Arabpsynet

 حوارات /   Interviews

شبكة العلوم النفسية العربية

 

وجها لوجه : أ. د. عبد الستار إبراهيم

" سنوات الحصاد في الإبداع وعلم النفس"

أجرى الحوار ماجد غالب كامل

بريد إلكتروني : dribrahm@kfupm.edu.sa

 

مقدمة:

تبقى قضية الإبداع قضية حيوية وهامة لأنها قضية الإنسان الذي يصنع و يكتشف ويضيف. يصنع الحضارة ويضيف لحياتنا بعدا جديدا ويكتشف معان أعمق وإجابات مبتكرة لما يحيط بنا من مشكلات وأسئلة. ويبقى المبدعون وإنتاجهم الثروة الحقيقية لأي أمة تريد النهوض بنفسها وأبنائها. ويعد علم النفس من العلوم الأساسية التي تناولت ظواهر الإبداع بالبحث والتحليل، ويعد الدكتور عبد الستار إبراهيم من العلماء المتخصصين المعاصرين في علم النفس في الوطن العربي، ممن أثروا دراسة هذا الموضوع سواء من حنت حجم كتاباته، ومن حيث رؤيته الفريدة والرائدة لظاهرة العلاقة بين الإبداع والمرض النفسي. و نستضيف في هذا الحوار عن الإبداع الأستاذ الدكتور/ عبد الستار إبراهيم أستاذ العلوم النفسية واستشاري الصحة النفسية والعلاج النفسي بالمركز الطبي التابع لجامعة الملك فهد للبترول والمعادن، والذي اهتم بدراسة ظاهرة الإبداع وقضاياه ومفاهيمه منذ وقت مبكر وكان بعد سفره إلى الولايات المتحدة الأمريكية وإقامته هناك لفترة طويلة ابتعد قليلا عن الاهتمام بموضوع الإبداع ولكنه يعود مجددا ومضيفا حول هذا الموضوع ونلتقي معه هذا اللقاء لنلقى الضوء حول الكثير من قضايا الإبداع ومشاكله.

س - المعروف عنك انك تعمل بالعلاج النفسي والتدريس الجامعي، فهل حدث تحول في اهتماماتك الأساسية وأصبحت مهتما بالإبداع، ومتى بدأ اهتمامك بدراسة هذا الموضوع؟

ج - اهتمامي بالأدب والكتابة عموما بدأ في الحقيقة مبكرا، فقد كانت نشأتي المبكرة في قرية من قرى الصعيد المصري، وكنت مع اخوتي نتنافس في القراءة والاطلاع الأدبي ولكن مع التحاقي بعد ذلك بقسم علم النفس بجامعة عين شمس اتجه اهتمامي إلى صناع الأدب و دوافعهم للكتابة و أساليبهم في ذلك. ولما كنت آنذاك مهتما بمدرسة التحليل النفسي فقد كتبت عددا من المقالات إثر تخرجي من الجامعة في موضوعات مثل التذوق الفني، و التحليل النفسي للأديب.. إلخ.، فكتبت في مجلة الفكر المعاصر التي كان يرأس تحريرها آنذاك الدكتور "فؤاد زكريا"، ومجلة "المجلة" التي كان يرأس تحريرها آنذاك الأستاذ "يحي حقي" ومجلة "الكاتب " التي كان يرأس تحريرها فيما أتذكر الأستاذ "لطفي الخولي". كل ذلك وجهني مبكرا للاهتمام بصناع الأدب أكثر من الاهتمام بالأدب ذاته، وظل ذلك الاهتمام ملازما لي حتى الآن، حيث التحم اهتمامي بالإبداع باهتماماتي المهنية في علم النفس بحثا، و تدريسا وممارسة للعلاج النفسي لأكثر من ثلاثين عاما حتى الآن. ويبدو أن تنوع اهتماماتي في علم النفس والطب النفسي جعلني أدرك- ومبكرا- أن الإبداع من الموضوعات التي يجب على علماء النفس أن يولوها اهتماما رئيسا لا في مجالات الإبداع الفنى وفى مجالات الرواية والأدب فحسب، بل يجب أيضا أن يكون مدخلا للصحة النفسية وتكامل الشخصية.

