Arabpsynet |
||||
|
||||
اللغـة العربيـة وتشكيـل الوعـي القومـي Email : info@mokattampsych.com أستاذ الطب النفسي - كلية الطب-
جامعة القاهرة |
||||
|
||||
q
أولا : اللغة العربية وتشكيل الوعي القومي |
||||
ضع شعبا في السلاسل جردهم من لبسهم سد أفواههم، لكنهم مازالوا أحرارا خذ منهم أعمالهم، وجوازات سفرهم والموائد التي يأكلون
عليها والأسرة التي ينامون عليها لكنهم مازالوا أغنياء إن الشعب يفتقر ويستعبد عندما يسلب اللسان الذي تركه له الأجداد؟ يضيع إذا
للأبد: إجنازيو بوتيتا الشاعر الصقلي، ولد عام 1899 من قصيدة لغة وحوار إن الترصد المنظم للغة العربية ليتخذ شكل الحرب الصامتة الناسفة..... ولهذا الترصد أسبابه الموضوعية (حيث أن المترصدون
يعلمون:) إن التماهي بين الهوية واللغة لم يبلغ تمامه الأقصى في الثقافات
الإنسانية كما بلغه عند العرب بكل اطراد تاريخي وبكل تواتر فكرى واجتماعي
ونفسي..... الناقد المفكر التونسي: عبد السلام المسدي "............. ولن يبقى من اللغات البشرية إلا أربع قادرة على
الحضور العالمي، وعلى التداول الإنساني، وهى الإنجليزية والإسبانية والعربية
والصينية.... الكاتب الأسباني كاميلو جوزي سيلا وترجمتها: مقهى الأرض الخضراء مطعم، " خذ معك "، ملاعب أطفال!!! الهيئة العامة لنظافة وتجميل القاهرة 1/ مقدمة
1/1 موقع صاحب الرؤية: إن منطلقي إلى هذه المداخلة هو من واقع ممارستي الإكلينيكية على أرضية
بيولوجية (بالمعنى الأشمل لكلمة بيولوجي)، وحين أتذكر كلمة تشومسكي من أن
"مدخل" الحل في مسألة اللغة هو البيولوجي. أشعر أن لإسهامي المتواضع
هذا مكانه المناسب. فالمفروض أنني أنتمي إلى تخصص بيولوجي أساسا، وأني أمارس واقعا إكلينيكيا
يسمح لي بما يسقى أخيرا "ألعاب اللغة "، مع متحاورين يتكلمون لغات
خاصة، بل يتناثرون إلى ما هو ". ضد اللغة " (= من معالم الجنون)، فأنا
أتعرف على اللغة من ضدها (وبضدها تتميز الأشياء). ثم نأتي إلى " الوعي". (وهر الشق الثاني من العنوان) فلا يحتاج
الأمر إلى تفسير خاص يبرر مشاركتي من موقعي هذا، حيث أن الوعي هو تشكيل بيولوجي،
وجودي، كلي بالضرورة.
1 /2 مقتطفات دالة: تؤثر الضغوط العالمية للاندماج والاستيعاب تأثيرا حاسما أيضا على اللغات
التي يوجد منها في العالم الآن من خمسة آلاف إلى عشرين ألف لغة، تعبر كل منها عن
نظرة فريدة من نوعها للعالم ونمطا من أنماط التفكير والثقافة، لكن العديد من هذه
اللغات تتعرض لخطر الانقراض في المستقبل المنظور، ويقل عدد الأطفال الذين
يتكلمون بها، كما تترك (مكانها) لاتخاذ (إحدى) اللغات العالمية بديلا عنها، وهى
اللغات التي يتسم متكلموها بالشراسة الثقافية* فضلا عن أنهم أقوياء اقتصاديا.
والعديد من اللغات المهددة قد ماتت بالفعل..... ..... ويعنى اختفاء أية لغة إفقارا لمخزون الإنسانية من المعرفة وأدوات
الاتصال داخل الثقافات وبينها.... " "إن اللغة العربية تلقى بتاريخها تحديا كبيرا أمام العلم الإنساني،
وهذا التحدي يبتهج به العلماء الذين أخلصوا إلى العلم مهجتهم، ولكنه يغيظ سدنة
التوظيف الأممي ويستفز سماسرة الثقافة الكونية، لا سيما منذ بدأت المعرفة
اللغوية المتقدمة على المستوى العالمي- وفي الجامعات الأمريكية تخصيصا- تكتشف ما
في التراث العربي من مخزون هائل
يتصل بآليات الوصف اللغوي". إن فرضية كاميلو سيلو (تتمثل) في تصنيف
اللغات المنتشرة في العالم اليوم والتي لها سيادة ما في حقول العلاقات الدولية
إلى لغات تكتسب بالأمومة ولغات تكتسب لاحقا...، وتصنف اللغة العربية ضمن الألسنة
التي يرتبط الطفل ارتباطا بها أموميا. إن عالمية اللغة
العربية- سواء أجاء بها الخطاب كحقيقة حاصلة أم كحقيقة افتراضية- لدس الحلم
المزعج الذي يقض مضاجع المخططين الاستراتيجيين للثقافة الكونية. إن اللغات البشرية
تتولد و تحيا وتموت وقد يبلغ بها الاحتضار مشارف الفناء فيقيض الله لها من ينفخ
في أنفاسها، فتنبعث انبعاثا جديدا فيشتد عودها وتستقيم هامتها، ولئن كان الأصل
في اللغات أن تعيش بفطرتها وأن تفنى بفعل الزمن فيها، فإن التاريخ لقننا من
الدروس ما به نسلم أيضا بأن اللغات قد تقتل قتلا فتباد، أو تبعث بعثا كأنما هو
الإحياء بعد الممات. هذه المقتطفات السابقة، وغيرها كثير، لابد أن تنبهنا إلى أن المسألة جد
لا هزل، وإلى أننا نحتاج إلى العناية بكل تفاصيل الحرب الدائرة لمحو هويتنا قصدا
أو استهانة أو استعلاء أو غرورا، وأننا أصحاب اللغة والتاريخ نساهم في هزيمتنا،
ونحن نتنازل عنها كسلا وغفلة وإهمالا- وأننا إما أن نكون " انطلاقا منها (وليس
بالرجوع إليها أو الاكتفاء بها) أو" لا نكون" إطلاقا، ولا لوم على
الآخرين ما دمنا قد فرطنا في كينونتنا بكل هذه الغفلة السلبية والكسل الانتحاري. وإذا كانت القضية قد أصبحت فرض عين لا فرض كفاية، فعلى كل واحد- من
موقعه- أن يسهم بما يستطيع إن كان يسعى ليستحق شرف وجوده، يفعل ذلك حتى لو لم
يقم بهذا الفرض على وجه الأرض غيره. ومن هذا المنطلق
أواصل تقديم هذه الرؤية و أبدأ بالتعريف بالمفاهيم. 2/
المفاهيم البدئية: من الأفضل أن أحدد نفسي بألفاظ العنوان، فأبدأ بتحديد ما تعنيه المفاهيم
التي حملتها ألفاظه المحدودة، على الرغم من أن غيري من أهل الاختصاص- في علوم
اللغة خاصة- هم الأقدر على القيام بهذه المهمة (مهمة التعريف) إلا أنني أشعر أن
هذا الاستطراد سوف يجنبني كثيرا من الشبهات إذا ما تلقى المتلقي معنى هذه
الألفاظ كما اعتاد أن يفعل، وليس كما قصدت بها- هنا- تحديدا. 1/2 اللغة- الوعي: تعرّف لا تعريف أما اللغة فهناك من الملامح والتحديدات ما كاد أن يصبح من البديهيات مما
لا أرى مبررا للخوض فيه، مثل أن اللغة غير الكلام، ومثل أن اللغة لغات كثيرة،
لها ألسنة كثيرة، ومثل أن اللغة أصل لعلوم عديدة، وليست أداة لغيرها من العلوم،
وهكذا، لكنني أشعر أنه من المفيد التأكيد على أهم مناطق النفي قبل أن أستطرد إلى
تقرير ما ينبغي إثباته: فاللغة ليست إضافة لاحقة لظاهر الوجود الفردي أو
الجماعي. وهى ليست أداة
للاستعمال الظاهري وهى ليست كيانا
مستقلا عن الوعي، ولا عن الوجود ولا عن المخ وهى ليست الكلام
طبعا فاللغة "لم تعد
تمريرا جيد التقنين وخاليا من التشويش لنقل العلامات من يد ليد". إذن ماذا هي اللغة
التي سوف أتحدث عنها؟ (1) هي: ذلك الكيان البيولوجي الراسخ/المرن/ المفتوح في آن، القادر على
تفعيل المعرفة في الوعي. (2) هي: الوجود البشري نفسه في أرقى مراتب تعقده وفاعليته (3) هي: التركيب الغائر لمصدر السلوك المحدد للشكل الظاهر (4) هي: الوعي الدائم التشكل والتشكيل بما يسمح باحتواء المعنى- إذ
يكونه- وإطلاقه بما تيسر وتناسب من أدوات
(5) هي: إبداع الذات المتجدد إذ يصاغ في وجود قابل للتواصل (6) هي: تجلّي المعنى في تركيب قادر
على التماسك في وحدات متصاعدة (7) هي: حركية المخ البشرى في كليته
البالغة التنظيم، البالغة المطاوعة في آن (8) هي: "علاقة نزاعية بين
متحايلين (ممارسة الحيل للتغلب على خصم تواصلي)"
(9) هي: "تبادل غير مستقر لمات يهمهم الأمر الذين بوصفهم مشاركين في
خطاب علمي يختبرون مزاعم صلاحية معاييرهم " (10) هي: مشروع متجدد وليست خطابا محددا
(11) هي: "خطاب
". بما تحمله ألفاظها، ولما تشير إليه هذه الألفاظ مما لم تقله، أي أن
اللغة هي ما سكتت عنه وما صرّحت به في آن واحد، أي أنها هي بما تظهر وبما تخفي
معا. ولا بد من إيضاح أن أيا مما سبق ليس تعريفا جامعا مانعا، بقدر ما هو تعرف
على ماهية اللغة أساسا، وهو لازم لتوضيح هذه الخصائص الجذرية لحركية اللغة
اللازمة لفهم الجزء الثاني من العنوان وهو "تشكيل الوعي" 3/2 ماهية الوعي. فإذا انتقلنا إلى محاولة التعرف على مفهوم "الوعي" باعتباره
الشق الثاني في العنوان فسوف نفاجأ أنه أحوج ما يكون- أيضا- إلى نفي ما ليس هو
لإثبات بعض معالمه على نفس النهج، ونبدأ بالتذكرة كيف توارت حقيقة الوعي عن
الدارسين والكافة "إما بالإنكار أو بالإهمال أو بالنفي- كما يقول الطبيب
النفسي الفرنسي هنري إي - فالبعض أنكر الوعي تماما كمادة للدراسة والتقييم مثل
السلوكيين، والبعض نفخ فيه حتى أصبح هو كل شيء، فلم يعد شيئا، والبعض نزع منه
التحديد الذاتي حين جعله شبكة معقدة من التركيبات البينشخصية، والبعض جعل الوعي-
اختزالا- مرادفا للصحو مرة (ضد النوم) ومرادفا للشعور مرة أخرى (ضد اللاشعور) إن حاجتنا شديدة لمواجهة كل ذلك لنتعرف على الوعي كما ينبغي، ذلك الكيان
البيولوجي الذي يتشكل ب ومع اللغة. ولكن بداية، لا بد أن نقر أن الوعي لازم كأرضية أساسية لكل نشاط عقلي
أخر، وذلك باعتباره "الوساد". الذي تتم فيه العمليات العقلية الأكثر
تحديدا، والتي تمثل الشكل بالنسبة لهذه الأرضية الأشمل المسماة بالوعي"،
إلا أن هذا الفهم للوعي غير كاف لأن الوعي ليس مجرد أرضية منفصلة عن الشكل أو
متبادلة معه بقدر ما هو حاضر في كل هذه العمليات حضورا شاملا ومحددا في آن،
فالوعي. هو العملية الحيوية التي يتم من خلالها تشكيل منظومة عقلية في
تركيبها الكلى هي لحظة ما، فإذا استمر هذا التشكيل لفترة من الزمن أصبح يمثل
مستوى منظوميا كليا خاصا يمكن استحضاره وتنشيطه وإعادة تشكيله ككل، (حسب التناسب
مع الموقف، والمطلق، والمثير، والمصاحب.. إلخ، مما يسمى أحيانا "حالات
الذات" أو منظومات من
مستويات المخ أو. غير ذلك). إذن، فاللغة عملية،
وفي نفس الوقت هي منظومة وتشكيل متجدد والوعي عملية، وفي نفس الوقت هو وساد ومنظومة ومستوى. يقول هنري
إي"... أن تكون واعيا هو أن تعيش تفرد خبرتك حالة كونها تتحول إلى حضورها
المعرفي الشامل. " والعلاقة بين كل من الوعي واللغة هي علاقة وثيقة حتى لتوحي بالتماثل،
وبالرغم من ذلك فهما ليسا واحدا، فرغم اتفاقهما في أن كلا منهما (أ) عملية، (ب)
تخليق وتشكيل (ج) منظومة (ء) ملتحمة بما تحتويه، فإن ثمة فروقا ضرورية لابد من
التنبيه عليها مثل: إن اللغة توليد ذو وحدات أوفر كثرة وأنشط تشكيلا وأحضر إبداعا وأقدر
حوارا في حين أن الوعي هو أكثر منظومية، وأعمق رسوخا، وأطول زمنا، وأجهز تنسيقا فاللغة هي وحدة الوعي وفي نفس الوقت هي تشكيلاته المتداخلة القادرة على
الإفصاح المعرفي دون إلزام ببلاغي محدد والوعي هو كلية اللغة حالة كونها منظومة مستقرة نسبيا. ومن هنا فإن تشكيل الوعي يعتمد بالضرورة على ما تتصف به اللغة من قوة
