Arabpsynet

وجهـات نظـــر /  Points of View

شبكة العلوم النفسية العربية

 

مـخـاطــر استيــراد الأفـكـــار والمنـاهــج والمشـاكــل

أ.د. يحيـى الرخــاوي

أستــاذ الطــب النفســي –  جامعــة القاهــرة

Email : info@mokattampsych.com

وجهــات نظــر – عــدد 25

 

q      النص الكامل   Full text / Texte  entier / 

 

    خطورة استيراد الأفكار، والمناهج، بل والمشاكل، أخطر بكثير من الإفراط في استيراد حاجاتنا الاستهلاكية. لن أتكلم عن عجز ميزان مدفوعات التبادل الفكري لصالحهم، لأن أغلبنا يتصور أنه ليس عندنا ما نصدره إليهم أصلا، (إلا ما لا يحتاجونه، مثل الفخر بالماضي، والزعم بأخلاق أحسن، وما شابه)، مع أنهم أحوج ما يكونون إلى ما يمكن أن نضيفه إليهم، والى المسيرة البشرية عامة، رغم ما نحن فيه من فقر وبدائية.

    سوف أكتفي بالتحذير من ظاهرة استيراد واجتزاء الأفكار، تلك الظاهرة التي تستنزف جهدنا ووقتنا ومالنا (أو مالهم الذي يمنحوننا إياه لنفعل ذلك). ثم إنها تخدعنا في النهاية، إذ نتوهم من خلالها أننا نبحث، وأننا نفكر، وأننا نتكلم لغة حديثة ما دمنا نتبادل رطانا له نفس أصوات- لا مضمون- لغتهم.

    بداية أود توضيح ما أعنى بهذا المدخل: استيراد الأفكار غير الإلمام بفكر الغير، وغير الاطلاع عليه، وغير ترجمته، وغير الحوار معه. أعنى بالاستيراد: اقتناء فكرة من عندهم، سابقة التجهيز، كاملة المعالم، نشغل بها وعينا، ووقتنا، فتحل تماما محل ما يمكن أن يتفتق في أذهاننا بما هو نحن.

    يختلف استيراد الأفكار اختلافا جذريا عن مواجهة فكر الغير لاستيعابه، وتحريك ما يقابله أو يعارضه أو يكمله أو يعدّله. نحن عادة ما نستورد الأفكار والمشاكل دون تمحيص. نستوردها ليس بما هي وإنما: (1) بما شاع عنها، أو (2) بما ذاع منها، أو (3) بما اقتطف منها، أو (4) من خلال شجبها بما ليس فيها، أو(5) بما نتصوره نحن عنها إذ نعيد صياغتها (حسب التساهيل)، أو (6) بما يحقق لنا الغرض من استيرادها، (سدا لنقص، أو إيهاما بحداثة)، أو بكل ذلك، دون الرجوع إلى أصلها. أغلبنا يعرف عن الشيوعية ما طبقه ستالين لا ما كتبه ماركس ولا حتى ما كتبه ستالين نفسه (فما كتب غير ما جرى)، ويعرف عن التفكيكية ما شاع من اللفظ وما ذاع عن دريدا لا ما قاله وكتبه وعدل عنه وطوّره، ويعرف عن فرويد ما تقوله مسلسلات التليفزيون وأحيانا من هجوم خطباء المساجد أو فتاوى بعض الأطباء وهواة التحليل، لا ما ذهب إليه فرويد وعدل عنه، وتجاوزه. ويعرف عن داروين ما كفر به لا ما "كانه ". و يعرف عن بيولوجية المرض النفسي ما نقبله يقينا سببيا، وهو مازال فرضا تحت الفحص.

    ثم إن أغلبنا يجتزئ من الديمقراطية ما يفيد اختيار الأقرب والأجهز للخدمات الخاصة والمجاملات، دون معنى المشاركة في صنع القرار واحتمال تبادل السلطة. كما يجتزئ من الاقتصاد الحر سعار التنافس والجمع التراكمي دين الالتزام الاجتماعي. وفى النقد الأدبي قد تبهرنا ملامح من التفكيكية بعد البنيوية، فنستغني بهما عن إعادة إبداع النص من خلال قراءة مسئولة. وفى الأمراض النفسية نجتزئ من فكر التحليل النفسي الفرويدي فكر التبرير دون إزالة الوقفة للانطلاق.

     اختزال الأفكار أو قص بعضها دون الإحاطة بها، لأن ثمة مستويات أخطر للاستيراد ومنها استيراد المشاكل التي لا تعنينا في شيء حتى لو كانت الأهم لديهم.

    إن الأفكار والمدارس والفروض التي يعلنونها ويبحثون فيها وبها إنما نشأت عندهم نتيجة لتطور طبيعي، في مواجهة مشاكل قائمة عندهم فعلا. هذه المشاكل عادة كانت مرتبطة بحلول (وأفكار) كانت مطروحة من قبل، وفشلت تلك الحلول في التعامل معها، فتحرّك الوعي وغامر بمخاطرة الإبداع من واقع الممارسة، فخلق لهم، من واقعهم، هذه الأفكار المتجاوزة أو الفروض الواعدة.

    ولكي نوهم أنفسنا بأن ما استوردناه من أفكار ورؤى هو صالح لاستعمالنا الخاص ("الاستعمال الآدمي" بلغة الاستيراد) نقوم باصطناع مشاكل مثل التي كانت سببا في بزوغ هذه الأفكار عندهم، ثم نقوم بحشرها جاهزة في خيالنا باعتبارها منا، بل إن الاهتمام المتكلّف بها، وكثرة الحديث عنها قد ينقلها من هامش هي جديرة به إلي بؤرة انتباه لا تستحقها، لتصبح مشاكلنا نحن دون تمحيص، أو إعادة نظر.