س - هل كانت دراساتك العليا من الأسباب التي وجهت اهتمامك لذلك، أيضا؟

ج - كانت رسالتي للدكتوراه عن (أصالة التفكير) وفيها قمت بتحليلات نظرية وإحصائية مكثفة عن القدرات الإبداعية وتبين لي بأن الأصالة أو الابتكارية من أحد أهم عناصر الإبداع وأنها ليست العنصر الوحيد، وبالرغم من أهمية ذلك الكتاب إلا انه كان مليئا بالأرقام والإحصائيات والتطبيقات العملية للمقاييس النفسية بالمنهج التجريبي، فأحس الناس أن موضوع الكتاب يحول إلى موضوع علمي جاف.

بعد ذلك نشرت بالكويت كتاب: (أفاق جديدة في دراسة الإبداع) وتضمن هذا الكتاب رؤية عامة لموضوع الإبداع، راعيت فيها أن تكون مهضومة بالنسبة للقارئ العام والملفف وليس للمتخصصين في الإحصاء والعلوم النفسية التجريبية. وقد نشر كتاب آفاق جديدة في الكويت في السبعينات. وما لفت نظري هو سرعة نفاذ الكتاب من السوق بالرغم من أنني لم أكن معروفا للقراء العرب كثيرا، مما دلني على اهتمام الناس بهذا الموضوع. ومع سفري إلى أمريكا تغيرت اهتماماتي في علم النفس إلى حقل آخر هو الطب النفسي والعلاج السلوكي. و ولكن مع معاودة الاتصال بالمبدعين بعد استقراري في العالم العربي بدأت الاهتمام مجددا بهذا الموضوع المحبب لدي فجاءت بشكل اهتمامات معاصرة لموضوع قديم.

س - أفهم أنك نشرت حديثا كتابا عن صلة الإبداع بالمرض النفسي والعقلي، وأفهم أنه يسود لدى الكثير من الناس فكرة ارتباط الإبداع بالجنون أو المرض العقلي، فما هو موقفك وكيف ترى ذلك؟

ج - ارتباط الإبداع بالجنون فكرة شاعت منذ القدم، ولها جاذبيتها الخاصة عند الناس بما فيهم المثقفون منهم. وقد وقع الكثيرون في فخ هذه الفكرة. وحتى الباحث أو العالم الذي لا يستسغ هذه الفكرة، فإنه يقوم بذلك بعد أن يفصل في ذكر الأمثلة والشواهد الدالة على ارتباط العبقرية بالجنون ثم يدحض الفكرة بعد أن تكون قد رسخت في ذهن القارئ الفكرة بأن العبقرية دالة على الاضطراب وأن المبدع يتسم بالاضطراب النفسي وربما العقلي. وقد وقعت أنا شخصيا في هذا الخطأ مبكرا ذلك لأنك تتعامل مع الجمهور الذي تستهويه في العادة الأشياء المثيرة والغريبة. وارتباط الجنون بالعبقرية من الأفكار التي تجتذب الناس أكثر مما لو ذكرت لهم أن الموضوع ليس بهذه البساطة.

س - تقول أنك وقعت شخصيا في هذا الخطأ مبكرا، فما الذي غير من رؤيتك؟

ج - عوامل كثيرة، لكن ربما من أهمها شغفي بالبحث العلمي ومتابعة البحوث التي أجريت في هذا الموضوع، فضلا عن اهتمامي الشخصي بإجراء البحوث العلمية في هذا الموضوع.

س - إذن يبدو أن البحوث العلمية سواء تلك التي أجريتها بنفسك أو أجراها غيرك تشير إلى نتائج مختلفة عما نعرفه عن صلة الاضطراب النفسي بالإبداع؟ هل يمكن أن تذكر لنا بعض هذه النتائج؟