وضعف، وإحكام وترهل، وإبداع وتناثر وقبل أن نختتم هذا التقديم المبدئي، لا بد من توضيح أن اللغة ليست كيانا
داخليا منفصلا كما يمكن أن يكون قد أثاره كل هذا التجذير لماهيتها، كذلك الوعي. فعمليات اللغة
وتشكيلات الوعي كلها مرتبطة بما تتغذى به من معلومات، وما تمارسانه من إبداع
تواصلي وحوار نزاعي. 3/ ضد اللغة تعرفت على جوهر اللغة من معايشة ضدها لا من البحث فيها ابتداء أو القراءة،
عنها دراسة، وذلك من منطلق معايشتي للفصام وحواري مع الفصاميين، وإليكم بعض ذلك: إن ما يسمى الفصام، (وهو اسم شائع ومخيف في آن)، هو مفتاح هل ه المسألة،
واسم "الفصام. " يستعمله حتى الثقات منا في غير موضعه، ويفهمه، الأغلب
بغير ما يعنى، فكثير من غير المختصين، بل ومن المختصين، يستعملون لفظ الفصام
فيما يفيد ازدواج الشخصية أو ازدواج السلوك، أو تناقض التصرفات، وكل هذا سطحي و
خاطئ. فازدواج الشخصية هو انشقاق عابر عادة، وكل شخصية من الشخصيات المزدوجة (أو
المتعددة) لها حضورها، ولغتها ومنظوماتها المتسقة مع بعضها البعض في ذاتها رغم
اختلافها عن كليات الشخصية (الشخصيات) الأخرى، وهكذا. أما الفصام فهو يشير إلى عملية أخطر: تعلن درجات مختلفة من التناثر كيفما
اتفق، وأبلغ وصف له هو ما جاء في شطر بيت شعر عربي".. ذو لب نثر (هذريان
هذر هذاءة موشك السقطة ذو لب نثر) وهذا اللب النثر هو باختصار شديد ما يمكن أن
يفهم باعتباره "ضد اللغة". (أو عكس اللغة وربما اللا "لغة") والذي يحدث في الفصام هو الافتقار إلى كل من: المعنى المحوري، فالغاية
الضامة، ذلك أن الوحدة القادرة على التشكل الضام في الأحوال. العادية إنما تفعل
ذلك من خلال التمحور حول فكرة مركزية هي الفكرة الغائية وهي التي يفتقدها
الفصامي على المستوى المتاح للفحص على الأقل. ومن ثم يظهر التناثر. وفي المقابل فإن العملية العلاجية الحقيقية إنما تهدف إلى إعادة تكوين
الفصامي (لغة/ وجودا/ وحدة) وذلك بتجميع تناثره في وحدات صغيرة ثم أكبر فأكبر
حتى يعود الشتات المتناثر إلى ما يمكن أن يطلق عليه "الواحدية" (ضد
الفصام)، فالعملية الفصامية هي أقرب إلى ما وصفه جيبسون في مقدمته لكتاب ليوتار
"ما بعد الحداثة"... تحلل الذات إلى حشد من الشبكات والعلاقات
المتناقضة والرسائل المتداخلة.. فإذا كان هذا هو الحال في الفصام، الذي نبهني- على مستوى الفرد- لما هو
"ضد اللغة"، ومن ثم لما هو اللغة، فهل ينطبق الحال على المجتمع الأوسع
خللا فعلاجا؟ قبل أن نجيب على هذا السؤال دعونا ننتقل خطوة إلى وظيفة التوصيل والتواصل
في علاقته باللغة، ودرر الكلام وما يقوم به من تغذية مرتجعة (مما ينطبق أيضا على
مكافئات الكلام من إشارات). 4/ الكلام واللغة والشعر إن الكلام وهو يؤدى بعض وظائفه للتواصل والاقتصاد، يعود فيؤثر ارتجاعـا
على الكيان اللغوي ذاته، أي على تنظيم وجودنا وفاعليته، لذلك: فإن ما يصيب
الكلام من وهن أو تشويش، يفقده قدرته على الإثارة والحفز، أو يطمس دلالته ويجهـض
إيحاءاته، فيرقد كل ذلك مؤثرا على وجودنا/ لغتنا، بما يمكن أن يهز معالم كياننا
الحيوي الأساسي نفسه. لكن الظاهرة الوجودية التي قد تصاغ في ". كلمات" هي ظاهرة أسبق
وأشمل من التركيب اللفظي الذي يحاول احتواءها، ناهيك عن اللفظ الذي يحاول
إعلانها، يترتب على ذلك أن يجد الإنسان نفسه في مأزق حرج إذ يحاول عبور الهوة
بين الظاهرة القبلية المتحررة نسبيا من التشكيل اللغوي، وبيات احتوائها فيما
يمكن التعبير عنه بالتنظيم الإشاري الدال عليها، وأرجح أن هذا المأزق إذا ما وصل
إلى بعض وعي صاحبه بشكل أو بآخر، هو من أدق الخبرات البشرية، وأي استسهال في
محاولة عبوره، بالقفز فوقه تجاهلا، أو بطمس الوعي دفاعا، لابد وأن يترتب عنه
إجهاض للمعرفة الأدق، ونكوص إلى اختزال خطر. وقد رجحت أن بعض محاولات تحديد
مصطلحات علمية، أو تحديث المعاجم بصورة عصرية متخصصة، إنما يقع في هذا
المحظور. وأحسب أنه بالنسبة للكائن
البشري، فإنه يصعب - بما هو بشر- أن نفترض أن ثمة مرحلة معرفية يمكن أن تعتبر
أنها مرحلة "ما قبل اللغة"، ذلك أنه قد توجد مرحلة "ما قبل
الكلام " أو مرحلة ما قبل اللغة القائمة الآن، لكن يبدو أنه يستحيل
أن توجد ظاهرة بشرية أصلا ليست ملتحمة التحاما كافيا بلغتها، بمعنى تركيبها
الحيوي الغائر. لكن نمو اللغة يبدأ بحفز غامض لكنه متوجه، وطبيعة هذه الخبرات في هذه
المرحلة تحول دون إمكانية تناولها بالأدوات التعبيرية العارية، ناهيك عن الدراسة
المنهجية ثم الخضوع للوصف الكلامي، وهذه البداية تعلن أن الظاهرة الوجودية
اللغوية هي الأصل، ظهرت أم لم تظهر في متناول السلوك. والجدل الحركي الولافي بين الظاهرة الوجودية الأعمق، إذ تتفجر في علاقات
وتركيبات جديدة، وبين التشكيل اللغوي السابق لها مباشرة، والعاجز!ثن استيعابها
تماما، هو أصل تطور اللغة في حالة إبداعها المتجدد، وهو ما يسمى في أرقى صوره
الجمالية " الشعر"، الذي ينشأ حين ترفض الظاهرة أن تظل كامنة في ما
ليس لفظا متاحا للتواصل، وفي نفس الوقت حين ترفض أن تحشر نفسها في تركيب لغوي
جاهز (سابق الإعداد) فالشعر هو عملية إعادة تخليق الكيان اللغوي في محاولة
الوصول إلى أقرب ما يشير إلى الخبرة الوجودية المنبثقة، ومع النجاح النسبي لهذه
العملية، تزداد اللغة ثراء، أي ينمو الكيان البشري إذ يتحدد نوعيا، وهذا ما
يعنيه بعض النقاد والشعراء من أن القصيدة تخلق الشاعر في نفس الوقت الذي تتخلق فيه
إذ يخلقها، وهذه العملية بالذات هي الإشارة الأساسية لعلاقة إبداع اللغة بتشكيل
الوعي/ بكينونة الذات. ·
وهذه العلاقة المتبادلة بين
اللغة والكلام، والمخفقة لما هو شعر (بالمعنى الوجودي الأعمق لما هو شعر) هي
بالغة الدلالة في موقفنا هذا، إذ يصعب- وأحيانا يستحيل- أن تتوثق هذه العلاقة
الضرورية لعملية إبداع أنفسنا باستمرار، ونحن نشكل وعينا بما هو نحن وبما يمكن
أن نكون، إن تشكيل الوعي يلزمنا أن نأصل كياننا اللغوي بما تحمله حياتنا، وفي
نفس الوقت أن نحرك هذا الكيان بما تسمح به مرونة حركتنا ومرتجع كلامنا، فإذا نحن
تنازلنا عن جوهر جذورنا، أو تصلبنا في قوالب ما نستورده من كلام منهم، فإننا
نحرم أنفسنا من إنتاج أنفسنا بما يمكن أن نكونه، وهو ما تعد به لغتنا فينا
(نحن). 5/ القيود والجمود: في اللغة والوعي تهدف المعاجم، من ناحية، إلى تثبيت كيان محدد لحصيلة لغوية في مرحلة
تاريخية بذاتها، فتنقذ اللغة مؤقتا من الإفراط في الفضفضة والرخاوة، لكنها من
ناحية أخرى قد تصبح قيدا على حركية اللغة إذ تفرض عليها الوصاية وتعوق تطورها،
ونفس الأمر- وأكثر- يمكن أن ينطبق على المصطلح العلمي، وعلى بعض المنهج العلمي،
وكل هذه المنظومات تترواح بين الوصاية الجاثمة، والحركية الممكنة، والانسلاخ
الواعد.. وهكذا ومن أسف، فإن معظم الملتزمين بالحفاظ على دور اللغة العربية في تشكيل
وعينا يرجحون جانب الجمود دون الحركة، ويؤكدون على مرجعية المعاجم أكثر من الحرص
على حركية إبداع اللغة وتجديدها. وكل ما قيل عن اللغة إنما ينعكس بشكل أو بآخر
على تشكيلات الوعي، باعتبار أن الوعي هو لغة راسخة "ممتدة" في آن، فهي
راسخة بمعنى أن تشكيلها قد أخذ شكلا له قوامه الخاص، يحضر معا، و يتوارى معا،
ويتبادل مع غيره من مستويات الوعي، وهي " ممتدة" بمعنى أن الوعي يحتل
مكانا زمنيا يؤكد رسوخه وعموميته وتفرده النوعي في آن. 6/ تحلل الوعي القومي، ودور اللغة (العربية) فإذا تحدثنا عن الوعي القومي، فإن ذلك يشمل أكثر فأكثر محتوى الوعي جنبا
إلى جنب مع تشكيله وطبيعته، (وإن كان أي من ذلك لا ينفصل عن بعضه البعض بحال) وبداية نقول: "إن ما لحق اللغة العربية بسبب ما آل حالنا إليه: من تحلل وتدهور
وتناثر وفقد الغائية وعجز القدرة الضامة المضفرة (ناهيك عن ضعف توظيف ناتجها في
التواصل وغيره) كل هذا هو النتاج الطبيعي لـ "تخثّر الوعي" القومي
(والوعي الوطني- من قبل ومن بعد) كما أن تدهور اللغة (اللغات) قد عاد بدوره على
الوعي القومي بمزيد من التدهور، فنشأت حلقة مفرغة دوامة. وفيما يلي بعض الإشارات لما حدث- ويحدث- في حياتنا، مما أثر على تركيبنا
اللغوي ومن ثم على وعينا القومي: 1- يتزايد افتقارنا إلى الحرية ليس فقط بمعنى ضيق فرص ممارسة الاختيار
المعلن، وإنما تأصل هذا الافتقار حتى أصبح مشكلة ذاتية داخلية، امتدادا لقهر
السلطة (السلطة السياسية والاقتصادية والدينية والتعليمية والإعلامية
والبحثعلمية، أي السلطة المؤسساتية عامة). وإزاء ذلك يتم قهر الداخل ب "تجميد اللغة ومن ثم تصلّب
الوعي" كنوع من الدفاع ضد المخاطرة بممارسة الحرية، وإذا سجنت
الذات في هذه القوالب الجامدة أبدا، فلا حركة ولا إبداع على الرغم من تردد
الأصوات كلاما، وكأننا نعنى شيئا ذا بال، وهو "ليس بشيء ". 2- يتزايد تآكل الأبجدية العامة القادرة على التوصيل والتواصل من ناحية،
وعلى تشكيل وحدات اللغة والوعي بما يحقق الهوية ويسمح بتجديد الذات بالفعل
الإبداعي خاصة 3- يتنامى الافتقار إلى الفكرة المحورية القادرة على الضم
والتكامل، فليس ثمة مشروع قومي، أو توجه تعلمي عام، أو خطاب سياسي محاور، ولا
عدو مشترك ماثل في الوعي بالمعنى النشط الحافز للنضال المستمر، بحيث ننضم في
مواجهته لمواجهته، حتى الخطر اليومي الذي يهدد الفرد فيظهر في شكل هذا العرض أو
المرض النفسي يتم تمييعه وتأجيله بالوعود والتلويح والمسكنات (مثل فرط وسوء
استعمال العقاقير المهدئة في حالات المرض الفردي) وتبلغ آثار غياب الفكرة المحورية مداها فيما يعرف بالفصام الذي يمثل أقصى
التناثر الصريح. 4- يزداد الاتجاه إلى " الخوف من التحديد" الذي يسير
جنبا إلى جنب مع اهتزاز قيمتي الإتقان والوضوح، مما يترتب عليه نوع من الهلامية
والتقريب والذبذبة، فتهتز القواعد اللازمة لتشكيل كل من اللغة والوعي (أو لا تظهر
أصلا). 5- يتملق اليقين الزائف على الجانبين، فمن ناحية نجد المؤسسة البحث
علمية قد توقفت عن تطوير المنهج، وأصبحت الممارسة بمثابة طقوس وكهنوت بدلا
من البحث عن المعرفة، كما أصبح همّ المؤسسة الدينية هو التأكيد على
التفسيرات السابقة التجهيز، مع إقحامها لتصبح وصية على الفعل اليومي (فالوعي
اليومي) 6- تحمل قنوات الخطاب (لا الحوار) المختلفة رسائل "مزدوجة (أو
متعددة) الوثاق" ، فالحديث اللفظي عن الديمقراطية مثلا يصلنا جنبا إلى جنب
مع الحديث الفعلي الذي تتم من خلاله ممارسة القهر اليومي بكل أنواعه 7- نتعرض مؤخرا لكم هائل من المعلومات المتاحة نتيجة ما يسمى..
