Arabpsynet

أبحاث أصيلة / Original papers

شبكة العلوم النفسية العربية

 

سيكولوجيــــة التعصــــب

د. مصطفى زيور

في النفس – بحوث مجمعة - دار النهضة العربية / بيروت - لبنان

مجلة علم النفس مجلد 7 عدد 3، فبراير 1952.

محاضرة ألقيت في 10 فبراير 1952 بدار الحكمة تحت إشراف الجمعية المصرية للصحة العقلية ونشرت

 

    نعرض هذه المقالة للبروفسور مصطفى زيور رغم مضي أكثر من نصف قرن عليها لما لها من قيمة علمية و أهمية حتى و نحن في سنة 2003، فكم نحن بحاجة إلى تفكك جذور التعصب (أي كان نوعه) لما له من آثار مدمرة على الفرد و الجماعة.

 

    لعلني لست في حاجة إلى بيان المعنى الذي يجب أن يستفاد من طرح مشكلة اليوم للبحث والمناقشة تحت إشراف الجمعية الطبية للصحة العقلية وفي كنفها. فعندما تناولت الحديث في هذه المسألة مع رئيس هذه الجمعية كان حديثنا يجري فيها بوصفنا أطباء نفس معنيين بمشكلات الصحة العقلية في مصر. ولما كانت هذه الجمعية قد أنشئت لبحث هذه المشكلات والعمل على علاجها فقد صحت عزيمة الرئيس على أن يدرج مشكلة اليوم في برنامج أعمال الجمعية و أن يكلفني بطرح المشكلة أمامكم للبحث والمناقشة.

    أطرح أمامكم اليوم إذن موضوع سيكولوجية التعصب بوصفه مشكلة من مشاكل الصحة العقلية في مصر. وبعبارة أخرى إننا نسلم في بداية هذا الحديث بأن التعصب إذا وصل إلى درجة معينة من الحدة يصبح عاملا من عوامل تقويض وحدة المجتمع، ويتم عن اضطراب في ميزان الصحة العقلية الاجتماعية، مما يفسد تماسك المجتمع ويهدد كيانه. فالأمر لا يختلف في نظرنا عما يحدث للفرد عندما تستبد به عوامل الصراع الداخلي فتعتل شخصيته، ويختل توازنه، ويصبح في عداد المرضى.

    ولدينا ما يدل على أن الوعي القومي قد أدرك خطورة المشكلة فيما بدا من اهتمام بالغ من كل صوب. فقد هب أولو الأمر من الأقباط والمسلمين جميعا هبة قوية يذودون عن وحدة الأمة، وجرت بالأمس على لسان الأنبا متاؤوس عبارة رائعة تفصح أحسن الإفصاح عن هذا الإدراك القومي قال: "إن النار إذا شبت في كنيسة يمكن إخمادها بقليل من الماء، أما إذا اندلعت ألسنة النيران في وحدة الأمة فإن ماء النيل كله لا يطفئها".

  وإن طرحنا لهذه المشكلة للبحث يفترض أمرين: الأول أننا نؤمن بأننا إزاء ظاهرة من الظاهرات تقبل البحث، وأنه لا بد لنا من فهم لأسباب العلة وأصولها إذا أردنا لها علاجا ناجعا. والأمر الثاني إننا على استعداد لتجنيد قوانا لهذا البحث وأمثاله، ولأنه من غير المعقول ولا المقبول أن يقتصر عمل المشتغلين بعلم النفس في مصر على تلقين الطلاب تجارب الفئران في المتاهة، أو تقديم العلاج النفسي لفرد مريض، ثم يقفون مكتوفي الأيدي إذا حلت غمة بمجتمعنا. إن الوقت وقت تجنيد القوى، فالعلم الذي لا يستطيع أن يسخر نفسه لخير الأمة فلا خير فيه.

    بقي أن مشكلة اليوم مشكلة شائكة من حيث إنها مصدر لانفعالات شديدة، ويكفي أن نذكر أن كلمة التعصب لم يرد ذكرها في الصحف التي أشارت إلى مشكلتنا حتى يتضح لنا إننا إزاء مادة قابلة للاشتعال، ينبغي أن نتناولها في كثير من الرفق والحذر.

    على أننا نحن معشر المشتغلين بعلوم النفس نعلم أن النفس الإنسانية تنفر من الكشف عما يدور في حناياها من ميول، وتكره أن تواجه في إخلاص ما تنطوي عليه من نزعات، ونؤمن بقول نيشتة: "أن الأخطاء تنجم أكثر ما تنجم من الجبن عن مواجهة الحقائق ". لا بد لنا إذن من أن نستبدل بسياسة النعامة سياسة التبصر، إذا كنا نؤمن بأن خير وسيلة لضبط الانفعال إنما هو تحليل الانفعال.

    وإن لنا في تاريخ هذا العلم خير سند لما نذهب إليه. فلم يصل علم النفس إلى شيء ذي جدوى إلا بعد أن استطاع أحد رواده أعني فرويد ألا يجفل من أن يفتح عينيه على ما يدور في قرارة نفسه مهما كان بغيضا، وكلنا نعلم أن هذا هو الثمن الذي يجب أن يدفعه المريض إذا أراد لنفسه شفاء.

