|
|||
وهــم
اللاوهــم ... الوهــم الأكبــر
أ.د. يحيــى الرخــاوي
أستـــاذ الطـــب النفســـي
بجامعــــة القاهـــــرة E.mail :
info@mokattampsych.com |
|||
كنت مستغرقا في قراءة هذا
الكتاب «وهو
مترجم بأناقة ودقة بالغتين (د. فاطمة نصر) ضمن سلسلة إصدارات «سطور». وفي نفس
الوقت كنت أقوم بمهام ثلاث ارتبطت ـ بالصدفة ـ بهذا الملف الذي بين أيدينا في
هذا العدد.
المهمة الأولى عن «مفهوم أحدث للصحة النفسية» مما دعاني إلى إعادة
مواجهة الأوهام التي يروجها المخدوعون من العلماء من ضحايا شركات الدواء عن علم
اسمه السعادة، والتي تسوقها مراكز أبحاث لترويج البلادة تحت عنوان الصحة، الأمر
الذي يستلزم أن تُبَرْمَجَ عقول الأطباء لتكون مهمتهم الأولي هي ملء خزانة تلك
الشركات (الثانية
بعد شركات السلاح في
تسيير السياسة في العالم). المهمة الثانية فكانت
دعوة لتطبيق «المنهج العلمي في الحياة اليومية» حيث أعدتُ اكتشاف
الأوهام المحيطة بتقديس كثير مما يسمي المنهج العلمي. المهمة الثالثة فقد
استلزمت مراجعة التاريخ الأحدث لما يسمي «العلم المعرفي» الذي
أعلن هرطقتين متتاليتين اعتُبِرتا تجديفا في «دين التفكير المنطقي الخطّي
الرمزي»، وكذلك في: «دين العقل الوصي الظاهر (الهرطقة الأولي: التفكير ليس
بالرموز فحسب. والهرطقة الثانية: المعرفة ليست فقط في الدماغ ـ تعبير هرطقة ليس
من عندي ـ). هكذا
وجدتُني محاصرا بعدد من الأوهام الحديثة لم أعرف من أيها أبدأ. غير أنني
فجأة نظرتُ في أوهامي الشخصية، فانتبهتُ إلى حقي في التمسك بها رغم كل
شيء!! ما الحكاية؟ من هنا جاءت فكرة المقال. §
الوهم،
والحلم، والخيال، والإبداع لابد أن نفرّق
ابتداءً بين الاستعمال الشائع للفظ ما، والاستعمال الموضوعي والاستعمال
المغرِض، لنفس اللفظ. الاستعمال الشائع لكلمة «الوهم»
يشير إلى المعتقد أو المُدرَك الذي يفيد ما هو غير حقيقي، وكأننا نعرف بوضوح
تعريفا جامعا مانعا لما هو «حقيقي» بما يسمح لنا أن نعدّ وهما ما هو «ليس كذلك».
والاستعمال الشائع للفظ الخيال يشير إلى أنه النشاط الفكري الذي يتجاوز
التفكير الذي يعرّف عادة بأنه «حل المشاكل»، فالخيال ـ بصفة عامة ـ هو نشاط أشبه
باللعب العقلي المتحرر من التزامات الواقع، وأيضا هو نشاط غير ملتزم بالتوجه إلى
استكمال لُعبِه بالتجمع في تركيب جديد (الخيال بما هو كذلك، ليس مُلزما بإكمال
المسيرة إلى ما هو: إبداع). والاستعمال الشائع للفظ «الحلم»
يشير إلى ما يحدث أثناء النوم مما قد نلتقط بعضه عفوا قبيل اليقظة، فنصيغه
ليعوّضنا ما لا نجرؤ على صياغته أو مواجهته في يقظتنا الكاملة، وهو (الحلم) يقوم
بإعلان بقية مواقف وجودنا (ثم إنه إذا أضيفت إليه صفة اليقظة، «حلم اليقظة» فإنه يشير إلى ضرب من الخيال.) كل
ذلك يحتاج إلى مراجعة على الوجه التالي: الوهم ليس كله ضد الواقع، ولا هو غير الحقيقي، فهو حقيقةٌ
