Arabpsynet

Points de Vue   /    View Points

شبكة العلوم النفسية العربية

 

قـــراءة نفسيــة فـي الفكــر الاستشراقــي

أ.د. محمد أحمد النابلسي

E.mail : nabulsy@cyberia.net.lb

 

 

    إن كل خلية من خلايا الجسم البشري تحمل في طياتها برنامجاً وراثياً معقداً هو بمنزلة التراث البيولوجي –الوراثي للشخص صاحب الخلية. من هنا كان اهتمام الأطباء بمعرفة العوالم الوراثية المؤثرة في صحة مرضاهم. بل بعض الأطباء النفسيين يصرون على تحديد "شجرة العائلة الوراثية" لمريضهم. وفي طليعة هؤلاء العالم المجري ليوبولد سوندي يبني نظريته على أساس هذا التحديد. ويتضح لنا مدى تجاهل الإنسان لتراثه وجهله له من خلال اختبار يتمثل بسؤال واحد هو التالي: "كم تعتقد يبلغ عدد أسلافك خلال 20 جيلاً؟".‏

 

    لقد طبقنا هذا الاختبار في بيئتنا العربية فحصلنا على تخمينات تراوحت بين أربعين سلفاً ومئتي سلف. في حين أن الجواب الحقيقي هو مليون سلف. بل إن عدد الأسلاف يصل إلى مليار سلف خلال ثلاثين جيلاً. هذا إذا وافقنا على اعتبار عائلات الأسلاف عائلات صغيرة العدد. وهو اعتبار في غير مكانه في بيئتنا العربية.‏

 

    إن هذا العدد الهائل من الأسلاف لابد له من أن يتضمن قديسين ومجرمين، عقلاء ومجانين، شرفاء ومنحرفين وغيرها من التناقضات التي تجعلنا قادرين على نسبة الشخص إلى قديسين عقلاء وشرفاء. كما تجعلنا قادرين على نسبة الشخص نفسه إلى مجرمين مجانين ومنحرفين. ففي خلاف جيلين لا أكثر نجد في كل عائلة بطلاً يقابله مجنون وقديساً يقابله منحرف. وكلهم يملكون نفس الخريطة أو البرنامج الوراثي أو الذاكرة الوراثية.‏

 

    إلى جانب هذه الذاكرة الوراثية يملك الشخص ذاكرة النوع البشري التي أتاحت للجين إفراز المادة التي ساعدته على اختراق البويضة لتبدأ حياته الجنينية ومعها ذاكرته الجنينية (يسمع الجنين الأصوات ويمص إصبعه ويكون مجموعه من الارتكاسات ويحتفظ بها في ذاكرته البدائية لكي يواجه بها حياته المقبلة خارج رحم أمه) ثم تبدأ ذاكرته الرضاعية لدى شعوره بالاختناق فور خروجه إلى النور. فيصرخ صرخة الولادة ليدخل الهواء إلى رئتيه للمرة الأولى وليعاني أولى تجارب قلق الوجود الذي سيصاحبه طيلة حياته ولكنه سيعجز عن استحضار المعلومات المختزنة في ذاكرته لغاية بلوغه سن الثلاث سنوات حين تبدأ اللغة بالتكامل في إدراكه. فلو طلبنا من أي شخص العودة إلى أعماق ذاكرته ومحاولة تذكر أقدم حدث يمكنه أن يتذكره فإننا سنجده يقف على مشارف السنة الثالثة من عمره. ولعله من المدهش أن ذكريات تلك الفترة المبكرة من العمر تأتي متناسقة ومنسجمة مع شخصيته الراهنة. وكأن نواة الشخصية قد تكونت في هذا العمر. حتى نشأ تيار نفسي يدعو إلى دراسة الشخصية من خلال أقدم الذكريات التي تستطيع استحضارها. لكن ذاكرة الإنسان لا تواصل تطورها المنتظم منذ سن الثالثة بل هي تتعرض لنسيانات عديدة في الفترة العمرية الممتدة من 5-8 سنوات (وهذا ما يدعوه فرويد بفقدان الذاكرة الطفولي وهو قابل للاسترجاع).‏

 

    وتبدأ ذاكرة الشخص بالمعنى المألوف لتسجل تجاربه الحياتية وتفاعله مع محيطه بالسلب وبالإيجاب. فتتكون الذكريات بمعناها التقليدي وبأثر ذاكرة النوع يميل الشخص لاستحضار ذكرياته الإيجابية ولنسيان وكبت السلبية منها. هذا ويتفق كافة علماء النفس على أن مواجهة الشخص بذكرياته السلبية هو نوع من أنواع الوحشية (يدعوه فرويد مثلاً بالتحليل الوحشي) فالشخص لا يتحمل هذه المواجهة إلا إذا وضع الأمور في سياقها الذي يبرر حدوثها. أما العالم بيار مارتي فإنه يعتبر أن اللاوعي (ذلك الجزء المكبوت من الذاكرة) هو معادل الحقل الألغام وأنه ليس من مصلحة المتعالج أن يجول معالجه بين هذه الألغام فيفجرها له دون واعي ودون ضرورة. من هنا يدعو مارتي لاقتصار تركيز المعالج على مساعدة المتعالج على تفكيك الألغام فقط في المنطقة المتعلقة باضطرابه من لاوعيه.‏

 

