Arabpsynet

 حوارات /   Interviews

شبكة العلوم النفسية العربية

 

حــوار مع الدكتور فاخــر عاقــل

أجرى الحوار  د.  محمد جمال طحّان

الثقافة النفسية العدد 54 - المجلد 14 - أبريل / نيسان 2003

 

       د.فاخر عاقل، هل تحدثنا عن سيرتك الذاتية؟

    ولدت عام 1918 في بلدة صغيرة في شمال غرب سورية اسمها كفر تخاريم وهي تابعة لمحافظة ادلب الآن. كان أبي موظفاً، تنقّل بين أقضية حلب فتلقيت تعليمي الابتدائي في مدينة الباب ثم انتقلت إلى حلب ودخلت مدرسة الروم الكاثوليك وبقيت فيها طالباً داخلياً مدة سنتين ثم تركتها إلى مدرسة التجهيز (المأمون) وبقيت فيها ست سنوات نلت فيها البكالوريا (الثانوية العامة) ثم ذهبت إلى دمشق لدراسة الطب، لكنني أوفدت حينذاك إلى الجامعة الأميركية في بيروت فدرست التربية وعلم النفس ونلت منها شهادتي البكالوريوس والماجستير في التربية وعلم النفس. عُيّنت بعدها أستاذاً في دار المعلمين بدمشق. ثم أوفدت إلى لندن لتحضير شهادة الدكتوراه.. وبقيت هناك ثلاث سنوات نلت على إثرها شهادة الدكتوراه وعدت أستاذاً مساعداً في جامعة دمشق ورئيساً لقسم علم النفس. أثناء عملي بجامعة دمشق عملت مع اليونسكو مدة سبع سنوات متفرقة، في مصر وفي الأردن وفي السعودية.

    في الأردن شاركت في إنشاء الجامعة الأردنية وعلّمت فيها مدة ثلاث سنوات، عدت بعدها إلى جامعة دمشق وبقيت فيها حتى عام 1983 وطلبت إحالتي على التقاعد.

    مؤلّفاته: أربعة وعشرون مؤلفاً بالإنكليزية والعربية وثلاثة كتب مترجمة.

    معظم كتبه مطبوعة أكثر من مرة، من هذه الكتب المؤلفة التي وجدتها في مكتبتي والصادرة عن دار العلم للملايين وحدها: علم النفس التربوي- أصول علم النفس وتطبيقاته- مدارس علم النفس – اعرف نفسك-معالم التربية- التعلّم ونظرياته- التربية قديمها وحديثها- الإبداع وتربيته.

 

      هل تذكر لنا مؤلفاتك؟

عندي سبعة وعشرون كتاباً، ومن بينها معجمان بالإنكليزية والفرنسية والعربية، أقدّم فيهما المصطلح ومقابله ثم أشرحه. طلبت مني جامعة دمشق أن أضع معجماً بالعربية والإنكليزية ثم بالإنكليزية والعربية. فاشتغلت في المعجم سنوات سبع وجاء أقرب إلى موسوعة منه إلى مؤلّف. كتبت عشرات المقالات بالمجلات والصحف، من أهمها مجلة العربي.

 

      هل تحدثنا عن الوضع الأسري؟

لي ثلاثة أولاد: كبراهم هدى وهي الآن أستاذة في جامعة ميشغن، ترأس مؤسسة للعلوم النفسية، ولها مخبر يحضر إليه حملة الدكتوراه من أنحاء العالم للتخصص، وفي هذه اللحظة يبحث في مرض الاكتئاب.

لي ابن طبيب للأمراض الصدرية ومنها انتقل إلى مرض الإيدز في لوس أنجلس وقد أصبح خبيراً عالمياً في هذا المرض.

ابنتي الثالثة طبيبة نفسية في واشنطن تعمل في الحكومة الأمريكية واختصاصها هو الشيزفرنيا (الانفصام) أيضاً عندها مخبرها الخاص وهي تحاضر وتكتب، هذا عن أولادي..

 

      وزوجتك؟

زوجتي كانت متعلّمة ساعدتني مساعدة كبيرة في شيئين: أولاً في تربية أولادنا، ثانياً في عملي العلمي. وهنا أحب أن أقول شيئاً للشباب المتزوجين حديثاً: تربية الأولاد لا تقتصر على المدرسة، تربية الأولاد يجب أن تبدأ وتستمر في البيت من قبل الأبوين. وقد عملت أنا وزوجتي –رحمها الله- على تعليم أولادنا وإكمال كل ما ينقصهم في المدرسة. ولذلك فهم اليوم جميعاً يحتلّون مراكز جيدة ويحملون شهادات عالية.

