Arabpsynet

 وجهـات نظـــر /  Points of View

شبكة العلوم النفسية العربية

 

الوعـي بالمشكلـة ... خطـوة أولـى نحـو الحـل

أ.د. قــدري محمــود حفنــي

أستاذ علم النفس بجامعة عين شمس – القاهرة / مصر

محـاضـــرة

المجلس الأعلى للثقافة -  لجنة علم النفس - 1 يناير 2003

E.mail : kadrymh@yahoo.com

 

q       النص الكامل   Full text / Texte  entier / 

 

السادة الحضور

    لموضوع هذا اللقاء قصة لعله من المناسب روايتها. الموضوع بالنسبة لي فريد من عدة نواح. موضوع لم أختره بل اختاره لي الصديق الأستاذ الدكتور مصطفي سويف، ربما لأنه رأي فيه ما يناسب صورتي لديه. وكان الأستاذ الدكتور سويف كريما فترك لي أن أعدل في الموضوع أو حتى أن أختار موضوعًا غيره. و لكني وافقت علي الموضوع كما هو إذ رأيت فيه خبرة جديدة لي. فمنذ سنوات طوال كانت موضوعات كتاباتي و محاضراتي من اختياري الشخصي. موضوع يشدني فأكتب أو أحاضر فيه. و لا شك أن الكتابة في موضوع لم أختره بهذا الشكل، بل ولم يسبق لي أن حاولت الغوص فيه اقتضى مني استرجاع مناخ انفعالي عاد بي لأيام الدراسة و الامتحانات، وهو أمر لا أنكر أنني استمتعت به كثيرًا.

 

سادتي الحضور

    لقد دفع بي إعداد هذه المحاضرة إلى استحضار أول لقاء لي بمقرر علم النفس العام دارسًا له على يدي و كتاب أستاذنا الراحل الدكتور يوسف مراد. و مازلت أذكر استغراقي المندهش في تأمل تجارب التعلم الشهيرة التي أجريت علي الكلاب و الفئران و القردة و ما إلي ذلك. ما زلت أذكر ذلك القرد الذي احتل مكانه في تاريخ علم النفس. ذلك القرد الذي وضعه عالم النفس الشهير كوهلر حيال مشكلة فريدة تتطلب حلًا. القرد جائع و ثمار الموز الشهية معلقة بعيدًا في سقف القفص. و القفص خلو مما تألفه القردة عادة من أشجار تتيح لها التسلق لنيل مبتغاها. ليس في القفص سوي عدة صناديق خشبية متناثرة. كان على القرد أن يتوصل إلى حل جديد يتلاءم مع تلك المشكلة الجديدة.

    على أي حال فإننا لن نقف طويلًا أمام كيفية حل القرد لمشكلته، و لا حتى أمام ما استخلصه كوهلر وصاغه عام 1917 عن التعلم بالاستبصار. و لن نتوقف كذلك أمام ما أثير و ما زال مثارًا من تحفظات بشأن مشروعية و حدود تعميم مثل تلك النتائج المستخلصة من تجارب الحيوانات لنفسر من خلالها سلوك البشر. ما يعنينا في مقامنا هذا أن انشغال علماء النفس الحديث بقضايا حل المشكلات بدأ منذ وقت بعيد، و إن لم يكن تحت هذا العنوان تحديدًا.

و إذا ما مضينا مع التاريخ لنقترب من الوقت الراهن فإننا لن نجد أن جوهر الموقف قد تغير كثيرًا. صحيح أن موقع معالجة موضوع حل المشكلات في إطار علم النفس قد تحرك من مجال قوانين و نظريات التعلم ليصبح ضمن الاهتمامات الأساسية للمنشغلين بقوانين و نظريات التفكير. ولكن ظل الطابع العام للتناول محكومًا بملامح ثلاثة.

    الملمح الأول أن نقطة البداية ظلت تتمثل في وجود مشكلة تتحدي الكائن و عليه أن يسعى لحلها، دون اهتمام بنفس القدر بما يسبق ذلك. أعني بكيفية تواجد المشكلة في وعي ذلك الكائن.

     الملمح الثاني أن الغالبية العظمي من معالجات قضية حل المشكلات قد انصرفت إلى تلك المشكلات التي تواجه الكائن فردًا، أو على الأكثر تلك التي تواجه مجموعة معملية صغيرة من الأفراد، ثم الانطلاق إلى تصميم الخطط و البرامج و الاستراتيجيات التدريبية لتطوير قدرات الأفراد على حل المشكلات. و بذلك فقد غاب الاهتمام بنوعية من المشكلات لعلها-فيما أري- الأهم و الأشد احتياجًا لمثل تلك المعالجات. أعني بذلك المشكلات الاجتماعية.