نفسيةٌ مصنوعةٌ، ومفيدةٌ أحياناً، بل وضرورية في كثير من الأحيان. والخيال ليس لعبا
حرا صرفا، بل هو تخطيط بديل، حتى لو لم ينته لتوه إلى حلٍّ لمشكلٍ أو
تخليقِ إبداع. والحلم ليس هو ما
نحكيه بعد يقظتنا، ولا هو حلم اليقظة الخيالي. الحلمُ وعي آخر. هو واقع
ممتد إلى ما بعد اللحظة الراهنة المعروفة لوعي اليقظة، ليس بغرض التأجيل في
مزاعم مستقبلية، وإنما بمعني معايشة إرهاصات استكمال مسيرة التطور والنمو. يحدث
هذا في النوم، واليقظة، والثورة، والإبداع على حد سواء. §
حق
التأجيل، وحق العمي لا يمكن
بداهة أن أتناول كل هذه المُراجعات بالتفصيل في هذا الحيز المحدود، فأكتفي بأن
أشير ابتداء إلى أننا يمكن أن ندافع عن الحق في الحلم، والحق في الخيال، باعتبار
أن الأول «واقع آخر»، والثاني «تمهيد للإبداع»، ولكن هل يمكن أن يكون ثَمَّ حق
في الوهم؟ الإجابة
هي بالإيجاب. نعم: من حق الإنسان أن يعتقد، بل ويؤمن، بغير الحقيقة، بل إنه ليس
حقا فقط، بل قد يكون هو السبيل الوحيد للتوجه الجاد المثابر نحو الحقيقة. لا أحد
يصل إلى الحقيقة، ولا يمكن لأحد أن يقترب منها إلا إذا مرّ بسلسلة من الأوهام،
يقشّرها الواحد تلو الآخر، وهو يتعري بشجاعة عشاق الحياة ممن قرروا خوض تجربتها،
فيقترب أكثر، كلما قشّر أوهامه المشروعة أكثر، لكنّه لا يصل أبدا إليها. شروط
الوهم الإيجابي نحن
نتكلم الآن عن مسيرة الأفراد على طريق النمو والتطور، وحقهم المشروع في الأوهام،
ولا نتكلم عن تشويه الجماعات بالإيهام المصدَّر من متاجر الاستغلال والاستعباد
والاغتراب. الوهم ضرورة نمائية للفرد في أي من مراحل نموه، وهذا شيء آخر غير
الأوهام المفروضة من خارجه لأغراض مشبوهة. يكون الوهم حقا دفاعيا للفرد إذا
توفرت فيه الشروط التالية: (1) أن يكون تلقائيا نابعا من احتياج الفرد في مرحلة معينة من مراحل
نضجه. (2) أن يكون عائده لصالح استمرار الفرد (متكيفا مع من حوله، منتجا
لاحتياجاته، مواصلا لمساره). (3) أن يكون الفرد غير واعٍ بحقيقته الأعمق (حيث جذوره هي راسخة في
اللاوعي أساسا). (4) أن يكون الفرد مقتنعا هو شخصيا بحقيقة ظاهر هذا الوهم الغائر. (5) أن يكون هذا الوهم احتمالا واردا عند كل، أو معظم، الناس الذين
يمرون بمثل مرحلة النضج هذه. (6) أن يكون
مرحليا، بمعني أن يرتبط عمره الافتراضي بأداء مهمته الدفاعية، في تلك المرحلة
فقط. مقاومة
مشروعة لا أحد
منا يريد أو يستطيع أن يتصوّر أنه يمكن أن يبني وجوده وتماسكه على أساس خاطئ
مهما قدّمنا تبريرات لذلك، خذا المثل العامي الذي يقول معناه «لو أعادوا توزيع
عقول الناس فلن يقبل أحد إلا عقله، ولو أعادوا توزيع الأرزاق فلن يرضي أحد
برزقه». هذا المثل يفيد أن كل واحد يعتقد أنه على صواب مطلق، وبالتإلى فحين