وأعتقد أنّ من أهم الأسباب أنني أنا وأمهم عملنا بجد ونشاط، طوال وجودهم معنا، على تقديم العون لهم، لكنها تركتنا حيث توفيت منذ سنتين(1999).

 

      من الذي تذكره من أساتذتك، ومن المميز من طلابك؟

من أهم أساتذتي قسطنطين زريق في الجامعة الأميركية في بيروت. وأهم طلاّبي هو د. ناظم طحان، درّسته في الإجازة والماجستير والدكتوراه. أشرفت على تربيته وأعتقد أنه متميز. في دمشق أنطوان حمصي أيضاً ساعدت على تكوينه العلمي. التلاميذ ليس عشرات ولا مئات.. ألوف التلاميذ.

 

      د.فاخر عاقل نود أن نسألك عن آخر الإنجازات العلمية التي أنجزتها، آخر الكتب؟

آخر كتاب كتبته عن الشيخوخة وهو لم يطبع حتى الآن، وينتظر الطبع. وآخر الكتب كان عن الإبداع، وقد نفد.

 

      ما أهم الكتب التي ألفتها، وما أقربها إلى نفسك؟

أهم كتبي في رأيي هو معجم العلوم النفسية، قضيت في تأليفه سبع سنوات، وأعتقد أنه لا مثيل له في البلاد العربية، والمؤسف أن الناشر بعد أن نشر الطبعة الأولى أغلق محله واشتغل بتجارة البناء.

 

      ألم تجرب إعادة طبعه في اتحاد الكتاب العرب أو وزارة الثقافة؟

عرضته على وزارة الثقافة أما إذا كان هناك مؤسسة أخرى فأنا مستعد. قدمت نسخة منه للوزيرة السابقة السيدة نجاح، أخذته ثم سكتت ولم تتصل بي وأنا لم أتصل بها.

كتبت في علم النفس والتربية، وفي رأيي أنني كتبت كتباً مطلوبة في الجامعات كعلم النفس العام، وعلم النفس التربوي، والتعلم، وأصول البحث العلمي، وما إلى ذلك. وكتبي بيعت في العالم العربي بأجمعه. ولكن الآن خفّ الطلب عليها. والآن يوجد أساتذة جدد كتبوا كتباً جديدة.

أقرأ في علم النفس والتربية ومجلات الجمعيات التي أنا عضو فيها مثل جمعية علم النفس البريطانية وجمعية علم النفس الأمريكية. وقراءتي ضعيفة بسبب آلام عيني.

 

      بعد الخبرة الطويلة في الجامعة، كيف تقيّم لنا جامعة دمشق، وضعها العلمي ومستواها العام، وهل تقدّم اقتراحات من أجل التجديد والتطوير؟

باعتقادي أن الجامعات في سورية تحتاج إلى شيء مهم هو البحث العلمي. والبحث العلمي مع الأسف نودي به وبدأ تطبيقه، لكنه لم يتقدم التقدم المرجو، وبدون البحث العلمي لا يمكن أن يكون هناك تقدم علمي، من جهة أخرى، أعتقد أن واجب الجامعات والأساتذة الجامعيين أن يترجموا إلى العربية المصادر التي تظهر في البلاد المتقدمة.

 

      برأيك ما سبب هذا التأخر أو عدم مواكبة العصر في البحث العلمي والتطبيقات العملية لنتائج الأبحاث؟

هناك أسباب كثيرة، منها مثلاً، سياسة الاستيعاب التي تسمح لكل طالب أن يدخل الجامعة دون أن يداوم.. دون أن يتصل بالأساتذة، دون أن يتصل بالمخابر..

هؤلاء الطلاب مع الأسف مستواهم العلمي محصور بالكتاب المقرر. ومعلوم في الجامعات المتقدمة لا يكتفي بالكتاب المقرر وإنما الطالب يُطالب بأن يقرأ كتباً إضافية ليستطيع أن يتقدّم.

 

      هذا السبب، هل يعود إلى نظام الجامعة أم إلى الأساتذة؟

هناك سياسة الاستيعاب في سورية، وهي سياسة تسمح لكل من أنهى التعليم الثانوي أن يدخل التعليم العالي، في نظري هذا خطأ، في البلاد المتقدمة الذين يدخلون التعليم العالي من خريجي التعليم الثانوي لا يتجاوزون عشرين بالمئة فقط، أما نحن فالباب مفتوح على مصراعيه ومع الأسف المستوى العلمي يهبط.