    نحن نبتدع اهتماما بمشاكل لم تصدمنا، أو تتواتر لدينا، بالقدر الذي يبرر ما نوليها من أهمية لمجرد أنها أصبحت بدعة مكررة لها ما يبررها لديهم، مشاكل يتواتر ذكرها أكثر فاكثر في دورياتهم، مما لا يعنى بالضرورة أنها لابد أن تعنينا في قليل أو كثير، ولعلها لا تعنينا أصلا.

    يدخل في مسألة استيراد المشاكل هذه عوامل كثيرة غير مجرد التقليد وادعاء التحديث والرغبة في الحصول على رضاهم السامي بالسماح لنا بالنشر عندهم بلغتهم، وإنما قد يساهم في ذلك موقفهم هم من نوعية الدعم المتاح، والتوجيه المباشر وغير المباشر، والفرص التي تتاح لمن يتكلم بلغتهم، وينحو نحوهم، حتى لو ضاع عمره وجهده ووقته فيما يخصهم دون ما يخصه أو يخص ناسه الأقربين.

    قد توجد عندنا نفس المشكلة، لكنها ليست بنفس الأهمية ولا بنفس الحجم ولا بنفس المضاعفات التي تجعلنا نترك كل مشاكلنا لنولي هذه المشكلة كل الاهتمام الذي يولونه إياها.

    يبدأ الإعلام عندهم بالتنبيه إلى خطورة مشكلة ما، وتفاقمها، وتزايدها، ثم تتبع ذلك الأبحاث العلمية (وشبه العلمية)، وهات يا تمويل، وهات يا تخطيط، ثم تمتلئ الدوريات العلمية بالحديث عن الموضوع، ثم ينتقل التسويق للدوريات العامة، ويصل الأمر إلى تفصيل التفصيل، أو ما يسمى لديهم "شق الشعرة".

    يقرأ الحاذق منا، المتابع المطلع، كل هذا، فينتبه، وينبهر، ومادام يريد أن يلجم اللغة الحديثة، ويشارك في الوليمة الجديدة، وأن يرى اسمه بين أسماء هؤلاء الثقات، فهو يندفع إلى ما اندفعوا إليه، بغض النظر عن قيمة ما يفعل في مجتمعنا هذا، في وقتنا هذا. على حساب ماذا (؟!!).

    ثم إن السادة الذين قد يموّلون الأبحاث هم الذين يجيزون النشر المحكّم، وهم الخصم والحكم، (ليس الخصم بمعنى الخصام، ربما بمعنى الاختصام) وهم مشغولون بما يشغلهم، وهم يرحبون، أو يوعزون لنا، أن ننشغل معهم بما يشغلهم، ربما من باب اللياقة أو الوجاهة، ثم لعلنا نضيف لهم معلومة شاردة يحتاجونها لتكملة الصورة أو تزيينها، "شقفة"صغيرة يسندون بها زيرهم المليء بما يهمهم، (الشقف الخزف، أو مكسّره، الواحدة شقفة. الوسيط). لكننا ونحن نعطيهم هذه الشقفة يسندون بها زيرهم، نكسر من أجل ذلك "زيرنا" الذي نشرب منه، (طلب الغني شقفة كسر الفقير زيره، كات الفقير وكسة، يا سو تدبيره)، ويا ليتهم يأخذون منا الشقفة (نتائج أبحاثنا) ليسدوا بها حاجة حقيقية، فهم يعلمون تمام العلم أن الاختلافات الثقافية والحضارية لا تسمح بنقل النتائج بما هي، كما أنهم يعلمون- بوعي أو بدون وعي- خطأ نقطة بدايتنا التي تجعل جهدنا مهما بلغ لا يستأهل إلا الطبطبة، وأنه "برافو"، وقد يولوننا بعض المناصب الشرفية أو الدورية من باب الديكور العولمي.

    إنهم لا يطلبون منا- عادة- أن ندرس مشاكلهم، لكننا نحن الذين نندفع لاختلاق مشاكل مثل مشاكلهم، ونتصور أنها على نفس درجة الأهمية، حتى نضمن أن يسمعوا لنا.

    يراودني- مستعيذا بالله من التفكير التآمري- ظن سيئ يقول: إن بعض خبثائهم قد يطلبون ("شقفتنا" المتواضعة، مقابل أن يمولوا الجهد المبذول للحصول عليها، وهم يعلمون أننا سوف نسارع بكسر الزير إرضاء لهم. فنحصل على منحهم، ورضاهم، وجوائزهم، ثم نموت نحن من العطش والتبعية. بعد أن نسكب على الأرض وقتنا ووعينا، وفكرنا، وهمومنا بالمرة (فوّت هذه الفقرة فهي تآمرية بوضوح "أو أنت حر").

    يمكن التخفيف من هذا التحذير المندفع برد يقول إن العالم أصبح قرية واحدة (مع الشكر)، وبالتالي فإن أي مشكلة في أي مكان هي مشكلة الإنسان في كل مكان. هذا الرد في حد ذاته هو نوع من استيراد الأفكار، فلا العالم أصبح قرية واحدة، مهما تعددت الاتصالات وتسارعت المواصلات، وحتى إذا أصبح قرية واحدة فإن ذلك لا يعنى بالضرورة أن المشاكل واحدة. وحتى لو توحدت المشاكل عبر العالم فإن طبيعتها تختلف، وكذا موقعها على سلم الأولويات.