    علينا إذن أن نتجمل بكثير من الشجاعة والأناة، بل علينا أن نفتح أعيننا على ما يدور في أنفسنا عند بحث التعصب حتى لا تصدر في ما نقرر إلا عن الحقيقة وحدها. ولقد يتندر أحدنا فيقول: ألا يكون البحث في التعصب صادرا عن نوع من التعصب. إننا نعلم أن الشفقة قد تكون رد فعل لما تنطوي عليه النفس من القسوة، ولقد تبين من سيرة تولستوي الملقب بنبي الرحمة أنه كان يحذق تعذيب أفراد عشيرته ممن لم يؤمنوا بمثله الأعلى، فكأن سلوكه الرحيم لم يكن إلا انتصارا على نزعاته إلى القسوة والعنف، ولكنكم قد ترون معي أنه لا بأس علينا فيما نصدر عنه إذا كانت الرحمة رائدنا، وأنه خير لنا أن نصدر في رحمتنا عن القسوة من أن نكون عاطلين عن القسوة والرحمة جميعا.

 

    وبعد فإن القضية الأولى في هذا البحث أن التعصب ظاهرة اجتماعية لها بواعثها النفسية، ولا يغير من الأمر شيئا أن يكون التعصب دينيا، فقليل من التفكير يدلنا على أن التعصب الديني لا يختلف لا في مبناه ولا في معناه عن أي نوع من أنواع التعصب التي تنشأ بين الأجناس أو بين الأحزاب السياسية أو بين المذاهب الاجتماعية وما إلى ذلك.

    ولقد أستطيع أن أسوق إليكم مثالا أستمده من خبرتي الإكلينيكية، يدل في وضوح على أن هذه الظاهرات التي تتصف بأنها دينية، تنشأ أولا وقبل كل من بواعث نفسية لا علاقة لها في الأصل بالعقيدة الدينية:

    جاءني شاب يوناني على درجة عظيمة من الذكاء والثقافة، يشكو أعراضا من نوع هستيريا القلق، ثم اضطرابا عاما في سلوكه وخاصة نحو النساء، فلم يكن يستطيع أن يخلد إلى واحدة منهن بل كان يجد نفسه إلى أن يتصيد قلوبهن الواحدة بعد الأخرى، ثم يهجرهن سريعا. قبلته للعلاج بالتحليل النفسي وقضينا فيه نحو سنة ونصف سنة شفي في شفاء تاما. والمهم لدينا هنا أن هذا الشاب الذكي المثقف كان يعتنق الشيوعية ولقد كان ملحدا. ويجب أن أذكر أنه كثيرا ما كان يقحم في حديثه أثناء التحليل مشاكل الدين والمجتمع، ولكني لم أناقشه فيها مرة واحدة، لأن هذا ليس من مهمة التحليل كما هو معروف.، و كم كانت دهشتي عظيمة عندما تبينت في نهاية التحليل، أن هذا الشاب شفي لا من أعراضه الهستيرية فحسب بل وتخلى عن شيوعيته وإلحاده. لا أقصد أنه أصبح متدينا متحمسا لدينه، وإنما أقلع عن تشبثه وتحمسه لفكرة الإلحاد.

    ويضيق المجال هنا عن تفصيل القول فيما كشف عنه التحليل من المعاني السيكولوجية التي اكتنفت اعتناقه للشيوعية والإلحاد، وسأكتفي بذكر الخطوط الرئيسية التي تتصل بهدفنا مباشرة. كانت الخبرة الباتوجنيه وما نجم عنها من اضطراب في السلوك تنحصر في علاقته بأمه أثناء سنوات الطفولة، فقد كانت أمه سيدة عصابية وكان سلوكها يتنازعه تياران. فمن ناحية كانت تختصه بعناية مفرطة وعطف زائد، كان من شأنهما أن عطلا نموه الوجداني، إذا استمر هذا العطف وهذه الرعاية وتشبث بموقفه الطفلي منها، ومن ناحية أخرى كانت حريصة شديدة الحرص على أن تربية مثالية. تنفع مع قواعد التهذيب السائدة في الأوساط الأرستقراطية، وكانت تسعين في ذلك بالمربيات الأجنبيات. وهكذا كان الطفل حائرا بين رغبة ملحة، دفعة إليها سلوك أمه، في الاعتماد عليها اعتمادا تاما والاستمتاع بعطفها الزائد، وبين قواعد ومثل يلقنها، تضع حدودا لا يجب أن يتعداها ولست في حاجة إلى الإشارة إلى أن هذا السلوك المتناقض من قبل الأم، كان صدى لما يعتلج في نفسها من صراع، وخاصة لما يحتدم في نفسها من كراهية لمظاهر الرجولة والاستقلال، والنتيجة الحتمية من هذا كله أن الطفل شقي بشعور مرير بالخيبة، دفعه عندما أدرك مرحلة البلوغ، إلى مناهضة كل ميل في نفسه إلى التواكل والاعتماد، و الإذعان، بل كل ميل إلى التعاطف وتبادل الرحمة، فكأنه كان يخشى أن يؤدي به ذلك إلى أن يعاني الشعور بالخيبة والمرارة من جديد. فكان نفورا من كل موقف عاطفي لا يكاد يقيم علاقة مع امرأة حتى يبادر بقطيعتها خشية أن يلقى منها القطيعة، وكان ناكرا مستنكرا لكل نظام يتضمن الحب والإذعان، فأنكر النظام الاجتماعي الساند واعتنق الشيوعية بدوافع ذاتية، كما أنكر إخلاصه لعقيدة أبويه واعتنق الإلحاد. وهو في هذا كله كان يناهض حنينه إلى تلقي الحب ورغبته الملحة في الإخلاص والارتكان إلى صدر رحيم.

