Arabpsynet

  وجهات نظـر /   Points of View

شبكة العلوم النفسية العربية

 

جــدل الــذات والآخـر فـي مصــر

في مهـب ريـاح الثـورة و الهزيمـة والبتـرول

أ.د. قــدري محمــود حفنــي

محـاضـــرة

ندوة "جدلية الذات والآخر في الثقافة العربية"

وحدة الدراسات الإنسانية والمستقبليات، كلية الآداب، جامعة عين شمس -  10 إبريل 2002  

kadrymh@yahoo.com

  

q       النص الكامل / Full text / Texte  entier 

 

    المقال محاولة أولية لتتبع التحولات التي طرأت على صورة الآخر ومن ثم أساليب التعامل معه في المجتمع المصري الحديث. وتقتصر هذه المحاولة على صورة "الآخر المصري المختلف فكريا" باعتبارها الأجدر بالاهتمام . ويقوم المقال على مناقشة قضية نظرية جوهرها أن صورة الآخر وأساليب التعامل معه إنما تتشكل عبر عمليات التدريب الاجتماعي التي تقوم بها مؤسسات المجتمع وعلي رأسها السلطة.

    ومن ذلك المنظور المحدد يحاول المقال أن يستعرض في البداية أهم ملامح صورة الآخر وسبل التعامل معه في حقبة ما قبل يوليو 1952 وما تميزت به من قبول نسبي لوجود الآخر ومجادلته من موقع التمايز دون إقصاء. ومع رياح يوليو 1952 وفي إطار تعاظم أدوات السلطة ينصهر المجتمع تدريجيا في اتجاه التوحد مع الزعيم و تزايد الميل لتخوين الآخر المختلف والسعي لإقصائه. ثم تأتي عاصفة هزيمة 1967 التي قدمت مزيدًا من المبررات الموضوعية لضرورة تقوية قبضة الدولة، وكذلك لضرورة "الإجماع" حيث لا ينبغي لصوت أن يعلو علي صوت المعركة، ومع الإحساس بوطأة الهزيمة تزايدت الصبغة الدينية وتحولت في بداية السبعينيات مع تدفق العمالة المصرية صوب الخليج إلى ما يشبه الضمير القومي الشعبي الذي يحكم فيما يحكم تشكيل صورة الآخر وأساليب التعامل معه

 

السادة الحضور

    أود بداية أن أشير إلى أنه لا ينبغي لتخصصنا في علم النفس أن يخفي عنا حقيقة أن عملية الانتماء للأمة ليست بالعملية النفسية الخالصة، وإن كان البعد النفسي بعدًا أساسيّا من أبعادها · فتكوين الأمة - أيا كانت - لا بد وأن تتوافر له شروط تتعلق بالمكان، وبالاقتصاد، وباللغة، ثم تكتمل هذه الشروط بالتكوين النفسي المشترك الذي يعد ركنًا أساسيّا، وإن لم يكن الركن الأوحد، لتكوين الأمة · ومن هنا كانت ضرورة تناولنا للبعد النفسي لعملية الانتماء ·

    لعل أول الحقائق التي ينبغي الإشارة إليها في هذا الصدد، حقيقة ذات طابع فيزيقي اجتماعي · فالوليد الإنساني، وبحكم تكوينه الفيزيقي، لا بد وأن يعتمد في بقائه حيّا على الآخرين · ولابد أيضًا وأن يكون هؤلاء الآخرون - وبحكم عملية الإنجاب - من أبناء الجيل الأكبر · وما أن يشب ذلك الوليد عن الطوق، حتى تتحول تلك الضرورة الفيزيقية إلى ضرورة اجتماعية لا تقل عنها خطرًا · فحتمية الاعتماد علي "الكبار" تستمر حتى الرشد · أي حتى الاستقلال عن الأسرة متمثلًا في الحصول علي رخصتي الزواج والعمل · وطوال هذه الفترة التي تطول كلما تقدم المجتمع حضاريّا، لا يقتصر تمثيل الكبار علي الأب والأم فحسب، بل يتسع النطاق ليشمل كافة نماذج السلطة في المجتمع : المدرس، رجل الدين، رجل الشرطة، الإعلاميون ··· إلى آخره · ومن خلال هؤلاء جميعًا، وعبر مسيرة طويلة، يحصل الفرد في النهاية على الاعتراف بحقه في الوجود المستقل اجتماعيا واقتصاديا · أي يصبح من هؤلاء الكبار بشكل أو بآخر · وخلال ذلك يكون قد تم تدريبه الأساسي على عملية الانتماء كما صاغها الكبار ·

   والحقيقة الثانية في هذا الصدد، حقيقة ذات طابع نفسي خالص · فعملية التدريب على الانتماء، ليست ككثير من عمليات التدريب والتعلم التي تعتمد على أساليب نقل المعلومات المباشرة بطريقة أو بأخرى · إنها عملية اكتساب تلقائي، يتحدد تأثر الفرد بها وفقًا لثلاثة عوامل رئيسية : عامل تمثل القدوة، وعامل الخبرات الشخصية المعاشة، وعامل الخصائص الشخصية ·

