجريت في الجسد العربي. بذلك تكون الخطوة الأولى في مواجهة التحديات هي رفضنا تصنيف أقطار الوطن العربي وفق مقاييس الدراسة المعروضة أعلاه- أي إلى أقطار غنية وأقطار فقيرة، إلى أقطار تملك مياه الشرب وأخرى لا تملكها... الخ- والاستعاضة عن هذا التصنيف بآخر يقيس مستوى البؤس في وطننا العربي استنادا إلى الكوارث المعنوية اللاحقة به، ابتداء من نكبة 1948 والمجاوز المرافقة لها ومرورا بعدوان 1956 ونكبة 1967 وشيزوفرانيا حرب الخليج الثانية وجنون التطبيع الهوسي في اللحظة الاقتصادية- السياسية الراهنة. فإذا ما اعتمدنا مثل هذا التصنيف، فإننا لن نختلف حول المصطلحات لأن التصنيف بحد ذاته هو الذي يحدد دلالاتها. ولن نختلف حول ضرورة مجاراة اللحظة الاقتصادية- السياسية الراهنة لأننا نكون قد حددنا أسلوبنا في معايشة هذه اللحظة وتموقعنا فيها.

    ولعل السلام هو أكبر التحديات التي تواجهنا راهنا، ولعلنا بحاجة إليه لإعادة هيكلة شخصيتنا القومية واستعادة توازنها. ولكن التحدي يكمن في شروط الآخرين التي تصوغ السلام بصيغ تقطع الطريق أمام حاجتنا هذه، وكأن هذه الشروط تحضر لجراحات وحشية جديدة في الوطن العربي. ولعله من حقا هنا أن نفضل الشتات على مثل هذه الشروط. فالشخصية العربية تدين بقدرتها الراهنة على التماسك وعدم الانهيار إلى قدرتها على الاستمرار في مقاومة إجبارات النكوص إلى الخلافات العرقية والمذهبية والعشائرية وغيرها، وفرض شروطها لمعايشة اللحظة الاقتصادية- السياسية الراهنة بما من شأنه أن يحول السلام إلى مأزق للآخرين، وبما يجعلهم يبحثون عن مخارج تبرر لهم تأجيله. لكن فترة التقاط الأنفاس هذه وتحويل السلام إلى مأزق للآخرين هي الوجه السياسي للحظة الراهنة. ويبقى الوجه الاقتصادي لهذه اللحظة. فهل ينسى العرب تلك الظاهرة التفكيكية التي قسمتهم إلى فقراء وأغنياء ليتذكروا أن لهم شخصية جمعية لها كرامتها التي يجب ألا تهدر؟

 

Document Code OP.0041

Nab.arabpersonality&eco

ترميز المستند OP.0041

 

Copyright ©2003  WebPsySoft ArabCompany, www.arabpsynet.com  (All Rights Reserved)