    ويبقى السؤال كيف يكوّن الإنسان مفهومه للآخر؟ إن الرضيع يكتشف في سن معدله 5 أشهر أن قدمه تنتمي إلى جسده. ويتم هذا الاكتشاف أثر حركة عشوائية تصطدم من خلالها يده بقدمه. وكم يسعد الرضيع بهذا الاكتشاف فيقضي أوقات طويلة يتمتع باللعب بأصابع قدمه. ثم يمضي لاكتشاف بقية جسمه تدريجياً. فإذا ما تم هذا الاكتشاف أدرك أن جسد أمه لا ينتمي إليه وإن أمه هي شيء آخر بالنسبة له وبهذا يبدأ الطفل بتكوين مفهوم "الآخر" ويكون ذلك أيضاً في حدود الثلاث سنوات من عمره.‏

 

    على هذه الأسس يمكننا القول بأن لكلّ شخص عدة خيارات قدرية. فقدره مؤلف من مجموعة الخيارات المعيشية المتاحة له والتي تحددها شروط وراثته وظروف حياته. إن هذا التعريف يجمع بين الجبرية وبين الاختيارية. إذ نلاحظ من جهة أن لا خيار للإنسان في تحديد خياراته المعيشية. إلا أنه من جهة أخرى حر في انتقاء واحد من الخيارات المتاحة له. انطلاقاً من اعتبار أن الشخص يحمل في طياته الوراثية خيارات محددة لا يكون مجبراً في معايشتها جميعاً فهو قادر على الانتقاء من بينها. فإذا ما أساء هذا الاختيار أمكن للعلاج النفسي مساعدته. هكذا فإن تعرفنا إلى التراث الفردي للشخص يجعلنا قادرين على مساعدته ولكن أيضاً على تدميره بوحشية. فلنتخيل ماذا يكون مصير هذا الشخص إذا ما أخرجنا له فضائح أسرته وعرفناه على أسلافه المنحرفين والفاسدين متجاهلين أسلافه الصالحين والشرفاء. ثم عدنا فنقبنا في ماضيه الشخصي فواجهناه بكل مكبوتاته السلبية دفعة واحدة. ثم أوحينا له بانتقاء أسوأ خياراته المعيشية؟‏

 

    إن هذا الأسلوب معتمد في علم النفس السياسي. بل إن تطبيقه يتخطى الأفراد إلى مجتمعاتهم وإلى الأمة التي ينتمون إليها. وهذا تحديداً هو ما فعلته الحركة الاستشراقية بالأمة العربية وبتراثها.‏

 

1-    في الاستشراق:‏

    إن التراث العربي هو الذاكرة اللغوية للأمة العربية. لكن تراث الأمة لا يكتمل إلا بدراستها دراسة أنتروبولوجية اجتماعية معمقة. لذا اكتفى المشروع الاستشراقي بدراسة التراث العربي المدون وهو اختصار ينطوي على الكثير من احتمالات الشطط وسوء التفسير. خصوصاً لجهة نسبة هذا التراث إلى الأمة ولغتها ليكون عربياً أم نسبته إلى الدين فيكون إسلامياً.‏

 

    ولو نحن أمعنا النظر لوجدنا أن فترة الذروة الاستشراقية قد تزامنت مع وقفة غورو (قائد الجيش الفرنسي) أمام قبر صلاح الدين الأيوبي وهتافه: "ها نحن يا صلاح الدين قد عدنا فانهض من قبرك وحاربنا". فهلا عدنا سبعة قرون إلى الوراء من تاريخه لنرى كيف تعامل صلاح الدين مع القواد الصليبيين بأسلوب شهم و فروسي بعيد عن انتهاك حرمة الأموات بسبعة قرون من الرقي بعد وقفة غورو.‏

 

    إن هذه الرغبة المحمومة في الانتقام تجمع بين هذا القائد وبين معاصريه من المستشرقين. فهم يعتبرون فشل مشروع الحروب الصليبية بمنزلة الظلم الذي يستدعي الانتقام. فإذا ما تم لهم استعمار المنطقة ترسخت لديهم مشاعر الاضطهاد المرضية. لذلك اعتمدت استراتيجيتهم في تلك الفترة مبدأ المزج بين الاستشراق وبين التبشير. لتضاف لاحقاً إلى هذه الاستراتيجية مظاهر التسلط السياسي والاقتصادي ومن ثم تفجير كافة ألغام الصراعات التاريخية المكبوتة (الأقليات والدينيات والمذهبيات... الخ).‏

 

    انطلاقاً من هذه المعطيات لم يعد بالإمكان النظر إلى الاستشراق كمشروع دراسي ينضوي على بعض الإنسانية وعلى القليل الأقل من الموضوعية. فرغبة الانتقام تجعل الاستشراق عاجزاً عن الانطلاق من الوقائع مروراً بالتحليلات وصولاً إلى النتائج. فالمشروع الاستشراقي كان مشروعاً جاهز النتائج ومحضراً للحلول الجاهزة بما يجعله محتاجاً إلى سوء تفسير الوقائع وتحوير التحليلات وصولاً إلى نتائج مجهزة ومقولبة مسبقاً لتسويق الحلول التي لا تخرج عن فرض أسوأ الخيارات المعيشية المتاحة لأمتنا.‏

 

    وطرحنا هذا ليس تهمة نلقيها جذافاً بل هو طرح موضوعي تدعمه حقائق ثابتة (يعترف بها بعض المتنورين الغربيين الذين سنسرد موجزاً لآرائهم لاحقاً) أبرزها التالية:‏