 

      ما رأيك إذن في المجاميع العالية التي تُطلب من أجل بعض الاختصاصات في بعض الجامعات؟

هذه مشكلة أخرى من مشكلات الجامعات السورية، أنا في رأيي أن يُطلب إلى الطالب علامات معينة ليدخل اختصاصاً معينا هذا خاطئ، الصحيح أن الجامعة أو الكلية عندها مثلاً مئة مقعد شاغر تفتح باب الامتحان وتنتقي المئة الأوائل وتكتفي بهم، ثم من قال إن الطب يحتاج إلى ذكاء أكثر من الفلسفة مثلاً. كل الدراسات التي بين أيدينا تقول أن الفلاسفة يحتاجون إلى ذكاء أكثر من الأطباء.

 

      نتيجة خبرتكم الطويلة في تدريس علم النفس وفي الكتابة فيه، هل تجدون أن الدراسة العلمية حول علم النفس في سورية تطورت أم أنها تتأخر؟

نحن بعيدون جداً عن علم النفس كما هو في البلاد المتقدمة، علم النفس في البلاد المتقدمة أصبح يتصل بعلم الفيزيولوجية والبيولوجية وعلم الأعصاب والتشريح وسواه. ونحن ما زلنا نكتفي بالتدريس البسيط للنظريات التي مر عليها زمن طويل.

 

      هذا ينقلنا إلى الحديث عن نظريات علم النفس ومدى تطبيقها العملي؟

نظريات علم النفس في البلاد المتقدمة اليوم تجاوزت ما كان في القرن العشرين. في هذا القرن نظريات علم النفس – كما قلت- تستند إلى التجريب في المخابر، لذلك فعلم النفس اليوم هو جزء من العلوم الأساسية وليس علماً نظرياً. من المؤسف أنه في سورية كلها لا يوجد مخبر واحد لعلم النفس. وقد يخطر في ذهنك أن تسألني: لماذا لم تنشئ أنت هذا المخبر، لقد أنشأته وجلبنا الآلات من أمريكا ومن اليابان معاً وطلبت أن يكون هناك ورشة لتصليح هذه الآلات متى خربت بين أيدي التلاميذ فلم يُلبّ طلبي. وكانت النتيجة أن هذه الآلات وضعت في الخزائن وقُفل عليها.

 

      إذا كان علم النفس متطوراً في أوروبا وأمريكا ، هل هذا يدعونا إلى أن نأخذ عن أوروبا وعن أمريكا، وإلى أي مدى ، بمعنى آخر ما هو موقفكم من الغرب؟

لو كان لي من الأمر شيء لأوفدت طلاباً سوريين يُعدون للتعليم الجامعي إلى بلاد مثل إنكلترا وأمريكا واليابان وألمانيا وفرنسا، هذه تقدمت تقدماً كبيراً في علم النفس الذي يقوم على التجريب وعلى الدراسة المعمقة وكل طالب علم نفس يتاح له التجريب على الحيوانات ليصل إلى مستوى يُحسن معه فهم الأفعال النفسية.

 

      علم النفس المعاصر في أوروبا ألا يستند إلى نظريات فلسفية معينة؟

هذا موجود، في كتابي مدارس علم النفس وهي في القرن العشرين كثيرة وقد بحثتها زمناً طويلاً، لكن هذا لا يمنع أن علم النفس اليوم يبتعد عن النظري إلى العملي، ينتقل من الفلسفة إلى العلوم الطبية وسواها.

 

      ميادين علم النفس وتطبيقاته ألا تعتمد في أمريكا على نظريات براغماتية نفعية أو عملية؟

النظريات أصبحت من منسيات القرن العشرين. اليوم طالب علم النفس يجرّب، يدخل إلى مخبر ويجري تجارب ويخرج بنتائج عملية. اليوم الشيء الهام الذي تُعنى به الدوائر العلمية هو الجينات أو المورّثات. وعلاقة هذه الجينات بالأمراض النفسية المختلفة.

 

      دراسة الجينات أو لـ (DNA) بشكل عام، ألا تستند إلى حامل أخلاقي أو نظرة فلسفية تبعاً للمدارس التي تنتمي إليها؟

في القرن العشرين حين كنت أنا طالباً، كنا ندرس مدارس علم النفس والتحليل النفسي مثل يونغ وفرويد وادلر، كنا نقرأ نظريات عن الغرائز، كنا نقرأ نظريات كثيرة متنوعة. هذه النظريات اليوم غير موجودة، وأكاد أقول إن التحليل النفسي نفسه أصبح نادراً جداً في كثير من البلدان. علم النفس اليوم أصبح علماً بالمعنى الصحيح الدقيق.

