Arabpsynet

 وجهات نظـر /  Points of View

شبكة العلوم النفسية العربية

 

تزييــف الوعــي البشــري

أ. د. يحيــــى الرخــاوي

أستـاذ الطـب النفسـي – جامعـة القاهـرة

E.mail : yehia_rakhawy@hotmail.com

مجلة سطور العدد 82 سبتمبر 2003

 

    الاستعمار بالجيوش، ثم الاستعمار الاقتصادي، فالاستيطانى. بطول التاريخ وعرضه لم تتوقف الكوارث الطبيعية، وامتحانات القَدَر غير المفهومة. كل ذلك كان محدودا جغرافيا بمكان بذاته، وبزمن له بداية و نهاية من حيث إن نزوات أو غزوات الدمار تنتهي بانتهاء العمر الحقيقي أو الافتراضي، سواء عمر الطاغية أو النظام، كما كانت الكوارث الطبيعية مؤقتة مهما تفاقمت آثارها . الجديد في الأمر هو الانتباه إلى احتمال "شمولية" هذه الجرائم والمآسي لتصل إلى التهديد بالإبادة الجماعية، أي: انتحار النوع.

 

    ظل السيد بوش وفرقته يكررون على مدار ساعات اليوم والشهر والسنة نغمة : التخلص من امتلاك أسلحة الدمار الشامل، بالتبادل مع نغمة القضاء على الإرهاب (كما صنّفوه)، وبغض النظر عن فشلهم في إثبات ما يدّعون هنا أو هناك، فإن الذي ينبغي أن يرسخ في وعينا هو هذا التنبيه على احتمالية "شمول" الدمار حتى الانقراض" !!

    شكرا يا سادة، وإن كنتم لا تقصدون.

 

§          متى يكون الدمار شاملا ؟

    شمول الدمار لا يقاس بعدد القتلى، ولا بغباء (أو ذكاء) القاتل، ولا بمدى فتك السلاح المستعمل. يكون الدمار شاملا حين يتمثل في سلوك أو إجراء مستمر، ومتمادٍ ومتسارع، بحيث يفوق في تسارعه وامتداده، كل القوى التصحيحية والمعادِلة التي تحاول أن تحول دون الهلاك الجماعي للنوع البشرى.

    من هذا المنطلق يمكن الزعم (بل الجزم) أن مقتل بضعة آلاف من الأمريكيين في مركز التجارة العالمي، أو حتى بضعة مئات الآلاف من الأفغان والعراقيين، سواء بسيف الطغيان أو بغباء التخلف، أو بذكاء أطنان القنابل، أو بالتجويع، أو بالإذلال، كل هذا ليس دمارا شاملا، لأنه لا يهدد مجمل الوجود البشرى طولا وعرضا، طول الوقت.

    إن ما حدث ويحدث الآن من قتل للأبرياء، وإحياء للاستعمار القديم، واستغلال للموارد، واستعمال لفئة من البشر باعتبارهم أدنى، هو النتيجة الطبيعة لسوء استخدام آليات ووسائل بعض إنجازات العقل البالغة القدرة، لتزييف منظم للوعي البشرى. إن هذا التزييف يتم بالذات من خلال الإعلام والتعليم (تصوّر!!). يحدث ذلك لصالح خدمة قلة تملك من مقدرات الحياة ووسائلها أكثر بكثير مما تستطيع أن تستعمله، أو أن تتحمل مسئوليته . هذه القلة هى التي تسخر أروع الإنجازات لأخطر الأغراض، وهى تكاد تعمى، وهى تدفع بالمسيرة البشرية إلى "انتحار شامل"، تعمى حتى عن موقعها وهى في مقدمة هذا الطابور الذي تجذبه (لا تدفعه) معها إلى هاوية الانقراض.