"شفافية المعلومات" و"طلاقة التواصل"، وبدل أن تزداد فرص
الاختيار بذلك يبدو أننا (من واقع كل ما سبق) أصبحنا نمارس ما يمكن أن يسمى
القهر الاختياري، أو حرّية اختيار السيد، الذي نتبعه بدلا من أن نختار بين
الحرية والعبودية أصلا ففي حين أن الإنسان المعاصر في الدول المتقدمة قد صنع له صنما إلها جديدا
من التكنولوجيا الحديثة مع احتفاظه بحق ممارسة حريته من خلال تغيير هذه الأصنام
وتطويرها وتطويعها بشكل يكاد يكون مستمرا، نجد أن إنسان الدول المتخلفة يستورد
أصنامه وصانعيها: آلهة سابقة التجهيز والبرمجة، بلا مفتاح شفرة أو كلمة سر
لفتحها أصلا. 7/ أمراض اللغة وأمراض الوعي: يمكن أن أوجز ما خبرته مما أصاب ويصيب اللغة فيما أسميته "أمراض
اللغة"، وهو نابع أساسا من الممارسة الإكلينيكية، ولكنه ليس قاصرا على
المرضى، بل إنني اختبرته في الحياة العامة فوجدته أكثر دلالة، وأولى اهتماما،
وفيما يلي بعض ذلك : 1-
جمود اللغة: حيث تصبح قوالب للملء بالكلام، وليست تخليقا مرنا متجددا. 2-
ترهل اللغة: حيث تصبح متضخمة ورخوة في آن، فلا تعود قادرة على التشكيل والتشكل. 3-
تذبذب اللغة: حيث تتراقص قبل وصول الغاية، فتفقد توجهها الغائي رغم سلامة البدايات. 4-
غموض اللغة: وهذا يمكن أن يتم بنقص التحديد، أو بفرط التداخل، أو بكليهما. 5-
تصادم اللغة: حيث تعوق قناة لغوية بذاتها، مسار وحركية وتشكيل قناة أخرى نشطة في نفس
الوقت (مثال: تصادم القناة اللفظية، مع قناة التعبير الحركي مع قناة التواصل غير
اللفظي وغير الحركي). 6-
تناقض اللغة: حيث تحمل رسائل مضادة أو ما يسمى- كما ذكرنا- العلاقة "مزدوجة
الوثاق" حيث يتم الخطاب اللفظي عكس ما يبلغه الخطاب غير اللفظي (مثلا)
ومدكما يعرف في العصاب التجريبي. 7-
إجهاض اللغة: حيث تحسن البدايات لكن مع إفتقار اللغة إلى حركيتها الغائية، تفقد
استمراريتها حتى تحقق الهدف من حضورها. 8-
تناثر اللغة: وهذا ما أشرنا إليه في البداية عندما ذكرنا ما هو "ضد اللغة
" (الفصام). هذا، و يترتب على أمراض اللغة هذه أن
يتشكل الوعي بصورة عاجزة ومعوّقة أيضا ومن ذلك ما يمكن تسميته أمراض الوعي.: 1-
الهلامية: وأعنى بها وعيا رجراجا، خافتا غامضا، يتعامل مع
اللغة وإشاراتها بقوانين مهزوزة، ومتغيرة بلا قاعدة 2-
التداخلية: وأعنى بها ما يمكن أن يقابل فقد حدود الذات في مجال الإرادة، وكذلك ما يقابل
فرط التداخل والتضمين في مجال الفكر، أي أن مستويات الوعي التي من المفروض أن
تكون متميزة ومحددة تصبح مختلطة لدرجة تقابل ما يسقى التلوث، أي اختلاط مادة
وتركيب مستوى معتن من الوعي، بمادة وتركيب مستوى آخر بغير توليف أو تكامل أو
فكرة محورية ضامة لهما معا. 3-
الانغلاق
(الدائرية المغلقة): وهو انغلاق دائرة الوعي بحيث إن المعلومات التي تصل إليه،
واللغة التي تحاول أن تحاوره، تدور حوله أكثر من أنها تعيد تشكيله 4-
التسوياتية الصفرية: وأعنى بها أن الوعي يتشكل بما يحافظ على ثباته، وهنا تكون حركته نشاطا
زائفا محكوما عليه بأن يظل في النهاية كما هو بما هو، لأن كل ما يضاف إليه،
ليعيد صياغته، يعامل من خلال المعلومات الحاضرة القادرة على تمييع الموقف حتى
تسكينه. ومن خلال ما خبرت من موقعي أستطيع أن أفترض أننا مصابون بهذه الوفرة من
أمراض اللغة و أمراض الوعي حتى تكاد تأخذ شكلا وبائيا، ثم إن الثورة الجديدة في
عالم التوصيل والشفافية لا تقدم علاجا لهذه المسائل بل إنها تزيد الأمر صعوبة
وتعقيدا، ذلك أننا نصبح كجهاز استقبال للمعلومات الجديدة التي تفيض علينا الآن
من كل مصدر، ونحن نعاني- هكذا- من أمراض اللغة، وأمراض الوعي السالفة الذكر، وبالتالي
نعجز أكثر فأكثر عن التعامل مع زيادة كفاءة التكنولوجيا الجديدة وأيضا مع زيادة
الفرص المتاحة لنا من وفرة المعلومات، أي أن هذا التقدم المعاصر الذي كان
المفروض أن يزيد في مساحة وتنوع تشكيل الوعي وتطور اللغة، كاد يصبح سببا في
العجز عن التعامل في المتاح من هذا وذاك، إذ نتعرض إلى ما يشبه الحشر المشل،
وبالتالي العجز عن الانتقاء الغائي للإبداع المتكامل، فيصبح الانتقاء عشوائيا،
وبدلا من أن نبحر في محيط المعلومات مثلما يفعل الربان الماهر الذي تدرب على
قيادة سفينة المعلومات، نغرق نحن تحت أمواج فيضاناتها. 8/ علاج اللغة (والعلاج باللغة) وبمواجهة هذه التحديات، لو صحت هذه الفروض، نجد أنفسنا في موقف يحتاج إلى
الانتباه فالفزع فالغضب ويا حبذا الفعل، وأستأذن في استعارة كلمة
"علاج" لأصف بها الفعل الممكن هنا، مادمت قد استعملت كلمة مرض لأصف
الكارثة. فهو علاج اللغة، أو العلاج بإعادة إحياء اللغة (بالمعنى الأشمل) ولكي يتم ذلك لا بد من تخطيط ودراسة جدوى واقتصاد وتعليم صحيح، وسياسة
رشيدة وحرية حقيقية الخ... ويمكن تصور أن ذلك يمكن أن يتم على الوجه التالي: 1- على سبيل الاقتصاد ومن قبيل دراسة الجدوى، فإن أية بداية بعيدا غن
لغتنا العربية هي إهدار لمخزون هائل من الخبرات والمعلومات و الوعي والتاريخ،
ذلك أننا من واقع تركيبنا الجيني نحمل هذه اللغة داخل خلايانا فيما يسمى
المورثات، صحيح أننا لا نحمل مفرداتها وإنما نحمل الاستعداد (أو العتاد بلغة
الكمبيوتر) دون البرنامج التفصيلي والمفردات (وإن كنت أحتاج إلى من يصححني في
هذا)، لكنني أتصور (والمرجع لعلماء المعلوماتية) أنه من باب الاقتصاد والتأصيل
معا فإن الأقدر على الإبداع، والأكثر اقتصادا، هو أن نبدأ بهذا المخزون الجيني
للعتاد اللغوي بالعربية، وحتى لو تعارض هذا الفرض مع المعطيات الأحدث لكل من علم
الجينات وعلوم الكمبيوتر، فإن ممارستي الخاصة مع مرضاي تجعلني أتمسك بفرض يقول:
إن الاستعداد اللغوي ليس غفلا من اللغة الخاصة للأجيال السابقة، وسوف يحتاج
الأمر إلى الانتظار وإلى الأدوات المناسبة قبل أن ننكر أو نرفض هذا الفرض الهام
كمنطلق للرؤية التي أطرحها في هذه الورقة. 2- البداية- إذن- هي من " بسط" "وإطلاق" اللغة
الكامنة في الجينات وليست بالبدء في تعلم لغة جديدة لأننا لا نبدأ الكتابة على
صفحة بيضاء، بل نحن نشكل تركيبات خام حاضرة في غور وجودنا البيولوجي على اعتبار
أنها منطبعة أصلا (تاريخا) من خلال التعلم البصمي عبر الأجيال، فبسطها (بعد
الولادة) أقرب إلى المرونة فالإبداع، وبهذا ننطلق من الجاهز الذي أعدّته الأجيال
السابقة، فتكون البداية الصحيحة هي لغتنا الأم (وليست فقط لغة الأم) وهي اللغة
العربية، بلهجاتها الواحدية (الفصحى) وبلهجاتها الطارئة عليها أيضا: (اللغات
الوطنية كلغات تفريعية وموازية في آن) 3- ثم يأتي تقعيد قواعد التواصل والتعبير من خلال تحرير الخطاب والحوار،
على كافة المستويات، وهذا من ألزم المبادئ التي تسمح باستعادة اللغة لموقعها
المحوري في إطلاق الوعي المتجدد التشكيل، وهذا وذاك متعلق بحرية الخطاب والتزامه
في نفس الوقت، فاللغة، على الرغم من كونها كيان ذاتي غائر، لا تنمو ولا تتطور
إلا من خلال الطلاقة والتبادل والإبداع. 4- ثم يلزم الاهتمام بمشروعية ومصداقية الخطاب وخاصة في مجالات التعليم
والإعلام والنشر، مع تجنب ما يمكن من الانحرافات السابق الإشارة إليها في مجالات
أمراض اللغة والوعي. 5-
وتمشيا مع كل ذلك نتحرك لاستلهام كل مصادر المعرفة
للانعتاق من احتكار منهج بحث بذاته، بالسماح بتعدد المناهج وخاصة المناهج
المرتبطة بالخطاب المباشر، مثل إرساء مشروعية المعرفة الحكائية كمصدر أساسي من
مصادر المعرفة. 6-
9/ عن اللغة العربية والقومية العربية
كل هذا يمكن أن يعتبر عموميات تصلح لكل ما يصلح به الناس ولغاتهم في أي
مكان وزمان، إلا أن هذه المداخلة خصت بالذكر "اللغة العربية"، وكذلك
"الوعي القومي"؟ 1/9- بداية لا بد من التفرقة بين ما يسمّى القومية العربية لأسباب سياسية
أو عنصرية (أو عنترية) وبين ما يسمّى القومية العربية التي ما عاد يربطها إلا
عامان موضوعيان لا مفر من وضعهما أساسا لأي فهم أو تحرك، العامل الأول
هو: تبادل المصالح الاقتصادية، وأما الثاني: فهو تبادل الخطاب باللغة
العربية، والحديث هنا يتركز على العامل الثاني. وإذا كنا قد تنازلنا، أو تنوزلنا عن فاعلية كل مقومات القومية العربية من
جغرافيا وسياسة وتاريخ وحتى اقتصاد، فإنما اللغة العربية مازالت- حتى لو لم نرض
أو نقصد- هي لغتنا. ومازلنا عاجزين، رغم الكسل من ناحية وتمادى التلوث والتلويث
من ناحية أخرى، أن نتنازل عنها. ولابد من ملاحظة بادئة في هذا الصدد في هذه المرح!ظ وهي أننا نعيش هذه
الأيام نوعا من التناقض الحاد بين ظاهرتين: الأولى هي ما يبدو من اتجاه
توحيد العالم من خلال شفافية المعلومات، واختفاء الاستقطاب السياسي، وإلى درجة
متزايدة اندماج النظم الاقتصادية، والثانية هي إحياء القوميات في كل
مكان. وهذا التناقض يمثل تحديا مثيرا، يمكن أن ننتفع منه إذا دققنا النظر، ذلك
أن المسألة قد تثبت أنها ليست تناقضا بقدر ما هي اختلاف للتكامل، فطيب أن تختفي
" الحقيقة الوثقانية البدئية الواحدة" التي يمكن أن تصبح قيدا
أبديا، وفي نفس الوقت طيب أكثر أن يفتح الباب. "للحق المتعدد" القادر
على التفاهم والتكامل مع بعضه البعض سعيا إلى تشكيل "الحقيقة المتجددة
الضامة". ويمكن صياغة هذا الموقف (ولو بلغة ما يسمى بعد الحداثة) باعتباره "تنشيط
الاختلافات للالتقاء المبدع في مواقع التقاطعات"، وهذا التنشيط الذي
تقوم به كل لغة/وجود/ قومية في موقعها يقوم بعملين في آن: فهو إذ يؤكد الهوية
(بتعميق التفرد الذاتي) فهو في نفس الوقت يحدد التوجه الضام (باستعماله أدوات
لغات العصر الضامّة: المعلوماتية، والتكنولوجيا ومناهج المعرفة.. إلخ) هذا عن "لماذا
القومية" (الوعي القومي) 9/ 2 فماذا عن:
"لماذا العربية" ؟ لتوضيح هذا الأمر نبدأ
بسؤال أسبق يقول: إذا كان الوجود لغة، واللغة إبداعا، ولا هوية ولا بقاء بغير ذلك،
فأي لسان أقرب وأصلح لنا حتى يمكن استثمار ما هو لغة لازمة، وإبداع ممكن؟
الاختيارات أمامنا ثلاثة لا أكثر إما اللغة العربية (الفصحى= تحت التحديث حتما). وإما اللغات
(اللهجات) العامية وإما لغة أجنبية
(يستحسن أق تكون لغة بلد سابق متقدم)؟ أما اللغة (اللغات) العامية فهي لغة لا شك في ذلك، وهي لغة قادرة ومبدعة،
وفاعلة ولا يوجد ما ينقص من أحقيتها في ذلك، لهذا لا ينبغي إغفالها أو تهميشها،
وإلا كنا نفتعل مسيرة ضد طبيعة التطور، وضد حركية اللغة، وضد فرص الإبداع، كما
أن ما يسمّى "المعرفة الحكائية" إنما يستلهم كثيرا من مصادره من لغة
الناس في الحياة الآنية، أو فيما يترتب عليه من تراكم عبر التاريخ في شكل أمثال
أو عادات، سواء ظهر ذلك في الفعل اليومي، أو في الإبداع المعرفي أو غيره، كل ما
في الأمر أن هذه اللغات (اللهجات) العامية لا ينبغي، ولا تقدر، أن تحل محل
العربية الفصحى، وإنما هي تستطيع و ينبغي أن تجاورها وتتحاور معها وتثريها
وتكملها. فالمحظور هنا لا يأتي من الاهتمام باللغة العامية كلغة، وإنما يأتي من
احتمال الإحلال العشوائي غير الملتزم الذي يترتب عليه اختفاء لغة عامة رصينة تم
تقعيدها وحافظت على هويتها عبر مئات السنين في الخارج وفي خلايانا، لتحل محلها
لغات جديدة تحتاج إلى تقعيد وتنمية وتنقية ومشروعية تكفل لها البقاء ناهيك عن
التنافس والصراع مع لغات أوضح وأحكم. وثمة صعوبة أخرى حيث اللهجات المحلية هي
لغة شفاهية أكثر منها كتابية، وأخيرا فإن الخطى السريعة في مجال المعلوماتية والتكنولوجيا لا تتناسب مع
هذا التشرذم المحتمل لو أننا اكتفينا باللغات العامية بديلا عن العربية، ونحن لم
نكد نصدق أن منّا نفر جاد متقشف مثابر يهتم بإكساب اللغة العربية المواصفات
اللازمة لتواكب هذا الذي غمر ويغمر كلا من الحياة والمعرفة كالفيضان المتلاحق من
تحديث وبرمجة وتخزين (مثل د. نبيل علي وكل المشتغلين ببرمجة العربية الفصحى). إن ما ينبغي علينا أن نبذل فيه قصارى الجهد هو العمل على تحديث الجاهز
والممكن والعام، لعلّنا نلحق بالركب، بدلا من الجدل حول تجهيز الفروع الوليدة
(اللهجات العامية التي قد نجد مبررا مستقبليا لتجهيزها بما يناسب فيما بعد). أما إحلال اللغة الأجنبية (ولنفترض أنها الإنجليزية، لادعاء عالميتها،
وعلميتها، ولظروفنا التاريخية الحديثة) كبديل للعربية، فهذا هو الخطر الأكبر،
والأسباب كثيرة، وسبق أن عددتها في أكثر من موقع، وخاصة في سياق الجدل المخجل
الدائر حول ما يسمى تعريب الطب، وأيضا في سياق فكرة التحذير من التعرف على
مشاعرنا (في مجال علم النفس و الطب النفسي) انطلاقا من ألفاظ مترجمة وليس من
تجارب معاشة. 9/3 تساؤلات أساسية: ومن خلال تخصص في هذين المجالين (الطب النفسي، وعلم النفس) كنت قد واجهت
أسئلة أرى أن عرضها مما يتناسب المقام الحالي، دون التزام بإجابات محددة عليها: 1-
هل هناك فروق جوهرية (ثقافية وحضارية) بين من يتكلمون
الإنجليزية بوجه خاص (كممثل للسان الأعجمي الأنجلوسكسوني) وبيننا نحن الذين
نتكلم اللغة العربية؟ 2-
هل هذه الفروق- إن وجدت- هي فروق
لسان أم أنها فروق لغة وتاريخ، ودين (وموقف إيماني) وأهداف وأعراف مغايرة؟ 3-
هل المسألة هي مسألة تعصب قومي
لإحياء تاريخ مجد قديم، أم أنها مسألة إتاحة فرصة لحوار حضارات وإسهام بشرى
متضفر؟ 4-
ماذا عن ضرورة التواصل بين
العلماء بلسان واحد؟ 5-
ماذا عن المستقبليات وأين
تقع اللغة العربية من منظور علوم المستقبل؟ 6-
ماذا عن العلاقة بالحضارة
الإسلامية خاصة؟ 7-
هل للعربية سمات خاصة يمكن أن
تضيف إلى منهج ونظريات العلوم الإنسانية؟ 8-
هل يتغير المنهج العلمي بتغير
اللغة أم أن المسألة هي مجرد تغيير ألفاظ؟ 9-
هل يستعيد العقل العربي استقلاله
وحريته إذا درس وتكلم وبحث بالعربية؟ أم أنه سينعزل ويتمادى في غرور خطر؟ 10-
هل يستعيد العقل العربي لغته
بثرائها وتاريخها وقدراتها الإبداعية إذا استعاد حرية تفكيره وحركية وجوده
وحقيقة استقلاله؟ وأكتفي بهذا القدر
لأقفز إلى محاولة إجابة جزئية، لبعض هذه التساؤلات، إجابات تشير ولا تحسم.