    مشكلة الشذوذ الجنسي- مثلا- ما زالت تمثل قلقا عندنا، وعارا، ورفضا اجتماعيا، ومازلنا نسب بعضنا البعض بألفاظ تشجب ممارستها، في حين أنها- والحمد لعلمهم الأحدث وللديمقراطية- لم تعد مشكلة أصلا لديهم، بل إن من يستحق السب والنبذ عندهم هم من يجرؤ أن يتدخل بتعليق عابر على اثنين من نفس النوع يتبادلان الحب والنظرات والهمسات علانية، إن هذا المتوحش الذي يجرؤ أن ينظر إليهما "شذرا"، أو حتى يرفضهما على مستوى النية، لا يستحق إلا الرفض والاتهام بالتخلف وعدم احترام حرية الآخرين وقلة حقوق الإنسان، وقلة الحياء بالمرة.

    ثمة مشاكل لم تظهر عندنا أصلا، بالقدر الذي يحتاج أن تصعد إلي قائمة اهتمامنا، نندفع نحوها بكل ما نملك من جهد ووقت ومال (عادة نستدينه من صاحب المشكلة الأصلي، أو يمنحنا إياه بشروطه مع أنه هو الذي طلب الشقفة)، وهات يا بحث، وهات يا صرف، وهات يا نشر، ثم نكتشف، أو لا نكتشف (عادة لا نكتشف ما داموا نشروها) أن الأمر لا يخصنا، أو على أحسن الأحوال: هو لا يخصنا إلى هذه الدرجة.

 

§        لمـاذا الطفولـة ؟

    هناك أمثلة بلا حصر توضح ما أردت التنبيه إليه في مسألة "دراسة جدوى البحث والنظر"، لكنني سأكتفي بالإشارة إلى بعض ما يتعلق بالطفولة بوجه خاص، ذلك لأن مستقبلنا إنما يتحدد بمفهومنا عن الطفولة، وبالتالي بموقفنا منها، وما نقدمه لها. ثم إن الأطفال بوجه خاص يمتصون الثقافة المحيطة بشكل طبيعي وراسخ، فمسئوليتنا عن إحاطتهم بما ينفع ويبقى هي مسئولية مضاعفة. وعلى الرغم من ذلك فإن ما نقدمه لأطفالنا هو مجموعة من المزاعم الأخلاقية المسطحة، والخيال الموصى عليه، والمعلومات المستوردة المنفصلة عن ثقافتنا، حل كل ذلك محل تلقائية وعينا الشعبي والخيال الحر المغامر. وأخيرا، ففيما يتعلق بتخصصي، أنبه أننا قد استدرجنا إلى البحث في مشاكل ليست هي الأولى بالبحث.

 

§        الذاتويـة الرضيعيـة (Infantile Autism)

    قبل أن أدخل في المثال الذي اخترته لتوضيح فكرتي تفصيلا، وهو "ضرار الأطفال"، أعرج في عجالة إلى ظاهرة أخرى تسمّى " الذاتوية الرضيعية  بعد أن تزايد الحديث عنها مؤخرا.

    الذاتوية الرضيعية متلازمة (زملة= Syndrome) تصف نوعا من الانغلاق على الذات منذ الولادة، حيث يعجز الطفل حديث الولادة عن التواصل مع الآخرين (بدءا من أمه) وإن كان ينجح في عمل علاقات جزئية (تبدو كأنها سرية رمزية) مع أجزاء الأشياء المادية، بالتالي يعاق نموه اللغوي والاجتماعي والمعرفي، ومما يميز هذا الانغلاق تلك النظرة الذكية (من تحت لتحت) التي قد يلقيها أحيانا هذا الطفل من طرف عينه.

    في بداية تعرفي على هذا الاضطراب فرحت به باعتبار أن كثيرا مما يشخص على أنه تخلف عقلي هو ذاتوية، وبالتالي هكذا كنت أظن آملا مغرورا- فإني قادر على التعامل غير اللفظي مع مثل هذا الطفل، مثلما أفعل مع بعض مرضاي الفصاميين خاصة، أو في العلاج الجمعي، وكان مدخلي إلى هؤلاء الأطفال من باب تلك النظرة "الذكية" التي يتنافى وصفها بالذكاء مع التخلف المعرفي السائد في كافة قدرات الأوتيزمي. رحت أبذل مع أطفال هذا التشخيص جهدا فائقا آملا في أن يمتد ذكاء هذه النظرة (بالصبر، والتدريب، واللعب، والزمن، والرعاية) إلى مجالات القدرات المعرفية الأخرى. لكن النتائج لم تأت كما تصورنا. تابعت بعد ذلك ما ينشر عن التكهن بمسار هذه المتلازمة ومآلها، ففوجئت أنها ليست أفضل من التخلف العقلي بصفة عامة، إن لم لكن أسوأ. لكن الأمل ما زال يراودني رغم المزاعم التي راحت تفسر سوء المآل بأصل هذه المتلازمة العضوي والوراثي. ثم عاد البندول يتحرك في الاتجاه الآخر نتيجة لبعض النتائج الواعدة من خلال برامج تعديل السلوك وعلاج اللعب، جنبا إلي جنب مع العوامل العلاجية الأخرى. رحت أتساءل: هل وقع الناس (والعلماء) فيما وقعت فيه باكرا؟ لماذا عاد الحديث عن هذا الانغلاق الذاتوي هكذا الآن؟ خطر لي تفسير يقول:

    إن من يمتحن بإنجاب مثل هذا الطفل يفضل أن يتصبّر بأي وسيلة، ولو بلافتة خادعة، على قضاء الله، فبدل أن يوصم طفله بالتخلف، أصبح يرحب أن يوصف بأنه ذاتوي (أوتيزمي) كأنه- بذلك- ينفي ضمنا أنه متخلف. التقط الأطباء (والإعلام) هذه الحاجة، فاستجابوا لها بسطحية أو حسن نية، ليخففوا عن الأهل آلام المواجهة. من حق الوالدين أن يأملوا ما برح بهم الألم، أو طاب لهم الأمل، لكن ليس من حق مختص أو عالم أو إعلامي أن يعد بما لا يكون. مهما حسنت نيته.