     الملمح الثالث أن انصراف الجهد الأكبر من تلك المعالجات إلى التعامل مع الفرد أدى إلى حصرها في إطار تصور مؤداه أن للمشكلة حلًا أو حتى حلولًا قد تتفاوت من حيث الكفاءة أو الإبداع، ولكنها لا تتناقض بتناقض مواقع و مصالح و رؤى أطراف المشكلة، و هو ما يحدث عادة في كافة المشكلات التي تدور في إطار علاقات البشر ببعضهم.

    في ضوء تلك الملامح الثلاثة أستأذن في عرض الموضوع

 

السادة الحضور

    يتفق علماء النفس و الإدارة و السياسة، و هي التخصصات الرئيسية التي اقتربت من معالجة الموضوع، على أن اكتساب مهارات حل المشكلات يعد بمثابة الشرط الأساسي لولوج عصر المعلومات. وعلى سبيل المثال فإن عالم الإدارة بارتون جولدسميث يستهل مقالًا له نشر في أغسطس عام 2001 بعبارة منسوبة لألبرت اينشتاين يقول فيها اينشتاين "إن الخيال أكثر أهمية من المعرفة" و يمضي بارتون ليقرر أن عصر المعلومات الذي يراه وريثًا لعصر الصناعة يتطلب تطوير العديد من المهارات الجديدة على رأسها الابتكارية و حل المشكلات.

    ويتفق ذلك مع جوهر ما ذهب إليه عالمي النفس فرنش و رودر في كتابهما المنشور عام 1992عن تعليم مهارات التفكير، حين يقرران " أننا حين نتحدث عن التفكير، فإن أول ما يتبادر إلى الذهن بالنسبة لأغلبنا هو موضوعات كحل المشكلات، و التفكير الناقد، و التفكير المبدع، و هي التعبيرات اللامعة ذات الرنين، و الرائجة في تسويق برامج التدريب و التدريس، والتي يحرص رجال التعليم علي إبرازها لتأكيد أنهم يسيرون على الطريق الصحيح".

أما المتخصصون في العمل السياسي الدبلوماسي فإن اهتمامهم بأهمية الطابع المستقبلي لمهارات حل المشكلات قد بدا واضحا خلال دورة المؤتمر الدولي لعلم النفس التي شهدتها العاصمة السويدية ستوكهولم في أغسطس عام 2000 و التي كان من أبرز معالمها تدشين مجال جديد من مجالات علم النفس اختار له المؤتمر عنوان "الدبلوماسية وعلم النفس" ولقد افتتح چان ايلياسون وزير خارجية السويد أولى الجلسات التي انعقدت تحت هذا العنوان مشيرًا إلى أن ظروف العالم الجديد هي التي تدعوه كدبلوماسي محترف إلى الدعوة لتدعيم اقتراب الدبلوماسية من علم النفس· موضحًا أن انفجار الصراعات الداخلية قد أصبح بمثابة السمة المميزة لعالم اليوم· وأن "الدبلوماسية الوقائية preventive diplomacy" تكتسب في مثل هذا الموقف معنى جديدا يقتضي تطوير ما أطلق عليه "ثقافة الوقاية culture of prevention" التي ينبغي أن يتزود بها الدبلوماسي في عالم اليوم· وتشمل تلك الثقافة عدة مكونات منها إنها ينبغي أن تشمل نظمًا لما أطلق عليه الإنذار الحضاري المبكر بمعنى التقاط وتفسير النذر الأولى التي تنبئ بأن ثمة انفجارا متوقعا، أو على حد تعبيره "ضرورة توافر عيون وآذان سيكلوچية لالتقاط تلك النذر المبكرة"

 

السادة الحضور

    يعد موضوع حل المشكلات إذن من القضايا الرئيسية التي يتناولها علماء النفس و هم بصدد معالجة عمليات التفكير، ونظرًا لأن التفكير بطبيعته لا يمكن دراسته بشكل مباشر فقد انصبت تلك المعالجة على دراسة التفكير كما يبدو لنا في موقف محدد مضبوط، هو موقف مواجهة الكائن الحي لمشكلة تتطلب حلاً. ولذلك فإن التعريف السائد للتفكير هو أنه ذلك الذي يحدث حين يواجه الكائن البشري أو الحيواني مشكلة فيتعرف عليها ويحلها·