9/4 إجابات و فروض إن اللغة العربية تعلن عن، وتمثل، حضارة راسخة، سجلت بلسان عربي، وظلت
نفس اللغة قائمة كما هي، بأقل قدر من التشويه، حتى لتعتبر من أرسخ لغات العالم
الحالية، يرجع الفضل في هذا أساسا إلى حفظها بالقرآن الكريم وعلومه، فهي
تاريخ بشري قائم بيننا/فينا، ثم إنها التاريخ المخزون في الحاضر القائم،
ونحن نطرحه خلفنا إما بإهمال وكسل عدميين، أو بسعي حثيث إذ نتشوه بلغات غريبة
نشأت في ظروف حضارية مشكوك في بعض أوجه عطائها ثم ننتقل إلى النظر في أصل التفرقة، وثمل هناك فروق جوهرية (ثقافية
وحضارية) بين من يتكلمون الإنجليزية بوجه خاص (كممثل للسان الأعجمي
الأنجلوسكسوني) وبيننا نحن الذين نتكلم اللغة العربية ؟ والإجابة الراجحة عندي هي "نعم"، إنه توجد فروق عملية قائمة من
ناحية توعية الحياة اليومية والعلاقات والتوجه والاقتصاد والالتزام بالقوانين،
والعقد الاجتماعي، والعرف، وشكل التدين، وغير ذلك مما لا مجال لتفصيله هنا. ولا بد أن أعترف أنني استلهمت تحديد بعض معالم هذه الفروق كفروض من
واقعين: لغتي العربية، وإيماني (إسلامي) الخاص، وهي ليست فروقا يقينية
بقدر ما هي فروض محتملة. 1- فنحن أكثر اتصالا بالطبيعة وحوارا معها وفرصتنا أكبر للتناغم بها (أو
المفروض أن نكون كذلك): (لاحظ التشكيل المرن للغتنا، ثم لاحظ تحديد العبادات في الإسلام بمواقيت
تؤكد على علاقتنا- بشرا- بحركة الطبيعة المباشرة من حولنا، وضرورة اتصالنا
المنتظم بها، ربما للحفاظ على طزاجة و حيوية الفطرة) ب- نحن أكثر امتدادا في الزمن. أو المفروض أن نكون كذلك. (لاحظ غلبة الجمل الفعلية والمعنى الإيجابي للإيمان بالغيب: وهو ما فسرته
باعتباره التأكيد على الحفاظ على فرص تفجير الإبداع مما "ليس كذلك"،
ونفيت بذلك أن يكون الإيمان بالغيب- كما ساء فهمه- ليس إلا تسليما للخرافة) ج- نحن أكثر تحديدا للكيان الفردي المتميز: (لاحظ الضمائر المميزة لتنوع الخطاب حسب نوع المخاطب: أنت، أنت، أنتما،
أنتم، أنتن). د- وفعل الكينونة حاضر ومتأصل في الكلمات في لغتنا بشكل أوضح وأكثر
استقرارا من لغاتهم الواصفة للكينونة. (لاحظ تنازل العربية عن استعمال فعل "يكون" لإظهار الكينونة،
فالكينونة مستقرة في الكلمات بما لا يحتاج للتشديد عليها باستعمال فعل خاص لها،
فلا نقول محمد يكون في المنزل (Mohamed is at
home)
و لكن فقط.. محمد في المنزل" وهكذا . هـ- ولاحظ أيضا كذلك كيف يتم الاشتقاق عن طريق الوزانات في العربية،
بينما يتم عندهم بالسوابق واللواحق، وهو ما يجعل هيئة الكلمة حاملة لنمط فعلها
ودلالتها في تركيبها ذاته، وينفي أن يكون التعديل الاشتقاقي على الجذر مجرد
إضافة تلحق به من الخارج. 10/ من العراقة إلى المستقبل وقد آن الأوان لننظر في مسألة عراقة اللغة العربية وهل هذا الزعم في ذاته
يكفي أن يكون مدعاة للتمسك بها، وبالتالي لترديد حكاية أصالتها، والنهضة انطلاقا
منها؟... إلخ أم أن هناك بعدا آخر؟ بعدا يتعلق بالمستقبل وليس بالماضي بشكل أكثر
تحديدا؟ كلنا يعرف، وبعضنا يتابع، ما يثار حول المستقبل، مما يندرج مباشرة تحت
عنوان "علم المستقبل" أو "المستقبليات"، وهذا
أمر لا يختص به وطن دون آخر، ولا ينطق به لسان منفرد سواء كان متقدما أو متخلفا،
فالمستقبل هو المستقبل في كل مكان، وهو يعنى كل إنسان من أي لون وجنس، كما ينطق بكل
لغات هذه الأرض، ويتأكد ذلك بشكل خاص إذا كان الحديث عن تهديد بالانقراض (من
خلال تلوث البيئة أو غباء القادة والعلماء) فأين تقع مسألة اللغة العربية من المستقبل؟ وهل هي لغة متاحف وعبارة وشعر قديم؟ أم أنها معمار حي مرن متجدد
قابل للإبداع بالإضافة والحذف و إعادة التشكيل؟ إن كثيرا من المدافعين عن اللغة العربية، مثلهم مثل الفخورين بالحضارة
العربية، يبدون لي وكأنهم أمناء متحف، أو شعراء يقفون على الأطلال،
فإذا صحّ أن الأمر كذلك، وأن الدعوة إلى التعريب أو العودة إلى العربية ليست إلا
ما هو مثل ذلك، فالأولى بنا أن نتمسك باللغات المستوردة القادرة على صياغة
الحياة الآن فغدا. أما إذا كان الوعي بمسئولية الوجود هو الذي يدفعنا إلى تغيير التعبير من
"العودة إلى العربية" إلى "الانطلاق من العربية وبها..
"ا فهنا تستحق المسألة أن نجتهد فيها ونبذل في سبيلها كل ما تستأهله. ولأضرب مثلا محددا
من واقع الممارسة الإكلينيكية: لقد وجدت من خلال معايشتي لتخصصي ولغتي أن ثمة مظاهر " تحضر"
في الممارسة الإكلينيكية بما هي، بنية مكثفة في سياق وعي خاص، وأن
هذه البنية/الوعي إنما تحضر بلغتها طبعا، ليس فقط بمعنى حكى الأعراض،
وإنما بمعنى الحضور الفعلي لصورة المرض الكلية بما يسمح به تركيب اللغة، ثم
نسارع نحن- الأطباء- بترجمة هذه الحالة من لغتها الحاضرة الكلية ذات الإيقاع
الخاص والنبض المتميز، نترجمها إلى أقرب تعبير علمي يستعمل في وصفها وتشخيصها
(اسم عرض أو اسم مرض)، فأجد أننا بذلك نبعد عن المريض ومعاناته لنقترب من الكتاب
الأجنبي ورطانته، ومما لاشك فيه أننا يمكننا التعرف بشكلي أفضل غلى الظاهرة
المعنية إذا ما صغناها بما هو أقرب إلى اللغة التي حضرت في الوعي الخاص بها،
وخاصة إذا ما تعلق الأمر بالوجدان، أما إذا سارعنا بترجمتها إلى غير لغتها فإن
ذلك يفصلنا عن الظاهرة وعن السياق وعن الوعي الخاص الحاضر المشترك بين الطبيب
والمريض.. وما يعنيني من دلالة عرض هذه الملاحظة هو توضيح أننا في مثل هذه الحالات
قد نرضى- مضطرين- أن نترجم الخبرة المعطاة - وخاصة في حالة لغة المريض العقلي-
إلى ألفاظ نألفها نحن، لا تخص المريض في كثير أو قليل، ولا يفطن أغلبنا - وهو
يفعل ذلك- إلى أنه إنما يختزل وجوده ووجود مريضه إلى "صوت" لفظ مألوف،
لم يقصده المريض في الأغلب، هذا إذا كنا نترجم خبرة المريض إلى لفظ من لغته،
لغتنا (العربية)، فما بالك لو كانت الترجمة إلى لغة أخرى؟ وما بالا لو كانت
عقولنا نحن قد تبرمجت لرؤية هذا المريض بلغة أخرى؟ وما بالك لو كانت أسماء
الأعراض (المختزلة) هي أساسا من أبجدية لغة أخرى؟ ومثال آخر من واقع ما
يدرسه أطفالنا في المدارس الأجنبية إن ما يدرسونه ثم ما يمثلهم من خلال المتاح
في وسائل الإعلام إنما يبرمجهم بأبجدية بعيدة عن خبراتهم الذاتية، فيضطرون أن
يتشكلوا تبعا لها، وليس تبعا لما يعيشونه من واقع تركيبهم اللغوي المتجذر،
فيترتب على ذلك نوع من الاختزال والتشويه إذ يتشكل وعيهم مائعا مهتزا، ومغتربا
عن أصله بما لا يسمح بإضافة أو إبداع. إن إسهامنا في المستقبل يتناسب مع قدر الإضافة الإبداعية التي يمكن أن
نساهم بها "معهم" بما هم ونحن- في حاجة إليها، ولا يكودا ذلك إلا
بطلاقة تبدأ من موقعنا (فغتنا) نحو هدفنا (هم- ونحن) المشترك. 11/ اللغة العربية والحضارة الإسلامية ثم ننظر الآن في أمر آخر ردا على تساؤل يقول: ماذا عن ارتباط اللغة
العربية بالإسلام خاصة؟ لا شك أن فضل الإسلام (القرآن خاصة، وتسجيله مبكرا وصادقا) في الحفاظ على
أصالة وألفاظ ونبض اللغة العربية ليس كمثله فضل، وهذا يجعلنا ننظر مليا في الفرق
الجوهري الذي يفرضه الموقف الإسلامي الشامل لكل الأديان التي تظلها مظلة حضارته،
بالمقارنة بالموقف الشمالي الغربي- المرتبط بالعصر الصناعي من جهة، وتأليه
الإنسان الفرد من جهة أخرى، ونوع التنمية الكمية الاستهلاكية المغتربة من جهة
ثالثة، واستنزاف الطبيعة من جهة رابعة: كل ذلك قد صاغ الفكر الأوربي في القرنين
الأخيرين، بما آل إليه، ويمكن أن نستنتج كيف تدخلت هذه الصيغة في تركيبهم اللغوي
حتى أصبحت جزءا لا يتجزأ من مناهج تفكيرهم وبحثهم واستنتاجاتهم وتنميتهم
وتخطيطهم. لكننا نحن بإسلامنا (بالمعنى الأشمل الذي يحتوى إخواننا المشاركين حضارة
الإسلام من أديان أخرى) نختلف، (سلبا وإيجابا) أو ينبغي أن نختلف بفضل هذه اللغة
التي مازالت تقاوم ما نفعله فيها وفينا، ذلك أن اللغة العربية بثباتها وتحملها
كل هذه القرون قد ساهمت حتما في حفاظنا على علاقتنا بالطبيعة، ولعها هي التي
توحي لنا مؤخرا- إذ نحاول الإفاقة- أن للحياة هدفا آخر، وأن الإنسان ليس إلها،
وأن المنهج القائم الغالب عندهم والمحتكر لما يسمى علما، لا يفي لسبر غور
الحقيقة، كل الحقيقة أو أغلبها، وأن لنا علاقة متصلة بالطبيعة، غير الاقتحام
والسيطرة والاستنزاف. هذا عن الناحية الإيجابية، أما عن الناحية السلبية، فسوف أبين منها
جانبين كأمثلة دالة. المثال الأول: هو احتكار تفسير
النص القرآني لمن حذق اللغة العربية، وهذا طيب من حيث المبدأ لكن شروط الحذق كما
يفرضونها، أو يفترضونها، هي أن يتجمد المفسر عند مرحلة ساكنة من مراحل تطور
اللغة، بأن يتحرك داخل المعاجم تحديدا، ووراء أسوار القواعد الثابتة تماما، وفي
إطار التفسيرات القديمة المسجلة أساسا، فنكاد بذلك أن نكون قد قررنا موت اللغة
مع من مات من المفسرين والمعجميين، مع أن الأصل أن يكون حذق اللغة الواجب
توافره لمن يتصدى لقراءة القرآن من جديد هو حذق إبداع وتطوير، وليس حفظ تجميد
وتحجيم، حذق يسمح بالاستلهام، ولا يكتفي بالتأويل، فيصبح النص المقدس مثيرا
لحركية هذه اللغة/ الوعي/ الآني لنستلهمه مجددا مع كل احترامنا لكل القواعد
الشكلية والهيكلية والتركيبية والتاريخية. والمثال الثاني:
يقع في أقصى الناحية الأخرى، وهو ما يطلق عليه اسم "التفسير العلمي للنص
الديني" فهذه البدعة ترتكز على ظاهر اللغة العربية التي نزل بها النص
لتقدم تفسيرات جامدة لظاهر جزئيات معطيات بعض العلم. إن مارد مناهج المعرفة يتمطى ليمزق القيود الجاثمة نتيجة التضييق
والإلزام بمنهج قديم محدود يتمطى وهو يستشرف انفتاحا للتعرف على السبل المشتركة
إلى: الله/ المعرفة/ القدرة/ الإبداع، لكننا نحن العرب المسلمين نتمادى في
الاختباء خلف قضبان سجن لغة قديمة ثابتة (ليست هي العربية الحية) وكما نختبئ
خلف أسوار ومنهج علمي تجريبي مقارن قاصر فنشوه الجميع: الماضي و لحاضر
والمستقبل، العلم والدين واللغة والإيمان. وكأن هذه المحاولة
(التفسير العلمي للنص المقدس) ليست إلا عملية ترجمة قبيحة من لغة مغلقة نحبس
فيها النص الإلهي، إلى لغة مختزلة نتصور أنها تمثل العلم النهائي، فتكون النتيجة
هي اختزال حركية الإسلام الملهم وحبسه في سجن لغة جامدة وعلم زائف في آن. وهكذا يتم اختزال معطيات الدين واللغة جميعا إلى ما شاع أنه العلم، ونحن
بذلك لا نختزل العلم فحسب ولا نمتهن الدين فحسب، بل إننا نعبث في تكوين وعي هذه
الأمة جميعا حين نختزل عطاء اللغة العربية، واللغة الدينية جميعا. وتصحيح هذا الوضع هو أن يكون ديننا (وهو لغة في ذاته)- مثله مثل لغتنا