    وهكذا نستطيع أن نقرر أن الإلحاد (أي التعصب ضد العقيدة الدينية) قد يكون رد فعل لرغبة عنيفة في الإيمان، تتوجس النفس من عواقبها شرا، وسنرى بعد قليل أن العكس قد يكون صحيحا بمعنى أن التدين الوسواسي والتعصب للعقيدة، قد يكون رد فعل لميول عنيفة نحو التمرد على سلطان الدين، وبصفة عامة على السلطان أيا كان نوعه.

    وتحضرني هنا قصة فكاهية تحمل معنى سيكولوجيا عميقا. ذهب رجلان للصلاة في الجامع، فلما انتهيا منها جلسا يدعوان الله. فقال الأول: اللهم اهدني الصراط المستقيم، اللهم قوي إيماني. أما الثاني فقد انطلق قائلا: اللهم اهدني صندوقا من الويسكي فأغضب ذلك الرجل الأول وصاح به كيف تجسر يا رجل وتنطق بهذا الكفر. فأجابه الثاني في هدوء: هون عليك يا صاحبي أنت ينقصك الإيمان فتطلب من الله أن يقوي إيمانك، أما أنا فلا ينقصني الإيمان وإنما ينقصني الصندوق.

 

    لقد كان في نيتي أن أستعرض أمامكم بعض الشواهد المستمدة من خبرتي الإكلينيكية من ناحية، ومن الاختبارات التي تمت في مصر والشرق الأوسط من ناحية أخرى، ثم أن أشرككم معي في استخراج النتائج. ولكن يبدو لي أن الوقت لن يتسع لهذه الطريقة المطولة وأوثر أن أنفذ إلى قلب الموضوع مباشرة، أي أن أبدأ بالنهاية على أن أعود بكم بعد ذلك إلى الأصول.

    ومن أجل ذلك فإنني أطرح أمامكم السؤال الآتي: لم وقع حادث كنيسة السويس في ذلك الوقت بالذات وفي ذلك المكان بالذات؟ إن الأمر لا يحتاج أن نكون من علماء النفس لكي نتبين أن الفترة الراهنة إنما هي فترة انتقال إلى الفعل، فاضت فيها المشاعر حتى بلغت مرحلة التنفيذ والتعبير المادي. أما السويس فهي إحدى مدن القنال أي تلك المنطقة التي اتسمت حينذاك باستباحة العدوان بل بتمجيده. ولكن ما الذي حدث؟ إن هدف العدوان إنما الإنجليزي فكيف ارتد العدوان على بعض زملاء الجهاد. وهنا يحسن بنا أن نستعين بمعارفنا السيكولوجية. إننا نعلم أن العدوان طاقة انفعالية لا بد لها من منصرف، ولا مناص من أن تتخذ لها هدفا تفرغ فيه شحنتها الزائدة. وفي الظروف الاجتماعية العادية، يجد العدوان منصرفا في أنواع النميمة وتجريح الغير أو في النكتة اللاذعة. وعندما يصل العدوان إلى درجة بالغة في الشدة، أو عندما تتخاذل أساليب ضبطه، فإنه يميل إلى الفتك فتكا مباشرا بمصدر النقمة. أما إذا استحال الوصول إلى مصدر النقمة، فإن العدوان يلتمس هدفا آخر يصبح بمثابة كبش الفداء، وكلنا نعرف مثل المرؤوس الذي يكظم غيظه من سوء معاملة الرؤساء حتى إذا عاد إلى بيته صب جام غضبه على أهله. ويدل إحصاء حوادث العدوان على الزنوج في الولايات المتحدة الجنوبية، على أن هذه الحوادث تزداد زيادة ملحوظة كلما هبطت أسعار القطن وهو المحصول الرئيسي لهذه الولايات كأن الزنوج هم المسؤولون عن هذه الضائقات المالية.

    يحتمل العدوان إذن النقل أي استبدال هدف بهدف، وإذا حيل بينه وبين الإفراغ فإنه لا يلبث أن يرتد نحو الذات فتفتك النفس بنفسها، وتحضرني هنا قصة تفصح عن معنى سيكولوجي عميق. فقد اعتادت طفلة ألمانية أثناء الحرب الماضية أن تعتدي على جاراتها من الأطفال اليهود. حتى إذا صدر الأمر باعتقال جميع اليهود بما فيهم الأطفال جعلت هذه الطفلة تبكي وتؤذي نفسها باللطم. فسألتها أمها: أتبكين رحيل هؤلاء اليهوديات التافهات فأجابت نعم يا أماه فلم يعد لدي من أصب عليه جام غضبي. فكأنها كانت تخشى أن تعرضها غيبة كبش الفداء إلى أن تؤذي من تحب من أهلها، فالمحبوب كثيرا ما يكون المصدر الأصيل للحرمان والخذلان والنقمة. فكأن قابلية العدوان للنقل تستخدم أحيانا لتخليص الحب من شوائب الكراهية وفي الإبقاء على المحبوب، وفي نهاية الأمر في الإبقاء على الذات.