    أين نحن من مشكلة الطفل "الأوتيزمي" هذا؟ إن من يصابون بهذا الاضطراب عندنا، وعموما،- هم قلة نادرة، بالقياس إلى نسبة التخلف العقلي. ثم إن ما تمثله عموم الإعاقة نتيجة للذاتوية الرضيعية (الأوتيزم) بالنسبة لمجموع الإعاقات عندنا صغارا وكبارا، (بسبب مرض نفسي أو عقلي، أو بدون سبب )، هي نسبة قليلة تكاد لا تذكر. فما هو الأولى بوقتنا وجهدنا ومالنا؟ أن نعطيهم في الشمال والغرب "شقفة " لمجرد أن يستعملونها "ديكورا"، يتوهمون به، أو نوهم به أن ثم حوارا، حتى على حساب كسر زيرنا، أم أن نحافظ على زيرنا سليما نغترف منه لنقوم بمسئوليتنا في محاولة حل إشكال إعاقة الأسوياء، فضلا عن مسئوليتنا تجاه الرعاية الباكرة للمرضى النفسيين قبل أن يزمنوا، ناهيك عن تنمية قدرات الإبداع فالانطلاق. ثم بعد ذلك، وربما أثناء ذلك، متى بقي في "الزير" طاقة، لن ننسى أن نبذل ما نستطيع ونحن نرعى إعاقة المتخلفين والذاتويين (أعلم أن مثل هذا التفكير قد يتهم بالنتشوية، لكن نيتشه لم يكن شرا كله)، ثم ننتقل إلى المثال التفصيلي:

 

§        ضـرار الأطفـال (Child Abuse)

    المقصود بضرار الأطفال هو إلحاق الأذى بالطفل من ذويه عادة- بالانتهاك أو الإيذاء أو الاعتداء الجنسي أو الإهمال. (فضلت أن أضع هذه الترجمة لتحل محل تعبير "انتهاك الأطفال "، وأيضا "سوء استعمال الأطفال"، لأن مجرد الاستعمال هو ضرار، وقد استلهمتها من القاعدة الفقهية: لا ضرر ولا ضرار). مرة أخرى نتساءل أي المشاكل عندنا أكثر تواترا، وأكثر خطرا، وأكثر حاجة إلى البحث والنظر؟ ضرار الأطفال هذا أم "حرمان الأطفال" من مطالب الحياة الأساسية لا لتقصير من جانب الوالدين ، لكن لأننا فقراء. كم طفلا ينام في حجرة ليس لها سقف؟ وكم والدين ما زالا في طور الإنجاب النشط  ينامان في نفس حجرة أطفالهم، لأنهم لا يملكون غيرها، لا لأنهم لا يعرفون أن في ذلك ما يضر أطفالهم، وكم أسرة تعيش معا (اثنا عشر طفلا لثلاث أسرة مثلا) تستعمل دورة مياه مشتركة ليس فيها طارد!، مرة أخرى: كل ذلك يحدث دون أي إضرار مقصود أو عفوي من الوالدين، إن الضرار يقع من الدولة، والقدر، والعالم.

    ثم ماذا عن ترتيب منظومة القيم عندنا وعندهم فيما يتعلق بما يصل إلى الأطفال والتي بناء عليها نقيّم الضرار؟ إن منظومة القيم ليست مسألة أخلاقية فحسب. إن الضرر والضرار قد يقاس بمدى الاتساق أو البعد عن ترتيب معان لمنظومة القيم في ثقافة بذاتها في وقت بذاته.

    خذ مثلا قيمة ملتبسة مثل قيمة "الحرية"، أين تقع على سلم منظومة القيم عندهم، وعندنا، وكيف يتدخل المسئول (طبيبا كان أم ضابطا أم قاضيا) إذا أضير طفل عندهم من خلال حرمانه من هذه القيمة (الحرية)، بغض النظر عن مصداقيتها ومضمونها؟ هل ثم فرق بيننا وبينهم في هذا الصدد؟

    وعلى الجانب الآخر خذ قيمة مثل قيمة الغش، (وليس مجرد الكذب حتى)، ألا يعرف الباحثون والباحثات في مجال الطفولة والتربية والطب النفسي في مصر أن هذه القيمة قد انتشرت في مجتمعنا مؤخرا (بعد أن انعكس مضمونها) بما يحتاج معه إلى كل وقتهم وجهدهم قبل أن نستورد من المشاكل ما لا يعنينا أصلا.