    إن أول ما يلجأ إليه الفرد إذا ما وجد نفسه في موقف مشكلٍ يتطلب حلاً، أن يلجأ إلى مخزونه من المعلومات أو الحلول التي سبق أن مارسها و أثبتت جدواها في مواقف سابقة تبدو مشابهة للموقف الحالي. جميعنا يواجه يوميًا مثل تلك المواقف التي تنتهي تمامًا فور استعادة المعلومات المناسبة أو تذكر الحل السابق و ممارسته. وقد لا تستغرق هذه العملية بكاملها طرفة عين. باب المنزل مغلق، المفتاح في الجيب، ليس علي المرء سوي أن يستعيد ما يفعله يوميًا. يخرج المفتاح و يفتح الباب فينتهي الموقف. و لكن للأسف فإن هذا الحل الخاطف لمثل ذلك الموقف لا يتحقق في كل المواقف، رغم حقيقة أنه موقف يتضمن مشكلة بالفعل، فضلًا عن أن تحليل كيفية اكتساب المرء للقدرة علي ممارسة تلك الحلول السعيدة لا يدخل في نطاق اهتمام علماء النفس بقضية حل المشكلات في موقعها الجديد ضمن قضايا التفكير.

    إن تناول علماء النفس لموضوع حل المشكلات يبدأ مع إخفاق تلك الحلول الخاطفة السعيدة التي سبق أن تعلمناها في مواقف مشابهة. ترى ما ذا لو اكتشف المرء مثلًا و للمرة الأولى أن المفتاح ليس في جيبه، أو أن القفل لا يستجيب للمفتاح، ماذا يفعل؟ عندئذ تنفتح البدائل و يضطر إلى البحث عن تفسير جديدٍ للموقف، و عن حل جديد للمشكلة. عن حل لم يجده جاهزًا في مخزون ذاكرته. إنه في حاجة لحل مبتكر.

    لقد لجأ صاحبنا إلي البحث عن الحل المبتكر لمشكلة واجهته بالفعل و لم يكن أمامه من سبيلٍ إلا أن يجد لها حلًا. لقد لجأ إلي الابتكار مضطرًا. و غالبية البشر كذلك، لا يحاولون ابتكار حلولٍ جديدة للمشكلات طالما أن الحلول التي ألِفوها تفي بالغرض، بمعني أنها تقدم حلًا ما لتلك المشكلات. حلًا ألفوه و ارتضوه. و نستطيع أن نطلق علي تلك الغالبية "المبتكرون اضطرارًا". فنحن جميعًا قادرون على الابتكار بهذا المعنى بدرجة أو بأخرى، و غالبيتنا يضطرون اضطرارًا لممارسة ابتكاريتهم هذه. و قديمًا قالوا و بحق إن الحاجة أم الاختراع.

    و لكن تلك "الحلول السعيدة السريعة" ليست الحلول الأفضل أو الأكفأ في كل الأحوال. إنها تنهي المشكلة حقًا، و لكن قد تكون ثمة حلولا أخري أسرع أو أيسر أو أقل تكلفة. ثمة بدائل للحل التقليدي المألوف. و من هنا تقوم البرامج التدريبية المتخصصة في مجال حل المشكلات على تنمية قدرة الفرد علي اكتشاف تلك البدائل.

 

السادة الحضور

    لعلكم تتساءلون، ترى و ما الحاجة إلى تلك البرامج المجهدة و المكلفة؟ لماذا لا يمارس البشر جميعًا تلك الحلول الإبداعية بشكلٍ تلقائي، طالما أن إبداعهم يتيح لهم سبلاً أيسر لحل مشكلاتهم؟ بعبارة أخرى هل من تفسير لاستمرار البشر في التمسك بالأساليب التقليدية غير الإبتكارية في حل مشكلاتهم رغم ما يتكلفونه من عناء؟ قد تكمن الإجابة في مخافة الإبداع· فالتفكير الإبداعي يعني الاختلاف. يعني الخروج عن النمط المألوف. وكلها أمور قامت أغلب المجتمعات على رفضها والتخويف منها، فالتنشئة الاجتماعية تقوم عادة على التحذير من الخطأ وعقاب المخطئ.  وليس من محك اجتماعي يميز بين الخطأ والصواب إلا اتفاق رأي الجماعة وجماعة الراشدين.