    إن السؤالين الأساسيين اللذين يلحان على عقول الصغار في هذا الصدد وحتى يصبحوا كبارًا هما "من نحن" و "من هم"· وهم لا يطرحون عادة مثل تلك التساؤلات مباشرة، ومن ثم فإنهم لا يلتمسون إجابتها من خلال أقوال الكبار، بل من خلال رصدهم ومعايشتهم لممارسات هؤلاء الكبار لانتماءاتهم للجماعة، وتعاملهم مع " أخرى " · فالكبار هم في الأغلب الأعم بمثابة القدوة التي يتمثلها الصغار، بحكم الحقائق الفيزيقية والاجتماعية · وتمثل القدوة لا يكون تمثلًا للأقوال بل للممارسة · فقد نتحدث أمام صغارنا عن أبناء جماعة أخرى - أقلية كانت أو أغلبية - حديثًا نتعمد أن يكون ودودًا ناعمًا، ولكن مشاعرنا حيال أبناء تلك الجماعة كما تتضح في سلوكنا الفعلي تكشف عن نفورنا منهم، وعدائنا لهم، وتحاشينا إياهم · وفي هذه الحالة سوف يتمثل صغارنا سلوكنا الفعلي باعتباره السلوك المثالي : أن نكره هؤلاء فعلًا، وأن نحبهم قولًا · أو بعبارة أخرى : أن الأقوال المعلنة بشأن هذه الجماعة ينبغي أن تكون طيبة في كل الأحوال، أما المشاعر الحقيقية والأفعال فإن أمرها يختلف · بل قد يحدث أحيانًا أن نلتقي في موقفٍ اجتماعي معين ببعض أفراد تلك الجماعة الأخرى، فنتبادل كلمات المودة والحب · فإذا ما انفض الجمع، وخلا كل فريق إلى خلصائه انتقلت الكلمات والمشاعر المعلنة من النقيض إلى النقيض · كل ذلك وصغارنا يرقبون ما يجري ويتمثلونه ويختزنونه في أعماقهم ·

    العامل الثاني الذي يلعب دورًا أساسيا في هذا المجال، هو الخبرات الشخصية المعاشة · وهي تلك الخبرات - المقصودة أو غير المقصودة - التي يسهم تراكمها في اختبار مصداقية القدوة التي سبق للفرد أن تمثلها · ويتم ذلك من خلال التفاعل المستمر بين الفرد، وبين أفراد ينتمون لجماعته · ويؤدي مجمل تلك الخبرات إلي تثبيت أو اهتزاز ما سبق أن تمثله الفرد من خلال القدوة : هل ذلك الذي تمثله يعبر حقا عن موقف أبناء جماعته ؟ وهل أبناء الجماعات الفرعية الأخرى يدخلون في إطار جماعة الانتماء حقا ؟ هل صحيح أنهم يشبهوننا بأكثر مما يختلفون عنا؟ وهل يتخذون نفس مواقفنا حيال " أخرى " ؟ ثم هل الآخرون يتخذون منا حقا ذلك الموقف الذي نتوقعه منهم ؟ وهل هم يختلفون عنا حقا بأكثر من تشابههم معنا ؟ وغني عن البيان أن عملية التفاعل هذه تحدها حدود اجتماعية ونفسية عديدة · فالجماعة الأصلية كثيرا ما تفرض من القيود الاجتماعية ما يحول دون انطلاق عملية التفاعل هذه أو حتى مجرد الشروع فيها · فضلًا عن أن القدوة التي سبق أن تمثلها الفرد واطمأن إليها تلعب دورا غلابا في تفسير واحتواء ما قد يبدو خارجا عن إطارها فيما يتعلق بإدراك الفرد للآخرين ·

    أما العامل الثالث فإنه يتمثل في عدد من الخصائص الشخصية التي تحدد قدرة الشخص على توسيع أو تضييق حدود جماعة النحن · فالحدود النظرية لجماعات الانتماء المتاحة أمام الفرد، يمكن تصورها على هيئة خط متصل تحتل طرفاه نقطتان متطرفتان : طرفٌ يتمثل في مقولة " ليس ثمة من يشبهني على الإطلاق · إنني أختلف تمامًا عن الآخرين في كافة الوجوه " · ويتمثل الطرف الآخر المقابل في مقولة " لا فرق بيني وبين غيري مطلقًا· إنني لا أستطيع أن أميز نفسي عن الآخرين " وغني عن البيان ما تمثله هاتان النقطتان المتطرفتان من دلالات في مجال الأمراض النفسية لسنا بصدد التعرض لها · ما يعنينا هو أن جماعة الانتماء تحتل بالنسبة للفرد موقعًا ما بين هاتين النقطتين المتطرفتين · قد يقترب موقعها بدرجة ما من النقطة الأولي فتضيق حدودها، وقد يبتعد عن تلك النقطة فتتسع حدودها بقدر ابتعادها عنها · ويظل الجوهر دائمًا هو مدى قدرة الفرد على تبين وتقبل الاختلافات بين الأفكار وبعضها، وبين مختلف أشكال السلوك والمواقف الاجتماعية · وترتكز تلك القدرة على مجموعة من خصائص الشخصية التي تتباين أنماط التنشئة الاجتماعية من حيث تدعيمها لها أو إحباطها ودفعها إلي الظل · فثمة أنماط من التنشئة الاجتماعية تربي أبناءها على أن العالم بما فيه وبمن فيه إنما هو صنفان : خطأ وصواب، أسود وأبيض · ولا مجال للتدرج بين هذا وذاك · ويمتد ذلك التصنيف القاطع ليشمل كل شئ · ابتداء من نوعيات الطعام والملابس، إلى النجاح في الدراسة والعمل، إلى المفاضلة بين الذكر و الأنثى، وبين النظم الاجتماعية، والأفكار السياسية إلى آخره · فلا مجال لرؤية وجهي الموضوع في آن واحد · ولا مجال لأن يضع الفرد نفسه موضع الآخر ليتبين كيف ؟ ولماذا ؟ هو مختلف عنه · وما هي درجة ذلك الاختلاف ؟ ويؤدي إضعاف تلك القدرة علي تبين وتقبل الاختلاف عن الغير إلى أن يعجز المرء عن القبول بمقولة " انهم يختلفون عنا حقا في بعض الأوجه، ولكنهم يلتقون معنا فيما هو أهم، إنهم جزءٌ من جماعتنا ·