1-  إن الاستشراق هو مشروع متكامل محدد المنطلقات والغايات. وبالتالي فإن أياً من المستشرقين لم يتعامل مع تراثنا تعاملاً فردياً (وإلا كنا على استعداد لاحترام آرائه مهما اختلفنا معها) وإنما كان هذا التعامل داخلاً في إطار مشروع كلي.‏

2-     كما قدمنا فقد كان الاستشراق فعلاً انتقامياً بما يفقده صفات الموضوعية والحياد العلمي والقدرة على احترام النتائج الحقيقية.‏

3-  يتعامل الاستشراق مع الأحداث التاريخية من خلال تجزيئه لها ومن خلال عدم احترامه مبدأ السياق الزمني للحدث (العودة إلى الزمن التاريخي). وبهذا فإن الاستشراق يرتكب مخالفة مزدوجة للمنطق. فالحقيقة الكاملة تختلف عن أجزائها (خصوصاً إذا كان إدراك هذه الأجزاء انتقائي بصورة سلبية خبيثة) وهي ليست مطلقة كي نهمل عوامل الزمان والمكان في تعاملنا معها. كما يرتكب الاستشراق من خلال هذا التعامل، خطيئة التحليل الوحشي لتراث الأمة (وهي خطيئة جرمية على صعيد الأفراد فما بالنا على صعيد الأمم؟‏

4-  يضع التبشير لنفسه هدف التعاطي مع الدين الإسلامي على أنه أسطورة شعبية ومع المعتقدات الإسلامية على أنها منقولة عن اليهودية والمسيحية. وهو بذلك لا يلغي الآخر كشخص وإنما يحاول إلغاءه كعقيدة. وفي هذا الموقف انتقام سادي قد يكون من حق القوي على الضعيف ولكنه حتماً لا يندرج في خانة الموضوعية التي يحاول المستشرقون ادعاءها.‏

5-  بقيت اللغة العربية والفكر اللغوي العربي عقبات كأداء في وجه المشاريع الاستشراقية. فاضطر الاستشراق للتعرض لهما فكانت محاولات تعطيل اللغة العربية باعتبارها سبباً رئيسياً لتخلف الناطقين بها. ومن ثم محاولات إبدالها باللهجات المحلية والعامية. وأيضاً محاولات اختراق فكرها وحرفها بدعوات إلغاء التشكيل وكتابتها بالحروف اللاتينية وتشجيع اللغات المكتوبة بالحرف العربي للتخلي عن هذا الحرف... الخ من محاولات استهداف اللغة ومحاولات اغتيالها ككائن حي يلعب دور الوالدة بالنسبة للأمة.‏

6-  العمل على تجسيد أهداف الاستشراق من خلال خلق التيارات والمؤسسات التي تحتضن هذه الأهداف وتؤمن استمراريتها وتفاقمها وصولاً لإرصان مقدمات استعمارية أعمق وأرسخ. تتوافق على هدف نهائي هو اغتيال ثقافتنا.‏

 

    فكم كان لهذه المشاريع من تأثير على فكرنا العربي المعاصر؟ وإلى أي مدى نجحت في تحقيق غاياتها؟ وما هي تطوراتها وأخطارها الآنية والمستقبلية؟ ... الخ كلها أسئلة وإشكاليات تحتاج للمناقشة.‏

 

2-    الاستشراق يفجر الألغام التراثية:

    قلنا إن اللاوعي مزروع بالألغام وإن تفجير هذه الألغام هو إساءة بالغة واعتداء وحشي ودفع نحو أسوأ الخيارات. فللأمة كما للأشخاص، لا وعيها الجمعي الذي يؤثر مباشرة في وعيها وسلوكها. فإذا ما تعرض الوعي إلى أزمات راهنة ومرهقة فإنه يلجأ إلى الحيل الدفاعية للحفاظ على توازنه وعلى ذاتيته. في مقدمة هذه الحيل تأتي حيلة: النكوص –التثبيت. بحيث تلجأ الذات إلى ماضيها بحثاً عن الأزمنة الماضية التي حصلت خلالها هذه الذرات على توازن واستقرار كافيين لترسيخ هويتها وتأكيد ذاتيتها. فإذا ما حددت الذات هذه المحطات ثبتتها في ذاكرتها ولجأت إليها وقت الأزمات. لكن هذه التثبيتات لا تكون دائماً مأمونة. فهذا التوغل في الماضي يمكنه أن يفجر لدى الذات ألغام الصراعات المكبوتة فتتحول هذه إلى راهنة. من هنا كان وجوب الحذر والتحكم في هذه العمليات. وقد يحصل أن يتدخل آخر ويستعرض ويدرس ويراقب ماضي الذات ولا وعيها. فإذا كان هذا الأخير إنسانياً وموضوعياً فإن بإمكانه قيادة نكوص الذات في الطريق الآمنة. أما إذا كان هذا الآخر وحشياً (أو جاهلاً) فإنه يقود الذات إلى تفجير ألغامها اللاواعية وإلى ترهين صراعاتها. بما يفقد الذات احتمالات القدرة على استعادة توازنها الذاتي ومعاودة تنظيم نفسها بنفسها. فتتحول هذه الذات نحو التفكك والتفتت وفقدان الهوية.‏

 

    وإذا كان التراث المدون هو ماضي الأمة فإن لا وعيها هو مزيج من لغتها وصراعاتها الداخلية ورغباتها ونزواتها وطموحاتها وفطرتها ومعتقداتها. وجاء الاستشراق لينقب في ماضي الذات العربية ولينسف تراثها بشتى الطرق التي من شأنها أن تعيق أي نكوص مأمون ويحول جميع نكوصات الذات العربية إلى غير مأمونة وبالتالي إلى ألغام من شأنها تفجير جميع الصراعات الداخلية المكبوتة في الذات العربية. مع الإصرار على تحويلها إلى صراعات متجددة راهناً ومعيشة. ولذلك باستخدام مجموعة أساليب منها:‏