    على أي حال فإن ذلك التيار المنهمر من البرامج التدريبية المتركزة على إكساب و تطوير مهارات حل المشكلات تنصب أساسًا على شحذ تلك المهارات لدى الفرد ليصبح أكثر كفاءة في التوصل إلي حلَ مبتكر إذا ما واجهته مشكلة مستعصية كان مضطرًا لحلها. أي أن تلك البرامج تستهدف في المقام الأول أولئك الذين أطلقنا عليهم "المبتكرون اضطرارًا، باعتبار أنهم يمثلون الغالبية الراهنة من زبائن برامج التدريب. لكن تري هل هؤلاء هم الذين ينبغي أن يتجه إليهم كل الاهتمام إذا ما سلمنا بالأهمية المستقبلية لموضوع حل المشكلات؟ أم أن الاهتمام ينبغي أن يتجاوز هؤلاء دون إهمالهم بطبيعة الحال، ليتجه صوب فئة أخري، أتصور أنها ينبغي أن تكون الغالبية في عالم الغد.

    إنها تلك الفئة التي ينتمي إليها أرشميدس، و كوبرنيكوس و نيوتن، و اينشتاين، و زويل، إلي آخر القائمة. أولئك الذين لم يضطروا اضطرارَا للبحث عن حلول لمشكلات اعترضت مجري حياتهم، بل اكتشفوا هم من المشكلات ما كان غائبَا عن وعي غيرهم، ثم أبدعوا الحلول لما اكتشفوه هم من مشاكل. الجمهور الجديد الذي نعنيه ليس هو ذلك الذي تضطره الظروف اضطرارًا لابتكار الحلول للمشكلات، ولكنه ذلك الذي يكتشف مشكلة قد لا تكون ظاهرة للآخرين، و من ثم فإنهم لا يفكرون في حلٍ لها، أو ذلك الذي يكتشف سبلاً جديدة أيسر و أوفر لحل مشكلة قد تنجح الطرق التقليدية في حلها ولكن بعناء أشد وبتكلفة أكبر.

 

السادة الحضور

    لقد أخذنا الحديث عن حل المشكلات دون أن نتوقف قليلًا أمام مصطلح "المشكلة". تري ماذا نقصد بتعبير "مشكلة". تعريفات المتخصصين في علم النفس عديدة، فإذا ما أضفنا إليها تعريفات علماء الإدارة، و السياسة، أصبحنا حيال ركام هائل من التعريفات لا أظن ثمة نفع كبير في استعراضها. ما يعنينا هو أن نقف علي القسمة المشتركة التي تجمع بينها. المشكلة موقف محبط بمعني أن المرء يكون راغبًا في بلوغ هدف بعينه و لكن هناك ما يحول دون بلوغه.

و لعل ما يستوقف النظر فيما تكاد أن تجمع عليه تلك التعريفات المتاحة أنها تبدأ بالتسليم بمعاناة الفرد من الإحباط ثم تقفز مباشرة إلي اقتراح أساليب و استراتيجيات حل المشكلات. أي أنها تبدأ من نقطة توافر الوعي لدي الفرد بوجود مشكلة ما، و هو أمر يحتاج إلي وقفة متأنية، يمتد فيها التأمل إلي ما قبل شعور الفرد بالإحباط. تري لماذا يرغب فرد معين في بلوغ هدف بذاته، ثم يعاني ما يعانيه من آلام الإحباط، و يظل متمسكا بالرغبة في بلوغ الهدف؟ و لماذا قد نجد فردًا آخر لا يسعى أصلًا لبلوغ الهدف ذاته فيظل سعيدًا بعيدًا عن الإحباط و آلامه؟ وهل في هذه الحالة الأخيرة ينتفي وجود المشكلة موضوعيًا، مع انتفاء الوعي المؤلم بها؟

    ليس من شك في أن خبرة الإحباط ليست بالخبرة السعيدة التي يسعى إليها البشر عادة، بل يميلون ما وسعهم الجهد إلي تجنبها. و لما كانت المشكلة بحكم تعريفها إنما تعني ببساطة هدفًا مرغوبًا و لكنه ليس في متناول اليد، فإن الميل التلقائي قد يكون صوب التنازل عن ذلك الهدف المؤلم، بالتجاهل أو بالتجهيل، و كلاهما معادل في النهاية للجهل. و مع الجهل يختفي الهدف، و تتلاشى آلام الوعي و الإحباط، و تسود الطمأنينة و السعادة، و لكن تظل المشكلة قائمة بل لعلها قد تتفاقم.