 

السادة الحضور

    لعلنا نستطيع أن نخلص مما سبق إلى أن عملية الانتماء إنما تستهدف في النهاية انتماء الفرد إلي جماعة النحن بما قد تضمه تلك الجماعة من جماعات فرعية· وذلك إنما يعني ضمنًا تمايز جماعة "النحن" عن جماعة "الآخرين"· وإذا كانت الحاجة للانتماء تضرب بجذورها كما بينا في طبيعة التكوين الفيزيقي للوليد الإنساني، وتستند في إشباعها وتنميتها إلي طبيعة التكوين الاجتماعي للأسرة وللمجتمع البشري، فإن للحاجة إلي التمايز جذورًا لا تقل عن ذلك أهمية ولا خطرًا · فالفرد يعي ذاته منذ البداية من خلال وعيه بتمايزه عن الطبيعة، وعن الآخرين أيضًا · ومن ثم فإن عملية التنشئة الاجتماعية - مهما كان نمطها - تتضمن حتمًا نوعًا من التدعيم لتمايز " النحن " عن " الآخرين " ·

    ولكن الآخرين هؤلاء ليسوا سواء بالنسبة للنحن، بل تتعدد صورهم، وتتباين الأساليب التي تدربنا عملية التنشئة الاجتماعية على اتباعها معهم · ولعلنا نستطيع أن نجتهد فنصنف صور  "الآخرين"، ومن ثم أساليب التعامل معهم إلي ثلاث صور رئيسية : الآخر "المجهول"، والآخر "الصديق"، والآخر "العدو"· وتتباين أساليب التعامل مع الآخر، وفقًا لذلك التصنيف · فثمة مجموعة من الأساليب نتدرب على اتباعها حيال الآخر " المجهول " تتسم غالبًا بطابع الاستكشاف الحذر، ومحاولة التعرف · وتهدف تلك الأساليب في النهاية إلى تصنيف ذلك المجهول ضمن واحدة من الفئتين الباقيتين : صديق أو عدو · وثمة مجموعة أخرى من الأساليب تزودنا بها عملية التنشئة الاجتماعية للتعامل مع الآخر "الصديق"، وهي تتسم غالبًا بطابع التعاون المتبادل، والتنافس السلمي، في إطار من الحرص على التمايز · أما بالنسبة للآخر "العدو"، فأساليب التعامل معه شديدة التباين، إذ يتدخل في تشكيلها طبيعة توازن القوي بين " النحن " وذلك الآخر " العدو " · وقد تجمع تلك الأساليب بين التجاهل، والمقاطعة، والملاينة، والعنف ··· إلى آخره ·

    وغني عن البيان أن اصطناعنا لمثل ذلك التصنيف لا يعني بحال أنه تصنيف جامد · فصور الآخرين التي أشرنا إليها دائمة التغير والحركة علي مستوي الواقع المعاش · فقد يتحول " الصديق " إلى " عدو "، وقد يتحول أيهما إلى " مجهول " بل وقد ينتقل " الصديق " عبر مرحلة تاريخية ليصبح جزءًا من مكونات النحن · خلاصة القول أن التنشئة الاجتماعية تزودنا منذ البداية بأساليب التعامل مع مختلف الصور التي يتخذها " الآخر " · أما عملية تصنيف الآخرين وفقًا لصورهم - أو لتصوراتنا عنهم - فهي عملية يستمر تفاعلها وتغيرها ما بقي المجتمع وما استمرت عملية التنشئة الاجتماعية ·

    ومن خلال تفاعل تلك الصور الثلاثة للآخر، يتشكل ما يمكن أن نطلق عليه "عالم الآخرين"، أي الطابع العام لمجمل صور الآخرين بالنسبة للنحن · فقد يكون ذلك العالم "معاديًا" يكاد أن يخلو من الآخر "الصديق" · وقد يكون أحيانًا عالمًا " صديقًا " يقل فيه تواجد الآخر "العدو" · كما قد تغلب عليه في بعض فترات النمو النفسي أو التغير الاجتماعي كونه عالمًا "مجهولًا " علينا استكشافه وتصنيفه ·

    ولا ينبغي أن يغيب عن أذهاننا أن عالم الآخرين الذي نحن بصدده، لا يتطابق بالضرورة مع الخصائص الموضوعية لأولئك الآخرين، ولا حتى مع التحليل الموضوعي لطبيعة مواقفهم من " النحن " سواء في الماضي أو في الحاضر · إنه عالم من الصور والتصورات تشيده عملية التنشئة الاجتماعية بهدف حماية النحن وضمان تماسكها، وليس من بأس في سبيل بلوغ هذا الهدف من ابتعاد يزيد أو يقل عن الملامح الموضوعية للصورة ·

    وتتخذ هذه الفجوة بين الخصائص الموضوعية للآخرين، وبين صورتهم كما تصيغها عملية التنشئة الاجتماعية أبعادًا خطيرة في عالم اليوم علي وجه الخصوص · في عالم لم تعد فيه التنشئة الاجتماعية حكرًا على الأسرة وحدها ولا حتى على المدرسة أيضًا · في عالم تعقدت فيه العلاقات بين أقطار الأمة الواحدة، وازدادت فيه قيود الانتقال وتكاليفه رغم تطور وسائله · في مثل هذا العالم تلعب أجهزة الإعلام دورًا بارزًا في صناعة - أو بالأحرى اصطناع - صور الآخرين، وتشكيلها وفقًا لما يراه أولي الأمر محققًا لمصلحة الجماعة ·

 

السادة الحضور

    أستأذنكم في أن نقصر حديثنا في هذا اللقاء على جدل الأنا المصري مع الآخر المصري، فقد بدا لنا أن هذا الآخر المصري هو الأولي بالاهتمام في ظل مناخ يسعى فيه الآخر الأجنبي العدو لتحويل ذلك الجدل الداخلي إلى عداء مدمر. ومن ناحية أخرى فسوف يقتصر حديثنا كذلك على الآخر المختلف فكرا وليس المختلف عرقا أو جنسا أو دينا أو عمرا باعتبار أن الفكر –فيما نري- يحكم التعامل مع بقية صور الآخر.