 

      هذا يعني انفصاله عن الفلسفة.؟

نعم.. نعم.. انفصل عن الفلسفة ولم يعد جزءاً منها كما كان الأمر في القرن التاسع عشر، بل صار علماً قائماً بذاته، حتى إنه صار موجوداً في كلية الطب وليس في كلية الآداب.

[هنا طلب إلي إيقاف التسجيل وحدّثني عن بعض تجاربه المرّة ومعاناته في جامعة دمشق حين أراد تطوير البحث العلمي في علم النفس. ثم خبرني في تسجيل معلوماته عمّا يحدث في أمريكا] فقال: في جامعة ميشغن بأمريكا حيث تعمل ابنتي، هناك مؤسسة للصحة النفسية فيها مخابر هائلة، يتقاضى العاملون وهم أربعون عالماً يتقاضون راتباً سنوياً قدره خمسين ألف دولار (مليونان ونصف ليرة سورية)، ميزانية هذا المخبر /15/ مليون دولار
(750 مليون ل.س) ولذلك هم يجربون على الفئران والقردة، وأحياناً يجربون على الدماغ البشري مستفيدين من علم الجينات.

 

      في البحث التجريبي والمخبري ألا توجد حدود قانون أخلاقية لمدى التجريب؟

هناك مشكلة قائمة وهي إلى أي حد يُسمح مثلاً بالاستنساخ، هل نستطيع في يوم من الأيام أن نغيّر طبيعة الإنسان وندفعها بالاتجاه الذي نريد، وإذا حصل ذلك، ما الضمان من أن يكون الاتجاه إلى الشر لا إلى الخير.؟ كل هذه الأمور يتحدث عنها العلماء اليوم في العالم، لكن رغماً عن كل ذلك.. الاستنساخ أصبح حقيقة واقعة..

 

      في حديثنا عن علم النفس وتطوره، دائماً نتحدث عن الغرب وعن أمريكا، لماذا.؟

إذا شئت الحديث عن الاتحاد السوفيتي السابق، كان له في القديم نظريات وقد كتبت عن ذلك في كتبي وشرحت نظرياتهم، كما تعلم لا بد من الحديث عن شخص مثل بافلوف وهو عالم عالمي في الشرق، وبصورة خاصة في الاتحاد السوفيتي هناك علماء نفس كبار وعظام وهم لا يختلفون كثيراً عن علماء الغرب.

 

      استناد الاتحاد السوفيتي السابق وعلمائه إلى نظرية أيديولوجية، ألا يؤثر ذلك على تطور هذا العلم؟

بصورة خاصة فيما يخص علم النفس، في الاتحاد السوفيتي تبنوا نظرية بافلوف، وهي نظرية معمول بها حتى الآن في أمريكا وفي إنكلترا.. بافلوف عالم عالمي. خذ مثلاً مسألة سيكولوجية اللغة (علم نفس اللغة) . سيكولوجية اللغة فيها عالمان تشومسكي وديكوفسكي، تشومسكي أمريكي محب للعرب.

 

      تقصد نعوم تشومسكي؟

نعم هو محب للعرب وصاحب نظرية معينة في مسألة اللغة، نقيضه ديكوفسكي له نظرية أخرى، والنظريتان أدرّسهما لطلابي معاً.

 

      إذا أخذنا بعين الاعتبار تجربة (ستانلي ميلجرام) في جامعة (يلي)، ما الدور الاجتماعي الذي يحدد سلوك الفرد؟

تقصد أن الخضوع للأقوى خاصة يفرضها الموقف الاجتماعي على الفرد؟

 

       نعم.. تجربة ميلجرام التي جعل فيها شخصاً ما يوقع عقاباً كهربائياً فظيعاً ومتدرجاً بالقوة على شخص آخر كلما أخطأ بالإجابة على أحد الأسئلة بدعوى محاولة معرفة الجهة الآمرة آثار العقاب على التعلّم. كان يُطلب إلى المعاقب رفع شدة التوتر الكهربائي تجاه المتعلم حتى وصلت إلى درجة قاتلة، وكان المعاقب يمتثل لأوامر السلطة رغم الخطر (الوهمي بالطبع) حيث أن الممتثل للعقاب كان واحداً من ورشة العمل بحيث كان المعاقب هو الواقع في فخ التجربة.