العربية- مصدر إلهام معرفي لتجديد الوعي وتنشيط الإبداع، وليس مجرد تابع تزيد
قيمته إذا ثبت أنه أصدر نفس الأصوات الأجنبية العلمية وغير العلمية لتخبرنا عن
قشور علمية لا تحتاج لإثباتها إلى نص إلهي أصلا. إن لغتنا العربية لم تقفل باب التجديد والخلق وولادة ألفاظ جديدة، لكن
هذه المحاولة التي تعتمد على تفسيرات قديمة بمضامين للألفاظ أقدم لا تفعل إلا
أنها تساهم في تجميد اللغة والفكر لتصبح لغتنا لغة ميتة عاجزة عن استيعاب حركية
الوعي الإنساني الخلاق، بل إن الفضل كل الفضل للغة ما لا يكون إلا من خلال
قدرتها على استيعاب الخبرات الإنسانية المتجددة بتراكيب جديدة في سياقات جديدة،
بل بألفاظ جديدة، أو بألفاظ قديمة قادرة على احتواء مضامين جديدة، وهذا وحده هو
الذي يعطى أي لغة حقها في الحياة فضلا عن أنها بدورها تعطى الحياة قدرتها على
التجديد والتسجيل والتواصل. وفي هذا، ومن أجله، لا
ينبغي أن تحول المعاجم والتفسيرات الثابتة والقديمة وكذلك التفسيرات السطحية
الحديثة دون اقتحام الأصل تحديده من واقع حركة المعرفة وتخليق الوعي
دائما أبدا. 12/ عن اللغة و المنهج إن الانطلاق من
لغتنا العربية، تركيبا له بنيته الخاصة، وليس ترجمة عاجزة عن الحركة المستقلة،
لهو من العوامل الأساسية التي قد تتيح لنا الفرصة لاختبار منهج أخر أكثر قدرة
على سبر غور الحقيقة والإلمام بأبعاد المعرفة، ومن ذلك هذا الحضور المكثف للوعي
الأشمل في وعينا الفردي ثم الجماعي، ذهابا وإيابا بما يعمق المعرف، الإيمانية،
وليس هنا مجال لتفصيل أكثر، وإنما أكتفي بمجرد الإشارة إلى ما سبق أن أشرت إليه
من تراجع المنهج التجريبي الكمي المعتمد على الرصد السلوكي عن احتكار ما يسمى
موضوعية المعرفة، الأمر الذي يتواكب مع ظهور مناهج وطرق قادرة وشاملة يرجع الفضل
في ظهورهما إلى الطبيعة الحديثة
والرياضة الحديثة مثلا، وهي التي تدعونا إلى أن نضع فكر أرسطو، ومن ثم ابن رشد
في موضعه المتواضع، كل هذا خليق، أن يفتح لنا آفاق مناهج ومناطق أكثر قدرة وكلية
وإحاطة وتداخلا، وكلها مناهج أقرب إلى بنية اللغة العربية القادرة، منها إلى
التنظيم الخطى ذي الحروف المنفصلة بعضها عن بعض في لغات أخرى. وبديهي أن المسألة ليست مسألة تمسك برطانة محلية نعود إليها أو حتى ننطلق
منها لينصلح الحال، فنبدع الجديد، ونصوغ المنهج البديل، ونسترجع استقلال فكرنا،
ونغير أهدافنا، كل هذا يستحيل أن يتم لمجرد أننا نتكلم العربية، أو أننا نتعلم
ونبحث باللغة الأم، إن العكس تماما هو المطلوب، وهو ممكن، بمعنى أننا لو تبينا
أننا نتميز عن غيرنا، ليس بالضرورة تفوقا، فقط: مجرد تميز، وأن هذا يسمح لنا
بالحركة في مساحة أخرى، من منطلق آخر، وأن هذا وذاك يتيحان لنا فرصة اقتحام
مجاهل المعرفة بشكل آخر في مسار آخر، وأن كل هذا يعني أن لنا توجها آخر، لو حدث
كل هذا فهو إنما يؤكد أنه لا يمكن أن يتم إلا من خلال بنيتنا العربية الغائرة،
التي بعض صورها: النطق والبحث والحوار والنهج بهذا اللسان العربي. فالعقل العربي لا يستعيد استقلاله وحريته باستعادة النطق بلسانه، و إنما
باستعادة وتطوير المنهج المرتبط بلغته، حين تتاح له فرص أرحب إذا هو استعمل لغته
تركيبا غائرا- بما يتيح تجديدها، ثم هو قد يستعيد أو لا يستعيد بحسب مسئوليته و
إسهامه دوره، فزيادته على طريق المعرفة/ الحضارة بحسب جهده وإبداعه، فإذا فعل عادت لغته إلى الحياة ثم تطورت بدورها،
فأعطت وتحاورت، وإذا لم يفعل فهو الخاسر نفسه ولغته وهويته فلا يبقى له إلا أن
يتبع ويطيع (ويسمع الكلام) لو استطاع أن يفعل !! 13/ تطور اللغة وتخليق الوعي
من هذا المنطلق، وبعد هذه المقدمة، نستطيع أن نتصور التحدي الملقى علينا
في مسألة تطور اللغة وبالتالي تشكيل الوعي، فاختراق وصاية اللغة ورسوخها حتم
تفرضه ضرورة التطور وحركية الإبداع، لكن هذا الاختراق- مثل كل اختراق- محفوف
حتما بتهديد التناثر (الجنون)؟ فثمة جدل لابد أن يفرض نفسه حلا للمواجهة بين
الظاهرة الوجودية الأعمق إذ تتفجر في علاقات وتركيبات قديمة "تتجدد"،
وبين التركيب اللغوي السابق لها مباشرة، والعاجز عن استيعابها استيعابا تاما. ولا يمكن أن يتم ذلك على المستوى القومي إلا من خلال لغتنا الخاصة وعلينا
أن نهيئ مساحة الحركة، وندفع التنشيط، ونحرص على مرونة التلقي لحركية تطور
اللغة، ذلك لأن اختراق الثبات (اللغوي) بهدف خلخلة تزييف الوعي الساكن. يشمل
حتما مغامرة أن نخفق حركية اللغة المتجددة لتصبح ثروة وجورنا المبدع. 14/
الخلاصة: أستطيع الآن أن أخلص
من كل هذه الأفكار المتنقلة في الفقرات السابقة إلى ما يلي: 1-
إن اللغة والوعي هما وجهات للحضور
البشري في عملية الخلق وإعادة الخلق مات خلال جدلية الواقع الحي مع التشكيل
اللغوي المتجدد. 2-
إن لسان كل أمة هو تاريخها الحيوي المتراكم في عمق
وجورها الآني، ولغتها بالتالي هي منطلق معارفها في مجال ما هو ظاهرة بشربة
"معرفية/وجدانية". 3-
إن اللغة الأصل (اللغة العربية هنا) في حركيتها
الموحية، لا تميز لساننا فحسب بل تسمم بفاعلية أولية في تحديد طريقة تواجدنا في
الحياة، وطريقة منهجنا للمعرفة، وطريقة تشكيل وعينا على كل المستويات. 4-
إن اللغة الأصل هي المسئولة. من
واقع صحتها وحركيتها، عن الإسهام الحقيقي في إبداع متميز لأي مجموعة من البشر. 5-
إن اللغة العربية، بإيحاءاتها المنهجية يمكن أن تحتل
مركزها المحوري في أي محاولة للتعرف على حركية نموها وإمكانية بعثنا، وبالتالي
تصبح البدايات منها (لا مجرد الترجمة إليها) هي أكبر إلزام مفروض على ضمائرنا
ومحرك لفعل معرفتـنا وعلينا أن نتوقع إذا أحسنا استلهامها أن تقف في مواجهة
اللغات ا لأخرى- والمناهج الأخرى، في حوار حضاري يعود على الجميع بالتكامل
المحتمل، بل الحتمي. 15/ الخاتمة: لا أستطيع أن أمنع نفسي من إعلان شكي في جدوى كتابة هذه الورقة، بل
واسمحوا لي، في جدوى هذا المؤتمر برمته، مادمنا نفتقر إلى آلية تنفيذ أي توصية
يمكن أن نخرج بها بعد هذه اللقاءات. "إني تصورت وأنا قادم إلى هذا المؤتمر أن مظاهرة سلمية تذهب إلى ما
يسمى حديقة دار العلوم- هي أقدر على توصيل صوتنا من كل ما حدت ويحدث في هذا
المؤتمر، ذلك أن دار العلوم بالذات هي الصورة الجامعة الأقدم التي حافظت على
لغتنا وطورتها، وكان ينبغي أن تظل جدرانها متحفا يزار، فإذا بنا نسويها بالأرض
كرمز لدفن لغتنا تحت التراب، ثم تحل محلها حديقة عليها هذه- على اللافتة. وحتى لا أتمادى في
الشطط فإنني أعرض فيما يلي بعض اقتراحات- ليس من التظاهر السلمي- أحسب أن البدء
بها حالا هو أمر ممكن لمن يريد الإسهام إيجابيا في إنقاذ ما يجب إنقاذه وليس ما
يمكن إنقاذه. أولا: إصدار
أمر ينفذ فورا ويبدأ بشارع واحد في العاصمة، ينهي كل هذا التلوث اللغوي المقتحم
لوعينا القومي، إذ يزيل لافتات المحلات بالقوة الجبرية، ثم يمتد هذا النشاط
تدريجيا ليشمل القطر كله. والمسألة تحتاج إلا لأمين شرطة وإذن نيابة وبعض الشمع الأحمر، و"حكومة". ثانيا: إعطاء اللغة العربية ثلث درجات الشهادات العامة
بالتمام ويقسم هذه الدرجات إلى درجات للغة كلفة، وأخرى في العلوم الأخرى كدرجات
للصياغة والترجمة، بمعنى أن يصبح
لكل علم درجتين والأخرى للصياغة اللغوية، منها وإليها في كل المواد. ثالثا: يتواصل تدريب مدرسي اللغة العربية بمناهج متطورة فيما
يسمى التعلم المستمر" بعد التخرج، مقابل مضاعفة مرتباتهم باستمرار، وعدم ترقيتهم إلا إذا واصلوا
هذه الدراسة بلا نهاية، ثم فصل كل من يثبت عجزه، أو تحويله لعمل إداري أدنى. رابعا: العودة إلى
تحفيظ ثلاثة أجزاء من القرآن على الأقل- (بصفته اللغوية وليس الدينية) كل الطلبة
من كل الأديان في المرحلة الابتدائية والإعدادية، وخاصة بعد إضافة سنة إليها
(تذكر لغة مكرم عبيد). خامسا : العناية بالتأليف ثنائي اللغة كمرحلة انتقالية كما
يدرس بلغة أجنبية مثلا بالعلوم الطبية. سادسا : العودة إلى استعمال الرسم العربي (اللاتيني الآن)
للأرقام. أسوة بالمغرب العربي. سابعا: اقتراح بقبول استعمال الحروف اللاتينية في المعادلات
الرياضية والكيميائية، لا أكثر، وكأنها رموز رسم وليست دلالات لغة. ثامنا: تجريم أو تحريم أي إعلان، في الصحف المحلية لحرف
معربة (تلك أواي.... دريم لاند... جرين لاند.. إلخ). تاسعا: الإلزام بترجمة أي إعلان بالإنجليزية إلى العربية
حتى لو كانت الشركة المعلنة إنجليزية صرفا. عاشرا: النظر في ربط الترقي في الجامعة من درجة إلى درجة
الأعلى بإعطاء محاضرة بالعربية وتقديم بحث بالعربية، و امتحان في اللغة العربية. حادي عشر: فتح الباب بأوسع ما نستطيع لاستعمال ألفاظ من
العامية صالحة و جديدة تصبح جزءا من ثراء الفصحى. ثاني عشر: فتح الباب لنحت ألفاظ جديدة تماما نثري بها اللغة
العلمية خاصة. ثالث عشر: التخفيف من وصاية المؤسسات الأعلى (بما في ذلك مجمع
اللغة نفسه أو منظمة الصحة العالمية) مع السماح بنقد و مراجعة ما يصلون إليه أو
يوصون به. §
ثانيا:
البدء من العربية لا الاقتصار على: الترجمة أو التعريب أولا:
تصدير اللغة هي الأصل، وهي التركيب الغائر للكيان البشري، والكلام أحد مظاهرها،
ونحن حين نتكلم عن التعريب نركز على الكلمات، الأصوات اللهجات، وكأن القضية هي
هذه، و الأمر ليس كذلك. ولا بد- إذن- أن نبدأ من حيث ينبغي، من النظر في التركيب الكلى لجوهر قوم
لهم ثقافتهم الخاصة، وطريقة صياغتهم للكون من حولهم: تلقائيا، وإصدارا. وفي مسألة تعريب الطب: لاحظت أن التركيز كل التركيز يكاد يكون منصبا على
فعل الترجمة، الأمر الذي يبدو أحيانا وكأنه وضع للألفاظ المعجمية المقابلة بجوار
بعضها، وقد يصح هذا في الجهاد لتسمية بعض المصطلحات، وخاصة تلك المصطلحات التي
تصف أجزاء هي متجزئة بطبيعتها، مثل إسم عصب منفرد أو فقرة عظمية بذاتها، لكن
المسألة تختلف تمام الاختلاف حين تكون وصفا إكلينيكيا لمرض أو متلازمة بذاتها،
وصفا يخرج من تركيبة عقل ذي بنية أخرى، لها ما يميزها، ليس بمعنى الاختلاف وإنما
بمعنى التفرد، عقل يعمل في إطار ثقافة خاصة به، ليخطب البشر كافة – عبر بنى ثقافته-
بشيء له معنى حقيقي. ويبلغ التحدي أقصى مداه حين يكون هذا المرض " معتقد " أو ما هو
" وجدان " أو بكل ذلك، مثلما هو الحال في الطب النفسي. لكل ذلك: فإن
هذه الورقة إنما تؤكد على ضرورة الانتباه إلى أننا ونحن نسعى جاهدين لمما
أسميناه خطأ "تعريب الطب " قد نكون مجرد مترجمين لثقافة أخرى، من سياق
آخر، له تاريخ آخر، الأمر الذي سيصنع منا الأوعية مع اختلاف المحتوى لونا فقط