    ولنبدأ باستعادة مشهدين فحسب شهدتهما مصر في تلك الحقبة التي امتدت من الثلاثينيات إلي الأربعينيات من القرن المنصرم.

 

المشهد الأول

    في النصف الثاني من الثلاثينيات، و في وقت شهد تعدد التيارات السياسية المختلفة، بل شهد كذلك بزوغ حركة الإخوان المسلمين· في ذلك الوقت نشر المفكر الإسلامي أحمد زكي أبو شادي مقالًا في مجلة الإمام بعنوان  "عقيدة الألوهية"، يطرح فيه جذور عقيدة الألوهية في الإسلام · وأثار هذا المقال  كاتبًا مصريًا شابا هو الدكتور إسماعيل أدهم  فنشر مقالًا مطولًا لم يلبث أن حوله إلى كتيبٍ عنوانه " لماذا أنا ملحد ؟ " يروي فيه المؤلف ذكرياته الشخصية عن معاناته الأهوال بين الشك والإيمان، ثم يختتمه مقررًا في وضوح كامل أنه بات مطمئنًا إلى ضميره واستقرت نفسه بعيدًا عن شاطئ الإيمان ·

    ترى ماذا كان رد فعل المثقفين المصريين آنذاك ؟

    حين اطلع الدكتور أبو شادي على مقال الدكتور إسماعيل أدهم كتب ردًا عليه في رسالة مستقلة بعنوان "لماذا أنا مؤمن ؟" · وقد نشرت مجلة الإمام في سبتمبر 1937 رد الدكتور أبو شادي مع تعليق من المحرر جاء فيه " ·· وإلى هذه الرسالة نوجه أنظار قرائنا حتى يلموا بطرفي الموضوع، وإن كنا شخصيًا لا نعتقد أن هناك جدوى عملية من مثل هذه البحوث، وأن الأولى منها بعنايتنا هو الشئون الاجتماعية والاقتصادية في المملكة التي يعيش سوادها الأعظم في حكم الهمل بسبب سوء أحوالهم الاجتماعية والاقتصادية "

    وكان ثمة رد فعل من مجلة الأزهر التي كان يرأس تحريرها في ذلك الوقت المفكر الإسلامي المعروف محمد فريد وجدي الذي كتب في العدد السابع من المجلة يقول  :

    نحن الآن في مصر، وفي بحبوحة الحكم الدستوري، نسلك من الكتابة والتفكير هذا المنهاج نفسه فلا نضيق به ذرعًا ما دمنا نعتقد أننا على الحق المبين، وأن الدليل معنا في كل مجال نجول فيه، وأن التسامح الذي يدعي أنه من ثمرات العصر الحاضر هو في الحقيقة من نفحات الإسلام نفسه، ظهر به آباؤنا الأولون أيام كان لهم السلطان علي العالم كله، فقد كان يجتمع المتباحثون في مجلس واحد بين سني ومعتزلي ومشبه ودهري ··· الخ فيتجاذبون المسائل المعضلة، فلم يزدد الدين حيال هذه الحرية العقلية إلا هيبة في النفوس وعظمة في القلوب وكرامة في التاريخ · هذه مقدمة نسوقها بين يدي نقد نشرع فيه لرسالة ترامت إلينا بعنوان "لماذا أنا ملحد ؟" نشرها حضرة الدكتور إسماعيل احمد أدهم في مجلة الإمام الصادرة في أغسطس 1937 ثم أفردها في كراسة تعميمًا للدعوة ··· " ويمضي محمد فريد وجدي مفندا ما قال به إسماعيل أدهم حريصا على أن تسبق إشارته إليه بلقب "حضرة الدكتور إسماعيل أحمد فهمي"

 

ولننتقل إلى المشهد الثاني

    جرت وقائع هذا المشهد في أواخر أربعينيات القرن العشرين، حين أثار الشيخ السكندري المعروف آنذاك فضيلة الشيخ محمود أبو العيون حملة ضارية حول ملابس البحر للسيدات، وإذا بمجلة مسامرات الجيب تنشر في عددها الصادر بتاريخ 14 أكتوبر 1945 خطابًا موجهًا إلي فضيلة الشيخ محمود أبو العيون من راقصة تدعي حورية محمد تأخذ فيه علي الشيخ أن دعوته قد اتجهت إلى "···المستهترات العابثات اللواتي يبعن الفتنة والإغراء والدلال في سوق الشواطئ الذي ينعقد في صيف كل عام ···" وتمضي الراقصة متسائلة "···ألم يبق من الموبقات سوي السفر إلي البلاجات؟! ··· إنك يا صاحب الفضيلة سيد العارفين بأن عيوبنا الاجتماعية كثيرة ومتعددة، وأنها جميعًا أهم من مشكلة البلاجات ···" وتنشر المجلة في نفس العدد ردًا منسوبا لفضيلة الشيخ يبين فيه كيف إنه لم يكن غافلًا عن بقية الموبقات في المجتمع، وأنه هو الذي وقف وحيدًا يطالب بإلغاء البغاء منذ خمسة وعشرين عامًا " ···· حتى تحققت آمالي، وألغي البغاء ···" وبصرف النظر عن صحة صدور الخطابات من المنسوبة إليهم، فإنه من الملاحظ أن لفظة "التكفير" لم ترد في ذلك الحوار مطلقًا·