    إن ظاهرة كبش الفداء من الظاهرات التي يعرفها الأنثروبولوجيون الاجتماعيون قبل أن يعرفها ويفسرها علماء النفس ولقد أفرد جيمس فريزر بابا بأسره لهذه الظاهرة في كتابه المشهور "الغصن الذهبي " والذي يهمنا منها الآن هو نشأتها كظاهرة اجتماعية، ثم علاقتها بكيان المجتمع. تدل الدراسات الأنثروبولوجية على أن ظاهرة كبش الفداء تقوم بوظيفة حيوية في ظروف معينة. ولنذكر بهذا الصدد موقف ألمانيا النازية من اليهود. فلقد كان في اتخاذهم اليهود كبشا للفداء ما جنبهم أكثر من خطر ولو إلى حين. فقد كان معظم أفراد الأمة الألمانية قبيل الحكم النازي يقيمون على شعور بالمرارة والحرمان وكان الشقاق وتنابذ الأحزاب ينذر بقيام ثورة أو حرب أهلية تفضي إلى تقويض المجتمع الألماني بأسره. فكأن العدوان على اليهود أفادهم في تصريف قدر عظيم من النقمة مصدره الحقيقي ظروف حياتهم الداخلية، كما دفعهم إلى التماسك فحلت الوحدة محل التفكك. ولست في حاجة أن أذكركم أن التعصب ضد اليهود والعدوان عليهم لم يشف غليلهم ولم يحل مشاكلهم الداخلية، فاضطروا إلى توجيه العدوان إلى الدول المتاخمة، مما جرهم في نهاية الأمر إلى هزيمة منكرة وانهيار ذريع.

    وبعد فلقد تذكرون أنكم كنتم مدعوين إلا الاستماع إلى هذا الحديث يوم 27 يناير الماضي، وأنه تأجل بسبب حوادث 26 يناير وكانت مذكراتي لهذا الحديث مكتوبة قبل ذلك التاريخ، ثم جاءت حوادث 26 يناير، دليلا مؤلما مريرا على ظاهرة نقل العدوان مرة أخرى. فقد وجد العدوان في حوادث 26 يناير كبشا أغلى ثمنا وأثمن لحما من حادث السويس. ولعلنا نفطن الآن إلى أننا إزاء مشكلة حيوية لا بد لحلها من تعبئة كاملة لكل قوانا.

    وقد أردنا بهذا الحديث وما يتبعه من مناقشة أن يكون بداية لتعبئة ما نملك بوصفنا علماء نفس.

 

   يخلص لنا مما سبق أن مركز مشكلة التعصب الذي تدور حوله كل مظاهرها إنما هو العدوان وقابليته للنقل. ولا بد لنا الآن أن نحاول الإجابة على السؤال الذي تستثيره هذه النتيجة. إننا نعلم أن الظاهرات النفسية لا يمكن أن تتم جزافا، فما الذي يدفع إلى اختيار هدف ينتقل صوبه العدوان دون غيره؟ وبعبارة أخرى ما هي الصفات التي يجب أن تتوفر في موضوع بعينه حتى يصلح أن يكون كبش فداء؟.

    لقد تسمحون لي هنا أن أستعين بخبرتي الإكلينيكية، فقد أتيح لي أن أعالج بالتحليل عددا من الإقباط، فضلا عن من عالجت من الكاثوليك الفرنسيين ومن اليهود. ونحن نعلم أن التحليل النفسي ينفرد من بين فروع الطب بميزة هامة، وهي أن يضم في عملية واحدة طريق العلاج وطريق البحث. فضلا عن ظاهرة التحويل التي تنشأ أثناء العلاج- وهي في نهاية الأمر نوع من النقل- تمكن المحلل من أن يستوضح مستغلقات النفس في ظروف هي نفس ظروف البحث التجريبي، من حيث أن التحويل يحقق بعثا في نطاق محدود معلوم لجميع المقومات النفسية.

    وإليكم حلما لمريض قبطي: رأى عددا من الأطفال يصيحون ويعبثون، ثم التقى بمكرم عبيد باشا وقال له: "لا تلتفت فإنهم مسلمون متعصبون" ولا بد أن أذكر أن هذا المريض كان يفصح عن مقاومته في الجلسات السابقة بفترات طويلة من الصمت، ثم أعرب عن ظنه أنني لا بد أن أفضل عليه غيره من المرضى ممن ينطلقون في الحديث، ومن بين الخواطر التي تداعت له مع هذا الحلم، إنه لمح عندي في اليوم السابق مريضة كان يبدو عليها البشر والارتياح مما يدل- في نظره- على أنني أعالجها علاجا جيدا. ثم أنتقل بعد برهة إلى الحديث عن إخوته وأخواته، وكيف أنه كان لا يطيق أن يرى أمه تختصهم بشيء من العطف، أو أن تذكر مناقب أحدهم. يتضح إذن أن مكرم عبيد باشا في هذا الحلم كان يمثلني ويمثل أم المريض، وأن الحلم يدور حول الغيرة من الإخوة والأخوات وتنافسهم في حب الأم. والخلاصة أن الاتهام بالتعصب- وهو يتضمن الشعور بالتعصب- قد يستخدم في ميدان المنافسة بين الإقران كوسيلة لإسقاط الكراهية على الشخص المنافس.

    لننتقل الآن إلى عامل آخر من عوامل اختيار كبش الفداء في ظاهرة التعصب. ولكي نفهم طبيعة هذا العامل يجب أن نذكر أن اعتناق الطفل للمعاني الدينية، لا يبدأ حقيقة إلا في مرحلة الكمون حوالي سن السابعة، أي عند نشأة الضمير الخلقي، وبعد انتصاره على دوافع الكراهية إزاء الأب، تلك الدوافع التي كانت تضطرع في نفسه اضطراعا عنيفا إبان المرحلة الأوديبية.

    وهكذا فإن الإذعان لسلطان الدين يسير جنبا إلى جنب مع الإذعان لسلطان الأب، ويشتركان في جميع الصفات النفسية، مما حدا بالمحللين إلى اعتبار الإذعان لسلطان الدين نوعا من الإسقاط للإذعان لسلطان الأب. على أن مكتشفات التحليل النفسي تدلنا على أن الانتصار على دوافع الكراهية نحو الأب، لا يعني فناءها، وعلى أن هزيمتها لا تدوم إلا بدوام مناهضتها. ولما كان وجود فرد أو جماعة لا يذعنون لما نذعن له، ولا يعبدون ما نعبد، يقوم دليلا على أن السلطان الذي أذعنا له غير مطلق، فإن هذه الجماعة تصبح أشبه شيء بمحرض لدوافع الكراهية نحو التمرد. والنتيجة الطبيعية من ذلك، إنه لا بد من محاربة الكافر بما نؤمن به، حتى لا يتاح لعوامل الكراهية الذاتية أن تتمرد.