يمكننا استخدام التجارب للخير في مقابل دوافع شريرة قد يقوم بها آخرون.

 

      ما أريد قوله هنا: تجربة بافلوف ألم تساعد الاتحاد السوفيتي السابق، على القمع. ثم ألم تستورد كثير من الدول العربية هذه النظرية من أجل إحكام السيطرة على شعوبها.؟

لا أظن .. نظرية بافلوف الحقيقية نظرية علمية مئة بالمئة واستفاد منها الأمريكان وسواهم أكثر مما استفاده الروس.. وكل شعوب العالم. وهي بداية لخط علمي محترم. والعالم ليس مسؤولاً عن الاستخدامات الخاطئة لتجاربه، إنه يقوم بوضع نظرية حيادية.

 

      النظرية متجردة ولكن ألم تُستعمل للقمع؟

طبعاً في وقت من الأوقات في الاتحاد السوفيتي العلماء كانوا متقيدين بالنظرية الاشتراكية، وكانوا في التطبيق دائماً يصدرون عن نظرية بافلوف. وكما تعلم نظرية بافلوف استفيد منها في الاتحاد السوفيتي للتشديد على أهمية المحيط والبيئة. الغرب وبصورة خاصة الولايات المتحدة كانت تتشدد في أهمية الوراثة. أما اليوم في القرن الواحد والعشرين أصبح الاهتمام بالشيئين معاً في أمريكا وروسيا. أنت ترث وراثة محددة بالجينات لكنّ المحيط الذي تنشأ فيه هذه الجينات وتتفاعل له أهمية كبرى.

 

      هذه النظرية فيما أرى وضعت لها بيئة محددة للمواطن كي يسير كما نشاء نحن في كثير من الأحيان وبالاستناد إلى نظرية بافلوف في التعلّم الشرطي.

سيدي الفاضل فيما يخص الاتحاد السوفيتي، لا شك أنه صدر عن الماركسية اللينينيه وطوّر كل علومه بما يتوافق مع هذا المصدر، في ذلك الحين كانوا في أمريكا، مثلاً، لا يقبلون تلك النظريات ويصدرون عن البراغماتية (النفعية). لكنّ دارس علم النفس الحيادي غير الروسي وغير الأمريكي، مثلي مثلاً، كنت أقول: هكذا قال الروس وهكذا قال الأمريكان وهذا رأيي. لذلك لم أتقيد بأي منهما. بل أخذت من كل منهما ما اعتقدت أنه صحيح.

 

      وأين موقع اليابان في ذلك كله؟

اليابان تسير في ركاب أمريكا علمياً، وقسم كبير من العلماء اليابانيين نشئوا في أمريكا. قلت لك قبل قليل عند ابنتي أربعين متعلماً، منهم أناس من مختلف أنحاء العالم.

 

      هل هذا يعني أن اليابان تستجيب للعولمة الأمريكية؟

العولمة باعتقادي هي شيء آخر.. العولمة هي تسييس للاقتصادي مهم، فالأمريكان يسيّسون كما يشاءون. هل هذا يوافق الشعوب العربية؟ أنا باعتقادي: كلا.

 

      ما دامت اليابان تستورد النظريات في علم النفس، ألا تستورد النظريات الاقتصادية أيضاً؟

طبعاً، الأمريكان حين دخلوا اليابان على إثر الحرب العالمية الثانية أدخلوا معهم كل علومهم، فنونهم، كل حضارتهم.. واليابان تأثرت بذلك إلى حد كبير جداً.

 

      ما يطرح في أمريكا الآن، بعد التركيز على المركزية الأوروبية، التركيز على المركزية الأمريكية.. اعتقد الغربيون أن الحضارة قامت على أيدي مفكري الإغريق وانتقلت مباشرة إلى الأحفاد الأوربيين وهم يغفلون بذلك دور المفكرين العرب المسلمين ودور الحضارة العربية الإسلامية في الحضارة الإنسانية، وتركزت الحضارة الآن في أمريكا.. فصار هناك عالم واحد يجب أن يخضع له الجميع.