ج - البحث العلمي يثبت أنه لا صحة لهذا الرأي. فمثلا، عندما نقوم بتطبيق مقاييس الإبداع والصحة النفسية نجد نتائج مختلفة ولا تستقم مع فكرة الصلة الشائعة عن العلاقة بين الإبداع والجنون. ولكن نتائج البحث العلمي عن المبدعين تثبت في الوقت نفسه أنهم يختلفون عن الناس العاديين. بعبارة أخرى، هم ليسوا بمرضى ولكنهم غير أسوياء تماما. لا تنطبق عليهم معايير المرض النفسي والعقلي كما نفهمها وندرسها للمتخصصين، ولكنهم من جهة أخرى ليسوا أسوياء تماما ولذلك ذكرت في فترة من الفترات أن المبدعين يمثلون نمطا راقيا من الأسوياء (Super Normal)، فيهم اختلاف عن الناس العاديين، لكن دون أن لا يكون هذا الاختلاف مؤشرا للمرض النفسي أو العقلي. وهذا ما وقع فيه خطأ مفكرون من القرن الثامن والتاسع عشر، فقد لفت نظرهم شذوذ المبدعين أو اختلافهم في المظهر والتصرفات مثل الميل للتأمل والانطواء فاعتقدوا أن ذلك علامة على المرض النفسي. وكان المريض فعلا هو إنسان مشوش التفكير تحكمه ذاتيته في أشياء كثيرة في حياته وليس قادرا على أن يرى في العالم بعيدا عن مشاكله وصراعاته، كما أنه فاشل في العلاقات الاجتماعية. في حين أن المبدع الحقيقي هو إنسان رغم اختلافه فإن لديه القدرة على المثابرة على فكرة معينة وتطويرها ويقوم بأشياء لا يستطيعها المريض النفسي.

س - ولكننا نقرأ عن الكثير من المبدعين في الآداب والفنون انتهت حياتهم بالانتحار أو مستشفيات الصحة العقلية. فإذا كان سويا ومتوافقا مع المجتمع فكيف ينتهي به الحال إلى ذلك.

ج - أولا دعنا ننظر إلى العباقرة في المجتمع كفئة فهل تزيد ما بينهم نسبة المرض العقلي عن الفئات الأخرى في المجتمع. هذا غير صحيح في شمال أوروبا كالسويد سويسرا مثلا تبين أن نسبة الانتحار بالنسبة للمجتمع هي (1.8 %) ولكنها تقل لدى المبدعين فهي (1.2)، إذن ليس هناك ارتباط حقيقي بين الانتحار كشكل من أشكال الاضطراب النفسي والعقلي والإبداع.

وحتى ولو سلمنا بوجود بعض الظواهر المرضية لدى المبدعين فإن إبداعهم لم يكن في فترات المرض. بالعكس كان الإبداع معدوما تقريبا في فترات مرضهم. "نيتشة" لم يكتب أفضل أعماله في المستشفي العقلي ولم يرسم "فان جوخ " وهو مضطرب. وأعمال يجيب محفوظ الروائية المتميزة لم يكتبها في خلال الفترة التي كان يعانى منها ماديا ونفسيا. الإبداع ليس مرضا بل على العكس هو علاج للمرض.

س - لماذا إذن هذا الربط السائد لدى الناس.

ج - ولع الناس بالتفسيرات الغريبة وجاذبية هذه الأفكار لدى عموم الناس. ولا تنسى أنه في فترة معينة سادت نظريات التحليل النفسي التي كانت تنظر إلى المبدع على أنه إنسان عصابي وأن إبداعه هو تعويض عن قلقه وأمراضه في العمل الفنى. "فرويد " نفسه قام بعمل دراسته التحليلية عن "ليوناردوي دافنشى" من هذا المنطلق وتعامل مع أحد أهم عباقرة القرن العشرين من هذا المنطلق، أي على أنه حالة مرضية وعمم هذه النتائج على كل الظواهر الإبداعية في الفن والأدب ولم يكن لدى الناس وقتها إلا نظرية التحليل هذه.

س - لو سلمنا جدلا بوجود نوع من الاضطراب لدى المبدعين فما هو أكثر هذه الاضطرابات شيوعا وكيف نفسرها.

ج - هناك بعض الدراسات والتي لا أتفق معها شخصيا ترى أن المبدعين في مجالات الآداب والفنون خاصة معرضين أو مصابين بما نسميه الذهان الدوري (Bipolar effective Disorder)، وأن نسبة عالية من المبدعين أصيبوا بذلك. والجنون أو الذهان الدوري هو حالة من الهوس الشديد والشعور الزائد بالطاقة والقدرة على السيطرة ثم الانتهاء بحالات الاكتئاب والهبوط. ووجهة نظري أن كل ما يقال بالشواهد والأدلة فإن هناك تزييف منطقي لحقيقة الإبداع. الإبداع ليس اضطراب عقلي بل هو تنظيم عقلي شديد وترتيب محكم لجهاز معقد هو المخ والجهاز العصبي إجمالا.