 

السادة الحضور

    ها نحن إزاء من يعلن عن إلحاده في مقال منشور يحمل اسمه دون مواربة، بل ويحاول تعميم دعوته بأن يحول مقاله إلى كتيب منشور. فإذا بمجلة الأزهر ترد عليه مفندة آراءه مخاطبة إياه بلقبه العلمي مسبوقًا بكلمة "حضرة الدكتور " · ويبدو أنه لم يرد في ذهن أحد من مثقفي الأمس فكرة اللجوء إلي السلطة والمطالبة علي الأقل بحرمان إسماعيل أدهم من الكتابة، أو إغلاق الجريدة التي نشرت له بل لقد ظل إسماعيل أدهم حيًا إلى أن انتحر في الإسكندرية في يونيو 1940·ولكي لا ننسي نكرر أن تلك الفترة قد شهدت ذروة ازدهار جماعة الإخوان المسلمين· ثم ها نحن حيال حوار عاصف بين داعية ديني محافظ ومجموعة من المشتغلات بالفن يبدأ وينتهي دون مطالبة بالإعدام، بل حتى دون رفع دعوى قضائية.

 

السادة الحضور

    أستأذنكم في استعراض سريع لعدد محدود من المشاهد المعاصرة. تنتمي مشاهدنا المعاصرة هذه إلى التسعينيات من القرن المنصرم، وأزعم أننا مازلنا نحملها ونعيشها في قرننا الحالي، بل لعلي لا أخفيكم أنني أحس أن مشهد الذروة لم يكتمل بعد.

 

    مشهدنا الأول بطل هذا المشهد الدكتور نصر حامد أبو زيد الأستاذ المساعد بكلية الآداب بجامعة القاهرة. نشر  أبو زيد عام 1992 كتابا يحمل عنوانا أكاديميا متخصصا "الإمام الشافعي وتأسيس الإيديولوجية الوسطية"، وتقدم بهذا الكتاب ضمن إنتاجه العلمي للحصول على درجة الأستاذية، وتضمن تقرير اللجنة العلمية اتهاما للكاتب بالعداوة الشديدة لنصوص القرآن والسنة، والهجوم على الصحابة، بل وعلى القرآن الكريم. وسرعان ما خرجت القضية من النطاق الأكاديمي إلى النطاق الجماهيري الإعلامي الذي شمل منابر المساجد و اندفع كثير من كتاب الصحف يحذرون من ذلك الذي يعلم أولاد المسلمين الكفر، ويحذرون من انتشار الإلحاد في الجامعة، ومن أولئك الذين يشوهون وجه مصر بدفاعهم عن حرية البحث العلمي في الجامعة. و لن نمضي في سرد تتالي الأحداث، مكتفين بالتذكير بأن بطل مشهدنا الأول لم يكف لحظة عن إعلان إيمانه وإسلامه.

 

    مشهدنا الثاني بطل هذا المشهد هو الأستاذ الدكتور/السيد أحمد فرج، وهو أستاذ جامعي يقف على الضفة الأخرى من النهر، الضفة المقابلة لموقع نصر أبو زبد · ففي أواخر عام 1998 شهدنا ضجة تتلخص في أن لسيادته مؤلف بعنوان "أدب نجيب محفوظ وإشكالية الصراع بين الإسلام والتغريب" تبني فيه وجهة نظر تري أن نجيب محفوظ قد انحاز في كتاباته إلى اعتناق قيم الغرب وحضارته، والتخلي عن الإسلام في عقيدته ونظامه وقيمه· وقد واكبت هذه الضجة محاولة اغتيال نجيب محفوظ وفي إطار الدفاع عنه. ولكن ما يستوقف النظر هنا هو أن المهاجمين توجهوا بخطابهم إلى السلطة مطالبين بتدخلها. كما أن الأستاذ الدكتور السيد  فرج وهو بصدد الدفاع عن نفسه مضي إلى تأكيد أنه لم يقم "بتدريس هذا الكتاب، ولا أي كتاب غيره من كتبي ولا من كتب غيري  يحتوي علي قضايا فكرية منذ أن وطئت قدماي الحرم الجامعي الأغر "· كما أن أمين مكتبة الكلية قد بادر بتبرئة ساحة المكتبة محيطًا السيد الأستاذ الدكتور عميد الكلية علمًا "بأن مكتبة الكلية لا تضم بين مقتنياتها " الكتاب المذكور ويمضي ممعنًا في تأكيد طهارة مكتبة الكلية مضيفًا " ··· ولم تطالب مكتبة الكلية باقتناء نسخ من هذا الكتاب"·

 

    مشهدنا الثالث بطلة هذا المشهد فهي الدكتورة آمال كمال التي كانت تشغل منصب مدرس مساعد والتي حصلت على درجة الدكتوراه في التحليل النفسي، و في منتصف 1999 حين تقدمت الدكتورة آمال برسالتها للحصول على درجة مدرس في قسم علم النفس، توقفت الإجراءات بحجة أن الرسالة تضمنت في أحد ملاحقها ما "يعتبر مساسًا بالمقدسات الدينية" وثارت ضجة شديدة حول هذا الموضوع لم تقف عند حدود النشر في الصحف بل كادت تصل إلى مجالس التأديب وساحات القضاء.

