Arabpsynet

وجهات نظـر /  Points of View

شبكة العلوم النفسية العربية

 

همــوم الوطـن و هـم الاختصــاص

د. جمال التركــي

أخصائي الطب النفساني / صفاقس – تونس

E.mail : turky.jamel@gnet.tn

 

 

"يقال أن شعب جمهورية (متغوريا) تجمع و احتشد حول قصر الريس (رئيس جمهورية متغوريا) عندما سمع بمرضه و احتضاره، و داخل اقصر كان الريس يغيب عن الوعي في سكرات الموت الأخيرة فإذا برئيس ديوانه يحاول إفاقته قائلا له : "قوم يا ريس .. شوف الناس .. الشعب جاي يودعك"، فانتفض الريس صارخا .. : يودعني؟ يودعني  .. ليه .. هو الشعب رايح فين".

    يحكى أن الشعب خارج القصر كان يهتف لبلده .. متغوريا .. متغوريا .. ما .. تغور .. يا ..

علاء الأسواني عن رواية "عمارة يعقوبيان" عن شعب "جمهورية متغوريا"

 

    هذا المقتطف الرمزي بأخذ أهمية قصوى في ظل الأحداث الجسام التي تمر بها المنطقة العربية و التي ستحدد نتائجها  ( إن كانت سلبا أو إيجابا) مسارات تطور المنطقة على مدى عشرات السنين المقبلة و لست مبالغا عندما أدعي أن جزءا كبيرا من الاضطرابات التي نشهدها تعود إلى تخلف العلوم النفسية في الوطن العربي ذلك أن المواقف السياسية العربية في سواءها و اضطرابها  إن هي إلا انعكاس الوظائف الإدراكية-المعرفية الذهنية لشخصيات سيطرت على الحكم دون تقييم علمنفسي لشخصياتها سواء كان ذلك على المستوى النفسي أو الذهني ... و كان الذي كان... و الذي سيستمر حتما ما لم تتموضع العلوم النفسية مكانتها في هذه الرقعة من العالم ذلك أن مشكلتنا الأساسية تكمن في عجزنا عن فهم الذات و تفكيك دوافعها الواعية و اللاواعية في دينامية الشخصية و ليس في الآخر الذي لايمكننا فهمه  دون حل صراعاتنا و عقدنا التي نعاني من إسقاطاتها على سلوكنا و شخصيتنا... إن تردي الواقع العربي على جميع مستوياته إنما هو نتاج سلوكيات مضطربة و منحرفة في حاجة إلى التحليل  على المستوى النفسي لإدراك أسباب  تخلفنا استشرافا لمستقبل أفضل. إن الأحداث الصادمة التي نتعرض لها من الشدة و الوطأة ألا تترك أحد منا في غفلته بعد اليوم. إنها اللحظة التاريخية للنهضة ... لبناء الذات و تموقع النحن... لتقصي الواقع و حرثه ردا لاعتبار الذات  المسلوبة و المهمشة ... للتصالح مع الهوية... لبناء المؤسسات الدستورية... لاحترام الحقوق السياسية و المدنية ... لتشريع قوانين سلطة المؤسسات  ...  