   رب من يتساءل، تري و هل هنالك حقًا من يفضلون سعادة اللحظة الراهنة مهما كانت خطورة المشكلات القائمة و القادمة؟ الإجابة الفورية نعم، بل و لعل هؤلاء يمثلون الغالبية في بعض الأحيان. الأمثلة حولنا تفوق الحصر. يحضرني منها مثلًا ما تشير إليه الإحصاءات الطبية من أن نسبة كبيرة ممن يشعرون بأعراض ارتفاع ضغط الدم، و يعرفون معني ما يشعرون به، يعزفون عن استشارة الطبيب، مفضلين سعادة التجاهل علي آلام الوعي بالمشكلة. و كذلك فإن من يقدمون علي تعاطي المخدرات مثلًا لا تنقصهم المعلومات عما يتهددهم من مخاطر، بل لعلهم أكثر الناس إحاطة بمثل ذلك النوع من المعلومات، ولكنهم في الغالب يحرصون أيضا علي تجاهل تلك المخاطر مفضلين سعادة اللحظة الراهنة علي تحمل مكابدة آلام الوعي بالمشكلة. و غير ذلك من الأمثلة الكثير.

    و لكن ترى هل ما يصدق علي مريض ضغط الدم، و على  متعاطي المخدرات، يمكن أن يصدق أيضًا علي المشكلات الاجتماعية، أو البيئية، أو الاقتصادية، أو السياسية؟ إن مثل تلك المشكلات بحكم حجمها وشمولية تأثيرها قد تبدو للوهلة الأولى عصية على التجاهل، فضلًا عن التجهيل. ولكن الحقيقة غير ذلك تمامًا، إنها الأكثر قابلية للتجاهل، والأكثر استهدافًا للتجهيل، خاصة إذا ما كانت من نوعية تلك المشكلات التي لا تبدو في اللحظة الراهنة سوى علاماتها المنذرة فحسب.

    إن تلك المشكلات تتميز بأمور ثلاثة:

 

    الأمر الأول: أنها ذات طابع تاريخي، بمعنى أنه يندر ظهورها فجأة بين عشية و ضحاها، بل تبدأ نذرها خفية في البداية، ثم تأخذ في التراكم و التضخم و الظهور شيئًا فشيئًا. و لذلك فإن رصد بداياتها الأولى، ربما يتطلب توافر عدد من السمات الشخصية، و القدرات العقلية، فضلًا عن بعض المعارف المتخصصة، مما قد لا يتاح مجتمعًا سوي لدي نخبة محدودة من الأفراد. ومثل أولئك الأفراد حين يمسكون بنواقيس الخطر، و يرفعون رايات التحذير، لا يلقون في الغالب من مجتمعاتهم ترحيبًا كبيرًا. إنهم دعاة التشاؤم، المنقبون عن المشكلات. وفي أغلب الأحوال فإن هؤلاء الأفراد يعانون كثيرًا من نبذ أبناء مجتمعاتهم لهم، خاصة و أنهم يرون أنفسهم الأكثر انتماءًا و الأكثر حرصًا علي مصالح تلك المجتمعات. و لذلك فإنهم في كثيرٍ من الأحيان يختارون في النهاية الحفاظ علي انتمائهم لجماعتهم و على تقبل أبناء جماعتهم لهم و من ثم فإنهم قد يقدمون على طي رايات التحذير، و الكف عن دق نواقيس الخطر. فإذا ما وقع ما كانوا يخشونه و يحذرون منه، انطبق على حالهم ما قاله الشاعر العربي القديم الذي استشعر خطرا ينتظر جماعته إذا ما استمرت في طريق اختارته، فأهملوا تحذيراته، و حين وقع ما كان يحذرهم منه، و عاني معهم مما حدث، لم يجد أمامه سوي أن يردد:

نصحتهم أمري بمنعرج اللوي    فلم يستبينوا النصح إلا ضحي الغد

و ما أنا إلا من غزية إن غوت   غويـت و إن تـرشد غزية أرشد

 

    الأمر الثاني: أن حل ذلك النوع من المشكلات لا يمكن أن يتأتى بجهدٍ فردي مباشر  بل لا بد و أن يكون ذلك الجهد جهدًا اجتماعيًا جماعيا مخططًا. إن فردًا أو حتى مجموعة من الأفراد مهما بلغت قدراتها بل و مهما بلغت درجة وعيها و استبصارها واستباقها لمشكلات تتعلق بقضايا الحرب و السلام، أو بقضايا تلوث البيئة، أو الانفجار السكاني إلي آخر تلك النوعية من المشكلات لا يستطيعون وحدهم التصدي لحلها عمليا، بل ولا حتى تجنيب أنفسهم المعاناة من آثارها بشكل كامل. إنهم لا يستطيعون أن يجنبوا أنفسهم كأفراد مخاطر هزيمة عسكرية يتوقعونها، أو كارثة اقتصادية يرون نذرها، أو نضوب متوقع لموارد المياه أو الغذاء.