نلوّح له أنه من الممكن أن يكون قد أوهم نفسه، ولو بما يفيده، ولو بغير وعي،
فإنه يرفض عادة، وقد يحتج ويهاجمِ. الحاجة
إلى الوهم ألمحنا
حالاً إلى أن مواجهة الحقيقة مستحيلة، بقدر ما أن الحقيقة نفسها مقولةٌ لا تعدو
أن تكون فرضا واعدا لا أكثر. من هنا يمكن فهم لماذا يحتاج الإنسان إلى سلسلة من
الأوهام يدبر بها حاله إلى أن يحين الحين الذي يستطيع فيه أن يتحمّل أكثر فأكثر
جرعات من الكشف أوضح وأقسي، أثناء سعيه في اتجاه حقيقة محتملة. هذا هو قانون
النمو الأزلي. إن تاريخ الحياة كلها ليس تاريخ الصدق أو العدل أو الفكر السليم،
إنه تاريخ التأقلم مع المحيط. ومن هنا فإن أي وسيلة تساعد الكائن الحي على
التأقلم مع محيط ما، في زمن بذاته، هي وسيلة مقبولة وجيدة حتى لو كانت ضد
الحقيقة، أو ما نتصوره حقيقة. إن
القبول بظلامٍ مرحلي هو السبيل إلى الوصول إلى نور نسبي، ثم سرعان ما نكتشف
عجزنا عن الاستمرار في تحمل بهر الحقيقة، فنطفئ بعض أنوارها بأوهام جديدة، حتى
نتمكن من مزيد من الرؤية لاحقا، وهكذا. ولكن
كيف يتطور الأمر من الوهم إلى التعري إلى المواجهة إلى وهم أرقي، وهكذا؟ ...« هل يعرف أحدكُمو كيف يضلُّ الإنسانْ؟ كيف
يدافع عن نفسه، إذْ يغلق عينيه وقلبه؟ إذْ يقتل إحساسَهْ؟ كيف يحاولُ بالحيلة
تلو الأخري، أن يهرب من ذاته، ومن المعرفة الأخري، كيف يشوِّهُ وجه الفطرةْ، إذ
يقتله الخوف؟ كيف يخادعُ أو يتراجعْ؟ وأخيرا يفشلُ أن يطمسَ وجهَ الحقْ.. إذْ
يظهر حتما خلف حطام الزيف؟.» هذا بعض
ما كتبتُهُ في مقدمة محاولتي أن أرسم ما يمثل مراحل وأزمات تطور الفرد، وهو
يتراوح بين العمي المشروع والرؤية المؤلمة التي قد تحتد إلى حد المرض. كان ذلك
في أطروحتى الأساسية عن «دراسة في علم السيكوباثولوجي». بالرجوع إلى نفس المتن،
نجد إيضاحا أكثر لهذا الاضطرار المبدئي للجوء إلى الوهم قبل أن يستنفد أغراض
المرحلة فتحدث التعرية، وياهول الرؤية، ثم من جديد. يقول نفس المتن: «مُذْ
كنتُ وكان الناسْ...، وأنا أحتالُ لكي أمضي مثل الناسْ، كان لزاما أن أتشكّلْ،
أن أصبحَ رقماً ما، ورقة شجر صفراء، لا تصلح إلا لتساهم في أن تلقي ظلاَّ أغبرْ،
في إهمالٍ فوق أديم الأرضْ، والورقةُ لا تتفتحُ مثل الزهرةْ، تنمو بِقَدَرْ، لا
تُثْمِرْ، فقضاها أن تذبلْ، تسقطْ، تتحللْ، تذروها الريح بلا ذكري. كان على أن
أضغط روحي حتى ينتظم الصف، فالصف المعوج خطيئة، حتى لو كانت قبلتنا هي جبلُ
الذهبِ الأصفرْ، أو صنم اللفظ الأجوفْ، أو وهج الكرسي الأفخمْ، كان على أن أخمد
روحي تحت تراب «الأمر الواقع»، أن أتعلم نفس الكلمات..، وبنفس المعني، أو حتى من غير معان» (انتهي) ثم تكون
الأزمة حين يتعري جزء من الوهم ليواجه الإنسان طبقةً أعمق من جوهر حقيقته، لتصل
الأزمة أحياناً إلى ما قد يسمي مرضا، وإن كان ليس بالضرورة كذلك: «...