أ‌-       تزوير النصوص: ويتم هذا التزوير بصور وأساليب متعددة منها:‏

-    ترجمة نصوص عربية إلى اللاتينية وانتحال مترجميها صفة المؤلفين. ثم تأكيد المستشرقين الجدد لهذا الانتحال أو محاولة فصلهم الأصل عن الترجمة.‏

-    تحوير النصوص: على غرار تحريف رسالة ابن ميمون ونشرها على شكل رواية باللغة الفرنسية. وقد بلغ هذا التحوير حدود تحويل هذه الرسالة إلى إدانة الحضارة العربية والتنكر لتسامحها مع غير المسلمين.‏

-          إخفاء بعض النصوص بعد سرقتها. ولا حاجة بنا هنا للتذكير بأن غالبية مخطوطاتنا التراثية موجودة في مكتبات أجنبية.‏

ب‌-   سرقة المخطوطات والآثار عموماً وتهريبها إلى الخارج.

ج‌-  إبراز النصوص التي تعيد إحياء الفتن والتناقضات: مثال ذلك الاهتمام بإخراج وتحقيق ونشر المخطوطات التي تعيد ترهين الصراعات الداخلية المكبوتة في الذات العربية. وتحديداً نعطي مثال مناقشة بروكلمان لحادثة صفين وهي مناقشة اعتمدت مرجعاً انتقائياً يخدم الأهداف المسبقة للمؤلف.‏

د‌-   طمس الإنجازات الحضارية العربية: يكاد المستشرقون الإجماع على إنكار أية إضافة فكرية أو علمية للحضارة العربية. فالفكر العربي منقول برأيهم عن اليونان. وهم ينكرون فضل العرب في إرساء المنهاج التجريبي في العلوم وإضافاتهم الفلسفية والفلسفية –اللغوية إلى التراث الإنساني. وهم لم يعترفوا إلا مؤخراً بأسبقية ابن النفيس في اكتشاف الدورة الدموية. وهم إذا ما وجدوا أنهم مضطرون للاعتراف بإنجاز عربي ما فإنهم يعودون ليركزوا بإلحاح على الصفات التي تبعد صاحب الإنجاز عن عمليات النكوص –التثبيت المأمونة. فيجدوه إما ذي أصول غير عربية وإما مشكوك بأخلاقه أو بانتمائه الديني والمذهبي إذا اقتضى الأمر. وكأن التنقيب في هذه المواضيع أهم من الإنجاز نفسه.‏

هـ- أحادية الأحكام: ينطلق الاستشراق من مبدأ الدراسة وحيدة الاتجاه. فالحوار مع الآخر مرفوض. فهذا الآخر مجبر للتعامل مع هؤلاء الدارسين وفق المقاييس التي يحددونها هم. والتي تعتبر قيمهم مقدسة غير قابلة للنقاش وكل ما يعارضها من قيم الآخر هو في حكم الشذوذ.‏

و- تشجيع اللبس في تفسير الصراعات الداخلية للذات العربية.‏

ز- إنكار النصوص والمعطيات التي يمكنها أن تدعم الذات العربية وتساهم في دعم توازنها. وصولاً إلى اعتبار التعاليم الإسلامية بمنزلة الوضعية. كمقدمة لإنكار التراث كله واعتباره عاجزاً عن الصمود في الزمان. وهو اعتبار يشكل خطوة على طريق نسف أي محاولة تكامل بين التراث وبين الحداثة.‏

 

    لكن النكوص (العودة إلى التراث) ليس بالحيلة العقلية –الدفاعية الوحيدة. إذ تملك الذات وسائل دفاعية أخرى للحفاظ على هويتها عن طريق استعادة توازنها وإعادة تنظيمها. وعندما تأكد لأصحاب هذه المشاريع فعالية هذه القدرات الدفاعية (البديلة للنكوص) لجئوا إلى العبث بلا وعي الأمة وبعناصر توازنه بما يؤثر على استقرار الذات وتوازنها.‏

 

3-    العبث بلا وعي الذات العربية:‏

    قلنا إن وعي الأمة يتخطى تراثها المدون إلى مجموعة العناصر المكونة للعقل العربي وهي نفسها العناصر التي كانت وراء إنتاج تراثها الحضاري. من هنا فإن تشويه التراث لا يكفي وحده لتشويه هذه العناصر ولدفع الذات العربية نحو الشك بعقلها. من هنا كان التركيز على العناصر التالية:‏

أ‌-   اللغة العربية: هذه اللغة التي مثلت أداة صنع الحضارة العربية وقناة تكريسها تاريخياً. بل إن هذه اللغة لا تزال محافظة على شبابها وحيويتها وأصالتها عبر تاريخها الطويل. لذلك كان العمل جاداً لإقرار خطط مدروسة لتشويهها وربطها بالتخلف العربي الراهن بهدف تحويل هذه اللغة إلى مجرد فولكلور.‏

ب‌- الصراعات الداخلية: إن الدراسة التاريخية المفصلة للتراث العربي تتيح للدارسين التعرف إلى نواة الصراعات الداخلية للذات العربية وإلى آثار هذه الصراعات في تفكيك الذات العربية. مما يجعل من السهل إعادة تفجير هذه العلائم التفككية –الفصامية عن طريق إثارة مشاكل الأقليات (الطائفية والمذهبية والعرقية والقبلية) في العالم العربي.‏