(لا حركة ولا توجيها)، وهذا ما عنيته بتسطيح الوعي. ولا يحتوى هذا الكيان
الوعائي (المعرب) إلا ما هو: رص معرفي متباعد بعضه عن بعض، ننطقه بأصوات مألوفه
لنا (أو لبعضنا) نسميها "لغة عربية"، فنسمى ما نفعله تعريبا، وهذا هو
ما أشرنا إليه بتعبير"اختزال المعرفة"، وأعنى به اختزال المعرفة إلى
مفرداتها المتباعدة. والرأي عندي أنه إذا كان هذا أو ذاك هو غاية حركة التعريب، فلا داعي لها
ولا جدوى منها، والأولى بنا أن نرضى بالصوت الأعجمي الذي قد يوصل لنا كلية
معرفية حتى على حساب تركيبنا اللغوي. وبالتالي، وإذا أصر بعضنا على أن يكون
الصوت عربيا: فلتكن التسمية "ترجمة الطب إلى العربية"، وكأن الطب ولد
أعجميا ونحن نصبغه بظاهر ألفاظنا!!! وهذا أمر ليس به- في نظري- ما يستدعى بذل أي
جهد صادق في اتجاهه. أما المسألة التي تستأهل جهدنا وتوجهنا جميعا فهي أن المعرفة الطبية هي
أصل في المعرفة الإنسانية بكل لغة وتركيب، ونحن نبحث فيها من منطلق تركيبنا
اللغوي، فنتعرف على حقائقها في سياق ثقافتنا، وكلية بنيتنا، وهذا بالذات هو ما
يحتاجه الآخرون منا: إن أهل اللغات الأخرى ينقصهم بعض ما عندنا (تركيبات وكليات
وسياقا)، كما ينقصنا ما عندهم سواء بسواء، وحين يبدأ كل كيان بما هو، فإنه يصبح
قادرا على أن يضيف ليس فقط إلى ما هو، وإنما إلى من يتحاور معه من ثقافات
وحضارات ولغات أخرى. ومن هذا المنطلق تصبح الترجمة هي تسهيل للمواصلات بين هذه البنيات
اللغوية المتميزة والمتحاورة، وليست تلونا لنفس الشيء المغترب عنا بألوان نحسب
أنها نحن، وهي ليس إلا طلاء محايدا فاسدا. وهذه الدراسة تتناول مخاطر هذه المسألة، وبعض تساؤلات عامة مع محاولات
إجابة، ثم هي تعرض مثالا من خطر ترجمة العلوم الطبية النفسية، وإن كان لا ينطبق
على سائر العلوم الطبيعية إلا أنه يجسد فكرة هذه الأطروحة بشكل أو بآخر. ثانيا: تساؤلات مبدئية
خطر ببالي أن أعرض
هذه التساؤلات دون أن أجيب عليها، وأن تكون من بين ما يطرح في حلقة النقاش
التالية، وخاصة أنني لا أملك تماما الإجابة علها، فكل إجاباتي هي اجتهاد محدد،
قد يصل إلى درجة الفرض وقد لا يصل، لكنني عدت فوجدت أن من الأمانة ما دام عندي
مشروع إجابة، حتى ولو لم يكتمل، فإنه لابد أن يكون في متناول المهتمين بالأمر،
وخاصة وأنا أعرف أن الوقت لن يسمح بعرض أية تفاصيل حول بعض هذه القضايا، ناهيك
عنها جميعا. وقد جمّعت التساؤلات في مجموعات، وإن كنت قد لاحظت التداخل على الفور،
لكنى لم أعمد إلى إلغاء هذا التقسيم التقريبي حتى بعد أن بعد عنى ما يبرره. المجموعة الأولى: ا- هل المسألة هي مجرد تبديل ألفاظ مألوفة بألفاظ أعجمية واردة؟ 2- هل نتناول القضية بتساؤل عن: ما هو الأسهل وما الأصعب؟ أم: ما هو الألزم وما هو الأخطر (ولا أقول: ما هو الأنفع وما هو الأتفه) 3- هل المسألة هي: تعريب الطب أم تعريب دراسة الطب، أم دراسة الطب
العربية المجموعة الثانية: 4- هل هناك فروق جوهرية (ثقافية وحضارية) بين من يتكلمون الإنكليزية بوجه
خاص (كممثل للسان الأعجمي الأنجلوسكسونى) وبيننا نحن الذين بتكلم اللغة العربية؟ 5- هل هذه الفروق- إن وجدت- هي فروق لغة أم أنها فروق تاريخ، ودين (وموقف
إيماني) وأهداف وأعراف مختلفة إلخ؟ 6- هل المسألة هي مسألة تعصب قومي لإحياء تاريخ مجد قديم، أم أنها مسألة
إتاحة فرصة لحوار حضارات وإسهام بشرى متضافر؟ المجموعة الثالثة: 7- ماذا عن ضرورة التواصل بين العلماء بلسان واحد؟ 8- من ينقل من من؟ ومتى؟ ولماذا؟ 9- لماذا كان عصر محمد على باشا. يدرس الطب بالعربية؟ وهو الذي لا يجيد العربية أصلا؟ المجموعة الرابعة: 10- هل مازالت غاية مرادنا هي نموذج ما يسمى عصر التنوير؟ 11- ماذا عن المستقبليات وأين تقع اللغة العربية بمنظور علوم المستقبل؟ 12- ماذا عن العلاقة
بالدين (الإيمان) عامة والإسلام خاصة؟ المجموعة الأخيرة: 13- هل للعربية سمات
خاصة يمكن أن تضيف إلى العلوم، الإنسانية خاصة 14- هل الطب علم إنساني إمبريقى أم هو من العلوم التجريبية المحكمة؟ وما
تأثير التدريس العربية في ترجيح أحد النوعين على الآخر 15- هل يتغير المنهج العلمي بتغير اللغة أم أن المسألة هي مجرد تغيير
ألفاظ 16- هل يستعيد العقل العربي استقلاله وحريته إذا درس وتكلم وبحث
بالعربية؟ أم العكس: (زي هل يستعيد العقل
العربي لغته بثرائها وتاريخها وقدرتها الإبداعية إذا استعاد حرية تفكيره وحركية
وجوده وحقيقة استقلالية؟ ) §
ثالثا:
محاولة إجابة (فروض مطروحة) 1- المسألة هي أن اللغة العربية
تعلن عن، وتمثل حضارة راسخة، سجلت بلسان عربي، وظلت نفس اللغة قائمة كما هي،
بأقل قدر من التشويه، أرسخ من كل لغات العالم الحالية، يرجع الفضل في هذا أساسا
إلى حفظها للقرآن الكريم وعلومه، فهي تاريخ بشرى قائم بيننا/فينا، وربما هو قادر
على أن يلحق بنا ينبهنا، ولعله يسعفنا ونحن نتشوه بلغات جزئية نشأت في ظروف
حضارية مشكوك في بعض أوجه عطائها (بالذات فيما يتعلق بالعلاقة بالطبيعة وما
بعدها: نحو الغيب فالله تعالى) 2- إذن فنحن لا نبحث عن الأسهل، ولا نتكلم بلغة المناظرة بين المذياع
والحاكى، وإنما نحن ندعو إلى التفكير باللغة العربية وتحريك المعرف باللغة
العربية، حتى نتمكن من أن نقوم بالتزامنا التاريخي، وحتى لا نتخلى عن كياننا
الوجودي أصلا. فإذا كان كل المطروح أمامنا هو أن نسير خلف إخواننا في البشرية
الذين سبقونا إلى بعض المعارف ببعض المناهج، فلا داعي للتعريب أو الترجمة أو أي
من هذا الذي يجرى هنا هكذا. وإذا كنا شركاء في تاريخ الإنسانية، وكانت لغتنا هذه الراقية والرائعة هي
من ضمن علامات هذه المشاركة، فأولى بنا أن نتمسك بها لنستلهمها عطاء جديدا من
منطلق تركيب آخر يخرج من عقل تفت صياغته بشكل مخالف لما هو تجزئ كمي، ذلك
التجزيء ساد من خلالا بعض لغات الغرب وخاصة الإنجليزية. 3- وثمة تساؤل مبدئي أيضا يلزمنا بمراجعة تعبير "تعريب الطب"،
فنحن لا نعرب الطب، فالطب- مثل العلم- هو لغة خاصة تصدر متكاملة بأصوات مختلفة،
وهو ملك كل من يمارس حرفته بشروطه، وإنما الدعوة المرحلية هي إلى تعريب تدريس
الطب والبحث فيه، وحتى هذا التعبير هو خط آخر شائع أيضا، لأننا لا نجعل دراسة
الطب عربية وإنما نحن نستعمل العربية في دراسة الطب لا أكثر. وأهمية الطب بوجه خاص أن يختلط بلغة من يمارسه هو أن تاريخ هذا الفن
العلمي يقول إنه كان دائما من علامات حضارة أي أمة، فتقدم الطب هو من أول
النشاطات السابقة الدالة على نهضة أمة من الأمم، وهو يأتي في ذيل قائمة التدهور
عند انحلال الأمم، أي أنه أول ما ينشط تقدما، و آخر ما يضمحل تدهورا، أفلا
ينبهنا هذا إلى أهمية أن يكون بلغة قومه بأي ثمن؟ 4- ثم ننتقل إلى النظر في أصل التفرقة والمميز، وهل هناك فروق جوهرية
(ثقافية وحضارية) بين من يتكلمون الإنجليزية بوجه خاص (أو كممثل للسان الأعجمي
الأنجلوسكسونى) وبيننا نحن الذين نتكلم اللغة العربية؟ و إجابتي أن نعم، إنه توجد فروق عملية قائمة من ناحية نوعية
الحياة اليومية والعلاقات والتوجه والاقتصاد والالتزام بالقوانين، والعقد
الاجتماعي، والعرف، وشكل التدين وغير ذلك مما لا مجال لتفصيله هنا. كما أن هناك الفروق الجوهرية الأعمق غورا والأخطر من هذا الظاهر،
ولابد أن أعترف أنني استلهمت تحديد بعض معالم هذه الفروق كفروض من واقعين: لغتي
العربية، وإيماني (الإسلامي خاصة)، ومن ذلك: أ- نحن أكثر اتصالا
بالطبيعة وحوارا معها وفرصة للتناغم بها: (لاحظ التشكيل المرن للغتنا وتحديد العبادات بمواقيت تؤكد على حركة
الطبيعة المباشرة من حولنا، وضرورة اتصالنا المنتظم بها، ربما للحفاظ على طزاجة
وحيوية الفطرة). ب- نحن أكثر امتدادا
في الزمن. (لاحظ غلبة الجمل الفعلية والمعنى الإيجابي للإيمان بالغيب، وهو ما فسرته
باعتباره التأكيد على الحفاظ على فرص تفجير الإبداع مما "ليس كذلك "،
ونفيت بذلك أن يكون الغيب كما ساء فهمه ليس إلا تسليما للخرافة). ج- ونحن أكثر تحديدا للكيان الفردي المتميز: مع التأكيد على أن الفرد
يمثل المجموع في آن (لاحظ الضمائر المميزة لتنوع الخطاب حسب نوع المخاطب: (أنت، أنت، أنتما،
أنتم، أنتن)، وفي نفس الوقت لاحظ فرط استعمال ضمير الجمع "ونحن " نعرض
رؤيتنا العلمية أو غيرها، حين نستعمل "نحن" بدلا من غلبة صيغة
المبنى للمجهول عندهم، وهكذا. لاحظ أيضا الخطاب الإسلامي شديد العمومية للإنسانية جمعاء "يا أيها
الذين " يا أيها الناس...، وهو يتبادل مع الحساب شديد التحديد لكل فرد على
حدة، وبالتفصيل (بل الإنسان على نفسه بصيرة) (ومن يعمل مثقال ذرة).. إلخ وهذه الفروق- التي هي مجرد أمثلة- ليست تميزا، ولا فخرا خاصا، لكنها تعلن
تاريخا مسجلا في صلب لغتنا من ناحية، وفي عمق تديننا من ناحية أخرى. فالمسألة ليست مسألة
عزة قومية أو تعصب استقطابي (نحن أم هم)، ولكن مادمنا أبناء هذه اللغة، ومؤمنين
بهذا الدين فمن الذي سيحمل أمانة هذا وذاك ليبحث فيه ويضيف منه؟ هل نستورد
مستشرقين جدد يقولون لنا من نحن، وبم نتميز؟ هل نكتفي بأن نترجم عطاءهم، فكأن
هذه اللغة ذات التاريخ، القادرة والملهمة، لم تعد تقوم إلا بدور الجارية نقهرها
لتقدم لنا الواجب (شكل المعارف) على لسانها الناطق برطانة مترجة، أي إهانة وأي
مصير أليس في هذا وحده ما يبرر بعض هذا الموقف الذي يقفه من يتصدى ليشجب هذه
الدعوة إلى التعريب؟ ألا نستشعر من خلال هذا الفرض أن زملاءنا على الجانب الآخر
برفضهم التعريب ربما يكونون أكثر حصرا على نقاء اللغة وتاريخها مما يفعله المتحمسون
السطحيون المترجمون لا أكثر؟ وبألفاظ أخرى نحن لسنا في حاجة إلى استعمال أمنا اللغة العربية لتقدم لنا
عطاء جارية تملأ وجهها الأصباغ، وخاصة في الطب إذا كنا نستطيع أن نبني بالحرائر
الأجنبيات مباشرة، حيث مهرهن هو أن نحذق لسانهن الأعجمي، فلا بأس، ولنربأ بأمنا:
لغتنا الأصيلة- عن هذه الإهانات والتشويه. أي أنه: إما أن تكون الأم- العربية- هي الأم الولود وليست الجارية
الملطخة بالأصباغ، وإما أن نبني بأجنبية "آخر صيحة"، ولا حول ولا قوة
إلا بالله. ثم تأتى مسألة التواصل بين العلماء، فالذين هم ضد التعريب يزعمون أن
اللغة الإنجليزية قد أصبحت اللغة العلمية العالمية (الأولى، أو الوحيدة في بعض
الآراء)، وبالتالي فعلى من يريد أن يواكب مسيرة العلم أن يتكلم بها، ورغم ما
يبدو في هذا القول من حق جزئي لا يمن إنكاره، وبالرغم من سلامة الرد الجاهز الذي
يقول إن دولا شديدة التقدم والقدرة على مواكبة العلم مثل اليابان وألمانيا إنما