    جاءني شاب نجح في الإعدادية، نجح بمجموع خمسين في المائة، وهذا الرقم بالذات، في الأقاليم بالذات يدعو إلى الشك الشديد. (اسألوا مديرية التعليم وتعليماتها حول نسب النجاح المطلوبة من الوزارة لتفريغ الفصول، ورشوة الإعلام، بغض النظر عن ملء العقول). كان هذا الشاب من الصعيد الجميل المشهور بقيم الشهامة والنخوة والكرم الخ، شككت في ذكائه واستبعدت نجاحه بالطريق الطبيعي. قلت أجرى له اختبار ذكاء. أجرت له زميلتنا النفسية الاختبار بعد أن أوصيتها أن تتأنى وتعيده لظروف تشككي في تناسب ذكائه مع دروس الشهادة الإعدادية. جاءت النتيجة شديدة التواضع. أعدت الاختبارات بنفسي. جاءت نفس النتيجة التي لا تسمح له أن يجتاز الابتدائية لا الإعدادية، طلبت منه أن يقرأ صحيفة فلم يستطع. سألت والده عن حالته منذ طفولته فأجاب بأمانة بما يفيد أنه كان طول عمره "هكذا". قبلت الوضع ونصحت الأب أن يوفر نقوده، وألا يتردد على الأطباء أكثر من ذلك وأن يركز على تدريبه صنعة متواضعة تحت إشراف، وألا يأمل في فعل عن عقاقير لا تفعل شيئا في الذكاء إلي آخر هذه النصائح التقليدية الموضوعية. شكرني الرجل وابتسم الشاب، وانصرفا. ترددا علي مرة أو أكثر خلال شهور حتى اقتنعا أنه ليس عندي ما  أضيفه، علمت أن الوالد لم يأخذ بنصيحتي حدا وجعل ابنه يكمل باسم الله حارسه وضامنه.

    بعد أربع سنوات زارني الرجل فرحا يشكرني جدا. على ماذا؟ على أن ابنه أخذ الدبلوم (ثانوي زراعي) والحمد لله، فزعت وتصورت أن ثم خطأ في تقديري، وفى تقدير زميلتي، وفى اختبار الذكاء الخ، حاولت أن أحاور الشاب لأعرف كيف تحسن ذكاؤه هكذا ضد كل حسابات العلم، فوجدته كما هو تماما، إن لم يكن قد قلّ قليلا، سألت والده: هل استطاع أن يحصّل دروسه رغم كل شيء، فأجاب دون دهشة أنه لم يحصل دروسه ولا حاجة، وحين سألته: كيف نجح إذن؟ قال ببساطة وعرفان: "بالتزكية"، وحين استفسرت منه أكثر، قال كلاما موجزه أن البركة في سعادتي وسعادة البك الناظر الذي رأف بحالته، وأنه (الوالد)لا ينسى فضلي، أو فضل حضرة الناظر، وكلام من هذا. قاله بمنتهى العرفان والطيبة دون أي خجل، وابنه ينظر إليه في فخر مناسب.

    من هذا المثال وخاصة بعد تيقني من تكراره عبر القطر بالسلامة، يتضح للقارئ أن من البديهي أن تكون أولى المشاكل كما ذكر بالدراسة عندنا في هذه المرحلة من تطورنا هي معرفة القيم التي توصلها السلطة التعليمية للمربين، ثم يوصلها هؤلاء المربون للكبار، ثم يوصلها الكبار للأطفال. وهي القيم التي سادت بشكل أو بآخر في مجالات كثيرة أخرى، من أول الغش التجاري، حتى البحث العلمي، مرورا بتنويعات مناسبة على مسلسل الانتخابات في مختلف المواقع والمناسبات.

    هيا نفترض أن باحثا من عندنا آلمه ذلك بكل بالرغم مما يقرأ من اهتماماتهم هم في دورياتهم، ثم إنه رأى أنها ظاهرة قد تخرّب النفوس والعقول والأخلاق جميعا، الآن ومستقبلا، للكبار والصغار علي حد سواء. هذا الباحث حاول وضع فرض يقول "إن قيمة الغش" قد أصبحت قيمة إيجابية، وأن من لا يمارسها علانية قد يوصف بالأنانية أو بالعبط، وأنها أصبحت أساسا في التعامل منذ الطفولة إلى النضج، في هذه الفترة من حياتنا. ثم إن الباحث المنتمي فصّل الفرض ليربط  بين هذه القيمة وبين اختلال الحالة الاقتصادية، واهتزاز الأداء عامة، وتفاهة التحصيل الجامعي، وسطحية الأبحاث العلمية (وتزوير بعضها)، ثم إنه وضع خطة بحث منضبطة للتحقق من هذا الارتباط.

    من ضمن تفاصيل هذا البحث فرض فرعي يقول: إن هذا الذي يحدث في أطفالنا مبكرا هكذا هو أخطر علينا من أن يضير أب طفله لأنه تأخر في العودة إلى المنزل بعد العاشرة، وهو أيضا أخطر من تشغيل الطفل (بلية) في ورشة ميكانيكا في سن العاشرة. لو أن هذا الباحث تقدم لأهل الحل والربط في بلاد الخواجات يطلب منحة تدعم هذا البحث، أو أنه قام بالإنفاق عليه هو (وهذا مستحيل) ثم حاول نشره، هل سيوافقون على تمويل بحثه؟ أو على نشره أسوة بما ينشر عن ضرار الأطفال؟ أو عن الطفل الذاتوى؟

 

    إن دراسة جدوى الوقت، وجدوى الجهد، وأولويات المشاكل تتطلب :

أولا: تحديد حجم المشكلة، وليس مجرد حداثتها أو شيوع الحديث عنها في ثقافة أخرى في ظروف أخرى. (هذا ونحن لا نعرف حجم المشكلة مما ينشر في الصحف في صفحات الحوادث)

ثانيا: تحديد أولوية هذه الظاهرة بالمقارنة بظواهر أخرى، موجودة أكثر أو أقل، أخطر أو أخف

ثالثا: تحديد أدوات دراستها، وإمكانات دراستها.