ج‌-  التعويضات المستحيلة: تعتبر الرغبة من الدوافع الرئيسية الموجهة لسلوك الذات والمساعدة على تحقيقها لتوازنها. فإنجاز الرغبة يشكل كفاية للذات. من هنا فإن المشاريع الاستعمارية تغذي كافة الرغبات العربية غير القابلة للتحقيق وتستخدم هذه الرغبات المضخمة لكبت ومحو الرغبات الموضوعية القابلة للإنجاز والتحقيق وإعادة الثقة للذات العربية تالياً.‏

د‌-   النزوات الفردية: النزوة الجماعية هي تعريفاً نزوة متسامية الأمر الذي يعقد استغلالها ويجعله صعباً. وكلما تجزأت هذه النزوة تدنى موقعها في سلم التساميات. ومن هنا تشجيع النزوات الفردية، من قبل الاستعماريين، ودعمها بهدف استغلالها في الأوقات المناسبة.‏

هـ- الإحباطات: على ضوء الوقائع المعروضة أعلاه تأخذ الطموحات طابع التعويض. وكلما زادت الإحباطات كلما بعدت الطموحات عن الواقعية. وهكذا فإن إفراغ الطموحات من موضوعيتها يمر بتعريض الذات للإحباطات المتكررة.‏

و- المعتقدات: وهي الأصعب منالاً لأنها تظل فاعلة في تحقيق توازن الذات (لأنها تساعدها على مواجهة قلق الوجود ومخاوف ما بعد الموت) حتى بعد إعاقة وتعطيل العوامل الأخرى. فإذا ما حدثت هذه الإعاقة اضطرت الذات للاعتماد كلياً على معتقداتها. مع ما يستتبعه هذا الاعتماد من خضوع كلي –نكوصي لهذه المعتقدات التي تصبح ممثلة وحيدة لهوية الذات. حتى يصبح النكوص الديني دلالة على إفراغ اللاوعي من عناصر دفاعه وعلى رغبة الذات في العودة إلى الصفر (ZERO) هذه العودة التي يشرحها التحليل بأنها معادلة للرغبة في الموت. لكنها تتجلى بالقول: "ليتني لم أولد" عوضاً عن القول: "ليتني أموت".‏

 

4-    في مواجهة الاستشراق:‏

    رأينا أن مشاريع الاستشراق تتمتع بدعم المؤسسات التي وضعتها وتتداخل مع المنظومات الفكرية –الاستعمارية لتكون مصدراً من المصادر الهامة لمعلوماتها ولرسم المستقبليات وتحديد إمكانية التدخل في توجيه هذه المستقبليات. فإذا ما راجعنا مجمل المشاريع المستقبلية –الاستعمارية وجدنا فيها أثر المعلوماتية الاستشراقية.‏

 

    في المقابل نجد أن مهمة مواجهة هذه المشاريع ملقاة على عاتق أفراد فكيف يستطيع إنسان فرد –عربي، بظروفه المعلومة، مواجهة مثل هذه المشاريع؟‏

 

    الواقع المؤسف يدلنا على عجز هؤلاء الأفراد على المواجهة. فإذا ما قلبنا في مكتبتنا العربية وجدنا مجموعة محاولات نقدية للاستشراق. لكننا لا نجد مواجهة نظرية منظمة واحدة للتصدي لهذا الموضوع. فإذا ما راجعنا هذه المحاولات الفردية وجدناها مشتركة في بعض الهفوات والنواقص ومنها:‏

أ‌-   يعمد الناقد إلى اعتماد الموقف الدفاعي وكأنه يقبل التهمة، أو مجموعة التهم، التي يوجهها الاستشراق دون مناقشة. حتى يبدو هذا الموقف وكأنه اعتراف ضمني بالاتهام. ويزداد هذا الموقف تعقيداً عندما تتعلق التهمة بالنواحي الدينية. حيث يصبح الموقف الدفاعي تهمة بحد ذاته. فالقضية الإيمانية لا تناقش إلا في إطار المناظرات الدينية بين الأطراف المعنية. وهي مناظرات خارجية، في جميع الأحوال، عن اختصاص الاستشراق.‏

ب‌- يعمد بعض النقاد إلى المواربة المكشوفة. فيعتمدون في ردهم على المستشرق على مراجع غير تلك التي استند إليها هذه المواربة توحي للمحايد بأنها هروب وتهرب من مواجهة الحقائق. مثال إن غالبية منتقدي بروكلمان قد اعتمدوا هذا التهرب في ردهم على طرحه لحادثة "صفين". فهو قد اعتمد مرجعاً له كتاب "الملل والنحل" للشهرستاني. فلما ردوا عليه اعتمدوا مراجع أخرى وتجاهلوا مرجعه. حتى بدوا عاجزين عن دفع تهمته القائلة بفقدان العرب للمقومات الحضارية (بسبب حادثة صفين كنموذج).‏ في رأينا الشخصي إن الرد على هذه التهمة لا يتم بتجاهلها أو بتجاهل مراجعها ولا بالانطلاق للدفاع عنها وإنما يأتي الرد باعتبار هذه الحادثة من الحوادث طبيعية الحدوث كنوع من أنواع اللامعارضة لدى الذات. فهل يمكننا اعتبار الحوادث التالية لقيام الثورة الفرنسية دليلاً على فقدان الفرنسيين للمقومات الحضارية؟ أم نعتبر حوادث إيرلندا دليلاً على مثل هذا الفقدان؟ ونسأل عن الفوارق بين هذه الحادثة وبين حروب السبعين سنة والأهليات اليونانية والإسبانية بل نتساءل عن حوادث لوس أنجلوس وما تشير إليه من فقدان حقيقي لمقومات التكامل الحضاري؟.‏