    ويمثل تطور ظاهرة التحويل هذه الحقائق أحسن تمثيل، عندما يستعيد المريض الموقف الأوديبي ويلبس المحلل في نظر المريض رداء المحرض، و ذلك بسكوته على نهضة نزعات المريض نحو التمرد على السلطان الأبوي. فإذا كان المريض يشترك مع طبيبه في العقيدة الدينية، ف!نه يوجه إليه النقد في هذه الظروف، في عبارات تكاد تكون صدى لما يوجهه من نقد لعناصر التمرد في نفسه. أما إذا اختلفا في العقيدة الدينية، كأن يكون المريض قبطيا والمحلل مسلما، فإن المريض يقحم التعصب ويجعل منه هوة تباعد بينهما. وبعبارة أخرى فإن شعور المريض بالتعصب في هذه الظروف، إنما هو إبقاء على النظام الذي أقامه في نفسه لضبط تمرده.

    أما العامل الثالث في تبرير التعصب أي في اختيار كبش الفداء، فهو في نظري أهم من العاملين السالفين. لأنه ألصق منهما بغريزة حفظ البقاء. ولهذا فإني أميل إلى تسميته بالعامل النرجسي.

    لا شك أنكم تعلمون أن المريض يبادرنا في بدأ التحليل بنوع خاص من المقاومة، تتلخص في إحساسه بأن التحليل يكاد يكون معولا يهدد كيانه بالدمار، أو أنه مجازفة حمقاء تعرضه لأشد الأخطار. ويجب أن أذكر أن الأمر قد يكون كذلك بالفعل، وعلى المحلل أن يميز منذ البداية بين الحالات التي تصلح للتحليل وتلك التي يخشى عليها منه.

    ولكي أبرز لكم قوة هذا النوع من المقاومة، يجب أن نذكر أن الأصحاء الذين يخضعون أنفسهم للتحليل لغرض تعليمي، لا يقل هذا النوع من المقاومة لديهم في شدته عن مثيلها لدى المرضى ذلك أن هذا النوع من المقاومة إنما هو صدى لكفاح الكائن في الدفاع عن النفس، والدفاع عن النفس يعني من الناحية السيكولوجية الاحتفاظ بالبناء الراهن للشخصية مهما كان فيه من عوج، ومهما كلف ذلك من الشقاء، حتى لنجد بعض الأفراد وقد تحصنوا في نوع من القلاع التي لا نفاذ إليها.

    وتتخذ هذه المقاومة أشكالا مختلفة، منها هذا النذير بالخراب والدمار الذي تترجم عنه الأحلام في صور تهدم البيوت أو تساقط القنابل، أو التحذير من فتك الميكروبات (كما ترجم عنه حلم مريض فرنسي أثناء وباء الكوليرا الأخير في مصر، ونسب مصدر الوباء إلى شخصي)، أو بتمثيل المحلل بلص أو قاطع طريق يسطو على أمتعة الناس، أو بمدير لمقاصف اللهو والدعارة التي لا ينتظر من غشيانها إلا الشر. فإذا اختلفت عقيدة المحلل وعقيدة المريض من الناحية الدينية، فإن المريض قد يتخذ من التعصب درعا يتقي به شر المحلل.

    ولا بد لنا أن نتبين السبب الذي يدعو إلى اتخاذ التعصب وسيلة للدفاع عن النفس. وهنا يجب أن نذكر أن الطفل عندما يقلع عن أوهام القدرة المطلقة التي تبعث فيه الشعور بالأمان وتزوده بالطمأنينة، لا يلبث أن يتوحد بأبويه، وفي مرحلة تالية يتوحد بالطائفة أو المجتمع الذي ينتمي إليه، ويخلع عليه كل صفات الكمال التي تكفل تزويده بالأمان والطمأنينة. وغني عن البيان أن كل ما من شأنه أن يشير إلى أن خصائص الطائفة ليست الكمال نفسه، وأن ثمة من العقائد المغايرة ما يدعو إلى الشك في هذا الكمال. فإن ذلك يبعث القلق ويحفز للدفاع عن النفس.

    ويمكنني أن أشير بهذا الصدد إلى الخلاف الخاص بين المسيحية والإسلام كما استطعت أن أتبينه من خبرتي الإكلينيكية. فالمسيحية تعترف في صراحة بـ الخطيئة الأولى، ثم تعمد إلى التكفير عنها بقبول فكرة صلب المسيح (وهو ما يراه المحللون رمزا للإخصاء). على أن العقاب بالصلب لم يقع إلا لشخص المسيح الذي يقوم بوظيفة كبش الفداء أو المخلص. أما الإسلام فإنه ينكر حادث الصلب بتاتا (أي ينكر وقوع الإخصاء) ويعتبره وهما، "و لكن شبه لهم ". أما وقد أنكر الإسلام الصلب فقد أنكر ما يوجب شل هذا العقاب الشنيع. وبعبارة أخرى فإن النظرية المسيحية تقترب اقترابا خطيرا من صراعات الطفولة المكبوتة إذ تعترف بالصلب وبالتالي تستثير قلق الإخصاء لدى المسلم. أما نظرية الإسلام فإنها بإنكارها الصلب تلغي بهذا لإنكار طريق الخلاص في نظر المسيحي وتستثير في نفسه قلقا شديدا. مهما يكن من أمر هذا التفسير الخاص، فإن العامل النرجسي يؤيده إسقاط لأنا الأعلى على زعيم الطائفة أو الفكرة التي تقوم مقام الزعيم ويتجه تيار الحب إلى شخص الزعيم الذي تقمص الذات العليا للأفراد، بحيث تقوم المحبة مقام الرباط الذي يضم أفراد الطائفة جميعا، ويناضل الأفراد في سبيل الطائفة كما يناضل الحبيب في سبيل حبيبه، كما بين ذلك فرويد في رسالته عن سيكولوجية الجماعة.