ترتطم الأفلاك السبعةْ، يأتي الصوت الآخرُ
همساً من بين قبور عفِنَةْ،... يتصاعدُ.. يعلْو.. يعلُو.. كنفيرِ النجدةْ. وأمام
بقايا الإنسانْ، أشلاء النفسِ ورائحة صديدِ الكذبِ وآثارِ العدوانْ، تغمُرُني
الأسئلة الحيري: لمَ
ينشَق الإنسانُ على نفسهْ؟ لِمَ يحرم حق الخطأ وحق الضعف وحق الرحمهْ؟ لِمَ يربط
عقلهْ.. بخيوط القهر السحرية؟ يمضي يقفزُ يرقدُ يصحُو.. بأصابعهمْ خلف المسرح،
ويعيد الفصل الأول دون سواه، حسب الدور المنقوش، في لوحٍ حجرٍ أملسْ، رسمتهُ
هوامٌّ منقرضة، فيضيع الجوهرْ، ويلف الثور بلا غايةْ، وصفيح الساقية الصَّدِئَة،
يتردد فيه فراغُ العقل، وذلُّ القلب، وعدمُ الشيءْ...، ونضيعْ؟ لكنّ هواءً
مثلوجاً يصفع وجهي، يوقظ عقلي الآخرْ، ويشلُّ العقلَ المتحذلق، يلقي في قلبي
الوعي، بحقيقة أصل الأشياء.... يا ويحي من هولِ الرؤيةْ». المفروض أن هذه الرحلة
تتكرر أثناء النمو بانتظام، خلاصتها تقول: «إنه بقدر ما أن الوهم ضروري، فهو
مرحلي، إن كان لمسيرة النمو أن تستمر». كل هذا
على مستوي الأفراد، بعيداً عن دائرة الوعي (في اللاشعور). هذه الدفاعات التي
تبعدنا عن الحقيقة هي أقرب ما يكون إلى ما يسمي «الحيل النفسية Mental Mechanism وميزتها (وعيبها
أيضا) أنها تحدث خلف دائرة الوعي. لو أن
أي واحد منا تعمّق قليلا، بشجاعة متوسطة (لا سيما وهو نصف يقظ) فسوف يكتشف أنه
يؤمن بعدد من الأوهام لا يمكن أن يتصور أنه فعلا يعتنقها، وهو عادة لا يستطيع أن
يصرح بها ولا حتى لنفسه، فهي تحفظ له ماء وجهه أمام نفسه، وقد تبرر بعض فشله، أو
تهدئ سرَّه، حتى تمكنه من الاستمرار إلى أن تأتي فرصة أفضل للتعري، والألم
الإيجابي، فالاستيعاب. سوف
أعرض فيما يلي بعض الاحتمالات التي يمكن أن يكون داخلُك ــ مثلي عزيزي القارئ ــ
يعتنقها دون أن ندري. كل ما أرجوه هو ألا تسارع بالإنكار الفوري، وحتى لو سارعتَ
بهذا الإنكار الذي هو حقك، فأرجو أن تلاحظ أنك قد تتمادي إلى أن تقول «يجوز، قد
يكون كل الناس كذلك، إلا أنا»، لا مانع. إليكَ بعض المعتقدات المحتملة التي لا يبرّئ
الكاتب نفسه ــ طبعا ــ من الاعتقاد فيها، وقد تبين له ذلك وهو يضبط نفسه متلبسا
ببعضها أو بأغلبها، بفضل مرضاه في الأغلب: (1) كل الناس يحبونني. (2) أنا أحب كل الناس. (3) لا أحد يحبني. (4) لا أحد يراني. (5) أنا وحيد رغم كل هذا. (6) أنا مظلوم لم آخذ حقي كما ينبغي. (7) لو أتيحت لي الفرصة لكنتُ أفضل من ذلك بكثير. (8) لا أحد يحبني إلا لغرض. (9) لا أحد يريدني. (10) لا أحد يراني كما أنا. (11) لا يوجد من يعرفني على حقيقتي. (12) لا شيء يعين. (13) لا يهمني في هذا العالم إلا ما ينفعني. (14) هذا العالم مخلوق لي. (15) هذا العالم لا يصلحُ لي. (16) حتما.. سيتركونني ولا يعودون..». (17) لا أحد يتألم مثل ألمي. (18) أنا وحدي الذي أعرف الحل. (19) ليس صحيحا ما يظنونه في. (20) إن رسالتي في الحياة هي إصلاح الكون ولو وحدي. (أكتفي بهذا القدر). ]آسف عزيزي القارئ، هذا أنا ليس أنت، «جرّبْ أنت بنفسك، واحدة