 

§          لا جديد إلا الشمول

    إن الذي فعله ويفعله الأمريكيون في أفغانستان والعراق هو جريمة مسبوقة ليس فيها جديد، إلا معالم شمولها. حتى وراثة الطغيان والإجرام القاتل تحت شعارات خادعة، له سوابق تاريخية تكاد تكون طبق الأصل من حيث المزاعم والنتيجة جميعا. ليس جديدا ما يفعله بوش الابن بعد الأب، أو ما فعله عدى و قصي مع والدهما الطاغية المجرم. التاريخ يذكرنا كيف أن الإسكندر تولى الحكم وهو في العشرين بعد اغتيال أبيه "فيليب" الذي مارس الغزو والقتال والإبادة طولا وعرضا، ثم إنه حين اغتيل وتصورت اليونان أنها قد استراحت من شره، إذا بابنه الاسكندر يجتاح المدينة، يذبح كل سكانها..، ثم يعبرها، ليهزم جيوش الفرس، ويندفع إلى سوريا ومنها إلى مصر ثم يعود إلى بابل، ويأمر بذبح سكان مدينة بأكملها لأنهم من الإغريق، ويموت في الثانية والثلاثين من العمر(1)"، وبرغم كل هذا فإن ذلك لا ولم يعدّ دمارا شاملا. هذه الأفعال كانت طغيانا محدودا، حتى لو تم من خلالها محو مدن بأكملها، أو إبادة قومية عن بكرة أبيها. الذي كان يحدها آنذاك هو محدودية قدرات فتك السلاح المتاح من جهة، وصعوبة انتشار الوباء القاتل من جهة أخرى . أي تواضع صناعة السلاح ، وبدائية التوصيل والتواصل . بِتَغلب البشرية على هذه الصعوبة وتلك، أصبح الدمار أكثر شمولا، والانقراض أكثر احتمالا.

 

§          النذير

    إذا أردنا أن نقرأ الأحداث الأخيرة بمسئولية مناسبة، وبرغم الألم والانكسار، علينا أن نكف قليلا أو كثيرا عن النعي والنعابة، لننظر في حقيقة وعمق معنى الأحداث باعتبارها نذيرا للبشرية كافة.

    النذير الذي ينبغي أن يتماثل أمام كل الناس الآن لا يكمن فقط في إدراك مدى تعملق القوى الكمية التدميرية المغتربة، ولا في ما آل إليه تسويق وتقديس قيم الاستهلاك للاستهلاك، والتميز بالمال لندرة لا تعرف كيف تنفقه، النذير ليس فقط في إعلان النكسة البشرية التي عادت تبرر أن يصنَّف البشر إلى "أدوات وعبيد" مقابل ما هو "ناس وأسياد"، ولا في أن الديمقراطية المزعومة لا تمثل لا العدل ولا الحرية، ولا في أن الدين أصبح مطية للساسة والسياسة بدلا من أن يكون دافعا للإبداع وحافزا للتطور. إن كل مثل هذه المخاطر جديرة بالانتباه والمواجهة، لكن الأحداث الأخيرة تنذر بما هو أهم وأخطر، تعالوا ننصت لها وهى تقول :

1-     إن ثمة أسلحة شديدة الخطورة أصبحت في متناول عدد متزايد من الناس هنا، وهناك.(حكومات، وأهالي، قطاع عام ، وقطاع خاص !!).

2-     إن كثيرا ممن يمكن أن يحوزوا هذه الأسلحة لا يحسنون حمل مسئوليتها (يستوي في ذلك صدام، وبوش، و شارون، و بن لادن).

3-     إن الخطأ الذي قد يرتكبه أي من هؤلاء أصبح "شاملا" لأنه يهدد كل النوع البشرى بالانقراض، وليس بالمعنى الذي يردده بوش، وهو يعتبر جرح إصبع مواطن أمريكي أخطر "شمولا" في ما يعنيه من تدمير البشرية، من إبادة مئات الآلاف مجهولي الهوية عبر العالم.