ج‌-  يتبدى لنا الاستشراق كأب حقيقي للمشاريع الاستعمارية في عالمنا العربي. ولقد تبدت هذه الأبوة واضحة من خلال فيلبي ولورانس العرب. كما تبدت حديثاً من خلال الاهتمام بالأقليات لدرجة الدعوة لإقامة مؤتمرات تُفجر تناقضاتها بصورة صدمية عوضاً عن مناقشتها في إطارها الزمني والإنساني بصورة هادئة بعيدة عن استثارة مشاعر العداء وإلباسها الثوب التاريخي. ولعل فتيل أزمة الأقليات المصطنعة قد بدأ اشتعاله مع وعد بلفور. فلو نظر المستشرقون في تراثنا بصورة موضوعية لرأوا أن الحضارة العربية خلقت مناخاً تعايشياً، مع اليهود خصوصاً، لم تتمكن المجتمعات الغربية من بلوغه حتى الآن. دون أن يعني هذا التعايش السماح للأقليات بتنفيذ مشاريع استعمارية تمزق الجسد والذات العربيين.‏

 

    إن الفردية المميزة لنقد الاستشراق وعدم تأطير هذا النقد يؤديان إلى عدم تفرغ النقاد وتصديهم للنقد بأسلوب أقرب للهواية منه للتخصص والإرصان العلمي لمنهجه محددة. وبهذا نصل إلى السؤال: هل توصل ناقدوا الاستشراق إلى رسم الخطوط العريضة لمثل هذه المنهجية؟ ونقصد هنا علمية واضحة وقادرة على إقناع الحياديين من مثقفي العالم.‏

 

    في واقع الأمر إن أي مشروع من هذا النوع يصطدم بجملة فائقة التنظيم من المؤسسات والجمعيات وبصخرة هائلة من العقول العربية الأسيرة. هذه العقول التي فشلت في تبني النكوص الديني أو هي اكتشفت سذاجته كحيلة دفاعية فوجدت الحل بالنكران التام لهويتها تحت مسميات الحداثة والليبرالية والإنسانية والعالمية.. الخ إن التنظيم التكاملي بين هؤلاء وبين المشاريع الأجنبية كان جديراً بوأد أية محاولة لقراءة عقلانية لواقع الذات العربية ولتراثها وللاوعيها. كما كان جديراً بإبراز أي مظهر من مظاهر الأسر العقلي مقصوداً كان أو عن غير قصد.‏

 

5-    النقد الغربي للاستشراق ولمشاريعه‏

    تشكل كتابات نعوم شومسكي نموذجاً مثالياً لنقد المنطلقات الفكرية الغربية التي كانت أساس الأفكار المسبقة التي قامت عليها مشاريع الاستشراق والتبشير وما انبثق عنها من مشاريع الوصاية على شعوب العالم الثالث عامة وعلى الشعب العربي خاصة.‏

 

    وبالرغم من يهودية شومسكي وانتمائه إلى الدوائر الأكاديمية الأميركية تمكن هذا المفكر من تكوين فكر ناقد وشديد الحساسية إزاء اللاعدل. فهو بداية رفض الألسنية السلوكية (شومسكي متخصص أساساً بالألسنية) واستبدلها بالألسنية التوليدية –التحليلية. هذا الرفض والاستبدال التالي له يشكلان دعامة الموقف الفكري لهذا المفكر. فرفض السلوكية يعني بحد ذاته رفض النموذج الفكري الأميركي (وبالتالي الشعوب) من خلال التحكم بظروفه الحياتية وصولاً إلى دفعه للاتساق مع نسق القيم الأميركية. هذه النظرية كانت بمنزلة حصان طروادة الذي دخل من خلال الفكر الأميركي إلى عقول المثقفين وأصحاب الاختصاصات الإنسانية (علم النفس والاجتماع والألسنية... الخ).‏

 

    لقد اكتشف شومسكي أن اللغات، مثلها مثل الشعوب والكائنات الحية، تختلف في بنيتها وفي فلسفتها مما يحول دون تطبيق السلوكية عليها. هذا الاكتشاف كان وراء مواقف شومسكي وملاحظاته لاتساع الهوة بين القول والفعل في صفوف المسؤولين والسياسيين الغربيين. بما يتكشف عن خيانة فاضحة للمبادئ الديمقراطية التي ينادون بها.‏

 

    لقد كرس شومسكي هذه الآراء بكتابات جريئة هي: "في الحرب مع آسيا" و "الجبروت الأميركي والمستعمرون الجدد" و "السلام في الشرق الأوسط" و "نحو حرب باردة جديدة" و "قراصنة وأباطرة" و "ثقافة الإرهاب" و "تصنيع الإذعان" و "أوهام ضرورية" و "إعاقة الديمقراطية". ولقد احتوت هذه الكتب على إدانات صريحة موضوعية لتناقض الفكر والممارسة في السياسة الأميركية حيث تستخدم الولايات المتحدة تفوقها العسكري بلا رحمة من أجل حماية مصالحها واستدرار مغانم شتى.‏

 