نعم.. هذا سببه قصورنا نحن العرب .. نحن لم نقدم للعالم إلاّ قليلين منّا ما عندنا أو ما كان عندنا. خذ شخصاً مثل الدكتور كامل عياد.. كان زميلنا في كلية التربية ويكبرني بعشرين عاماً وقد درس في برلين وكان كتب عن ابن خلدون وأثبت أنه قال بالشيء الكثير عن التطور، قال باتصال النبات بالحيوان والحيوان بالإنسان. حتى اليوم المستشرقون يستعينون بكتاب عياد لفهم جزء من الحضارة العربية الإسلامية. أعطني أناساً مثل هؤلاء.. في السياسة مثلاً شخص هو إدوارد سعيد قدّم إلى القضايا العربية والقضية الفلسطينية خدمات مئات المرات أكثر من أي حكومة عربية. لذلك نحن مقصرّون، ولعلّك تستغرب إذا قلت لك إن السوريين خصوصاً والعرب عموماً في أمريكا مبرّزون.

منذ سنوات حصل كسوف في الشمس، أحسن جامعة في أمريكا أرسلت بعثة علمية لترصد هذا الحدث في الجزيرة في سورية. كان على رأس هذه البعثة سيدة سورية اسمها شادية الرفاعي ابنة الأستاذ نعيم الرفاعي. حين ترسل الطلاب السوريين إلى بلد متقدّم يبرّزون. العرب الذين يكونون في أوروبا يتقدمون على الأوروبيين.

 

      عندما يعودون، وبوصفهم سوريين أو عرب، يبدو أنهم يخلعون هذا الزي العلمي ويعودون إلى ...

لا.. كنت طالباً في جامعة لندن ونلت شهادة الدكتوراه في جامعة لندن، وعرضتْ عليّ بلدية لندن أن أكون عالم النفس في المدارس اللندنية، زوجتي لم تقبل.. عدت وحاولت أن أتقدم بعلم النفس في سورية .. وللأسف لم يساعدني أحد من رؤسائي.

الآن أعطيك مثال: طلبت مجلات متخصصة في علم النفس تصدر في أوروبا.. وافق العميد.. وافق الرئيس.. جاء المحاسب وطلب مناقصة!!! تصوّر مجلات بالمناقصة؟!.. فأنا لم أخلع.. أنا أجبرت على أن أتأخر.. طبعا أنا- نوعاً ما- مختلف عن غيري باعتباري عضواً في جمعيتي علم النفس الأمريكية والبريطانية أسافر إلى الغرب كل سنة تقريباً، لكنّ كثيراً من زملائي لا تتاح لهم مثل هذه الفرصة. تصوّر أن كلية التربية في دمشق إلى حين تقاعدي منها لم تكن تدخلها مجلة؟!..

 

      هذا ما أقصد إليه إذا عدت بالزي العلمي.. تُجبر على خلعه. ما أن تخلعه أو تُخلعه..

على عيني...

 

      د. فاخر، بما أنك تقيم في (دار السعادة) بحلب، وأولادك في أمريكا، هل تحدثنا عن مصير مكتبتك؟

كان عندي مكتبة فيها أربعة آلاف وخمسمائة كتاب في كل مناحي المعرفة، فيها كتب ثمينة جداً، مثلاً تصوّر كان عندي المجموعة الكاملة لمجلة الكاتب المصري لطه حسين، جئت للعميدة وقلت: أنا مستعد أن أهديكم مكتبتي على شرطين: أن تخصصوا لها غرفة خاصة وقيّم، فرفضوا، قالوا: لا غرفة خاصة ولا قيّم.. فقمت بإهدائها إلى مكتبة الأسد وأنا سعيد بذلك لأن مكتبة الأسد لا تعير الكتب خارج المكتبة وبالتالي فالكتب لن تُسرق ولن تُفقد.

 

      رغم كل المعوقات التي تجدها على الصعيد الإداري، ما هو سبب عودتك إلى سورية ولست مع أبنائك؟

أنا شخصياً أحب سورية ولقيت فيها أحسن المعاملة، كُرّمت في كثير من المناسبات، وقمت بأشياء مفيدة جداً وأحمد الله على ذلك. لم أفكر في الذهاب إلى أمريكا والعيش فيها لكن أولادي في أمريكا. كان بيني وبين زوجتي خلاف كانت تقول لي.. [هنا طلب الدكتور فاخر عاقل أن أوقف التسجيل وحدثني عما دار بينه وبين مسئول كبير جداً حول اغتراب أولاده الثلاثة فهم يحتاجون إلى ثلاثة بيوت وثلاث عيادات وثلاث سيارات. وراتبه التقاعدي ثلاثة آلاف ليرة]؟!!