 

§         الفرض

    فرض هذه المداخلة يقول: "إن ثمة خطرا أساسيا أكبر يكمن وراء تلاحق هذه الأحداث الكوارث، هو أكبر بكثير من الضرر الذي أصاب أفغانستان، والعراق ، أو الذي يمكن أن يصيب أي قطر يغزوه هؤلاء الغزاة تحت زعم التعمير أو التحرير أو التنوير، هذا الخطر هو: "تزييف الوعي البشرى بما يخالف طبيعته، أي طبيعة وقوانين التطور، الأمر الذي يسمح بمثل ما يجرى، ثم يبرره ليتمادى بما يهدد بانقراض الإنسان".

 

§          أخطاء التطور

    ثمَّ أخطاء جسيمة ترتبت على سوء حسابات قوانين التكيف لصالح مزيد من التطور البشرى. مثل هذه الأخطاء واردة عبر تاريخ التطور. كل الأحياء الباقية صححت أخطاءها أولا بأول بشكل أبقى على استمرارها، أما الأحياء التي لم تستطع أن تصحح مسارها فقد انقرضت. إن أي ناظر في التاريخ والحاضر ، يمكنه أن يدرك بوضوح أن الإنسان مسئول- ربما دون سائر الأحياء - عن انحراف مسار تطوره، وأنه، وليست الطبيعة، هو السبب في ذلك، و في نفس الوقت نلاحظ أنه أيضا لم يكف أبداً عن محاولة تصحيح أخطائه، وتعديل مساره.

 

§          أزمة الوعي، ومحنة العقل

    الخطر الذي يهدد الإنسان أكثر فأكثر ينبع من نفس الميزة (الميزات) التي تميز الإنسان بها على سائر الأحياء، ذلك أن هذا الخطر هو ناتج من اكتساب الإنسان ذلك القدر من "الوعي بالذات وبالزمن"، وأيضا من تمُّيزه بتلك الآلية المسماة "العقل". نتيجة لهذا وذاك، أصبح مستقبل الإنسان، دون سائر الأحياء المعروفة، غير قاصر على الناتج التكيفي الطبيعي للتفاعل مع البيئة والمحيط، بل أصبح تحت رحمة نجاح أو فشل هذا الوعي وذاك العقل حيث تدخّل كل من هذا وذاك، سلبا، وإيجابا، بالتخطيط لبقائه، أو بالوقوع في أخطاء تهدد بانقراضه.

 

§          تزييف الوعي

    يبدو أن ما انتهت إليه البشرية من إنجازات في كل المجالات (الإبداعية والتقنية والعلمية خاصة) هو أكبر من قدرتها الحالية على استيعابها لصالح تطور نوع البشر، بل إن المردود كان معكوسا في كثير من الأحيان، حيث تم توظيف هذه الإنجازات لتزييف الوعي، لا لحماية النوع وحفز التطور.

    يتم تزييف الوعي بشكل متماد ، سرا وعلانية، من خلال سلطات رسمية، أو منظومات خاصة، يتم بوسائل شديدة التنوع والإلحاح نكتفي بمجرد الإشارة إلى بعضها، دون تناول أي منها تفصيلا، ومن ذلك : الإغراق، والتهميش، والتجزيء، والإحلال، والإلهاء، والتفصيل، والتديّن المظهري، وادعائه، والترغيب، والترهيب، والتأجيل، والتلويح..إلخ. أبسط وأحدث الأمثلة للإلهاء والإغراق والإزاحة معا هو ظهور هذا الكم الهائل من الإذاعات، والمحطات الفضائية والمحلية. خذ- مثلا - تلك المحطتين اللتين ظهرتا مؤخرا تذيعان أغاني خفيفة طوال 24 ساعة. ما هي المساحة التي تبقى في وعى، أو وقت، أو ذاكرة، أي شاب أو فتاة أو شخص لأي شيء آخر. مثل هذا الإجراء لا يحشر معلومات مُغرضة بذاتها في أمخاخ المتلقين، لكنه يكتفي بشغل كل شيء بلا شيء، وبالتالي تصبح مساحة ما تبقى من الوعي سلبا خالصا جاهزا لتلقى أي شيء. (يمكن الرجوع للمزيد في "خدعة التكنولوجيا" (2)).