    أجد مناسبا أن أنبه هنا أن إشكالية المنهج (العلمي) بالنسبة للعلوم الإنسانية لم تحل، ولن تحل في القريب. وأن عدم الدراسة أصلا هو أفضل من الدراسة الزائفة، وأن منهج السؤال والجواب هو من أضعف المناهج بالنسبة للعلوم الإنسانية والاجتماعية خاصة، ويصبح هذا المنهج أكثر زيفا، وأشد كذبا حين يطبق في بلد متخلف، ثم إنه يصبح جريمة مع سبق الإصرار إذا طبق في بلد " قيمة الغش" فيه كما ذكرنا.

    إننا نسينا مصداقية المنهج الحكائي مع أننا عشنا (كما عاشت البشرية) قرونا عددا بفضله. كذلك أهملنا مصداقية منهج دراسة المحتوى، ولم يعد يبهرنا إلا الأرقام والجداول.

    إن مشاكلنا الخاصة جدا لا تتجلى في مشاهدات العلماء وتقليد السابقين الأولين في الشمال والغرب. إنها تتجلى في الواقع المحيط، بكل أشكاله. هذا الواقع ليس فقط واقع الحياة العيادية، ولكنه ينبغي أن يشمل واقع الخيال، وواقع تشكيل هذا الخيال فيما هو إبداع، وواقع الوعي الشعبي الشفاهي. إن والد هذا الشاب الذي حكيت عنه حالا حين قال إن ابنه نجح "بالتزكية"، لم يكن مخطئا تماما، لكنه كان يعلن واقعا ينبغي الوقوف عنده، والبحث عن أدوات تليق بسبر غوره.

    في محاولة لتفسير هذا الاهتمام بظاهرة "ضرار الأطفال" عندهم هكذا، نتبين أن الدولة هناك كادت تحل محل الأسرة. ثم إن حقوق الراشد  قد استكملت أو كادت (على الورق على الأقل، للأغلبية على الأرجح)، فانتقلوا للفئات الأضعف. كما أن فساد الشباب وانحراف المراهقين (بما في ذلك الإدمان) قد دق ناقوس الخطر، فراحوا يجتهدون في تقصّي الأسباب (الأخرى) في الطفولة الباكرة. كل هذا لا يتفق مع ما عندنا كما يلي:

    إن الدولة عندنا أضعف من أن تدير شؤون الدولة، فما بالك بتولي شئون الأطفال نيابة عن ذويهم إذا هم أضروا بهم. وبالنسبة للغالبية الغالبة فإن أقسى والد هو أرحم من أخصائية في مؤسسة (غالبا). ثم إن حقوق الراشد عندنا غير مستوفاة بأي درجة، فما بالك بحقوق الطفل؟، وأيضا نعرف حساسية التدخل بين الوالد وطفله بالصورة التي نسمع عنها عندهم (أول رقم تليفون يحفظه الطفل في مدارس رياض أطفالهم، أو الابتدائي هو الرقم الذي يستدعي به الطفل السلطات إذا ما نهره والده- جدّا- بالسلامة). هذا أمر مرفوض وخطير في بلد يقدس "السلطة "و"الستر" طول الوقت سرا وعلانية.

    مصادر المعرفة الأخرى : انتبهت من خلال اهتماماتي الأخرى إلى أن ثمة مصادر للمعرفة، تعرفنا ماهية الطفولة وأبعادها، مصادر لا تقل مصداقية ولا فائدة عن هذه المصادر شبه العلمية، الملتبسة والمستوردة، ومن ذلك:

أولا: الوعي الشعبي الذي يقوم بأبحاثه بشكل تلقائي، وهو يصدر نتائجه وأحكامه بطريقة يتم المصادقة عليها من مدى انتشار هذه الأحكام وطول مدة بقائها متداولة فاعلة نافعة، صحيح أن هذا الوعي الشعبي قد تراجع عن النمو التلقائي بعد تدخل الإعلام الرسمي والخاص بين الناس وبين خبراتهم، إلا أن النظر فيما وصل إليه هذا الوعي الشعبي فيما مضى ينبغي أن يكون نموذجا نحترم به هذا الوعي وما يفرزه من نتائج.

مثلا: افرز الوعي الشعبي نتائجه التي تقول: (1) ابن الديب ما يتربّاش، أو (2) اضرب ابنك وأحسن أدبه ما يموت إلا إن فرغ أجله. وأيضا (3) اكسر للبنت ضلع يطلعلها اتنين. وفي نفس الوقت: (4) إن كبر ابنك خاويه، ثم على الجانب الآخر (5) إن جاك النيل طوفان خد ابنك تحت رجليك. لكن أيضا: (7) لا زرعك ولا ولدك تغضب عليه.

    هذه الأمثلة ليست متناقضة، رغم أن ظاهرها يبدو كذلك، لأن لكل منها سياقه، ولكل منها دلالات تختلف باختلاف موقف وموقع ظهـورها وانتشارها. أنا لا أذكرها هنا لأستشهد بها، أو لأدافع عن بعضها، وأشجب الآخر، أنا أريد أن أعلن أن هذه الأمثلة هي خلاصة غير معلنة لكنها حاسمة النتيجة.

ثانيا: الإبداع (الروائي خاصة) إذ لا يوجد إبداع من فراغ، ولا يصب إبداع في  فراغ، والنص الأدبي هو في نفس الوقت وثيقة معرفية بطريقتها الخاصة، وهى لا تقاس بعدد ما تعرض من حالات، بل بمدى ما تكشف من طبيعة نوعية.