واحدة، واكتشف من أوهامك ما تشاء، وارفضني كما تشاء[. التفرقة
واجبة إذا كان
الأمر كذلك بالنسبة للفرد، وكانت مثل هذه الأوهام أمرٌ طبيعي بالشروط التي
ذكرتُها حالا، (أن تكون مفيدة، ولا شعورية، ومرحلية) فهل مثل ذلك يصلح للمجتمع
عامة؟ بمعني: هل تحتاج مجاميع عامة للناس في مراحل نموها المختلفة أن تعتقد في
معتقدات خاطئة، لكنها مفيدة، وربما مرحلية، وهل تمثل الأيديولوجيات عبر التاريخ،
وربما بعض الأديان (الأرضية خاصة) مثل ذلك أحياناً؟ وإذا كان الأمر كذلك فما
خطورة الأوهام الجماعية بصفة عامة، ولماذا نصر على المبادرة بشجبها، ومحاولة نزع
الأقنعة عنها، والاستغناء عن خدماتها؟ بالنسبة للمجموع دون الأفراد؟ يبدو أن
الجماعات ــ مثل الأفراد ــ قد اخترعوا أوهامهم من واقع احتياجهم، ومن إفرازات
ثقافاتهم المختلفة عبر التاريخ، فكانت الأساطير التي أدت وظيفتها كأروع ما يكون،
حتى حلت محلها الأساطير الحديثة الألمع بريقا، برغم أنها أقصر قامة، وأكثر
جفافا، وأكبر غرورا، بعض هذه الأساطير الحديثة هي الأوهام المُعَوْلَمَة
المطروحة حاليا، لكنّها بعكس الأساطير القديمة، لم تنشأ من نسيج وعي
ثقافة بذاتها، ولم تنضج على إيقاع زمن هادئ قادر على استيعاب احتياجات وعي الناس
على مستوياته المتعددة. إنها أوهام جديدة مُقحَمةْ لا تتصف بأي صفة من الصفات
التي تجعلها آليات دفاعية مثلما كانت الأساطير عند أجدادنا، أو مثل الحال عند
الأفراد حتى الآن. فيما
يلي محاولة لتمييز بعض الأوهام الجماعية الأحدث (تمييزها عن الأوهام الفردية
المشروعة): أولاً:
هي مصنوعة، وليست دفاعات تلقائية. ثانياً:
هي مفروضة من ثقافة مفتونة بذاتها، سجينة غرورها، ثقافة لا تتميز إلا بقوة
أسلحتها، وعلو صوتها. ثالثاً:
هي مدعمة بأساليب تقنية حديثة تحافظ على بقائها، بل على دوامها (فهي مغلقة
النهاية!!). رابعاً:
هي مغرضة تخدم السلطة التي أصدرتها فقط. خامساً:
هي صادرة عن جزء محدود من الوعي البشري (العقل الظاهر المبرمج) دون سائر مستويات
الوعي الممثلة لتاريخ التطور ونجاحات صراع البقاء. سادساً:
ثم إنها تبدو لأول وهلة حسنة المظهر والسمعة (تتسمي بكلمات آسرة مثل الرفاهية،
والوفرة، والديمقراطية، وحقوق الإنسان، والسعادة!!). سابعاً:
هي نتاج عقول فردية مسخرة لغيرها، وليست نتيجة شبكة وعي جماعي، ثقافي، حيوي،
متداخل، متفاعل، حريص على بقاء النوع وتطوره. ثامناً:
هي سريعة الإيقاع منْقَضَّةُ الإغارة. تاسعاً:
هي تتغذي من نفسها لنفسها بنفسها، فهي تتضاعف بالقصور الذاتي والنمو الأُسِّي
المتمادي. عاشراً:
هي تُغذي بعضها بعضا، كما أن وسائل كل منها تدعم بعضها بعضا (أكاذيب الإعلام