 

§          حركية المواجهة

    على الرغم من كل ذلك، فإن الناس تتجمع على الجانب الآخر دفاعا عن حقهم في البقاء، الناس من كل لون وجنس، دون استبعاد بعض عامة ومبدعي الأمريكيين والإنجليز من الشرفاء الذين ينتمون للناس لا للسلطة، إن تشكيل مستويات الوعي البشرى بما يخدم أحد الفريقين أصبح في متناول كل من يحذق مخاطبة المستويات المختلفة معا. لم تعد المسألة مجرد إقناع عقلي بفكرة (أو أيديولوجيا) ، ولا دغدغة لعاطفة أو تلويح بلذة، وإنما المسألة تخطت كل ذلك إلى مخاطبة الغرائز البشرية (الأصلية ، والمصنَّعة) بما يناسب خدمة الغرض الواعد أو المتربِّص، بوعي أو بدونه، إنْ تطورا ، وإنْ فناء.

 

§          غرائز وغرائز

    إشكالة الحديث بلغة الغرائز عامة هي إشكالة حديثة قديمة، لكن المتابع لحقيقة مسارات التطور لا يستطيع أن يتجاوز حتمية مواجهة البدء من غرائز البقاء حتى لو لم يجرؤ على الاعتراف بغريزة الموت، (وهى أيضا تخدم بقاء النوع). علينا أن نكتسب الشجاعة الكافية التي تسمح لنا بالحديث عن الغرائز السياسية، والغرائز الدينية، وغريزة القطيع، ونحن نحاول أن نرصد المعركة الدائرة بين تزييف الوعي ، وتحريك الإبداع. بل إنه علينا أن نتقدم خطوة أخرى في محاولة احترام فرض يزعم رصد تخليق غرائز جديدة، حسنة أو سيئة .

    لعل هربرت سبنسر هو القائل "إن عادات اليوم هي غرائز المستقبل". من أمثلة الغرائز السلبية الجديدة التي تكونت حتى كادت تصبح جزءا من الطبيعة البشرية المصنعة : "غريزة الاستهلاك لما لا حاجة لنا به، وغريزة امتلاك ما لا نستعمله، وغريزة الوعد بما لا نقدر عليه، بل ولا نعرفه أو نعرّفه (مثلا: الحرية)، وغريزة قصر النظر، وغريزة القتل عن بُعد لمن لا نعرف (غريزة سلبية هنا = كل سلوك أصبح مسلما به رغم ضعف (أو عكس) وظيفته الإنسانية البقائية).

    ويا ليت الأمر اقتصر على تشكيل تلك الغرائز المصنّعة، بل إن تزييف الوعي والسلوك والتعلم، راح يتعامل مع غرائز البنية الأساسية (إن صح التعبير) لنفس غرض التدمير والردّة، ذلك أنه يجرى اختزال غريزة الجنس للجنس (دون التناسل أو التواصل) واختزال غريزة العدوان للقتل (دون الإبداع)، واختزال غريزة الجوع للإذلال (دون الشبع والأمن)، وتحوير غريزة القطيع (الانتماء للمجموع) إلى ما يسمى الديمقراطية لخدمة أي أحد إلا مجموع القطيع.

 

§          العمى أحد أهم شروط الانقراض

    لا يوجد نوع من الأحياء، دون استثناء الجنس البشرى، سَعَى أو هو يسعى للانقراض بوعي أو بغير وعى، لا بوش ولاستالين. لا الديناصورات، ولا اليمام. لا الفيلة ولا النمل، لا البكتريا ولا الفيروسات. بل إن الانقراض ذاته لم تتوحد أو تتحدد أسبابه لكل من انقرض من أحياء (انظر كتاب الانقراض، جينات سيئة، أم حظ سيئ – (3)). قد يحدث الانقراض بمحض الصدفة (حظ سيئ)، وقد يحدث نتيجة خطأ تطوري جسيم . أما وقد اكتسب الإنسان ذلك الوعي الفائق، فقد تراجعت الصدفة نسبيا لتحل محلها المسئولية.