    تتجلى الطفولة بشكل مباشر فيما يسمّى أدب السيرة الذاتية، وفي شكل غير مباشر في كثير من أعمال المبدعين، وسوف أعدد فيما يلي بعض ذلك كأمثلة: أيام الطفولة (إبراهيم عبد الحليم) حكايات حارتنا (نجيب محفوظ) السقا مات (يوسف السباعي) الأيام (طه حسين) خالتي صفية والدير: (بهاء طاهر).

    ولا يقتصر الأدب في عطائه وكشفه عما هو طفولة على عصر بذاته، فإن المبدع الذي يكشف عن ماهية الطفولة بتحذير خاص، قد يصل إلى غور يسمح له بكشف الطبيعة البشرية في كل زمان، بل إن التقاء مبدعين مختلفين من ثقافات مختلفة في زمن مختلف، التقاءهم على رؤية تسبر غور الطفولة وتكشف عن أبعادها ومتطلباتها ومشاكلها، هذا الالتقاء يمثل نوعا مما أسميته "المصداقية بالاتفاق طوليا".

   ديستويفسكى يتناول رسم أبعاد الطفولة بكل التفاصيل والعمق: في البطل الصغير ثم الطفلة نللي في مذلون مهانون، ثم الأبله، والطفل "فلالى" في قرية ستيباتشكوفو وسكانها، وتتجلى أستاذيته في قصته (روايته) غير الكاملة نيتوتشكا نزفانوفنا (التي تناولتها بالنقد تفصيلا في مكان آخر) وهو يرسم الطفلة الأم، الطفلة الدمية، الطفلة الحكمة، إلى غير ذلك.

    وبالنسبة لنجيب محفوظ فإنه كان من أكثر المبدعين أمانة حين أعلن أنه حاول أن يكتب قصصا للأطفال، وأنه وجد صعوبة بالغة أوقفته بعد محاولة واحدة أو بضع محاولات، إلا أن حضور الأطفال في كل إبداعاته كان شديد الحساسية شديد الدلالة، ولعل من أروع تجليات ذلك ما جاء في وصف طفولة كمال أحمد عبد الجواد في "بين القصرين "، ولعل المتتبع لنمو كمال أحمد عبد الجواد وتطور أحواله يتعجب- لأول وهلة- مما صار إليه هذا الطفل الطريف الجميل الولع بالغناء المتجرئ حتى على والده بما تيسر، كيف آل هذا الطفل إلى ذلك الشاب الانطوائي الكثير الفكر البالغ الحياء، لكن هذا التطور هو من عظمة الفن. وقد كنت دائما أخشى أن يستدرج المبدعون ليستشيروا أهل علم النفس فيما يخطر لهم، أو أن يغالوا في تصديق ما يكتب في التربية وعلم النفس والتحليل النفسي، لأن محفوظ لو كان قد فعل ذلك مثلا في حالة كمال أحمد عبد الجواد لكان لزاما عليه أن يرسمه طفلا "نموذجيا" مطيعا إلى آخر ما تقوله كتب علم النفس في وصف "الطفل النموذجي" كيف يتطور إلى الحييّ الانطوائي.

    فإذا حددنا الحديث عن أعماله التي فيها رائحة السيرة الذاتية (وكلها تكاد تكون كذلك) فإننا نركز خاصة على "حكايات حارتنا" (أكثر من المرايا)، "والباقي من الزمن ساعة"، "حديث الصباح والمساء ": كلها زاخرة بما أريد إيضاحه هنا، وهو أن هذا الكاتب يعرف هذه المنطقة- منطقة الطفولة- أعمق ما تكون المعرفة. ثم فجأة تطل علينا طفولته في أصداء سيرته الذاتية بإضافات معرفية دالة تقول: إن الطفولة ليست مرحلة تاريخية نعيشها ثم ننتقل منها إلي ما بعدها، وإنما هي مرحلة بدئية تتطور فينا وبنا حيث تتداخل فيما بعدها متكاملة في النضج السوي، أو تختفي منكرة أو منسية، وأصداء محفوظ تعلمنا أيضا أن مرحلة الطفولة قد تظهر مستقلة- الآن- في الحلم أساسا، أو قد تفبرك إذا زيفناها بذاكرتنا. كذلك نرى في الأصداء كيف أن الطفولة تظل نشطة نابضة عند المبدعين خاصة، لكنها لا تنشط مستقلة، وإنما تتكامل في النشاط الناضج الراصد القادر، فيتخلّق الناتج الإبداعي الأصيل (وقد نشرت تفاصيل ذلك في موقع آخر).

    أختم هذا المقال بعودة توضيحية تبيّن لنا كيف يمكن أن يضار الأطفال من اهتزاز منظومة القيم أو تشويهها أكثر مما يضارون من الضرب أو ما شابه. أشرت في مدخلي إلى هذه النقطة إلى قيمتين هما الحرية عندهم (بما لها وما عليها)، والغش عندنا (وكيف أصبح قيمة إيجابية). فهل يتصوّر أحد أن قيمة "العدل" يمكن أن تكون قيمة تتكون عند الطفل منذ سنيّه الأولى؟ وهل طرح هذا الفرض على وعى العلماء باعتبار أنه يمكن أن يغيّر العالم؟ ألا نحتاج نحن، مع كل مستضعفي العالم، أن نبحث في هذه النقطة بشكل قد يلوح بوعد تغيير جذري في طرق التربية،؟ أم أن علينا أن نكتفي بما يلقون به إلينا من بعض الشظايا المتناثرة من امتحانات القدر لبضعة آلاف من الأطفال المعاقين. (الأوتيزم مثلا).