وتوجيه هذا الدماغ للإنتاج العلمي أو الفنى الذي يحكم عليه الناس بأنه إبداع ويستفيدوا منه في حياتهم ولكن يجب أن نوضح أن العملية الإبداعية تكون مصحوبة بالكثير من الضغوط النفسية والإرهاق العصبي ذلك أننا تتعامل مع المخ وهو جهاز شديد الحساسية والتعقيد معا. إذن يعانى المبدع من الضغوط النفسية بسبب طبيعة العمل الإبداعي وليس بسبب المرض النفسي.

المبدع لحظة ولادة الفكرة يكون أمام عدد من الاختيارات اللامتناهية وهى عملية ليست سهلة وتشكل عبئا على ذهنه فيظهر كما لو كان مجنونا بالإضافة إلى الضغوط الخارجية.

وقد تبينت من دراساتي أنه مع المقارنة بالجمهور العادي فإن أكبر نسبة من الإدمان على الخمور كانت بين المبدعين ظنا منهم أن ذلك يساعدهم على التحكم المزاجي في حين أن الإدمان كان يزيد من الضغوط ويعقد الحياة الاجتماعية والفكرية لديهم.

كما تبين أن الكثير من المبدعين يقعوا في مشكلات مادية وخاصة الديون وذلك بسبب الإسراف لديهم. ويحكي عن "سارتر" أنه كان يبدد أمواله على أصدقائه ومعارفه.

كما يقع الكثير من المبدعين في العديد من الصراعات الاجتماعية. لأن الإبداع بطبيعته عمل غير محافظ ومتجاوز للواقع والمجتمع وأحيانا يصطدم معه وهذا يولد مصدرا إضافيا للضغط والإزعاج على المبدع وحياته.

وقد يكون الاصطدام مع السلطة على مختلف أشكالها، حتى مع الزملاء من المفكرين والعلماء. تخيل عالما يظهر بفكرة جديدة ثم يقول للآخرين ولزملائه أن أفكاركم خاطئة وقديمة فسوف يتحرك ضده هؤلاء العلماء (وكأنها آليات دفاع) حفاظا على مكاسبهم المادية والاجتماعية وقد يكون ذلك في شكل تحالف ضمني مستتر أو فعلى وكأنها آليات دفاع.

والمبدعون من المفكرين والكتاب فد يصطدموا مع السلطة السياسية القائمة في مصر. مثلا عاني يوسف إدريس من ذلك. يوسف إدريس لم يكن مريضا عقليا على الرغم من تعاطيه العقاقير المهدئة فترة من حياته لم يكن لإنسان مضطرب أن يبدع شيئا مثل "أرخص ليال" بشفافيتها وإحساسه بالمجتمع وقدرته على تنظيم الانفعال الشديد لديه. ولكنه بعد أن نشر (البحث عن السادات) دخل في مجموعة من الصراعات والمشاكل و فوجئ بأن كل أصدقائه قد تخلوا عنه وان هناك تيارا قويا ضده بعيدا عن تصوراته الرومانسية السابقة. على الرغم من أنه قد نشر في نفس الفترة كتاب (خريف الغضب) لهيكل وهو عن نفس الموضوع أي عن السادات الذي لم يكن مكتوبا بنفس الاندفاع الانفعالي الذي كتب به يوسف إدريس "البحث عن السادات ".

كتاب "إدريس " كان مليئا بالانطباعات الشخصية واندفاع اللحظة دون توثيق وكأنه كان يثأر لنفسه مما فعل به السادات قبل مصرعه.

وهكذا دخل د./ يوسف إدريس في صراع مع السلطة وقتها لم يحسن تقديره جيدا فأصيب بالقلب والإدمان وتعطل إبداعه كثيرا.

س - في أحد اللقاءات مع يوسف إدريس قال إن الكتابة فيها جزء من المرض، ما هو تعليقك على هذا؟

ج - اتفق ولا اتفق. الإبداع عمل قوي له مكافآته الخاصة الخارجية أيضا مثل النشر والشهرة والنجاح واعتراف المجتمع، وعلى المستوى الشخصي يحقق الإبداع للمبدع قدرا من التوازن النفسي ويخفف من حدة القلق والوتر.

الإبداع هو تركيز للطاقة الذهنية في إطار منظم وفيه قدر من اللذة أيضا، هنا العمل الإبداعي رغبة قوية محتاجة للإشباع ويظل المبدع محكوما بالمرض ما لم يشبع هذه الرغبة.