    الذي حدث في الاتحاد السوفييتي ليس مجرد خطأ تطبيق أفكارٍ أغلبها (إن لم يكن كلها) صحيحة، والذي يحدث الآن في أمريكا وفي العراق على حد سواء ، ليس مجرد شهوة حكم أو مصالح شركات. الذي حدث ويحدث من بن لادن ليس مجرد تعصب أعمى، أو انحراف عن الدين الحقيقي. كل هذه الأحداث تتشابه في كونها تعلن عن خطأ تطوري يتمادى فيه الجنس البشرى بشكل منذر.

 

§          لماذا لا نتعلّم؟

    الخطر الأساسي باختصار شديد: هو أن الجزء الأحدث من وجودنا (الوعي الظاهر ، والعقل الخطّى) قد تعملق حتى طغى فألغى كل، أو معظم إنجازات التاريخ الحيوي، لصالح تفوق ما يسمى العقل، وهو يلتحف بما أسماه الديمقراطية، معلقا لافتة كتب عليها حقوق الإنسان . لا شك أن الأحدث أقدر، لكن الذي حّول هذا الأحدث الأقدر ليصبح خطرا جسيما هو ما تورط فيه من زعم بأنه قادر وحده على دفع عجلة التطور.

    نحن لم نتعلم من انهيار الاتحاد السوفيتي إلا ما أسميناه "صحة الفكرة، وخيبة التطبيق". إن الذي حدث في الاتحاد السوفييتي وأوربا الشرقية هو الاعتماد على فكر حديث صحيح على حساب وعى غائر أثبت نجاحه في الحفاظ على التطور عبر تاريخ الحياة. إن الذي يحدث الآن على الجانب الآخر هو نفس الشيء تقريبا: لو تمادت أمريكا- ومن إليها- في اتباع ما يتصورونه غاية المطاف من أفكار ديمقراطية (بديلا عن ممارسة جوهر الحرية) وحقوق إنسان مكتوبة على الورق، لا بد أن ينتهي بها إلى ما انتهى إليه الاتحاد السوفيتي.

    لكن ثمة فرقا هاما: حين انتهى الاتحاد السوفيتي قفز خصمه شامتا وهو يتصور، ويصوِّر لنا، أنه الصحيح الأوحد المتبقي أمامنا لاختياره!!. لكن كل الدلائل التالية، آخرها هذا النذير من برج التجارة ثم أفغانستان فالعراق، تشير إلى أن انهيار ما تمثله سلطات أمريكا الحالية سوف يكون أكثر دويا وأخطر أثرا حيث لا يوجد بديل جاهز قادر بعد.

 

§          المواجهة الأساسية

    نحن نعيش الآن مواجهة أعمق من كل المواجهات التي عاشها الإنسان عبر التاريخ، لم تعد المواجهات فئوية أو قومية أو حتى دينية. نحن جميعا، بما أتاحته لنا وسائل الاتصال الحديثة، نعيش معا في مواجهة تحديات البقاء ضد الانقراض. قد تحدث حروب جديدة ، وقد تتجدد حروب قديمة، وهذه أو تلك إنما تعلن بقايا الاستقطابات القائمة، أو الماضية: من إسرائيل ضد العرب، حتى الكاثوليك ضد البروتستانت (أيرلندا)، مرورا بالشيعة ضد السنة (كما يجرى في باكستان أو الهند أحيانا) ، فضلا عن المواجهات الاستقطابية الفكرية المتعددة في كل المجالات (مجالات: الاقتصاد، والتطبيب، والأيديولوجيا، ،،،إلخ). لكن تظل المواجهة الأساسية، التي كانت طول عمرها قائمة، هي شغل الوعي البشرى، ما دام قد تصدى للتدخل في مسار تطوره. إن حسن استعمال آليات الاتصال الحديثة، مع بالغ خطورتها، هو الأمل في تصحيح شطحات وصاية الوعي البشرى الظاهر (وكذلك تصحيح أخطاء وغرور العقل البشرى المنطقي).