 

    و قبيل منتصف 2000 كان مشهدنا الثالث حيث جرت وقائع قصة "وليمة لأعشاب البحر" للكاتب السوري حيدر حيدر. لقد بدأت الأحداث بمقال في جريدة الأسبوع المستقلة يأخذ صاحبه على الرواية ما اعتبره تهجمًا على المقدسات الإسلامية، وردٌ عل ذلك من كاتب آخر في نفس الجريدة يختلف معه فيما ذهب إليه· ثم انتقل الأمر إلى جريدة الشعب الحزبية لينشر أحد كتابها مقالًا اختار له عنوانا بالغ الدلالة "من يبايعني على الموت؟"، وتداعت الأحداث لتنطلق مظاهرة طالبات ثم طلاب جامعة الأزهر رافعة صورًا من المقال.

 

    ولنحاول أولًا تحليل عنوان الخطاب الإعلامي وهو أهم مكونات مثل هذا النوع من أنواع الخطاب الإثاري حيث يتم فيه تكثيف مضمون الرسالة بشكل يمكن معه اعتبار بقية الخطاب مجرد مذكرة تفسيرية تنفيذية لذلك المضمون· لقد كان العنوان " من يبايعني علي الموت ؟ "، ولا يصعب على قارئ للتاريخ الإسلامي حتى لو لم يكن متخصصًا في هذا المجال أن تقفز إلي ذاكرته فورًا مصاحبات الانطلاقة الأولى لهذه الصيحة في موقعة اليرموك الشهيرة حين رأي عكرمة أن جيوش الروم الكثيفة تكاد تخترق صفوف المسلمين، فأطلق صيحته هذه فتوافد إليه المتطوعون من فرسان المسلمين ليشكلوا هجمة فدائية تقلب ميزان المعركة وتستشهد فيها المجموعة الفدائية جميعًا، ويذكر التاريخ أيضًا أن أم حكيم زوجة عكرمة كانت مع زوجها في المعركة بل أنها شاركت بالقتال الفعلي· نحن إذن حيال رسالة تستدعي واقعة تاريخية تعني باختصار أن الإسلام في خطر، وأن إنقاذه يتطلب عملًا فدائيًا استشهاديًا، وأن هذا العمل لا تستثني منه النساء·

    ولكي تتضح الصورة أكثر فلننظر إلى ما تلي العنوان. يقول الكاتب: "أول مرة ألقى مثل هذا الألم في حياتي .. أبدا.. ولا حتى هزيمة 67.. ولا حتى مع انهيار الآمال أملا بعد أمل.. و حتى مع تراكم الآلام ألما بعد ألم.. ولا حتى يوم موت أبى.. أبدا.. لم أشعر بمثل هذا الألم..

 

    عندما وقعت عينى على الكلمات الفاجرة الكافرة أحسست أنى تدنست.. دنس لا يمحوه اغتسال بالماء.. ولا كل أمواه الدنيا.. دنس لا يمحوه إلا الدم..

 

    دنس لا يمحو عاره وذنبه عنا إلا أن نموت شهداء ونحن نزيله.. نموت شهداء.. مدركين أن استشهادنا ذاك لا يمنحنا الحسنات بل يمحو عنا بعض السيئات..  أقصى آمالنا بالاستشهاد أن يعفو الله عنا.. وألا يسألنا يوم القيامة: لماذا انتظرنا كل هذا الانتظار قبل أن نستشهد..

    إلى هنا والأمر لا يعدو أن يكون صيحة ينقصها من يقول لبيك· وقد لبتها بناتنا ثم لباها أبناؤنا طلاب الأزهر· ترى لماذا كانوا هم بالذات الأقرب للتلبية ؟ إنهم ببساطة الأقرب إلى فهم النداء بحكم تخصصهم، ومن ناحية أخرى فإنهم بحكم إقامتهم في المدينة الجامعية في مناخ يكفل قدرًا أكبر من التفاعل الاجتماعي المكثف، وفي ظل ضغوط اقتصادية واجتماعية يعاني منها الشباب بعامة، وتلك الشريحة الشبابية بشكل خاص· في ظل هذه الظروف تطور الأمر إلى ما تطور إليه· لقد التقط أبناؤنا الأزهريون الرسالة، وكانت استجابتهم الفورية التظاهر العنيف؟

    وإذا كانت الاستجابة الغاضبة في حد ذاتها ليست بالأمر المستغرب، فإن ثمة تساؤلات تطرح نفسها:

    أولًا: ترى لماذا صدق أبناؤنا علي الفور ودون تردد صاحب صيحة "من يبايعني على الموت ؟"، دون بذل أي جهد للتيقن منها؟ إن ضرورة التيقن مما نسمع تتزايد بتزايد أهمية ذلك الذي نسمعه، وخطورة ما نحن بصدد الإقدام عليه نتيجة لذلك· فماذا إذا ما تعلق الأمر بالمقدسات الدينية، والدعوة للفداء في سبيلها؟ أليس التيقن أوجب في هذه الحالة؟ والتيقن من صحة ما نسمع لا يقتضي بطبيعة الحال المعاينة المباشرة للموضوع، بمعنى أنه لم يكن مطلوبًا أن يتم توزيع الرواية محل الجدل على الطلاب ليكونوا فيها رأيًا، فأساليب التيقن من صدق أية قضية متعددة معروفة ولسنا في مجال عرضها تفصيلًا· منها مثلًا التيقن من مصداقية المصدر، ومن معقولية الرسالة، واللجوء إلى أكثر من مصدر لاستجلاء الموضوع إلى آخره·

    ثانيًا: وحتى في حالة التيقن من أن ثمة مساس بالمقدسات، لماذا كان العنف هو أول الخيارات وليس آخرها؟ لماذا لم يجربوا مثلًا المدرج المعروف من الاحتجاجات السلمية بدءًا من الرأي المضاد المكتوب، والاعتصام بدرجاته المختلفة، والإضراب بأنواعه المتعددة، والإعلان الجماهيري عن الاحتجاج وصوره لا حصر لها ؟