 

    وينبغي لي أن أشير الآن إلى نتائج بحث قام به الزميل عبد المنعم المليجي في تطور الشعور الديني لدى الأطفال والمراهقين المصريين. والذي يستلفت النظر في نتائج بحثه للاتجاهات الدينية أنه تبين له أن هناك أربعة اتجاهات رئيسية: الإيمان التقليدي والحماس الديني والشك والإلحاد، وأن نسبة الإيمان التقليدي لدى المسلمين لا تعدو 47% على حين أنها 81،6% لدى المسيحيين، ثم إن نسبة الشك 25% لدى المسلمين على حين أنها صفر لدى المسيحيين، أما الإلحاد فنسبته 1% لدى المسلمين وصفر لدى المسيحيين.

    وواضح أن هذه النتائج تتفق مع ما قدمناه من اعتبارات في الدفاع النرجسي. فالمسيحيون في مصر أقلية ومن ثم كان لا بد لهم من قدر التكاتف والتوحد بالطائفة، دفاعا نرجسيا عن النفس، أعظم مما يحتاج إليه المسلمون.

    على أنه يبدو أن التوحد بالطائفة الدينية أيا كان نوعها وعددها، أكثر أنواع التوحد في الشرق الأوسط، كما تدل على ذلك الاختبارات التي أجريت على الاتجاهات الاجتماعية لطلاب الجامعة الأمريكية ببيروت، وهي تضم شبانا من معظم طوائف الشرق الأوسط فقد أجرى على 170 طالبا من طلاب هذه الجامعة اختبار ذو خمس درجات في التباعد الاجتماعي. ويقصد بالتباعد الاجتماعي مبلغ تقبل الأرمني للتركي مثلا أو اليهودي للمسلم، ففي الدرجة الأولى صيغ التباعد في العبارة الآتية: إذا أردت الزواج فإني أتزوج من واحدة منهم، وفي الدرجة الرابع صيغ في عبارة: لا أرتاح لمصاحبة هؤلاء الناس، وفي الدرجة الخامسة: وددت لو قتلوا جميعا، وكان بين المختبرين نحو 90 تباعدا من ناحية القومية و 66 من ناحية الدين و 15 من ناحية الحالة الاقتصادية. وقد استوثق من ثبات هذا الاختبار ومن صحته بالطرق المألوفة، ومما يدل على صحة هذا الاختبار أن الطوائف التي كان يتوقع أن يكون التباعد بينها على أعظم درجة، مثل التباعد بين عرب فلسطين واليهود، أسفر الاختبار بصددها عن النتائج المتوقعة.

    وقد أسفر هذا الاختبار عن نتائج هامة كثيرة خليقة بأن تسترعي اهتمام علماء النفس والاجتماع في الشرق الأوسط، وبأن تحفزهم على دراستها والمضي في هذا النوع من البحث.

    أما النتائج التي تتصل بهدفنا اليوم فهي إن أعظم درجات التباعد كانت بين الفئات الدينية، أي على أساس العقيدة الدينية وبعبارة أخرى، فإن الاتجاهات المتصلة بالانتساب إلى طائفة دينية برزت في قوتها جميع الاتجاهات الأخرى المتصلة بالقومية أو الحالة الاقتصادية أو التعليمية وما إليها. ويعلّق المختبر على ذلك بالإشارة إلى قوة الرابطة الدينية في الشرق الأوسط، كما يدل عليها توزيع المنشآت والأحوال الاجتماعية، مثل السكن في إحياء بعينها، وقيام مدارس طائفية، ثم اختلاف الشرائع والمحاكم الخاصة بالأحوال الشخصية، بل إن التمثيل السياسي نفسه يخضع للأحوال الطائفية.

     ويضيف المختبر إلى ذلك قوله إن هذه النتيجة التي أسفر عنها الاختبار تختلف عما أسفرت عنه مثل هذه الاختبارات في أمريكا، ومن تحصيل الحاصل أن نقول أنه إذا كانت الرابطة الدينية في الشرق الأوسط تفوق في وقتها غيرها من الروابط، فإنما يرجع ذلك إلى ضعف الروابط الثقافية الأخرى وخاصة رابطة القومية. ويكفي أن نذكر أن رابطة القومية بالنسبة للمصريين كانت منذ نحو نصف قرن واهية هزيلة، بالقياس إلى الرابطة الدينية، حتى احتاج بعض قادة الرأي وأخص بالذكر منهم لطفي السيد باشا، أن يذكر مواطنيه في الجريدة، إن الوطنية يجب أن تكون محدودة بحدود مصر الجغرافية.

    وغني عن البيان أن الرابطة الدينية في الشرق الأوسط تقوم مقام الرابطة القومية إلى بلاد الغرب، من حيث وظيفة الإبقاء على الكيان والدفاع عن النفس، وإن قيام الرابطة الدينية بهذه الوظيفة إنما هو نتيجة طبيعية لفعل عوامل سياسية وتاريخية حالت دون نمو الروابط الثقافية الأخرى بحيث تحل محل الرابطة الدينية.