    وإذا كانت مواقف شومسكي مواقف سياسية مباشرة وراهنة فإننا نجد في المقابل نقداً منهجياً للدراسات الاستشراقية. ومن أهم هذه المواقف كتاب "النظر غير المتساوي" للمؤلف الفرنسي آلان لوبيشون. إن المنطق الفكري المعتمد في هذا الكتاب يقوم أساساً على مبدأ احترام تمايز الآخر. والاعتراف بهذا التمايز هو بحد ذاته ناجز بالآخر. بداية يعترف المؤلف أننا أصحاب نظر غير متساو. فالنظر لا يتساوى بين البشر لأنه أساساً نظر مختلف ما دام صادراً عن مرجعيات ثقافية مختلفة. لكن الفكر الغربي لا يقر مبدأ التمايز إذ يقول بوجود نظرة متساوية واحدة (هي نظرته بالطبع) وفي سبيل ذلك فهو يعمد إلى اختزال النظرات الأخرى حتى يرى فيها نظرته هو. ولتدعيم آرائه ينكص لوبيشون إلى حادثة مقتل هابيل على يد قابيل، وذلك في إطار نظري يتشابه إلى حد بعيد مع تناول عالم النفس المجري سوندي لهذا الموضوع. لكنه يختلف مع سوندي من حيث استخراج دلالات هذه الحادثة. ففي حين يرى سوندي أن الحياة النفسية للشخص هي ميدان صراع بين الميول القابيلية والميول الهابيلية فإن لوبيشون يرى أن الموت هو أصل المعرفة. إذ إن قابيل لم يتعرف حقاً على أخيه إلا بعد أن قتله.‏

 

    وهكذا يستنتج لوبيشون أن الموت هو أول أشكال المعرفة. وهو ينطلق من هذا الاستنتاج إلى القول بأن الصلات القاسية بين الموت والمعرفة هي صلات لم تنعدم قط في تاريخ البشرية. وهو يجد في مبدأ التشريح نفسه، وفي عمليته المادية، واحداً من وجوه العلاقة بين الموت والمعرفة. ولكن ما هو التشريح برأيه؟‏

 

    التشريح هو وضع الإنسان قيد المراقبة والتفتيش والتفكيك في وضع تجميدي له. على أن تقوم مسافة بين المراقب الدارس وبين الآخر (موضوع التشريح). بهذا التعريف يجد لوبيشون أن وضعية التشريح هذه هي الوضعية الأساسية التي قامت عليها الفلسفة العقلانية الوضعية (المتحدرة من فلسفة الأنوار) لاسيما "علوم الإنسان" التي تفرعت عنها الأنتروبولوجيا. فهذه العلوم لم تكن لتنشأ لو لم يتعرف الأوروبيون إلى الثقافات الأخرى ولو لم يعترفوا بوجودها. ثم يعمد المؤلف إلى التمييز بين فئتين من الجمود المؤسس: 1- جمود المراقب و 2- جمود الموضوع: وهو يتجلى في علم الأنتولوجيا حيث يدرس الإنسان البدائي على أنه جامد جمود التاريخ. كما يتجلى فيه جمود المراقب من خلال ابتعاده عن الاتصال بالموضوع.‏

 

    هذا الجمود يكمن في أساس دعوة لوبيشون إلى ضرورة إجراء مراجعة شاملة لكافة العلوم الإنسانية. وذلك وصولاً للدعوة إلى إقامة "علوم إنسانية متبادلة" إذ إن اقتصار هذه البحوث على أعمال غربيين، في بيئات غريبة عليهم، يجعل منها مواضيع شك. وهنا يسجل المؤلف بعض القناعات التي سبق له تجسيدها بمشاركة "امبرتو إيكو" في تأسيس المعهد عبر الحضاري.‏

 

    إن آفاق هذا الكتاب تلتصق بطابعه الإنساني العام. إذ يؤكد على أن العلوم الإنسانية لا تقوم لا من خلال وجود الآخر واعترافنا بهذا الوجود. وهو قد جسد أساليب هذا الاعتراف على النحو الآتي:‏

1-  أقام لوبيشون في العام 1982 وحدة دراسية خاصة بـ "أتنولوجيا فرنسا" على أن تتألف هذه الوحدة من باحثين من العالم الثالث. وهو قد وضع بذلك حداً لاحتكار النظر الغربي على العالم (وهو احتكار يدوم منذ قرون) فماذا كانت النتيجة؟‏

    كانت رؤية باحثي العالم الثالث شبيهة بتعليقاتهم على المجتمع الفرنسي. وهي لم تكن متحفظة كما هي الحال تعليقات الباحثين الغربيين.‏

2-     استقدم لوبيشون باحثين صينيين لدراسة الإيطاليين فظهر جلياً اختلاف النظرة وعدم تساويها.‏

 

6-    نقد الاستشراق والمزاوجة الفكرية:‏

    إن تداخل العلوم الإنسانية بعضها بالبعض الآخر واتحاد بعض فروعها يدفعنا للمقارنة بين الأتنولوجيا (وما احتوته من الدراسات الاستشراقية التي حددت موقفاً مسبقاً من العرب) وبين علم النفس. إن هذه المقارنة تظهر تطابقاً لافتاً بين أزماتها وخاصة لجهة عدم اعتراف الفروع الغربية بالآخر. بما يستتبع الاستنتاج بأن الفكر الاستشراقي لا يزال مهيمناً على كافة فروع العلوم الإنسانية المعاصرة. بالرغم من نشوء عبر الحضارية في بعضها. ذلك أن عوائق عديدة تحول دون اعتراف الغرب بالآخر (مصالحه وتحقيق مغانمه –راجع شومسكي). كما توجد عوائق أخرى مصدرها النمطية الغربية لمثقفينا. فصحيح أن هنالك باحثين غربيين على نمط شومسكي ولوبيشون ولكنهم عاجزون عن تغيير نظرة الجمهور للآخر. وتكفينا هنا صورة "العربي القبيح" في وسائل الإعلام الغربية. الأمر الذي يوقع مثقفينا في مجموعة من المآزق إذا هم حاولوا إبراز وضعيتهم كآخر. من هذه المآزق نذكر:‏