 

    الأمر الثالث: إن حل ذلك النوع من المشكلات لا يتطلب فحسب وعيًا بالمشكلة، وبحثًا عن الطريق الأنسب للتخلص منها، بل انه يتطلب في أغلب الأحيان تصديًا لقوي ومؤسسات اقتصادية اجتماعية عاتية تستفيد من استمرار تلك المشكلات قائمة بل تدفع بها إلي مزيد من التفاقم. فثمة مؤسسات اقتصادية وإعلامية بل وعلمية ضخمة تقوم عليها صناعة وتجارة المخدرات، والسجائر، وكذلك تلك الصناعات المعتمدة علي استخدام تكنولوجيا ملوثة. فضلًا عن تلك المؤسسات الاقتصادية والإعلامية و العلمية العملاقة المرتبطة بصناعة وتجارة الأسلحة والحروب.

 

السيدات والسادة

    لعلنا لا نبالغ إذن عندما نقرر أن تعثر الوعي، و من ثم التعثر في حل العديد من المشكلات سواء على المستوي الفردي أو على المستوى الاجتماعي لا يرجع فحسب إلي افتقاد تلك المهارات النفسية الفردية اللازمة لأداء ذلك، بل يرجع في المقام الأول إلى أوضاع اجتماعية اقتصادية تاريخية تخلق مصالحًا اقتصادية يقوم بقاء أصحابها علي استمرار الحال علي ما هو عليه، و من ثم التصدي بكل الوعي و الحسم لأية محاولة للحل.

    و من هنا نستطيع القول بأن الموقف من المشكلة إنما يتباين بتباين مصالح أطرافها. فإذا ما تناقضت تلك المصالح، فليس منطقيًا أن يسعى الجميع نحو حلٍ متفق عليه للمشكلة، بل لا بد و أن تتباين الحلول المطروحة وفقًا لتباين المصالح التي يستهدفها كل طرف.بل إنه من الوارد أن تتمثل مصلحة أحد الأطراف في مجرد تجميد المشكلة وتهدئة حدتها فحسب والحيلولة دون تفاقمها و دون حلها في نفس الوقت، و من ثم فإن مصلحته قد تقتضيه السعي بلا هوادة لإفشال أي حل مطروح، فإذا نجح في مسعاه، واستمر أوار المشكلة مستعرًا، كان ذلك بالنسبة له هو الحل المثالي لمشكلته هو. و الأمثلة حولنا في عالم اليوم غنية عن أي بيان.

 

السادة الحضور

    إن تعبير حل المشكلات يحتاج منا لوقفة متأنية. ترى ماذا نقصد تحديدًا عندما نقرر أن مشكلة ما قد حلت؟ هل نعني بذلك أنها اختفت من وعي صاحبها؟

    لعل استذكار قصة من قصص الحيوان التي يفيض بها الأدب الشعبي قد تساعدنا علي توضيح المقصود. إنها قصة الثعلب و بستان العنب. ثعلب مر ببستان عنب مثمر فحاول الاقتراب من البوابة. وجد حارسًا يقظًا مسلحًا يشهر سلاحه كلما أحس باقترابه. ابتعد الثعلب ثم عاد ليجد الحارس، وتكرر اقترابه و ابتعاده دون جدوى. أخيرًا نظر الثعلب إلى عنب البستان في تعالٍ مرددًا لنفسه "إنه حصرم"، و تنتهي القصة بذلك.

    لقد اختفت المشكلة فعلًا. لم يعد الثعلب يحوم حول البستان و يعاني ألم الحرمان من العنب الشهي. إنه لم يحقق الهدف الأصلي حقًا، و ظل محرومًا من العنب، و لكنه ببساطة أقنع نفسه بأن ذلك ليس حرمانًا محبطًا، بل رفضًا متعاليًا، و من ثم فقد أصبح سعيدًا.