تدرس و تواكب تحديث العلوم بلغتها جنبا إلى جنب مع لغات أخرى، وهي تضيف إلى
العلوم بلغتها أساسا، ثم الآخرون ينقلون منها. ونحن لسنا بلدا متقدما، لكننا نسعى لنكون كذلك، نسعى لنكون في وضع المشارك
أولا، ثم لا يوجد ما يمنع من احتمال الريادة، فالتاريخ لا يقصر الريادة العلمية
على جنس لون آخر، أو لسان لون آخر، فإذا كانت الحضارة ملكا للجميع، فالإسهام
في مسيرتها هي مهمة الجميع. ولن نسهم في مسيرة الحضارة ونحن نحشر في عقولنا ما
يتعارض مع تاريخ هذه العقول ونظامها الغائر. خلاصة القول في هذا المقام هو أن العلم أداة كما أنه لغة خاصة، وهو
كأداة تستعملها أية لغة، وتسخرها أية حضارة، فهو- العلم- يظهر في فترة
تاريخية معينة بلسان من يتقدم الركب، ثم ينقل إلى سائر البشر، ثم تتغير الأدوار
حسب غلبة الإسهام وريادة المتقدم، وقصر إعلان مفردات ومواصفات ونتائج العلم على
لسان واحد هو حرمان للبشرية من إسهام لغات (ذات تراكيب مختلفة) في العطاء
المعرفي والحضاري وفي هذا ما فيه من تقزيم كل أصحاب اللغات الأخرى ليصبحوا
مستهلكين للمعرفة لا منتجين لها. 8- ثم نتناول بعد ذلك مسألة الترجمة، وكأنها هي غاية مراد ما نشير
إليه بلفظ التعريب، وهذه القضية هي جوهر هذه الأطروحة: وهي أخطر ما في
الدعوة إلى التعريب. صحيح أننا لابد أن نترجم حاليا، ولكن هذا ليس هو الهدف النهائي أبدا، إنها
مجرد مرحلة لاهثة لزيادة أبجدية العربية وليس لتغيير بنيتها، وهي مرحلة
خطيرة ودقيقة ولازمة، لكنها مجرد مرحلة لو أصبحت هي نهاية المراد فالأولى
بنا أن نظل نقرأ ونفهم بلغات أخرى. فالهدف الأكثر محورية- والأبعد منالا في نفس الوقت- هو أن نستعيد
قدرتنا على الصياغة الإبداعية باستعمال الأبجدية القديمة والمعاصرة معا (القادم
بعضها من الترجمة) لتخدم التركيب الأساسي لما هو لغة راسخة وقادرة وقابعة في تكويننا. وحين كانت العربية هي لغة العلوم أيام نهضة الأندلس وريادة الحضارة
العربية كانت أوربا تترجم من العربية، لكنها لا تدرس ولا تدرس بها وذلك بالرغم
من أنهم لم يكن لديهم حينذاك لغة قومية ناضجة قادرة خاصة بكل قومية كما هو الحال
الآن، وكان الأغلب منهم يلتقون حول اللغة اللاتينية، فأغلب اللغات الأوربية
الحديثة (مثل الإنجليزية) هي لغات حديثة لاحقة لمرحلة الترجمة من العربية بدرجة
أو بأخرى، ولو أن اللغة العربية كانت هي لغة التدريس والتفاهم والبحث العلمي في
أوربا لمدة كافية لاختلف الأمر. ثم هاهم يستعيدون الريادة، فالأولى بنا أن نخطط نحن لمثل ما فعلوا، حتى
إذا أتى دورنا، وهو آت لا محالة مادمنا نحترم إنسانيتنا، وجدنا أبجدية كافية
للإضافة والكشف... فالترجمة هي خطوة نحو استعادة كياننا المفرغ من تركيبنا اللغوي، وهي جمع
لمفردات جديدة لا أكثر ولا أقل، وإن لم تكن كذلك فهي خطر على لغتنا أكبر من خطر
التدريس والبحث بلغات أجنبية. لابد أن يكون الأمل هو أن نستعيد قدرة كياننا اللغوي على التعبير المعرفي
المعاصر، حتى نستعيد قدرتنا على المبادأة بلغتنا، ومن ثم قدرتنا على الإبداع،
وحين نفعل ذلك ونتقدم بحق لنضيف، فسوف يلجأ الآخرون في طول المعمورة وعرضها لنقل
ما أضفنا، يفعلون ذلك مرغمين زو مختارين إن كان لهم أن يلاحقوا الموكب تمهيدا
لقيادته وهكذا وهكذا. والقياس الواجب الانتباه إليه، وإن كان قياسا مع الفارق طبعا، هو مقارنة
عصر الترجمة بعصر التنوير اللاحق، ثم تتبع ذلك إلى النظر في ترجمة الأدب العربي
مؤخرا إلى اللغات الأخرى، كل ذلك سوف يعطينا إجابات مفيدة عن: متى؟ وماذا؟ وعن
من نقلنا من أوربا، ثم لماذا تنقل أوربا مؤخرا الأدب العربي؟ والإجابة عن الجزء
الأخير هي أنها اهتمت بنقل الأدب العربي (الرواية مثلا) حين وصلت القيمة الأدبية
لرواية ما لمؤلف ما، إلى الدرجة الفنية والإبداعية التي تستأهل جهد النقل. وقياسا على ذلك فحين نفكر بلغتنا ونضيف بها في مجال العلوم، فلابد أن
نتوقع أنهم سوف ينقلون عنا علمنا حين يستأهل النقل، مثلما نقلوا أدبنا حين وصل إلى
المستوى الذي استحق به ذلك. 9- ثم عودة إلى النظر في التاريخ، وإلى التساؤل حول محاولات محمد على
باشا لتحديث مصر واللحاق بأوربا، فهذه المحاولات لم تغفل اللغة العربية، بل إن
الطب كان يدرس في مدرسة الطب العليا منذ أكثر من قرن باللغة العربية كأروع ما
تكون اللغة وأقدر. وحتى في محاولة أتاتورك تحديث تركيا لتصبح جزءا من أوربا حذوك القبعة
بالقبعة، هذه المحاولة تفت بكفاءة مناسبة في كل مظاهر الحياة حتى حروف اللغة
التركية، ولكن دون المساس بالتركيب الأساسي للغة التركية ذاتها. ثم عودة إلى الإشارة إلى عصر التنوير منذ الطنطاوي حتى طه حسين، لنقول
إنه عصر مجتهد رائع، لكنه لم يعد- أو لا ينبغي أن يكون- النموذج المطروح في
مرحلة ما بعد التحرير الوطني، فهذا التنوير كان نوعا من ملء البطارية مولد بعيد،
وقد أضاعت البطارية بما يكفي ثم توارت إضاعتها بطبيعتها، والمطلوب الآن أن نبحث عن
مولد قادر على توليد طاقة الإبداع وليس أن نعيد شحن البطارية القديمة التي لم
تعد تقبل الشحن بنفس الطريقة في الأغلب فقد انتهي عمرها الافتراضي. إن إعادة النظر في معطيات هذه النهضة التنويرية لابد أن يدفعنا للتوقف
قليلا أو كثيرا عند الخدعة التي يمكن أن ننزلق إليها إذا نحن بالغنا في تقليده
أو دعونا إلى إعادته بحذافيره تقديسا له. وأقدم تنبيها آخر يتعلق بهذه المسألة: فعلاقة مرحلة التنوير هذه بمرحلة
التحرير هي عملية موازية- في بعض جوانبها- لعلاقة مرحلة الترجمة (إلى العربية)
بمرحلة التأليف (الإضافة بالعربية)، ذلك أن بلاد مثل بلادنا بعد أن تصورت أنها
تحررت، راحت تصنع اقتصادا مستقلا وهو في واقع الأمر اقتصاد استعمار تابع في كل
نماذجه وأسواقه وهيكل علاقاته وطبيعة نموه، فقد استبدلت استعمارا باستعمار وهي
تتصور أنها تتحرر. وهناك الآن- بعد مرحلة التنوير والترجمة- بعض من يتصدى للتأليف بالعربية
وهو يتصور أنه يضيف ما تتميز به العربية، مع أنه في واقع الأمر لا يفعل إلا أن
يترجم ترجمة مشوهة لأنها تتحرر من الالتزام بالنص الأصلي) ترجمة تحمل اسما آخر
هو التأليف وما هو بتأليف، كل ما في الأمر أنه يسمح له باستسهال متحرر رخو،
بالإضافة إلى ارتكاب جريمة نكراء هي الكذب (أو حتى السرقة). فهذا التأليف
المزعوم بالعربية هو نوع أخطر وأتفه من الترجمة المعلنة والملتزمة. وليس معنى هذا أن من يتصدى للتأليف باللغة العربية مطلوب منه أن يبدع ما
لم يرد في لغة أخرى، وإنما يصبح التأليف باللغة العربية جديرا بكلمة تأليف حين
تصبغ الصياغة العربية محتوى الفكر المنقول والمبدع بصبغتها الخاصة بها والمميزة
لها، أي حين تصبح كل المعلومات بكل اللغات ليست إلا أبجدية الصياغة، أما الشكل
العربي النهائي فلابد أن يكون شكلا متميزا بهذا التركيب الخاص بهذا المعمار
الأصيل: لغتنا العربية. ولتوضيح هذه النقطة أكثر أقول: إنه ليس مطلوبا من المؤلف بالعربية أن يأتي بالجديد غير المسبوق
باللغات الأخرى، وإلا فإنه يبدأ من فراغ ولن يصل إلى شيء ذي بال، وإنما
المطلوب هو أن تصبح كل المفردات بكل لغة أخرى هي أبجديته القادرة على الانصهار
في بنيته اللغوية الخاصة القادرة بدورها على إعادة إصدارها في سياقها الجديد
تماما، فكثيرا ما نقرأ كتبا مترجمة (أو الأخطر كتبا يقال إنها مؤلفة) وإذا بنا
نقرأ حروفا بالعربية تصل إلى أدمغتنا الأصلية إن صحّت الترجمة، وبلغة هجين لا
لزوم لها إن ساءت الترجمة. وأنا لست ضد الترجمة في مرحلة الانتقال هذه إذ لا بديل عن ذلك، لكن علينا
أن نعلم أنها مرحلة اضطرارية (مثل مرحلة التنوير تماما) ثم بعدها نرى إن كنا
قادرين على الإسهام من موقعنا بلغتنا أم لا؟ وبعد مرحلة الترجمة (التي لا ينبغي أن تسمى تعريبا) قد نصل وقد لا نصل
إلى مرحلة التأليف بلغتنا، ويعتمد ذلك على ما نفعله قبل الترجمة وبعدها، قبل
الرطانة وبعدها، قبل وبعد كل ما ننطق به وما نسجله كتابة، هذه هي القضية
الأساسية لا أكثر. 11- ثم ننتقل إلى مسألة عراقة اللغة العربية وهل هذا الزعم في ذاته يكفي
أن يكون مدعاة للفخر بها، وبالتالي لترديد حكاية أصالتها، ومن ثم تبرير الترجمة
إليها ثم التأليف.. انطلاقا منها؟.. إلخ أم أن هناك بعدا آخر؟ بعدا يتعلق
بالمستقبل وليس بالماضي بشكل أكثر تحديدا؟ كلنا يعرف، وبعضنا يتابع، ما يثار حول المستقبل، مما يندرج مباشرة تحت
عنوان "علم المستقبل" أو "المستقبليات"، وهذا أمر لا
يختص به وطن دون آخر، ولا ينطق به لسان منفرد سواء كان متقدما أو متخلفا،
فالمستقبل هو المستقبل في كل مكان، وهو يعني كان إنسان من أي لون وجنس، كما ينطق
بكل لغات هذه الأرض، ويتأكد ذلك بشكل خاص إذا كان الحديث عن تهديد بالانقراض (من
خلال تلوث البيئة أو غباء القادة والعلماء). فأين تقع مسألة اللغة العربية من المستقبل؟ وهل هي لغة متاحف وعبادة وشعر قديم؟ أم معمار حي مرن متجدد قابل
للإبداع بالإضافة والحذف وإعادة التشكيل؟ والجواب هو أقرب إلى الاجتهاد
الأمل منه إلى الحقائق الحاضرة، ذلك أن أغلب المدافعين عن اللغة العربية، مثلهم
مثل الفخورين بالحضارة العربية يبدون لي وكأنهم أمناء متحف، أو شعراء يقفون
على الأطلال يبكون الديار ومن هجروها لا أكثر ولا أقل، فإذا صحّ أن الأمر
كذلك، وأن الدعوة إلى التعريب أو العودة إلى العربية ليست إلا ما هو مثل ذلك، فالأولى
بنا أن نتمسك باللغات المستوردة القادرة على صياغة الحياة، الآن، فغدا. أما إذا كان الوعي بمسئولية الوجود هو الذي يدفعنا إلى تغيير التعبير من
"العودة إلى العربية" إلى "الانطلاق من العربية
وبها.." فهنا تستحق المسألة أن نجتهد فيها ونبذل في سبيلها كل ما
تستأهله. ولأضرب مثلا محدودا
سوف يأتي تفصيله في الجزء الثالث من هذه الدراسة: لقد وجدت من خلال معايشتي لتخصصي ولغتي أن ثمة مظاهر "تحضر" في
الممارسة الإكلينيكية بما هي، بنية مكثفة في سياق وعي خاص، وأن هذه البنية/
الوعي وإنما تحضر بلغتها طبعا، ليس فقط بمعنى حكى الأعراض، وإنها بمعنى
الحضور الفعلي لصورة المرض الكلية بما يسمح به تركيب اللغة، فيسارع الطبيب
بترجمة هذه الحالة من لغتها الفجة إلى أقرب تعبير علمي يستعمل في وصفها
وتشخيصها، فأجد أننا نقترب من التعرف على الظاهرة المعنية إذا ما صغناها بما هو
أقرب إلى اللغة التي حضرت في الوعي الخاص به، وخاصة إذا ما تعلق الأمر بالوجدان،
أما إذا سارعنا بترجمتها إلى غير لغتها فإن ذلك يفصلنا عن الظاهرة وعن السياق