العمل الإبداعي إذن يعتبر دافعا للتخلص من المرض وليست مرضا ومن جهة أخرى أشك في استمرار المبدع في ممارسات الإبداعية إذا تكاتفت عليه المشكلات والتحديات. يوسف إدريس نشرت له أعمال مبكرا في حياته فحصل له ما نسميه بالتدعيم المبكر بما في ذلك الشهرة والاعتراف بقدراته الإبداعية ومهاراته الأدبية. كل ذلك مكنه فيما بعد أن يحافظ على العمل والإبداع بالرغم من الظروف الصعبة التي عانى منها، وليس بسببها.

وعلم النفس يقول أنه إذا حصل تدعيم وتوقف بعد ذلك فإن العمل يستمر دون التدعيم. وتجارب (سكنر) على الحمام أثبتت ذلك. فقد كان يخضع الحمام للتدعيم المتقطع فتنقر لتحصل على الحبوب فتنجح مرة وتفشل أخرى ومع ذلك ظلت تواصل بحثها عن الطعام وهذا ينطبق حتى على سلوك البشر فقد تبين أن الذين يحصلون على التدعيم تظل قدرتهم على العمل مستمرة أكثر من أصحاب التدعيم المستمر...

لو أن الكاتب في وقت مبكر كل ما يكتبه ينشر وينجح فإنه سوف يستهين وربما يكتئب. ولكن الذي حصل على تدعيم ثم أحبط فإنه يبقى حريصا على التجويد ويحسن من مستوى عمله ويشعر بمسئولية تجاه التدعيم ويحافظ عليه.

س - إذن هل نرى أن النجاح المبكر قد يضر بالمبدع وموهبته.

ج - أنا ضد فكرة ارتباط ذلك بالعمر. الإبداع المبكر ليس سلبيا والإبداع لا يظهر إلا مبكرا وذلك في سن لم يصبح فيه الإنسان أسيرا لمتطلبات الواقع الاجتماعي ... فلو قمعنا الإبداع مبكرا فهذا خطأ في حق الإبداع والمبدع نفسه.

ولكن النجاح هذا موضوع آخر... نعم قد يكون النجاح المبكر أو الشهرة المبكرة ذات خطورة خذ مثلا ارنست هيمنغوى. المشكلة أن الإبداع يحتاج إلى عزلة وتعمق ولكن الشهرة لها ضريبة العلاقات الاجتماعية ووسائل الإعلام المختلفة.

س - لوحظ أن الكثير من الحاصلين على نوبل ضعف الإبداع لديهم هل يكون الخوف من النقد أو الإحساس الكبير بالمسئولية تجاه النجاح عائقا دون تلقائية المبدع وانطلاقه.

ج - اتفق معك. الإبداع يجب أن يكون حرا ودون الخوف من ضياع المصالح. ولكن الإدراك الشخصي يختلف فقد لاحظ الباحثون مثلا أن العديد من الحاصلين على نوبل قد تغير إدراكهم الشخصي بعد ذلك. وأنا أرى آن هذا نوع من أنواع تطور الشخصية (بناء- اختلاف- امتداد)... عندما يتقدم الإنسان بالعمر بعد الخمسين مثلا فإن (الأنا) ليست هي الدافع هنا ولكنها مرحلة التحرر من الذاتية والنرجسية والاهتمام بالقضايا العامة هذا ما لاحظه (اريكسون) على تطور الشخصية بشكل عام فإذا مال الإنسان في نهاية حياته إلى التقوقع فإنه يمرض ويموت مبكرا في حين أن الشخصية المتكاملة هي تلك التي تواصل امتدادها. الامتداد يأخذ لدى المبدع شكل تنمية لغة جديدة في حياته وكأن الإبداع انتقل إلى شكل آخر مثل الاهتمام بقضايا السلام وتنمية البحث العلمي.. إلى آخره.

س - هل هناك إذن مرحلة عمريه للإبداع.

ج - نعم، هناك فترة خصوبة يزيد فيها الإنتاج العلمي أو الأدبي، في تصوري أن الإبداع لا يتوقف. ولم أسمع بإبداع جيد أو ممتاز ظهر في فترة المراهقة. الإبداع يحتاج إلى فترة نضوج معينة. أعنى الإبداع بشكل إنتاج وكثمرة ملموسة ولا أعنى القدرة الإبداعية نفسها.