 

السادة الحضور

 لعلكم قد لاحظتم معي أن تلك المشاهد الحديثة تجمعهما  ملامح مشتركة :

 

    الملمح الأول يتمثل في إن الأمر ليس مجرد اختلاف في الرأي أو الرؤية. إن تشخيص ما قام به الدكتور نصر أبو زيد لم يكن أنه قد تبني وجهة نظر مخالفة، حتى وإن كانت خاطئة بل كانت التهمة هي أن "أفكاره تخرج علي صحيح الدين" وهي تهمة غليظة أصبحت مثيرة للرأي العام وللسلطات علي حد سواء · كذلك الحال بالنسبة للسيد احمد فرج فقد تم تشخيص الواقعة ليس باعتبارها مجرد تبني وجهة نظر مخالفة خاطئة بل في أنه "محاولة اغتيال نجيب محفوظ" وهي أيضًا تهمة غليظة مثيرة للرأي العام وللسلطات· وكذلك الحال أيضًا بالنسبة للدكتورة آمال كمال التي نسب إليها على صفحات الصحف أنها "تشكك في معجزات الأنبياء"، وأن ما جاء في رسالتها لا يدخل بحال ضمن مجرد تبني وجهة نظر مخالفة خاطئة · وكذلك الحال بالنسبة لما أثاره نشر قصة "وليمة لأعشاب البحر

 

    الملمح الثاني يتمثل في الدعوة لمنع ترويج مثل هذه الأفكار. لقد كان العامل المشدد لجرم الدكتور نصر أبو زيد هو أنه قد روج لتلك الأفكار بين طلاب الجامعات مما يمثل تهديدًا لعقيدة أبناءنا الدينية · كذلك فقد كان العامل المشدد للجرم بالنسبة للدكتور السيد احمد فرج هو أيضًا الترويج لتلك الأفكار بين طلاب الجامعات مما يمثل دعمًا لممارسات العنف والإرهاب · أما بالنسبة للدكتورة آمال كمال، فقد كانت الخشية كل الخشية من أن تسرب أفكارها تلك خلال محاضراتها للطلاب أما بالنسبة لقصة "وليمة لأعشاب البحر" فقد استندت الإدانة على أن نشرها للاطلاع العام بمثابة شن حرب على الإسلام .

 

    الملمح الثالث يتمثل في أن من يتصدون للجدل العام في مشاهدنا سالفة الذكر لا يجدون حرجًا البتة في مناشدتهم السلطة بضرورة التدخل لنصرة وجهة نظرهم بقرارات تنفيذية، باعتبارهم الممثلون الحقيقيون لتوجهات تلك السلطة · لقد لجأ المختلفون مع الدكتور نصر أبو زيد إلى استعداء السلطة متمثلة في الجامعة، بل ولجأ فريق من هؤلاء المختلفين إلى القضاء سعيًا لإدانته، وتداعت الأحداث بالصورة التي نعرفها· أما في حالة الدكتور السيد احمد فرج، فإن خطاب المختلفين مع رأيه قد توجه إلى الأستاذ الدكتور وزير التعليم العالي طلبًا للرأي، وغني عن البيان أن طلب رأي المسئول الأول عن مجال التعليم العالي في مصر إنما هو في جوهره مطالبة باتخاذ قرار تنفيذي. أما في حالة الدكتورة آمال كمال فقد كانت المطالبة صريحة من كل الأطراف بضرورة تدخل الأستاذ الدكتور وزير التعليم العالي لفصلها من الجامعة، بل ومحاسبة الأساتذة الذين أشرفوا على إنجازها لرسالتها ومنحوها درجة الدكتوراه.

 

    الملمح الرابع يتمثل في ممارسة العنف الفعلي حيال المخالفين فكريا. وينبغي بداية أن نؤكد أننا لسنا بحال ممن يزعمون أن تلك الحقبة الليبرالية الاستثنائية كانت حقبة رومانسية وردية خلت من ممارسة العنف الفعلي حيال المخالفين فكريا، فاعتقال هؤلاء المخالفين بحكم القوانين الاستثنائية أمر لم يتوقف عبر تاريخنا الحديث، وإن اتسع نطاقه أو انكمش من وقت لآخر. بل إن السنوات الأخيرة من تلك الحقبة اللبرالية قد شهدت اغتيال السلطة لحسن البنا جهارا نهارا في وسط القاهرة في مطلع عام 1949 .

    الفارق أن عنف الحقبة الجديدة، عنف له طابع جديد. إنه لم يعد ذلك العنف المعروف الذي تمارسه السلطة مع من يخالفونها، ويمارسه المخالفون مع السلطة أحيانا. لقد أصبح عنفا شائعا تمارسه الجماعات حيال من تراه مخالفا لها. ويكفي أن نشير في عجالة إلي اختطاف ثم اغتيال الشيخ الذهبي في منتصف 1977، وكذلك اغتيال فرج فودة في 1992، ومحاولة اغتيال نجيب محفوظ، ومذبحة السياح في الأقصر في أواخر 1997 الى آخره.

 

السادة الحضور

    ترى كيف حدثت تلك النقلة الفكرية عبر نصف قرن ؟ فلننظر معا في أبرز أحداث تلك الفترة فلعل فيها ما يفسر ما حدث. وأتصور أن أبرز أحداث هذه الفترة –فيما يتعلق بموضوعنا- قد تمثلت في وقائع ثلاث: ثورة يوليو 1952، ثم هزيمة يونيو 1967، ثم ما أعقب ذلك من تدفق للعمالة المصرية علي دول الخليج وفي مقدمتها المملكة العربية السعودية.