 

      ثم عدنا إلى الحديث المعلن وسألته عن صلته بعلم النفس وما يقوله بعد تجربته الطويلة فقال:

كانت صلتي به في عام 1936 حين كنت طالباً ودامت صلتي مع علم النفس حتى ساعتي هذه فأنا لم أنقطع عن القراءة والكتابة والانتماء إلى الجمعيات والمحاضرات. لذلك فأنا أعتقد أنه بإمكاني بعد هذه الأعوام الستين أن أقول شيئاً توصلت إلى قناعة به.

في مطلع القرن العشرين كان هناك عالم نفس اسمه ماكدوغل وكان يؤمن بالغرائز ويقول إن للإنسان أربع عشرة غريزة ومقابل كل غريزة انفعال، وهناك عوائق أمام كل غريزة. لكنّ الدراسات الحديثة التي أجريت في علم النفس أثبتت أن الغرائز قاصرة على الحيوان. الغريزة التي تعرّف بأنها صناعة فكرية كاملة منذ الولادة لا توجد عند الإنسان وإنما توجد عند الحيوان، الإنسان عنده حاجات. عنده حاجة للشراب وحاجة للأكل وحاجة للجنس وسواه. هذه الحاجات تسبب له اندفاعاً.. حافزاً ومحاولات لإرضائه لذلك فالإنسان لا يتملّك الغرائز وإنما يتملّك الدوافع والحوافز، وأنا أفرّق بين الدوافع والحوافز. لأن الدوافع فيزيولوجية والحوافز نفسية. فالإنسان إذن في رأيي عنده هذه الدوافع وعنده هذه الحوافز وهي تدفعه إلى العمل.. تدفعه إلى السعي.. تدفعه إلى قضاء هذه الحاجات.

وبقناعتي وبعد كل هذا الوقت الطويل الذي أمضيته في خدمة علم النفس أنا أعتقد أن الحاجة الأولى والكبرى للإنسان ليست كما قال فرويد الحاجة الجنسية وإنما الحاجة إلى الحب.. الحاجة إلى المحبة.. حاجة الإنسان إلى أن يحب وأن يُحَب. وهذا ينسحب على كل أشكال المحبة وأنواعها: الأب والأم، الأولاد، الوطن..

هذا الحب حين يتخذ الشكل الجنسي التناسلي.. ينقلب إلى شيء مضر إذا لم ترافقه الأخلاق.. لذلك كان من واجب الأخلاق أن توجه الدافع الجنسي توجيهاً أخلاقياً..

الدافع إلى الحب هو الحافز الأول والأهم في الحياة.. أن تكون محبوباً من الآخرين.. لا يكفيك أن تكون غنياً أو صاحب نفوذ ولا يكفيك أن تكون سيداً لك رأي مسموع بل تريد أن تحب وأن تكون محبوباً.. ومحترماً.. الكل يسعى إلى أن يحب وإلى أن يحبه الناس ويحترموه.

 

      هل يمكن أن يصل الإنسان إلى مرحلة تنعدم فيها الحوافز؟

ما دامت هناك حياة فلا بد أن يكون هناك حاجات.. أنت تجوع وتعطش ولذلك الحاجات والحوافز موجودة ما دمنا نعيش وهي لا تنعدم ما دمنا نعيش ويجب أن نوجه الدوافع نحو الخير والعطاء.

 

      في الملفات التي أعدّها في صحيفة الجماهير بحلب، طرحت سؤالاً وشارك في الإجابة عليه بعض الباحثين، كلّ من وجهة نظره. اليوم أطرح السؤال عليكم: كيف لا يكون الموت مخيفاً؟

المؤسف أن هذا السؤال وجّه إليّ أنا.. لأنني أعتقد أنني لا أمثل الأكثرية من الناس.. أنا لا أخاف الموت.. وأنا أريد الموت. طبعاً ليس هذا طبيعياً، ظروفي الحياتية أملت عليّ هذا الموقف. الإنسان العادي لا يريد الموت ولا يقدم عليه وإن كان يعلم أن الموت حق وأنه لا بد له من ملاقاته يوماً. طبعاً العلوم الطبية الحديثة تحاول أن تخفف من آلام الناس، لكنها عاجزة عن منعهم من الموت. كل ما فعلوه أنهم أطالوا عمر الإنسان لكنهم لم يستطيعوا حتى الآن القضاء على أمراض كالإيدز والسرطان والسكري وهكذا نجد أن قسماً كبيراً من الناس ولا سيما من ذوي الأعمار المتقدمة يعانون من هذه الأمراض ويتمنون الموت.