    هل يوجد منهج عند العلماء التقليديين يستدلون به على كيفية التعامل مع قيمة العدل أغلى قيمة عند الإنسان طفلا ويافعا؟ ثم ما تأثير التنبيه على أن تصب نتائج مثل هذا الاستقصاء في تعديل طرق تربية الأطفال عبر العالم؟ وهل يمكن أن نأمل أن تكون نتائج مثل هذا البحث نافعة في ترسيخ هذه القيمة (العدل) فيكون هذا هو السبيل الواعد بمواجهة أشكال التعصب والاستعلاء والغرور، وإشعال الحروب تحت مزاعم إرساء السلام، كذا الكيل بعدة مكاييل ببجاحة غير مسبوقة.

    إن الأقوياء قد أصبحوا يبررون الظلم من جانبهم باعتباره عدلا خصوصيا، عدلا يستعمل بشفرة سرية، يمارسونه بقواعد ولغة ليس في مقدور المظلوم أن يفهمها (يمكن العودة إلى ذلك تفصيلا في الحديث عن فلسطين، وكوسوفو، والبوسنة، وحتى حملات الناتو علي صربيا، وكذا حملات أمريكا وإنجلترا على العراقي).

    ننظر أخيرا في عينات محدودة تظهر كيف التقط ديستويفسكى حضور قيمة العدل عند أطفال إبداعه:

" نيتوتشكا نزفانوفنا يقول واصفا موقف "كاتيا" الطفلة:، (فما كان مسموحا به أمس يصبح اليوم ممنوعا..، وهكذا الشعور بالعدل يفسد لدى هذه الطفلة بلا انقطاع ".

    أو على لسان نيتوتشكا: "كان الحزن يمزقني تمزيقا، ثم أخذت فكرة العدالة تذر قرنها في نفسي الجريحة، وأخذ يجتاحني شعور بالاستياء والاستنكار".

    ولم ينس ديستويفسكى، وهو يعرج إلى الإشارة كيف تكون قيمة العدل عند الأطفال، أن يشير بطرافة إلى تعرية قيم أخرى زائفة، مثل الإفراط في تقبيل الأطفال (على العمال على البطال)، و كأن هذا هو الحب. يقول، في طرافة، على لسان البطل الصغير:، (وهن يضرعن إلي بصوت واحد أن أفتح لهن الباب حالفات أنهن لا يردن بي سوءا وأنهن لا يرغبن إلا في إغراقي بالقبل، وهل هنالك تهديد أشد هولا من هذا التهديد؟ ".

    هذا الطفل وهو يتلقى هذا التهديد "بالإغراق في القبل " أين يوضع في ما هو "ضرار الأطفال" (نكتة!).

    أنا لا قول أن هذه المصادر الأدبية هي بديلة عما يسمّى البحث العلمي، لكنني أؤكد أنها تعطي بعدا نوعيا آخر لمسائل ومشاكل لا ينبغي أن تغيب عن وعى الباحث عن المعرفة تحت كل الظروف.

 

§        خلاصة القول

    إن مشاكل "ضرار الأطفال" لا يمكن أن تدرس بعيدا عن الثقافة التي تجرى فيها، كما أنها لا يمكن أن توضع على سلم الأولويات إلا من خلال معرفة أبعاد وطبيعة وماهية الطفولة ومشاكلها بصفة عامة.

    عندنا مثلا في مصر، لاحظنا في الممارسة الإكلينيكية أن كثيرا من أمراض وأعراض الأطفال ليست إلا إسقاطا لاضطرابات أعمق لما تحمله الأم بالذات، والوالد بدرجة أقل، على أطفالهما ليمرضوا نيابة عنهما، كذلك لاحظنا أن الضرار الخفي هو أصعب وأخطر على الطفل من الضرار البدني المعلن. خذ مثلا: استعمال الأطفال كأدوات تبرر استمرار الحياة الزوجية التعيسة لا أكثر، أو تعوّض النقص الذي يعانيه الوالد باعتبار الطفل مجرد مشروع استثماري (هذا يظهر عادة في صورة رعاية فائقة مشكورة اجتماعيا بشكل أو بآخر، ولكن....)

    إن أبسط ما نحتاجه مما استقرأناه من الممارسة الإكلينيكية والملاحظات الموضوعية داخل وخارج العيادة النفسية، يمكن أن يفرخ فروضا واعدة بما لا يقاس، فروضا يجدر بنا فحصها من خلال مناهل المعرفة مجتمعة دون الاقتصار على منهج إحصائي محدود.

    لابد أن نحذر التورط في لعبة الإلهاء في الانشغال بدراسة فتات المسائل التي تقع مصادفة تحت موائد ولائمهم الدسمة شبه العلمية.

    نحن لم نعد نجرؤ أن نتعرف على مشاكلنا بعيدا عن وصايتهم، ناهيك عن البحث فيها، واحتمال تصدير نتائجها إليهم، تلك النتائج التي قد تساعدهم في إثراء مسارهم، بدلا من أن نواصل لعبة ترديد الصدى، وكأنه صوتنا نحن.

 

سعيا وراء ترجمة جميع صفحات الشبكة إلى الإنجليزية و الفرنسية نأمل من الزملاء الناطقين بالإنجليزية و الفرنسية المساهمة في ترجمة هذا البحث و إرساله إلى أحد إصدارات الموقــع : الإصــدار الإنجليــزيالإصــدار الفرنســي

 

Document Code VP.0016

Rakkaoui.import's risk of ideologies 

ترميز المستند  VP.0016

 

Copyright ©2003  WebPsySoft ArabCompany, www.arabpsynet.com  (All Rights Reserved)

 

تـقـيـيــمــك لهــذا البحــث

****

  ***

**

*