    ولا زالت بعض بلدان الشرق الأوسط تتلمس الطريق لبناء شخصيتها "الدولية، فنسمع مثلا عن مشروع سوريا الكبرى، أو بعض مشاريع الجامعة العربية. ولعل خير مثل على ما تقدم هو فلسطين. فلم تكد تعرف فلسطين لنفسها كيانا يقوم على القومية وكانت تحس قبل قيام إسرائيل بالخطر يهدد هذا الكيان ولما يكتمل، فكان من الطبيعي أن تكون الرابطة الدينية بالنسبة لعرب فلسطين أقوى الروابط إطلاقا، حتى إن بعض قادة الرأي منهم كان يدعو إلى ضم فلسطين إلى مصر أو إلى سوريا. وواضح إن اكتمال الكيان الدولي والتقدم التطور الحضاري يستتبع إحلال الروابط التي تستند إلى القومية محل الروابط الدينية.

    والآن ينبغي لي قبل أن أترك الحديث في هذا العامل الذي سميته بالعامل النرجسي وربطت بينه وبين غريزة حفظ البقاء، أن أناقش معكم مشكلة من هذه المشاكل التي تعودنا مناقشتها كلما ذكرت كلمة الغريزة. فنحن نعلم أن بعض قدامى علماء النفس قال بوجود غريزة "الشعور بالنوع" وبوجود ميل غريزي "لكراهية ما هو مغاير". وفي اعتقادي أنني لست في حاجة إلى مناقشة طويلة لبيان تفاهة هذه النظريات. فقد تقدمت الدراسات النفسية تقدما جعل هذه النظريات تشبه تفسير أرسطو للأبصار بأنه شعاع يخرج من العين إلى الأشياء، فلو كانت كراهية ما هو مغاير غريزة، لكانت خاصة تحملها الكروموسمات فتنتقل بالوراثة إلى جميع أفراد الجنس أو الطائفة، ولاستحال عند ذلك أن يتزوج مسلم من قبطية أو قبطة من يهودية، ولو كان تعصب البيض ضد الزنوج غريزة لما تزوج مصري من زنجية أو فرنسية من زنجي، ولكنا نعلم أن هذه وقائع نشاهدها من حين لآخر.

     بقي أن بعض البحوث الحديثة وأخص بالذكر منها بحوث رينيه شبتز كشف عن ظاهرة هامة تتصل بهذا الموضوع، فقد تبين أن الطفل يمر في الشهر الثامن من عمره بما سماه شبتز بأزمة الشهر الثامن. وخلاصتها أن الطفل يبدأ عند ذلك في التمييز بين أهله وبين الغرباء، وإنه يجفل جفولا شديدا من رؤية الغرباء. وفي لغتنا الدارجة لفظ يستخدمه النساء في مخاطبة الغير فيقلن "يا الدعدي " ويغلب أن أصله "يا هذا العدو"، كان الغير والعداوة صنوان. أما أزمة الثمانية أشهر فمهما يكن من أمر تفسيرها، فالذي لا شك فيه أنها ترجع إلى أن الطفل يكون إلى ذلك السن في غمرة الطمأنينة، التي تتألف من ارتباط خبرات الرضى والأمن بشخص أمه، وأن نضجه الفسيولوجي في الشهر الثامن يهيئه إلى الخوف عندما يدرك وجود أشخاص لم ترتبط بهم خبرات الرضى، فكان الإشفاق والخوف من امتناع الرضى والأمن هو الشرط الأساسي في بزوغ الشعور بالغير وبالتالي الشعور بالذات. والذي يهمنا من هذا كله أن أزمة الثمانية أشهر إنما هي نتيجة لخبرات معينة أي لعملية تعلم، كما أن هذه الأزمة لا تلبث أن تمر بسلام عندما تسبغ الأم على الغرباء نفحة من عبيرها الذكي، أي عندما يتعلم الطفل تحت إرشاد أمه أن مجيء الغرباء لا يقتضي حتما غيابها أو امتناع الأمن.

 

     انتهيت بذلك من العامل النرجسي في تبرير التعصب، وينبغي أن أفكر أن هناك عوامل أخرى تكشف عنها التجارب الإكلينيكية، ولكنها قطعا أقل أثرا من العوامل السابقة بل هي نتيجة لها.

     فهناك مثلا عامل إسقاط الأنا الأعلى عندما تكون كارهة غضوبة. وإليكم حلما لمريض مصري مسلم. رأى النحاس باشا ومكرم عبيد باشا يتناقشان، وكان مكرم باشا ينظر إلى النحاس باشا شذرا، ومن الخواطر التي تداعت لهذا المريض مع هذا الحلم، أن مكرم باشا قال عندما تزوج النحاس باشا وأقبل على الدنيا ونعيمها: "إذا اشتهى فقد انتهى". وتدل مجموعة خواطر المريض على أن النحاس باشا يمثله في رغباته في الاستمتاع بملذات الدنيا، وأن مكرم باشا- وقد ذكر بصدده أن الأقباط لا يضمرون خيرا للمسلمين- يمثل ضميره الصارم ينذره بالويل والثبور، ويصدر حكمه عليه بالفناء إذا سولت له نفسه الاشتهاء، وواضح أن إسقاط مثل هذه الأنا الأعلى القاسية، غير المنسجمة مع باقي جوانب الشخصية، حتى لتكاد تكون عنصرا غريبا فيها، يتوقف على تاريخ سابق خلع على الطوائف الأخرى مسحة المضطهد الواقف بالمرصاد.