ولابد للحصول على فترة الخصوبة من فترة تكوين، لابد من فهم أشياء كثيرة عن موضوعك، من الصعب الإنتاج في موضوع وأنت لا تعلم عنه الكثير.

من الصعب مثلا اكتشاف نظرية علمية في موضوع دون تحصيل وقراءة مكثفة في الموضوع، وفي الأدب كان نجيب محفوظ مثلا مر بمرحلة قراءة نهمة لكل أنواع الأدب الإنجليزي والروسي والألماني وكانت لدية مرحلة الشباب مرحلة قراءة مكثفة ونهمة ثم فترات الإنتاج. وهذه عادة ما بين العشرين والأربعين من العمر.

س - هل يعنى ذلك أن الإنسان المبدع إذا لم ينتج خلال هذه السن سيعجز عن إنتاج ابتكارات وإبداعات جديدة بعد ذلك؟

ج - نعم سوف تكون في ذلك صعوبة وخاصة بعد الأربعين، والآن بعد تحسن الوعي الصحي وطول عمر الإنسان في المتوسط فإن هذه الفترة قد تمتد حتى ما بعد الخمسين وفي هذه السن يشعر الإنسان بالأمان المادي والإنجاز المهني. لكن الإنتاج يبدأ مبكرا عن ذلك ويتزايد مع العمر، ولا تنسى أن الإنسان بتقدم السن ضعف قواه الجسدية ولكنه في فترة الشباب فإنها فترة غنية بالقدرة الحسية والنظرية والحركية وهذا مهم للإبداع. والكثير من المبدعين استمروا بالإبداع حتى سن متأخرة مثل نجيب محفوظ وبرتراند راسل، و عباس العقاد، و عبد الرحمن بدوي، وغيرهم كثيرون.

ذلك أن الإبداع بعد فترة يأخذ شكل المهنة أو الاحتراف ويكون من الصعب التخلي عن ذلك لأنه يحقق إشباعا وعلاجا نفسيا ودخلا ماديا في ذات الوقت.

س - ألاحظ أيضا في بعض كتاباتك أنك ترى أن هناك فروق نوعية في شروط الإبداع والعوامل التي تحكمه، فالإبداع في العلم أو الفن والأدب تحكمه خصائص شخصية مختلفة عن بعضها البعض، فكيف تفسر ذلك؟

ج - بحوثنا العربية و الغربية بينت أن المبدعين في العلوم عيل شخصياتهم إلى الاتزان والدقة أكثر وأن المبدعين في الفنون والآداب أقل من ذلك. وهذا يرجع إلى طبيعة حقل الإبداع نفسه في الآداب فإن هناك عوامل الذاتية والانفعال والمشاكل الشخصية تؤثر في الشخصية كما لوحظ أن الإبداع في العلوم والموسيقى يبدأ في سن مبكرة عن الإبداع في الأدب مثلا.

س - يبدو أنك تحد من دور للعامل الوراثي في الإبداع.

ج - الإبداع يختلف عن الجوانب الأخرى التي تلعب فيها الوراثة دورا ملحوظا كالذكاء. فمثلا الدراسات العلمية المستفيضة التي أجريت في الفترات المبكرة من القرن العشرين بينت أن عامل الوراثة يلعب دورا ملحوظا أقوى من العامل البيئي في الذكاء. والذكاء هو القدرة على التعلم وحل المشكلات بشكل ذكي ولكن الإبداع هو خلق شيء جديد من عناصر موجودة. في الإبداع دلت الدراسات على أن الإبداع يخضع للتدريب وأنه مثل عملية النمو يولد ويموت وقد لوحظ انتشار الإبداع في بعض الأسر مثل (شتراوس) في الموسيقى أو الرياضيات. وهذا يكون دور للبيئة في الإبداع أكثر من الوراثة لأن الإبداع يخضع لعامل التعلم أكثر من الوراثة.

س - وهل هناك علاقة شرطية أو لازمة بين الذكاء والإبداع.

ج - لا، هناك أشخاص أذكياء جدا ولكن ليسوا مبدعين ولكن العكس غير صحيح. إذ لا بد أن تحتاج الإبداعات الهامة إلى درجة معينة من الذكاء لا تقل عن المتوسط. لابد من وجود درجة متوسطة من الذكاء لدى المبدع ولكن الدرجات العالية من الذكاء غير مطلوبة، بمعنى أنك قد تكون لامعا وذكيا ولكنك لا تقدر على تولي مسئوليات الإبداع.