تغذي ألعاب التكنولوجيا، وعصف المخ بالإعلان يؤجج أوهام السوق، وتعصب العلم
المؤدلج يغذي أوهام الرفاهية، وأموال شركات الدواء والسلاح، وفلسفات نهاية
التاريخ، وأفكار صراعات الإبادة، تغذي إقفال دورات النمو كل يوم مع إقفال بورصات
الأوراق المالية!!). حادي
عشر: إنها أوهام تتأبي أن، أو تراوغ حتى لا، توضع موضع الاختبار المناسب في
الوقت المناسب، وبالتإلى فهي عصية على التعديل بما يسمّي «المردود» Feed-Back، مما يثبت
مضاعفاتها. هذه
التفرقة الحاسمة بين مشروعية وضرورة الوهم الفردي الدفاعي المرحلي، في مقابل
خطورة الأوهام الجماعية (الكوكبية المُؤَمْرَكَةْ خاصة) المصنوعة المغرضة، هي
شديدة الأهمية في الوقت الحاضر إذا كان لنا أن نأمل في أي خلاص من ورطة
تَعَمْلُقِ جزء من الوجود البشري، ومن الدماغ البشري، ومن التاريخ البشري، على
حساب الكل الحيوي طولا وعرضا. إذا كان
ثم أمل فلابد أن تكون لدينا الشجاعة أن نرُاجع كل ما نحن فيه، وما هم فيه،
وخصوصا ما يتمادي منه ذاتيا بالرغم من انتباه أغلب الناس إلى مخاطره.
(التكنولوجيا العمياء، والعلم المقدس، والإعلام المغرض، والإغراق بالمعلومات دون
تمييز... إلخ). فضلٌ لا
شكر عليه أشعر بالامتنان
الشديد لاثنين معاصرين ــ خيبهما الله ــ حين أتصوّر أنهما قدّما لنا، على الرغم
منهما ــ أهم ما ينبغي أن نلتفت إليه، الأول هو «فوكوياما» الذي أعلن بالأصالة
عن نفسه، والنيابة عن سادته أن التاريخ قد انتهي بفوز الأقوي والأثري. هذا الوهم
اليقيني تم تفعيله بشكل عارٍ حين أتيحت الفرصة للسيد دبليو أن يمارسه بفجاجة
بذكائه المتواضع، فقام بتفعيل وتعميم غطرسة القوة تُمَارَس بأقسي وأغبي أساليب
أحاديي النظرة. هذا وذاك ــ عندي ــ من إنذارات الانقراض. وهل يصح
أن ننكر فضل من أطلق صفارة الإنذار حتى لو لم يقصد؟ العلم
وهم مشروع، إلا إذا... على
النقيض من أوهام السياسة العاتية خاصة المرتبطة بضحايا الحروب الغبية والاستغلال
البشع، يمكن أن ننظر إلى العلم نظرتنا إلى الأوهام الفردية باعتباره وهما مشروعا
مادام قابلا للتفنيد فالمراجعة فالتجديد. لا يكون وهم العلم خطرا إلا حين تنقلب
المعطيات العلمية إلى مقدسات لتصبح دينا متجمدا ليس أقل جمودا من تقديس أوهام
التسلح مع اليقين بعدم جدوي استعمال السلاح، أو أوهام الديمقراطية مع تسليم
مفاتيح اتخاذ القرار للقوي السرية، أو أوهام حقوق الإنسان المكتوبة دون
الممارسة، أو أوهام الحل التكنولوجي المتضاعف أُسّيا في ذاته بذاته. شعارٌ
مختزل = وهمٌ محتمل حين يصل
الإلحاح على تقديس النظريات السياسية والاقتصادية وحتى الفكرية إلى حد الإجماع
(كما يريد المعَوْلِمُون لحساب أمريكا) يتطلب الأمر مراجعات كثيرة، وقوي مضادة
عليها أن تتجمع ــ دون كلل ــ لإنقاذ البشر من غوايات القوة والتبعية معا. إننا
أحوج ما نكون إلى نقدٍ لا يتوقف عند تعرية الأوهام بل يطرح بدائل قابلة للتنفيذ.