أ‌-   الأسر العقلي: إن عقول بعض الباحثين العرب المتخرجين من الجامعات الأجنبية تبقى أسيرة النظرة الأجنبية بحيث يصعب عليها تخطي هذا الأسر.‏

ب‌-   مشاعر الذنب: الناجمة عن صورة العربي القبيح والتي تهيمن على عقول بعض الباحثين وتضعهم في مأزق يجب الخلاص منه.‏

ج‌-  نقص الخبرات: الذي يحول دون توجه الأكاديمي العربي نحو البحث العلمي المنظم. لأنه مدعو للممارسات العملية لسد هذا النقص. مع ما يرافق هذا النقص من عدم وجود الميزانيات والإمكانيات اللازمة للبحث العلمي.‏

 

    هذه الأسباب هي مجرد عينات للمآزق التي تحول دون تمكين باحثينا من المزاوجة الفكرية بين وضعيتهم كآخر وبين استعداد مفكرين على طراز شومسكي ولوبيشون لدعم هذه الوضعية ومساعدتهم على إبرازها. حتى التزموا بحدود ترجمة فكر وكتب مثل هؤلاء المفكرين ولكن دون أن يجرءوا على مجرد تقليدهم. فمحاولة تقليد هؤلاء – بل مجرد ذكر أفكارهم دون التنويه بمصدرها الغربي تواجه قمعاً متعدد الأصعدة تمارسه المؤسسات والجمعيات التي تخدم مبدأ اختزال الآخر وتقزيمه في عالمية الفكر الغربي المفروضة فرضاً والتي تتواجد في مجتمعنا العربي تحت مسميات مختلفة وتستتر وراء أقنعة متنوعة.‏

 

    من هنا القول بأن الاستشراق لم يعد مجرد تجميد الإنسان العربي في الزمان ودراسة تراثه بصورة تهتكية وهو محروم حق الدفاع عن النفس. بل إن الاستشراق فرض مواقفه المسبقة على الآخر وقزمه استعداداً لابتلاعه وتذويبه في مجموعة من المشاريع المتطورة التي تسخر كافة العلوم الإنسانية الحديثة لخدمتها.‏

 

    إن مواجهة هذه المشاريع تنطلق من الخطوط العريضة التالية:‏

1-  إن لكل إنسان معاصر حوالي المليار سلف خلال ثلاثين جيلاً. وهو محمل بالخصائص الوراثية لأسلافه. لذا فإنه من العبث محاولة تذويب هذا الإنسان في أنماط سلوكية وفكرية وفي خيارات قدرية تتعارض مع الخيارات المتاحة له.‏

فاختلاف خياراته القدرية يجعله "آخر" متكامل وغير قابل للذوبان.‏

2-  إن اللغة العربية هي الشيفرة التي تنظم لا وعي الإنسان العربي أو على الأقل فهي الوسيط المفصلي لإعرابه عن مكنونات لا وعيه. لذلك فإنها متفوقة كغاية كي يعتمدها كلغة تعليم مهما كانت تهم القصور الموجهة لها. أما اللغات الأخرى فهي بالنسبة للإنسان العربي مجرد أدوات للاتصال بالآخر وللاطلاع على ثقافته والاستفادة منها دون التخلي عن الخيارات العربية الخاصة.‏

3-  إن الجمهور الغربي المتنور منفتح على الآخر لكنه لا يرى أمامه سوى الصورة القبيحة التي رسم الاستشراق ملامحها. من هنا التقدير الفائق للكتابات الأجنبية حول التراث العربي وأحدثها كتب الأستاذ الدكتور سليم عمار حول ابن سينا وابن الجزار الصادرة بالفرنسية.‏

4-  بما أننا عاجزون عن تغيير تراثنا الكروموزومي وعقلنا العربي (المبني من مجموعة الخيارات التي تتيحها لنا وراثتنا) وبما أننا مدركون لأهمية تراثنا الحضاري المدون فإننا لا نستطيع قبول أي مشروع وأية حلول تتعارض مع هذه المعطيات.‏

لذا فإن موقفنا من الحضارة المعاصرة هو الإقبال على كل ما هو إنساني (مشترك بين البشر) فيها مع الإصرار على تعديل كل ما هو خاص بالآخر. لأننا بذلك نحترم خصوصية الآخر ونستوعب فرادته بما يساعدنا على اكتشاف ذاتنا وتكريسها كآخر.‏

5-  علينا إيجاد معايير ثابتة لتقييم فعالية الحلول الجاهزة المقدمة لنا كأفراد وكمؤسسات وأحياناً كدول. وبناء عليه علينا رفض كافة الحلول التي لا تراعي خصوصيتنا ولا تعترف بنا كآخر.‏

 

Document Code VP.0054

Nab.Occidentalism

ترميز المستند  VP.0054

 

Copyright ©2004  WebPsySoft ArabCompany، www.arabpsynet.com  (All Rights Reserved)