    هل هذا هو المقصود بحل المشكلة؟ أن تختفي فحسب من وعي صاحبها حتى لو كان الثمن هو التنازل عن الهدف الأصلي؟ لعلنا لو أعدنا النظر إلى القصة من وجهة نظر ذلك الحارس اليقظ المسلح لاتضحت لنا رؤية أخرى. لقد كان اقتراب الثعلب يمثل المشكلة بالنسبة للحارس، و لم يكن الحارس في حاجة لابتكار حل جديد لمشكلته. مجرد يقظته، و تلويحه بسلاحه كان كفيلًا بحل المشكلة بالنسبة له و ليس مجرد اختفائها من وعيه.

    في كثيرٍ من الأحيان نساق إلي ممارسة دور الثعلب، و إلى الضيق بدور الحارس، متخلين عن الهدف الأصلي، منكرين لرغبتنا الأصيلة. متجاهلين لحقيقة أن الآخر الذي تحمل مشقة لعب دور الحارس ظل متمسكًا بهدفه، محققًا لرغبته، مستمتعًا بحل مشكلته حلًا حقيقيًا.

 

السادة الحضور

    لقد كانت أولى كلمات عنوان لقاء اليوم كلمة "الوعي"، و رغم ذلك فقد آثرت أن أرجئ الوقوف أمامها حتى الآن. ويرجع ذلك إلى حقيقة أن قضية الوعي تثير من الإشكاليات في علم النفس و الفلسفة على السواء ما يجعل الاستهلال بتناولها منزلقا يبتعد بنا عما يمكن أن تستهدفه مثل هذه المحاضرة العامة. و بدا لي أن إرجاء تناول قضية الوعي قد يتيح لنا تبرير قصر ذلك التناول علي حدود الموضوع الأصلي و هو حل المشكلات.

    الوعي الذي نعنيه في هذا السياق هو ببساطة أن يشعر الفرد أنه حيال مشكلة، و من ثم يتصرف على هذا الأساس. والوعي بذلك المعني يمثل بحق الخطوة الأولى الضرورية نحو حل المشكلة، أو لنقل نحو التعامل معها بشكلٍ أو بآخر. وينبغي أن نؤكد في هذا المقام أن الوعي شرط ضروري بكل تأكيد و لكنه الخطوة الأولى فحسب نحو الحل. الحل يعني ممارسة الوعي، و ليس الاكتفاء بالوقوف السلبي عند تخوم الوعي.

    و من ناحية أخرى فإن الوعي الذي نعنيه يختلف اختلافًا جوهريًا عن المعرفة المعلوماتية المجردة، فكما سبق أن أشرنا قد تتوافر المعلومات عن أخطار التدخين أو تلوث البيئة أو حتى التبعية الاقتصادية أو الصهيونية، دون أن تعني تلك المعلومات مهما كانت غزارتها و دقتها أن ثمة وعيًا قد تشكل، طالما أن المتلقي لم يعتبر نفسه حيال مشكلة حقيقية.

    إن العالم من حولنا ملئ بالعديد من الظواهر المثيرة للجدل، بمعنى أن البعض يراها مشاكل ينبغي الاجتهاد في معالجتها، بينما لا يراها البعض كذلك على الإطلاق. و ليس حتمًا أن يكون الصواب حكرًا على أي من الفريقين دائمًا.

    ففي بعض الأحيان تكون ثمة مشكلات واقعية قائمة بالفعل يعيها البعض، و لكنها تغيب عن وعي الآخرين. ربما لأنهم لا يستشرفون المستقبل بدرجة كافية، و ربما لأنهم لا يقدرون تقديرًا صحيحًا مدي تأثيرها على حياتهم، و ربما لأنهم يعتبرونها أمورًا طبيعية أو قدرية لا طائل من النبش فيها، أو ربما لأن وجودها يخدم مصالحهم، أو لغير ذلك من الأسباب. و في أحيانٍ أخرى قد لا تمثل ظاهرة ما مشكلة حقيقية تستدعي حلًا، و مع ذلك يدركها البعض باعتبارها مشكلة، بل وقد يروجون لذلك ويحشدون القوي لحل تلك المشكلة التي تم اصطناعها و تضخيمها.