علينا أن ننتبه ألا نلقي السلة بالطفل الذي فيها. ليس معني أن نعري التكنولوجيا
أننا نريد التخلص منها أو أننا نستطيع الاستغناء عنها. تبدأ
اليقظة من التوصية بأن نعتبر أن «أي شعار مختزَل: هو وهم محتمل». خذ عندك:
«العلم هو الحل»، «التكنولوجيا هي الحل»، «الهندسة الوراثية هي الحل»، «الصحة
النفسية هي الحل»، «الإسلام هو الحل»، «التراث هو الحل»، «الفطرة هي الحل»،..
إلخ. بمجرد أن تسمع مثل هذه المقولات، لابد أن تمد يدك إلى سلاح وعيك الناقد،
استعدادا لممارسة جهاد إبداعك قبل أن يفوت الأوان. أنا لا أعرف حلا، ولكنني
أتسلم الرسالة مع تكرار مشاهدة السيد بوش على الشاشة، أو قراءة تصريحاتهم عن
إرسال المدرسين الخصوصيين لتعليمنا مبادئ الديمقراطية والسلوك السياسي المهذب.
من ذا الذي يستطيع أن يتلقي هذه الرسائل دون أن ينفخ في نفير التعبئة العامة
لإنقاذ البشر؟ خاتمة إننا
أحوج ما نكون لمعرفة أن خوض تجربة الحياة الذي يسمح للأفراد أن يحتموا بأوهامهم
المرحلية، هو الذي يلزم الجماعات بالإسراع بهز أوهامهم قبل أن يفوت الأوان. إن
تصارع أوهام الأفراد وجدلها مع بعضها البعض هو الذي يقوم بتصنيع نسيج الثقافة الخاصة بكل جماعة في مرحلة
تاريخية بذاتها، هذا النسيج القادر على استيعاب أوهام الأفراد لتصبح واقعا
متحركا في حلمٍ قابلٍ للتحقيق في صحوة ممتدة. لكنني أخشي أن نستبدل بالأوهام
التي يفرضها علينا من لا ينتمي إلينا وإلى البشر، أوهاما أخري أكثر تخلفا وأشد
تصلبا. إننا إذا فعلنا ذلك فنحن ــ بقصد أو بغير قصد ــ نساهم في تماديهم في
السيطرة والتفوق لحساب انقراض الجنس عامة، واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا
منكم خاصة. لا
ينبغي أن يقتصر دورنا على المطالبة بحقنا في استعمال أدوات التقدم لنصنع بها ما نستطيع من وجهة
نظرنا. المطلوب هو أن نتخذ نحن وهم معا موقفا نقديا من كل هذه الأدوات،
والفلسفات، والتقنيات جميعا، نحن معهم في خندق واحد، خندق التهديد بانقراض النوع
البشري، وقد بدأوا فعلا هذا النقد الجاد (مئات المخلصين المرعوبين من الجاري الواعين بالمأزق (من أمثال جاك
إيلول «خدعة التكنولوجيا» وجوزيف كامبل «سلطان الأسطورة» وجورج لاكوف «الفلسفة
في اللحم الحي») والدعوة عامة لكل البشر. هذا هو الجهاد الأكبر. |
|||
سعيا وراء ترجمة جميع صفحات الشبكة إلى الإنجليزية
و الفرنسية نأمل من الزملاء الناطقين بالإنجليزية و الفرنسية المساهمة في ترجمة
هذا البحث و إرساله إلى أحد إصدارات الموقــع :
الإصــدار الإنجليــزي –
الإصــدار الفرنســي |
|||
|
|||
Document Code VP.0005 |
ترميز المستند VP.0005 |
||
Copyright ©2003 WebPsySoft ArabCompany,
www.arabpsynet.com (All Rights Reserved) |