    لقد تميز نظام يوليو ضمن ما تميز به بعدة ملامح تتصل بما نحن بصدده :

 

    الملمح الأول هو تعاظم دور الدولة من ناحية وقوة قبضتها في الشأن الداخلي من ناحية أخرى، بحيث لم يعد مستغربًا بحال اللجوء إلى "الرئيس" لحسم ما ينشب بين الأفراد أو الطوائف من خلافات في المصالح، أو اختلافات في وجهات النظر، صغرت تلك الاختلافات أو كبرت، حتى لو تعلقت مثلًا بالتصريح أو عدم التصريح بعرض فيلم أو نشر كتاب .

 

    الملمح الثاني الذي تميزت به ثورة يوليو في هذا المقام ضيق أو تضييق مساحة الاختلاف في الرأي، بحيث أصبحت القاعدة المستقرة هي "الإجماع"، ومن ثم أصبح الرأي الآخر يمثل خروجًا على إجماع الأمة ينبغي إدانته· وبصرف النظر عن أساليب فرض هذين الأمرين في البداية، فإنهما قد حظيا مع مرور السنوات بقدر هائل من تقبل -أو لنقل اعتياد بل وتبني- الغالبية العظمي من جماهير الشعب المصري· وغنى عن البيان أننا نعني بالرأي الآخر في هذا السياق ذلك الرأي المناقض لتوجهات السلطة الأساسية وحق أصحاب هذا الرأي في التعبير المنظم عن رؤيتهم.

    ومع هزيمة يونيو أصبح لدي نظام يوليو المزيد من المبررات الموضوعية لضرورة تقوية إحكام قبضة الدولة، وكذلك لضرورة "الإجماع" حيث لا ينبغي لصوت أن يعلو على صوت المعركة·

    و شهدت فترة السبعينيات إثر هزيمة 1967، موجة كثيفة من هجرة أعداد كبيرة من المهنيين والعمال من أبناء ثورة يوليو إلى دول الخليج البترولية، خاصة المملكة العربية السعودية، وتزايدت كثافة تلك الموجات مع السبعينيات. وكان من الطبيعي تمامًا أن يترك المناخ الفكري السائد في هذه الدول بصماته عليهم ليعودوا إلي أوطانهم وقد تشبعوا به.

    ومن أبرز تلك البصمات الإيمان بأن تدهور واقع المسلمين يرجع أساسا إلي ابتعادهم عن صحيح الدين واقترابهم من العلمانية. و غني عن البيان أن هذا الملمح يضرب بجذوره عميقا وبعيدا في نمط تنشئتنا العربية السائد رسميا منذ يونيو 1967 على الأقل وحتى الوقت الراهن. إنه التيار الفكري الذي أرجع هزيمة 1967 إلى علمانية النظام آنذاك كما أرجع "معجزة" أكتوبر 1973 إلى صيحة "الله أكبر". إن الأمر لا يتطلب إجراء بحوث علمية ميدانية دقيقة، بل يكفي نظرة إلى مجمل المحتوي الإعلامي لأجهزة الإعلام العربية المقروءة والمسموعة والمرئية رسمية كانت أو غير رسمية، ليتضح لنا أن التعبير عن هذا التيار الفكري بالتحديد هو الأعلى صوتا والأكثر انتشارا و نفوذا وجماهيرية. صحيح أننا قد نجد صورة هنا أو كلمة هناك تتسلل خارج حدود هذا التيار ولكنها لكي تستمر فلا بد لها من أن تبرز أنها لا تمثل نقيضا له بل مجرد "إضافة" أو "تطوير" للتيار الرئيسي ليس إلا.

    وتمثلت البصمة الثانية في أن العنف هو السبيل الأوحد لاسترداد الحقوق وردع المعتدي، وترجع سيادة هذه البصمة تحديدا في بنائنا الفكري إلى عوامل ثلاثة متكاملة. أولها خارجي دولي يتمثل فيما تعرضت وتتعرض له أوطاننا من قهر تمثلت قمته في المساندة الأمريكية لإسرائيل وممارساتها الوحشية حيال الشعب الفلسطيني.   والعامل الثاني محلي داخلي يتمثل انتهاء تلك المرحلة الاستثنائية من الليبرالية الهشة التي شهدتها مصر والتي آذنت بالمغيب مع إقامة سلطة يوليو، وما ترتب على ذلك من القضاء على مؤسسات المجتمع المدني والقضاء بالتالي على اكتساب أبنائنا مهارات النضال المدني السلمي. وتمثل العامل الثالث في سيادة فهم أصولي محدد للدين له ملامحه المعروفة التي لا يتسع المقام للإفاضة في تفصيلاتها

 

السادة الحضور

    أعتذر عن الإطالة و عن التقصير، وأطمع في تسامحكم إذا ما كنت قد مثلت لبعضكم "الآخر المختلف فكريا"، وأشكر لكم حسن إصغائكم

 

سعيا وراء ترجمة جميع صفحات الشبكة إلى الإنجليزية و الفرنسية نأمل من الزملاء الناطقين بالإنجليزية و الفرنسية المساهمة في ترجمة هذا البحث و إرساله إلى أحد إصدارات الموقــع : الإصــدار الإنجليــزيالإصــدار الفرنســي

 

Document Code VP.0022

Hefni-SelfEgo&others  

ترميز المستند    VP.0022

Copyright ©2003  WebPsySoft Arab Company www.arabpsynet.com  (All Rights Reserved)

 

تـقـيـيــمــك لهــذا البحــث

****

  ***

**

*