    البادي على السطح حتى تاريخه، هو استعمال هذه الآليات الأحدث لتزييف الوعي البشرى وتشكيله لصالح أقلية فقدت بصيرة انتمائها للنوع. لكن الجاري أيضا، وبشكل مواز، وربما أهم وأعمق، هو محاولات الإبداع المستمر لتصحيح المسار على مستوى البشرية، خاصة وقد أتيحت الفرصة لكل الناس أن يسهموا في المهمة، كلٌّ من موقعه، وبأدواته المتاحة.

 

§          مستويات المواجهة

    كل الناس عبر العالم، يبحثون عن منهج أقدر، عن ديمقراطية أصدق، عن علم أشمل، عن علاقة بالطبيعة أكثر تناغما، عن وعى فائق يحتوى كل ما كان، ليكون به وبعده، لا على حسابه. الناس يحاولون أن يتجاوزوا الخلاف حول المحتوى (أي دين وأي أيديولوجي، وأي نظرية)، ليتفاهموا حول المنهج (كيف نكون ، وكيف نفعل، كيف نتواصل)، لتحقيق إنسانية الإنسان وحفزه إلى ما يعد به.

    إن مواجهة أخطاء التطور التي زعمتما لا تتم على المستوى الأكاديمي أو المتخصص فحسب، ولا حتى على المستوى السياسي المتحكِّم، بل هي جارية طول الوقت عند كل الناس، (بما فيهم من يسمون المجانين، بل : وخاصة من يسمون المجانين).

الذي حافظ ويحافظ على بقاء نوع النمل والنوارس ، ليس المجلس الأعلى لبقاء النمل، ولا الحكومة المنتخبة لجمهورية النوارس، ولكنهم كل النمل، وكل النوارس.

    فيما يلي إشارة محدودة إلى خطوط بعض تلك الأخطاء التطورية الجارية (مجرد مثالين).

مثال (1) الخطأ الأول: إن اللغة الرمزية قد حلت محل اللغة الكلية (الجسدية، والحشوية، والجينية، والتجاوزية)

مستويات المواجهة ومحاولة التصحيح :

(أ) مستوى الخاصة: العلم المعرفي، والعلم المعرفي العصبي، وعلوم الشواش والتركيبية، والإبداع التشكيلي، وبعض الإبداع الحداثى، وما بعد الحداثى.

(ب) مستوى العامة : شك الناس في البيانات الكلامية، ، وعدم اقتصارهم على الحوار اللفظي، مع التفضيل أحيانا للحوار الجسدي، والاعتراف بالعرف مع أو بدون القوانين المكتوبة، والاعتماد على التجربة قبل التنظير (الطب غير التقليدي ، مثلا) ..إلخ.

(جـ) المواجهة السلبية: العودة للخرافة وبعض الجنون

 

مثال (2) الخطأ الثاني : إن الفكر الظاهر قد حل محل، الوعي الغائر أو استبعده، (علم النفس السلوكي) حتى الفكر الذي اعترف بوعي كامن، استعمل النفي لوصفه، (اللاوعي)، مع أنه لم يهمّشه (التحليل النفسي)

مستويات المواجهة ومحاولة التصحيح :

(أ) مستوى الخاصة: مدارس تعدد الذوات، وتعدد مستويات الوعي، وهيراركية تركيب الجهاز العصبي والنفسي، والتحليل التركيبي، والتفسير الغائي للسلوك (في الصحة والمرض)، وفنون الحكي، وفنون التشكيل، والتشخيص (في المسرح خاصة).

(ب) مستوى العامة: إحياء معايشة التراث الشعبي، واستلهام واحترام الوعي الشعبي، الذي يتعامل تلقائيا مع هذا التعدد في الكيان البشرى، سواء اتخذ لغة الحكمة الشعبية، أو اللغة الدينية، أو اللغة التصوفية، أو الممارسات الحدسية الشعبية المتجاوزة لأحادية الظاهر.