إننا في حاجة  إلى أن نسلط مرايا مكبرة على كل جزئية من حياتنا.. كفانا طمسا .. كفانا تزييفا .. كفانا خداعا للذات ... إن الأحداث الجارية إن لم تحدث انقلابا في المفاهيم و التصورات فلا أمل لنا في نهضة واعدة، إن المسؤولية جماعية و مشتركة و كل واحد من موقعه سواء كان سياسيا، مفكرا، مربيا، حقوقيا.... مطالبا باستغلال اللحظة التاريخية للمساهمة في وضع لبنات مؤسسات الغد.. و من موقعنا كأخصائيي العلوم النفسية يتوجب علينا التحليل المعمق للحالة النفسية العربية لاستجلاء  خصائصها، مميزاتها، معوّقاتها، عقدها، صراعاتها ... وهي لحسبي أرضا خصبة تنتظر منا الكثير و الكثير ... خاصة أن الدراسات التي تصدت لإبراز الخصائص المميزة لمدرسة العلوم النفسية العربية هي من القلة تكاد تكون نادرة إذ استثنينا بعض الجهود الفردية (نابلسي، زيعور، حب الله، عبد الخالق و حفني) .. إن حاجتنا إلى دراسة سيكولوجية الشخصية العربية لم تكن أكثر أهمية و إلحاحا من اللحظة الراهنة .. إن هذه الدراسات تقودنا إلى تحديد مفاصل الداء في هذه السيكولوجيا بداية من سيكولوجية الطفل العربي، المرأة العربية، الرجل العربي، مرورا بسيكولوجية القائد العربي انتهاء إلى سيكولوجية الحاكم العربي (في عدله و استبداده) ...  و بين هذا و ذاك دراسة سيكولوجية لمشاكلنا المزمنة مع الهوية و التراث و الثقافة .. إني أتساءل عن الأبحاث النفسعربية التي أعدت منذ أحداث سراييفو و كوسوفو و الحادي عشر من سبتمبر ... كم بحثا تناول سيكولوجية التعصب الديني و العرقي ... كم بحثا اهتم بسيكولوجيا الإرهاب سواء كان إرهاب أفراد أو منظمات .. إن الأراضي الفلسطينية المحتلة تشهد انتفاضة غير مسبوقة ... أين الدراسات التي تناولت عقابيل الصدمة النفسية ... أين المؤسسات التي تصدت لوضع خطة علاجية لرعاية ضحايا الصدمة ... أين الدراسات التي تصدت لتحليل ظاهرة سيكولوجيا الشهادة و الاستشهاد ... عديدة هي الظواهر التي علينا كأخصائيين رصدها فهما و تحليلا لوضع استراتيجية الرعاية النفسية لها سواء كان على المدى القريب أو البعيد .. خاصة أن عديد الاضطرابات تأخذ شكل الأزمان إن أهمل علاجها في حينه .. إننا بقدر ما نجهد في  حرث الواقع و نعمل على تطويره رقيا بمستوى اللياقة النفسية للمواطن العربي بقدر ما نكتشف جسامة المسؤولية وبشاعة الواقع المتردي.. و لن نكون فاعلين و مؤثرين (كأخصائيين و علماء نفس) إلا إذا تجاوزنا المعوّقات السياسية. إن العمل لحرث الواقع النفسي العربي و تطويره هدفه الإنسان العربي أينما وجد .. إن انتصاري اليوم للإنسان العراقي وهو يعاني ظلم الاستبداد و الحرب و الاحتلال و انتصاري للإنسان الفلسطيني الذي يعاني قسوة الاحتلال الاستيطاني و تبعاته بكل ما تعنيه هذه المعانات من ألم عذاب... لا يوازيه إلا انتصاري بالأمس للإنسان الكويتي الذي ابتلي باحتلال جائر في التسعينيات و للإنسان في سراييقو و كوسوفو و سريبرينتا وهو يعاني جريمة التطهير العرقي ...