    وهناك غير ذلك عوامل ثانوية أخرى ولكني أكتفي بهذا القدر فلم أقصد إلى الحصر ولا إلى الاستقصاء الكامل، وينبغي لي الآن أن أذكر أننا أطباء وأن علينا واجب العلاج بعد واجب التشخيص على أنني مع ذلك أحب أن أقرر أنني لا أعتبر ما تقدم تشخيصا وافيا، وإنما لا يعدو ذلك أن يكون طرحا للمشكلة، وواجبنا أن نمضي في هذا النوع من البحث مزودين بأدوات البحث التجريبي والإكلينيكي وغيرهما، لأنه من حسن الطالع أننا إزاء ظاهرات نفسية، جعلت بطبعتها طريق التشخيص وطريق العلاج واحد.

     وبعد فقد وضح مما تقدم أنه لا سبيل إلى ضبط العدوان فضلا عن نقله إلا إذا عالجنا مصادر النقمة والحرمان الأصلية، ومعظمهما كما رأينا ينشأ في المحيط الداخلي. وغني عن البيان أن هذا يقتضي دراسة الأحوال الاقتصادية. ولا بد لنا من الاستعانة في ذلك بالأخصائيين في علوم الاقتصاد.

     على أنه ينبغي لنا أن نحذر من التعميم السريع لكيلا نرجع كل مشاعر الحرمان والسخط إلى مصادر مادية. فقد دلتنا دراستنا السيكولوجية على أن المصادر النفسية قد تكون أعظم أثرا، كما دلتنا على أن مسئوليتها تقع أول ما تقع على أقرب المقربين أي على الأهل، وهذا يفسر الضرورة الحيوية في التوسل بكبش الفداء للتنفيس عن النقمة. ولا أشك في أن كل من أتيح له أن يتابع شيوع مظاهر القلق والضيق لدى طلاب المدارس والجامعات المصرية في السنوات العشر الأخيرة، قد أدرك أن هذه الظواهر تتصل اتصالا وثيقا بأحوال الأسرة المصرية ونماذج التربية فيها لا بد إذن من دراسة تفصيلية لأحوال الأسرة وتحديد مدى ما تخلفه في نفوس الناشئة من الافتقار إلى الأمن، ومبلغ قابلية الفرد في المجتمع المصري لاحتمال أسباب الحرمان التي لا مفر منها، ومدى ما زودته التربية- في الأسرة- بأدوات معالجة الحرمان معالجة.

    بقيت مسألة أخيرة وهي غلبة التوحد الطائفي الديني على غيره من أنواع التوحد بالمنظمات الحضارية الأخرى في الشرق الأوسط. وهذه مسألة تخضع للتطور النفسي الاجتماعي كما سبق أن قدمت. فإن عدم استقرار النظم الحضارية الأخرى وتزاحم الحضارتين الغربية والشرقية في الشرق الأوسط، لم يترك للأفراد غير سند التوحد الطائفي.

    وأخيرا يجب أن نذكر أن مظاهر العدوان والكراهية والنقمة لدى المرضى العصابيين تقل كثيرا بعد علاج نفسي ناجح، و يحل محليا شعور بالتسامح، مما يدل على إمكان علاج مظاهر التعصب، وهي في نهاية الأمر مظهر للصراع وما يتضمنه من عدوان وكراهية.

     والخلاصة أنه يجب أن تخضع ظاهرة التعصب وغيرها من الظاهرات الاجتماعية للأسلوب العلمي في وصفها وتحليلها وتعليلها إذ أن الأسلوب العلمي يتضمن بطبيعته الموقف الموضوعي الذي يتجرد إلى أقصى حد مستطاع من تأثير الأهواء والدوافع الذاتية المغرضة، وبالتالي فهو خير سبيل إلى تحقيق التسامح.

    ولنذكر ما جنته الإنسانية من تطور موقفها إزاء الزيغ والانحراف النفسي فقد كان مرضى العقل يكبلون بالسلاسل ويعاملون أسوأ المعاملة كما لو كانوا أشرارا حتى جاء الطبيب الفرنسي بينل وفك قيودهم ونادى بمعاملتهم كمرضى لا كأشرار. وهكذا كان الحال إزاء المجرمين والأطفال المنحرفين فإن الموقف العلمي الحالي غير من موقف المجتمع إزاءهم تغييرا تاما عاد بفائدة كبيرة على المجتمع نفسه. فلا بد لنا إذن أن نقف الموقف نفسه في ميادين الاجتماع والسياسة إذا أردنا الوصول إلى حلول فعالة.

    وقد بينا أن التعصب يؤدي وظيفة نفسية خاصة تتلخص في التنفيس عما يعالج في النفس من كراهية وعدوان مكبوت وذلك عن طريق عمليتي النقل والإبدال دفاعا عن الذات وعن من تحبه. فالمتعصب إذن يجني في موقفه كسبا، غير أن هذا الكسب لا يختلف عما يجنيه العصابي من سلوكه الشاذ، أي أنه كسب وهمي ناقص يفوت على صاحبه فرصة حل إشكاله حلا رشيدا واقعيا مجديا.

    وبعد فإني أرجو في نهاية هذا الحديث أن تصح عزيمتنا على تجنيد قوانا لقتل التعصب بحثا.

 

Document Code OP.0047

ZayourFundamentalismPsychology

ترميز المستند OP.0047

 

Copyright ©2003  WebPsySoft ArabCompany, www.arabpsynet.com  (All Rights Reserved)