(جـ) المواجهة السلبية: إسقاط هذه الذوات المتعددة داخلنا إلى الخارج في صورة عالم الجان، و.. وبعض الجنون أيضا.

 

§          والباقى أكثر:

    أوقف نفسي قسرا خشية التمادي في هذا الإيجاز المخل في عرض أمثلة أخرى أكثر تحديا وأخطر أثرا، إن الإفاقة الواجبة تحتم علينا أن نعيد النظر أيضا فيما انتهى إليه ما هو "عقل"، و "تفكير" ثم "دين" و "إيمان" ... ، مرورا بهز آلهة جديدة مثل إله ما يسمى العلم، وإله زعم الديمقراطية ..إلخ. إن ما يهمني في هذه المقدمة هو مجرد التنبيه إلى أن مستويات المواجهة الثلاث (خاصة، وعامة ، وسلبية) هي جارية على قدم وساق في محاولة هز كل هذه المقدسات. خذ إشارة عابرة إلى: كيف يواجه الناس تقديس الديمقراطية بالعزوف عن المشاركة في الانتخابات أصلا (أحيانا أكثر من 50 % في البلاد المتقدمة التي تقدس الديمقراطية) ما معنى ذلك؟، أو خذ مثلا كيف يواجه العامة السلطة الدينية المغتربة عن الإيمان بما يسمى الدين الشعبي، وهكذا.

 

§          خلاصة القول :

1-     إن الإنجازات العلمية والتقنية الأحدث تستعمل في تزييف الوعي أكثر من مساهمتها في تحريك الإبداع لإنقاذ النوع.

2-     إنه يمكن تفسير الممارسات النكوصية التي ظهرت مؤخرا على مستوى الفكر والحرب جميعا (من "نهاية التاريخ" إلى "11 سبتمبر" إلى "حكم صدام" إلى "غزو العراق") باعتبارها النتيجة الطبيعية لهذا التزييف المنظم لـ"الوعي العالمي الجديد".

3-     إن محاولة تصحيح تلك الأخطاء التطورية جارية على كل المستويات بشكل تلقائي عنيد ، وإن كانت النتائج شديدة التواضع ومُهدَّدة بالإجهاض من القوى المتربصة.

4-     إنه كما تتولد غرائز سلبية جديدة من خلال تزييف الوعي، لا بد أن نعمل على توليد غرائز إيجابية جديدة لتحل محل الفشل المنتظر قريبا لهذا التعملق الزائف الآيل للسقوط بما يحمل من مقومات هدمه لنفسه.

5-     إن قضية الوجود البشرى هي قضية بقاء النوع وتميزه قبل وبعد أي أيديولوجية أو دين أو نوع حكم أو شخص حاكم. فهي قضية كل فرد دون استثناء.

    الدفاع عن البقاء لدفع التطور هو فرض عين في نهاية النهاية، إذا قام به البعض لا يسقط عن الباقي.

    وإلا ....،، فالانقراض لا يستثنى.

 

هوامش

 (1)  عار العالم، د. فوزي فهمي، مكتبة الآسرة، 2003

(2)   خدعة التكنولوجيا، جاك إلول، ترجمة: د. فاطمة نصر، طبعة سطور، سنة 2002

  (3) الانقراض "جينات سيئة أم حظ سيئ، دافيدم. روب، ترجمة: د. مصطفى إبراهيم فهمي، المجلس الأعلى للثقافة سنة 1998

 

سعيا وراء ترجمة جميع صفحات الشبكة إلى الإنجليزية و الفرنسية نأمل من الزملاء الناطقين بالإنجليزية و الفرنسية المساهمة في ترجمة هذا البحث و إرساله إلى أحد إصدارات الموقــع : الإصــدار الإنجليــزيالإصــدار الفرنســي

 

Document Code VP.0032

Rakhawy-Consc.Fals.

ترميز المستند  VP.0032

 

Copyright ©2003  WebPsySoft Arab Company www.arabpsynet.com  (All Rights Reserved)