س - وهل هناك فروق بين الذكر والأنثى بالنسبة للإبداع خاصة في وجود فروق تشريحية بين أدمغة الرجال والنساء.

ج - ناقشت ذلك في كتاب حديث بعنوان علم النفس الحديث: أسس ومعالم دراساته، حيث ذكرت أنني لم أعثر على شيء يظهر أن دماغ المبدع يختلف تشريحيا عن غيره، من الممكن أن يختلف من ناحية النشاط الكيميائي أو الكهربائي. أما بالنسبة لفروق الإبداع بين الرجل والمرأة فقد دلت الدراسات على أن المرأة قد تبرز في الإبداع اللفظي كما في الشعر والأدب وأن الرجال يتفوقون في الإبداع الشكلي والرمزي كالرياضيات والرسم أكثر. لكن تذكر أن القدرة على الإبداع تختلف عن التنفيذ العملي للإبداع، إذ لا تزال الظروف الاجتماعية تعطى تيسيرات أكثر للذكور من الإناث، وبالتالي نجد تناقصا حادا بين النساء في الإبداع، والشهرة. هذه مشكلة أواجهها في العيادة النفسية مع بعض المريضات اللاتي يتسمن بالإبداع، ولهم إبداعات حقيقية في القصة والرواية، ولكنهم يخفن حتى من إرسالها للنشر فلا تنسى أن الفروق اجتماعية وتاريخية ففرص إثبات النجاح والإبداع أسهل لدى الرجل منها لدى المرأة.

س - وكيف نستطيع التعرف على بذور الإبداع لدى الأطفال مثلا.

ج - الدراسات تقول أن الطفل المبدع ظهر لديه منذ وقت مبكر اهتمامات خاصة مثل حبه للسؤال والميل للاختلاف والنظر للأمور بشكل خاص وغير تقليدي ولا يردد أفكار غيره وقد يكون على قدر من الاستهانة بسلطة الأسرة أو المدرسة. فهو ليس صاحب طاعة عمياء أو أدب متصنع.

س - وكيف نستطيع أن ننمي هذه الموهبة وما أخطر ما يمكن أن تواجهه موهبة ما في مجتمع معين؟.

ج - بالتوجيه التربوي للأسرة والمدارس بكيفية التعامل مع هذه المواهب واكتشافها ورعايتها. قد تكون طاعة الطفل العمياء بسبب الخوف و هو مرض اجتماعي مبكر قد تمارسه الأسرة لقمع الإبداع.

كما أن هناك خطورة في توجيه الإبداع مبكرا نمو حقل معين وهذا أخطر ما في أنظمة التعليم من فصل حاد بين العلمي والأدبي لأن الإبداع يحتاج إلى وحدة معرفة وأرضية واسعة من المعلومات والأفكار والكثير من المناهج تقتل ذلك مبكرا. ونستطيع أن نلخص الأمراض الاجتماعية التي تقف ضد الإبداع إلى نوعين:

الأول: البناء الاجتماعي العام Culture وهذا يتمثل بالسلطة والإعلام وأدوات النشر وما تبثه أجهزة الإعلام من قيم ومفاهيم للمجتمع.

الثاني: قضايا اجتماعية نوعية: وهو دور تنشئة المبدعين واهتمامهم ودور الأسرة في احتضان المبدع.

فالأسرة التي تشعر أن ابنها يضيع وقتا كبيرا في الاختلاف عن الآخرين بأفكاره الخاصة وهم يريدونه أن ينجح ويبرز ماديا واجتماعيا ذلك حرصا عليه وشعورهم أن لغة النجاح في المجتمع ليست هي لغة الإبداع فيتم ذلك مثل الإبداع مبكرا... ثم يأتي دور المدرسة والجامعات في إتاحة الاختلاف وتنمية روح الحوار والتفاهم والاطلاع.

س - وهل لاحظت فرقا طريقة التعليم الغربية والدول العربية.