    إنه انتصار للإنسان المعذب، المطحون، المقهور في هذا الوطن .. للإنسان أينما كان على وجه الأرض .. إنه انتصار لقيم العدل ... قيم المساواة ... قيم الحرية ... قيم الخير ... قيم الكرامة و العزة .. إنه انتصار لقيم الإنسان حتى يرقى بإنسانيته إلى مستوى الإنسانية المكرمة .. و لن يرقى الإنسان إلى هذا المستوى ما لم ينعم الجميع بهذه القيم... إننا كأخصائيي الصحة النفسية في الوطن العربي لن نتمكن من أداء رسالتنا إلا إذا كان هدفنا الإنسان متجاوزين ضيق "السياسي" إلى رحابة "العلمي".. إن انتصاري لقضايا الإنسان العربي و تخفيف معاناته النفسية و رفع مستوى لياقته النفسية لا يضاهيه إلا انتصاري للديمقراطية في الوطن العربي و لدولة المؤسسات و القانون... فلا أقل من العمل على مستوى الاختصاص ضمن استراتيجية عربية مكملة لبعضها للتصدي لهموم الاختصاص أقول مكملة و لا أقول موحدة ذلك لخصوصيات كل منطقة مقارنة بالأخرى. إن ثراء تجربة الزملاء الكويتيين و اللبنانيين و المصريين في رعاية المصدومين ضحايا الحرب و تأهيلهم تساعد حتما زملاءنا العراقيين في هذه الظروف المأسوية كما أن تجربة تونس في خدمات الصحة النفسية للمرأة (بحكم خصوصية وضعية المرأة التونسية على مستوى قانون الأحوال الشخصية) يمكن أن تستفيد منها دول عربية تسعى إلى تطوير وضعية المرأة في بلدها. هذا إضافة إلى تجارب أخرى ناجحة في بلدها (مدرسة العلاج النفسي الجمعي – الرخاوي – مصر مثلا) قد يستفاد منها بلد عربي آخر.. إن دعوتي لاستراتيجية متكاملة تتطلب مني قبول العربي الآخر .. و ما لم نتخطى الإسقاطات فلن نتمكن من التواصل مع الآخر .. إن إسقاطي لمشاعر النفور تجاه نظام قمعي أو حاكم مستبد في بلد ما على طبيب نفسي أو أستاذ علمنفس يعمل في هذا البلد (قد يكون هو الآخر إحدى ضحاياه)  يمنعني من قبوله و بالتالي التواصل و التعاون العلمي معه .. إن الباحث أو العالم أو المفكر ليس ظلا لحاكمه و عليّ أن أتجاوز إسقاطاتي و ألا ألبس هؤلاء جلابيب حكامهم .. إن قبولي الآخر و تواصلي معه أعتبره أكثر من ضرورة خاصة في ظل الأوضاع الراهنة. إننا في زمن أحوج ما نكون فيه إلى التعاضد و التكاتف على مستوى كافة أرجاء الوطن العربي للمساهمة معا و من موقعنا كأخصائيي الصحة النفسية في تحقيق النهضة المنشودة و كلي أمل في أن تعبر المنظمات النفسية العربية (اتحاد الأطباء النفسانيين العرب – الاتحاد العربي لعلم النفس – المركز العربي للدراسات النفسية ...) عن دعمها و تضامنها مع الإنسان العراقي بالشكل الذي تراه مناسبا و حسب الإمكانات المتاحة لها و إني لمبارك سعي الأطباء النفسانيين في تونس للقيام بيوم دراسي حول "الحرب و الصحة النفسية" على هامش الأحداث و الحرب على العراق كتعبير معنوي و رمزي عن مساندتهم زملائهم و من خلالهم كافة أفراد الشعب العراقي في محنتهم هذه و هم بين فكي كماشة آلة الحرب و الاحتلال.

    أخيرا لا يسعني إلا أن أضم صوتي إلى أصوات الملايين في كافة أرجاء العالم الذين يطالبون بإيقاف الحرب مناشدا جميع المنظمات الدولية و الهيئات الأممية التدخل بكل ثقلها لتجنب كارثة تتجاوز في بعدها الإنسان العراقي إلى الإنسانية قاطبة.

 

 

سعيا وراء ترجمة جميع صفحات الشبكة إلى الإنجليزية و الفرنسية نأمل من الزملاء الناطقين بالإنجليزية و الفرنسية المساهمة في ترجمة هذا البحث و إرساله إلى أحد إصدارات الموقــع : الإصــدار الإنجليــزيالإصــدار الفرنســي

 

Document Code VP.0014

Nation's Worries & Psychiatry's Worry 

ترميز المستند  VP.0014

 

Copyright ©2003  WebPsySoft ArabCompany, www.arabpsynet.com  (All Rights Reserved)

 

 

تـقـيـيــمــك لهــذا البحــث

****

  ***

**

*