 

      لو فرضنا أن العلم تطور واستطاع أن يطيل متوسط عمر الإنسان حتى خمسمئة سنة، هل يستطيع الإنسان أن يتحمل هذه الخمسمئة سنة من الناحية النفسية؟

في رأيي أنا: كلا... في رأيي أنا الذي بلغت الرابعة والثمانين من عمري أي أن حياتي أصبحت خلفي، وليست أمامي، لم يبق لي مطلب في الحياة.. كل ما أريده عانيته، وعلى هذا الأساس فأنا شخصياً لا أجد لزوماً لأن أعيش فترة أطول، فكيف إذا صار العيش خمسمائة عام. خمسمائة عام فترة طويلة جداً جداً ولم يحلم بها الإنسان حتى الآن.. إنهم يحلمون بالمئة عام ومن يزيد عن المئة عام يُعتبر شاذاً، ولذلك حين يستطيع الطب أن يقضي على الأمراض قضاء مبرماً حينذاك تصبح الحياة جيدة ومفيدة. أما وفي الدنيا ما فيها من أمراض كثيرة فإن الحياة لا تكون جيدة والتخلص من الأمراض هو الأمل الذي يأمله الإنسان.

 

      إذاً في سن متقدمة يمكن أن يصل الإنسان إلى درجة انعدام الحافز؟

القضية ليست قضية انهيار، تغيّر الحافز أصح.. طبعاً الإنسان يميل إلى الحياة ويميل إلى البقاء، ولكنّه يصل في بعض الأحيان إلى موقف يجد أن الحياة لم تعد ذات فائدة وقد قال أبو العلاء المعري:

            فيا موت زُر إنّ الحياة دميمة       ويا نفس جدّي إن دهرك هازلُ            

                         

      إذن هل يتحول الحافز إلى رغبة في معرفة العالم الآخر أو ما بعد الموت؟

طبعاً محاولة معرفة العالم الآخر قديمة قدم الإنسان، وما من شك في أن العالم الآخر سؤال كبير جداً أمام الإنسان: ما هو العالم الآخر؟ما هي صفاته.. كيف نصل إليه.. كيف نصل إلى الجنة ولا نصل إلى جهنم.. سؤال كبير لدى الإنسان. من حسن الحظ أن الشخص المؤمن يقبل بما في الكتب المقدسة ويسلّم أمره إلى الله والله هو الذي يرحمه.

 

      أيضاً من ضمن الملفات الفكرية سؤال أرى من المناسب أن يجيب عنه عالم نفس له خبرة طويلة في الحياة: هل السعادة ممكنة؟

في ظل هذه الظروف، كل ما يأتينا فهو خير:

تعجبين من سقمي        صحتي هي العجبُ

 

      عندما يتمكن الإنسان من تحقيق الانسجام الداخلي ويكون راضياً عن تعامله مع العالم الخارجي..

 وكما قلت عندما يستطيع أن يحبّ وأن يكون محبوباً، حينذاك تكون السعادة ممكنة، ويكون قد عاش حقاً، وهنا أريد أن أؤكد على حقيقة مهمة هي أن الأمر نسبي فقد يُسعد شيء ما شخصاً لا يجد فيه آخر سعادة له.. وأنا قدمت جهدي وربيت أولادي.. وأعتقد أن الحياة منحتني ما أصبوا إليه وإن كنت أريد أن أحقق الأكثر لو أن الظروف ساعدتني أكثر.

 

      الدكتور فاخر عاقل عالم النفس الجليل، سعدنا بلقائك على مدى ساعتين لم تبخل علينا خلالهما بعلمك وتجاربك، وإذا كنا نأسف لأن طعامك قد برد وهو ينتظر منذ ساعة، وأخرّنا عليك موعد الغداء، فإننا نأمل أن نلتقي بك مجدداً من أجل حوارات أخرى.

أهلاً بكم متى شئت.. ومتى وجدت حاجة للحوار فذلك يسعدني أيضا

 

سعيا وراء ترجمة جميع صفحات الشبكة إلى الإنجليزية و الفرنسية نأمل من الزملاء الناطقين بالإنجليزية و الفرنسية المساهمة في ترجمة هذا البحث و إرساله إلى أحد إصدارات الموقــع : الإصــدار الإنجليــزيالإصــدار الفرنســي

 

Document Code PI-0007

PI.Akel 

ترميز المستند PI-0007

 

Copyright ©2003  WebPsySoft ArabCompany, www.arabpsynet.com  (All Rights Reserved)

 

 

تـقـيـيـمــك لهــذا الحــوار

****

  ***

**

*