ج -  بالطبع. هناك منافي التعليم يشجع على الحوار والاطلاع والإبداع الشخصي في حين لاحظت أن الطالب العربي في الدول العربية يميل إلى التماثل والتشابه مع الأفكار السائدة والى الاهتمام بسلطة الأستاذ نفسه أي محاولة كسب رضا الأستاذ أكثر من الحرص على كسب المعلومة كما أن المعلومة لدينا هنا أيا كان مصدرها لها قداسة في حين أن المعلومة هناك قابلة للنقاش وللتغير.

س - عددا على عملية الإبداع هل هناك مراحل لعملية الإبداع و ارتباطها بالقلق.

ج - هناك فرق بين القلق المرضى النرجسي وهذا غير مستقر نفسيا أو اجتماعيا وهناك التوتر أو القلق المحمود. وهو ما نسميه بالقلق الدافع: ليست هناك حركة بدون توتر لتوجيه النشاط الذهني نحو نقطة معينة هناك قلق للمعرفة والرغبة في التساؤل.

أما عن المراحل الإبداع فقد وضعت على يد (ويلس) و آخرين بأنها أربع مراحل :

(1)  التعلق الأول: وهو الارتباط بفكرة أو مجال للاهتمام  و هذا هو التوتر الدافع ثم توجيه الذهن نحو هذه المشكلة والاهتمام بجمع المعلومات و الأفكار حولها.

(2)    الاختمار: وهو اختمار الفكرة نجعد ذلك في ذهن صاحبها

(3)     الإلهام: وهو سطوع الحل للمشكلة بشكل مفاجئ وهو مرحلة الراحة و الخلاص والتحرر من ضغط الفكرة

(4)  توتر جديد: وهو كيف تستطيع أن تصيغ وأن تضع هذه الإلهام في شكل يفهمه الجميع من معادلة أو أسلوب لغوى أو جهاز وهو ما نسميه بالتحقيق وهكذا تتكرر العملية من جديد لتعيد النظر. وكأن عملية الإبداع تأخذ شكلا لولبيا.

في النهاية نتيجة الإبداع ينبغي أن تصل إلى المجتمع لأن المجتمع هو الذي يمنح المبدع الاعتراف بقيمة عمله.

س - وكيف ترى علاقة المبدع بالمجتمع، وكيف يستطيع بعض المبدعين الاستمرار رغم إنكار المجتمع لهم.

ج - هذا جدول وحوار دائم بين الاثنين أي المبدع والمجتمع، العمل الإبداعي هو صياغة للعلاقة بالآخرين في الإبداع تحاول أن تصل للآخرين إما أن يأخذ منك الآخرون ويشجعونك ولكن أحيانا ترفض أفكارك وقد لا تتوفر وسائل النشر أو أن تجدع أشياء غير مفهومة... في رأي الشخصي لو أن أينشتاين ظهر قبل اكتشافه أو بعده بعشرين سنة لم يكن ليحقق هذه الشهرة هناك لحظة مناسبة أو كما سماها قدماء اليونان ال "كايروس " إلا أن جزء كلن موت كثير من المبدعين كان بسبب رفض المجتمع لهم وعدم تقدير إبداعهم و هذا أمر مؤسف بالفعل.

س - هل توجه المبدع أو صاحب الموهبة إلى بعض الأشياء لصيانة موهبته.

ج - مقاومة المبدعين للأفكار الخاطئة عن الإبداع وارتباطه بالمرض النفسي أو الجنون أعني التحرر من الأفكار اللاعقلانية عند المبدعين أو أن يعتقد المبدع أنه بسبب اختلافه أو تميزه عن الآخرين فإنه قادر على حل مشاكله بنفسه ودون مساعدة. المبدع يكون مبدعا في حقل خاص وليس عالما بكل شيء.

وأن المبدع قد وهبه الله شيئا ثمينا ينبغي أن يحافظ عليه و أن يصون الحكمة فلا تكون حكمة مجهضة.

 

سعيا وراء ترجمة جميع صفحات الشبكة إلى الإنجليزية و الفرنسية نأمل من الزملاء الناطقين بالإنجليزية و الفرنسية المساهمة في ترجمة هذا البحث و إرساله إلى أحد إصدارات الموقــع : الإصــدار الإنجليــزيالإصــدار الفرنســي

 

Document Code PI-0008

InterviewIbrahimAbdessattar 

ترميز المستند PI-0008

 

Copyright ©2004  WebPsySoft ArabCompany, www.arabpsynet.com  (All Rights Reserved)