    و في كلتا الحالتين تبرز قضية التوعية باعتبارها الوجه المكمل لقضية الوعي. و نعني بالتوعية ذلك الجهد المقصود الذي يستهدف التأثير على الوعي. قد يتمثل ذلك الهدف في إثارة الوعي بمشكلات قائمة أو قادمة، و قد يكون الهدف هو تغييب ذلك الوعي بجذب الانتباه بعيدًا عما هو قائم أو قادم، و في كلتا الحالتين فالأمر يستلزم جهدًا منظمًا سواء كان ذلك على المستوى الفردي أو على المستوى الجماعي.

 

السادة الحضور

    لعل حديثنا عن التوعية يدفعنا إلى الحديث عن موقع علماء النفس من موضوع الوعي بالمشكلات. غني عن البيان أن دور علماء النفس لم يكن ليقتصر على إجراء التجارب و اكتشاف القوانين العلمية الموضوعية التي تحكم عمليات الوعي و من ثم تكفل أكبر قدر من نجاح عمليات أو حملات التوعية و التدريب. تلك الحملات التي يشارك علماء النفس بصورة أساسية في تخطيطها بل وفي تنفيذها و تقييمها أيضًا.

و إذا ما سلمنا بأن عمليات تشكيل الوعي بالمشكلات، تخضع لتأثيرات غير خافية للمصالح الاقتصادية و السياسية التي تصطرع في المجتمع، فإن أحدًا لا يستطيع أن يضع علماء النفس جميعًا في سلة واحدة من حيث مواقفهم الفكرية والسياسية حيال تلك المصالح المتصارعة.

    و لقد سبق أن أشرت بشيء من التفصيل في محاضرة سابقة إلى حقيقة أن علماء النفس إنما يتباينون من حيث توجهاتهم الفكرية و مصالحهم الاقتصادية ومن ثم من حيث توظيفهم لعلمهم· من بينهم من كرسوا أنفسهم لخدمة قوي الشر والتعصب والعدوان موظفين علمهم في عمليات تزييف الوعي بمختلف صورها، ومنهم من دفعوا من أرزاقهم، ومن حريتهم، بل ومن قدموا حياتهم استشهادًا في سبيل قوي الخير والعدل والحرية، موظفين علمهم في تهيئة مجتمعاتهم للوعي بما يحمله المستقبل من مشكلات، مساهمين بقدر ما يتيحه لهم علمهم في خدمة حركات التحرر أينما كان موقعها·

 

السيدات و السادة

    قبل أن أختتم كلمتي شاكرًا لكم تكبدكم الإصغاء إلي، أستأذنكم في أن أهدي هذا العمل تحية و تقديرًا و عرفانًا لاثنين من شوامخ تخصصنا العلمي. ليس بتلك الصفة فحسب، فالمتخصصون لدينا في علم النفس كثر و الحمد لله. إنني أهدي تلك السطور لهما باعتبارهما من ذلك الفريق من علماء النفس الذين اتسع وعيهم بالمشكلات ليحيط بمشكلات الوطن. و اتخذوا من تلك المشكلات موقفًا حاسمًا في خدمة قضايا الخير و العدل و الحرية.

    لقد أتيح لي في نهاية الخمسينيات أن أقترب من كل منهما علي انفراد اقترابًا يخرج عن حدود العلم المتخصص. اقترابًا استطعت من خلاله أن أعرف يقينًا و على مستوى الممارسة الفعلية و ليس مجرد الكلمات مدى التزامهما بشرف الوطن و تقديسهما لحرية أبنائه في النضال من أجل مستقبل أفضل مهما تباينت الرؤى و تعارضت. لم أعرف ذلك فحسب بل عايشته في وقت كان اتخاذهما لمثل تلك المواقف يعد مخاطرة قد تكلف صاحبها حياته حقيقة لا مجازًا.

أقف هنا و لا أمضي أكثر

إنني و بكل التواضع أهدي كلماتي إلى المصطفيان زيور و سويف

 

السيدات والسادة

   مرة أخرى شكرا لحسن إصغائكم

 

سعيا وراء ترجمة جميع صفحات الشبكة إلى الإنجليزية و الفرنسية نأمل من الزملاء الناطقين بالإنجليزية و الفرنسية المساهمة في ترجمة هذا البحث و إرساله إلى أحد إصدارات الموقــع : الإصــدار الإنجليــزيالإصــدار الفرنســي

 

Document Code VP.0009

ترميز المستند VP.0009

Copyright ©2003  WebPsySoft Arab Company www.arabpsynet.com  (All Rights Reserved)

 

 

تـقـيـيــمــك لهــذا البحــث

****

  ***

**

*