وعن الوعي الخاص الحاضر إكلينيكيا. (أنظر رابعا: تشويه الكيان البشري.. إلخ). وما يعنيني في هذه المرحلة من عرض هذه الأطروحة هو توضيح أننا في مثل هذه
الحالات قد نرتضى- مضطرين- أن نترجم لبعض الوقت، ولكن مع حذر شديد خشية أن تفرض
الترجمة علينا ما يختزل وجودنا إلى ما يفيده اللفظ المستعار المحدود باللغة
الأجنبية التي وضعت ما يقابله، ولتجنب ذلك ينبغي علينا بعد أن نترجم.. أن نراجع،
ثم قد نتراجع، حتى نقترب من أقرب ما يفيد، لتأدية المعنى المراد، والذي قد يختلف
في أبعاده وتفاصيله بحسب وضعه مع سياق لغتنا الخاصة نفعل كل ذلك إلى حين أن نعيد
بداياتا من لغتنا- في حضور لغات موازية- وهذا سوف يسمح لنا أن نضيف أبعادا كادت
تختفي من خلال الاختزال إلى لغة أخرى، نفعل ذلك انطلاقا من عربيتنا (وليس
بالعودة إليها) حتى أن الغريب عنها لابد وأن يضطر إلى التعرف على طبيعة لغتنا
وهو يترجم ما نصفه بها إلى لغته، هذا إن شاء أن يقترب باحترام مناسب مما نرى
ونصف ونعالج. 12- ثم ننظر الآن في أمر أخر ردا على تساؤلا يقول: ماذا عن ارتباط اللغة
العربية بالإسلام خاصة؟ (وبالأديان الشرق أوسطية الحالية: عامة). لا شك أن فضل الإسلام (القرآن خاصة، وتسجيله مبكرا أخص) في الحفاظ على
أصالة، وألفاظ ونبض اللغة العربية ليس كمثله فضل، وهذا يجعلنا ننظر مليا في
الفرق الجوهري الذي يفرضه موقف التدين العربي (الإسلامي أساسا وغيره كذلك)
بالمقارنة بالموقف الشمالي الغربي المرتبط بالعصر الصناعي من جهة، وتأليه
الإنسان (الفرد) من جهة أخرى، ونوع التنمية الكمية المغتربة من جهة ثالثة،
واستنزاف الطبيعة من جهة رابعة: كل ذلك قد صاغ الفكر الأوربي في القرنين
الأخيرين، وقد تدخلت هذه الصبغة في تركيبهم اللغوي حتى أصبحت جزءا لا يتجزأ من
مناهج تفكيرهم وبحثهم واستنتاجاتهم وتنميتهم وتخطيطهم. لكننا نحن بإسلامنا (تديننا عامة) نختلف، أو ينبغي أن نختلف، ولعل اللغة
العربية بثباتها وتحملها كل هذه القرون هي التي حافظت على علاقتنا بالطبيعة،
ولعها توحي لنا مؤخرا- إذ نحاول الإفاقة- أن للحياة هدفا آخر، وأن الإنسان ليس
إله، وأن المنهج القائم الغالب عندهم والمحتكر لما يسمى علما، لا يفي بسبر غور
الحقيقة- كل الحقيقة. أو أغلبها. وأن لنا علاقة متصلة بالطبيعة غير الاقتحام
والسيطرة والاستنزاف. وهذا يجرنا إلى منطقة متداخلة تتعلق بمسألة يطلق عليها اسم بدعة هو
"أسلمة العلوم". ففي الوقت الذي يتمطى مارد المعرفة ليمزق القيود المسماة علمية (بالمفهوم
التقليدي للعلم) يتمطى وهو يستشرف آفاق المستقبل نحو الله/ المعرفة/ القدرة/
الإبداع، نتقزم نحن العرب المسلمين خلف قضبان سجن منهج كان مرادفا لما هو علم
في يوم من الأيام، ونحن نسعى بكل ما أوتينا من نقص وحسن نية إلى أن نتمسك
بمخلفات عصر الصناعة من مناهج ومعطيات تسمى علمية، وقد صارت كهلة آفلة، ثم
نلصقها على ظاهر ديننا فنشوه الكل: الماضي والحاضر والمستقبل، العلم والدين
والإيمان. وكأن أسلمة العلوم هذه هي عملية ترجمة قبيحة من لغة الإسلام إلى لغة
العلم (ذلك العلم المحدود بمنهج اخذ في الأفول) فهي في النهاية اختزال للإسلام
الخالد متجدد الإلهام (وخاصة بالنسبة لكتابه الكريم) إلى سجن المعطى العلمي المحدود
بالوقت الحاضر والمنهج القاصر المتاح، ويبدو الأمر لي أحيانا في الاتجاه العكسي:
أي أنها ترجمة خاطئة متعسفة من لغة العلوم المحدودة إلى لغة القرآن غير
المحدودة، وهذا أيضا تشويه متعسف خطر. وخلاصة القول في هذا الاستطراد هو أنه إذا كان القرآن الكريم فالإسلام
فالدين العربي عامة قد حافظ على تفرد اللغة وأصالتها، فإن ما يجرى في عملية
أسلمة العلوم هو إلغاء هذا الفضل، باختزال معطيات الدين واللغة جميعا إلى ما شاع
أنه العلم، وهو نفس الذي يجرى حين نختزل عطاء اللغة العربية إلى قدرتها على
إصدار لفظ معنى علميا نطق أولا ما نطق بلغة أخرى. وتصحيح هذا الوضع هو أن يكون ديننا- مثله مثل لغتنا- مصدر إلهام معرفي،
وليس مجرد تابع قادر على إصدار نفس الأصوات الغربية الحاوية لنفس المعاني
القاصرة: إصدارها بلسان عربي أو نص ديني : هذا اختزال بل تشويه. وقبل أن أترك هذه النقطة أود أن أنبه على أن ثبات اللغة له جانب آخر قد
يكون معطلا إن لم ننتبه إلى ضرورة تجاوزه، وهو أن لغتنا العربية لم تقفل باب
التجديد والخفق وولادة ألفاظ جديدة نتيجة لثبات مفرداتها عند ما ورد في نصوص
دينية (أو تراثية)، وإلا أصبحت لغة ميتة عاجزة عن استيعاب حركية الوعي الإنساني
الخلاق، بل إن الفضل كل الفضل للغة ما لا يكون إلا من خلال قدرتها على استيعاب
حركية الوعي الإنساني الخلاق، بل إن الفضل كل الفضل للغة ما لا يكون إلا من خلال
قدرتها على استيعاب الخبرات الإنسانية المتجددة بتراكيب جديدة في سياقات جديدة،
بل بألفاظ جديدة، أو بألفاظ قديمة قادر على احتواء مضامين جديدة، وهذا وحده
هو الذي يعطى أي لغة حقها في الحياة فضلا عن أنها بدورها تعطى الحياة قدرتها على
التحديد والتسجيل والتواصل، وفي هذا، ومن أجله، لا ينبغي أن تحول المعاجم
والتفسيرات الثابتة والقديمة دون اقتحام الأصل وتجديده من واقع حركة المعرفة
وتخليق الوعي دائما أبدا. 13- وهكذا نرى أن
اللغة- وخاصة العربية- هي كيان مرن قادر على الإضافة آخر يتكامل مع إضافات أخرى
من لغات أخرى، وهكذا، وأضرب مثلا من تأثري- لغويا- أثناء ممارسة تخصصي الدقيق:
الطب النفسي ، فأقول: إن اللغة العربية التي يمرض بها مرضاي، فأعيش معهم نبضها
بكل اللهجات، وفي مختلف المناطق، وعلى متدرجات مراتب الوعي، هذه اللغة قد سمحت
لي بالغوص في الظاهرة البشرية في الصحة والمرض، بما لم يكن ممكنا لو أنني فكرت
بلغة غير لغتي، أذن لا ننتسب إلى نموذج مختزل لما هو إنسان، يدور ويوقف يتناثر
وينضم باستعمال بعض المركبات الكيميائية التي تسمى بنفس الأصوات في كل لغة بكل
لسان. 14- فإذا قيل إن هذا
خاص بالطب النفسي دون غيره وافقت دون تردد، لكنني أعود لأذكر وأذكر غيري أنه من
مضاعفات تعلم، فممارسة، الطب- عامة- بغير لغتنا أن اندرجت ممارساتنا الطبية تحت
النموذج الطبي العصري المتهم بالميكنة، وفرط استعمال الفحوص غير الضرورية،
وتخريب الاقتصاد الفردي والقومي، وبالمبالغة في الأبحاث الاستلابية، وفرط
التداوي بعقاقير باهظة لا لزوم لها، بل لا يمكن التكهن - تماما- بمدى ضررها إلخ. ولكن هل معنى هذا أننا لو درسنا الطب باللغة العربية فإن ممارستنا للطب
سوف تكون أكثر إنسانية وأقل ميكنة وأرخص تكلفة إلخ؟ لا أظن أن المسألة بهذه المباشرة، ودعوني أشير إلى بعض ما جاد سالفا من
أن المسألة أن كانت ترجمة من لسان إلى لسان فلا فرق ولا مبرر ولا تغيير، أما إذا
كانت الدعوة هي انطلاق من اللغة العربية بما تعنيه من " كلية الحضور
"، وفنية الترابط، ودفء العلاقات، والتناغم مع الطبيعة، فلا أن تختلف
ممارسة الطب- عامة- من واقع العربية ليصبح أقرب إلى العلوم الإنسانية التي
تستعمل مفردات العلم، وليس مجرد صيانة أجزاء إنسان لها عمرها الافتراضي لا أكثر. 15- أشرت فيما سبق
إلى علاقة اللغة بالدين وأضيف هنا تلميحا إلى حضور الحق تعالى في الوعي الكياني
للفرد بما يوجه أهدافه، بل ويثري منهج عارفه، وكل ذلك في مقابل ما ساد في العصر
الصناعي خاصة من منهج، وأهداف، وطرق تنمية وتقزيم أهداف، تتعلق كلها برموز ظاهرة
العقل، ومحدودية رفاهية النفع. (ولا أطيل في هذا فهو يحتاج لإيضاح مسهب) فأكتفي
بأن أعود إلى تأكيد محدود يقول: إن الانطلاق من لغتنا العربية: تركيبا له بنيته الخاصة، وليس ترجمة عاجزة
عن الحركة المستقلة، لهو من العوامل الأساسية التي قد تتيح لنا الفرصة لاختبار
منهج آخر أكثر قدرة على سبر غور الحقيقة والإلمام بأبعاد المعرفة، وليس هنا مجال
لتفضيل أكثر، وإنما أكتفي بمجرد الإشارة إلى ما سبق أن أشرت إليه من أقوال نجم
هذا المنهج التجريبي المعتمد على الرصد السلوكي كأساس يكاد يحتكر ما يسمى
موضوعية المعرفة، الأمر الذي يتواكب مناهج وطريقة تفكير تصبغ الطبيعة الحديثة
والرياضة الحديثة، وتضع فكر أرسطو، ومن ثم ابن رشد (بل وسقراط) في موضعه
المتواضع لتفتح الأفق إلى مناهج ومنطق أكثر قدرة وكلية وإحاطة وتداخلا، وكلها مناهج
أقرب إلي بنية اللغة العربية القادرة منها إلى التنظيم الخطى المنفصل بعضه عن
بعض في لغات أخرى مسطحة بشكل أو بآخر. 16- وبديهي أن على
أن أنبه- بقدر ما أنا منتبه وأكثر- إلى أن المسألة ليست مسألة رطانة محلية نعود
إليها أو حتى ننطلق منها لينصلح الحال، فنبدع الجديد، ونصبغ المنهج البديل،
ونسترجع استقلال فكرنا، ونغير أهدافنا، كل هذا يستحيل أن يتم لمجرد أننا نتكلم
العربية ونتقنها، أو أننا نتعلم ونبحث باللغة الأم، بل إننا لو بالغنا في قيمة
دور اللغة في التطور فسوف ينفصل اللسان عن الكيان وهنا تقع الطامة الكبرى، فلا يبقى
للعرب (ومن في ركابهم) إلا لسان قادر على الرطانة دون إبداع لسان ينطبق عليه نقد
أحد أبناء هذه الأمة المشير إلى أن العرب لم يعودوا إلا " ظاهرة صوتية
" ليس لها دور أو فاعلية أو معنى أو غاية ألا إصدار أصوات كثيرة عالية أو
متداخلة،...،..، وفقط. إن العكس تماما هو المطلوب وهو ممكن، يعنى أننا لو تبينا أننا نتميز عن
غيرنا، ليس بالضرورة تفوقا، فقط: مجرد تميز، وأن هذا يسمح لنا بالحركة في مساحة
أخرى، من منطلق آخر، وأن هذا وذاك يتيح لنا فرصة اقتحام مجاهل المعرفة بشكل آخر
في مسار آخر، وأن كل هذا يعني أن لنا توجه آخر لو حدث كل هذا فإنه يحتاج إلي أن
نفعله من خلال بنيتنا العربية (المتدينة) الغائرة، التي بعض صورها: النطق بهذا
اللسان العربي. فالعقل العربي لا يستعيد استقلاله وحريته باستعادة النطق بلسانه، وإنما
تتاح له الفرصة من خلال استعمال لغته- تركيبا غائرا- بما يتيح تجديدها، ثم هو
يستعيد أو لا يستعيد- دوره الإبداعي بحسب مسئولية وإسهامه-، فريادته على طريق
المعرفة/ الحضارة/ التطور مرتبطة بحسن امتلاكه لمرونة لغته، وليس بمجرد إصدار
أصوات قومه، فإذا أحسن العالم العربي الانتماء لما هو عربي أصيل بما يميزه
ويحرره عادت لغته إلى الحياة ثم تطورت بدورها، فأعطت وتحاورت، وإذا لم يفعل فهو
الخاسر نفسه ولغته وعطاء غيره في آن. ولا يبقى له إلا أن يتبع ويطيع (ويسمع
الكلام)!! (وبعض التفصيل في
الجزء التالي) §
رابعا: مثال من تخصص طبي دقيق
(للطب النفسي) (تشويه الكيان البشري من خلال التخلي عن اللغة الأم) اللغة ليست إضافة لاحقة بظاهر الوجود البشري، الفردي أو الجماعي، بل هي
الوجود البشري في أرقى مراتب تعقده، إذ هي التركيب الغائر الذي يمثل الهيكل
الأساسي الذي يصدر منه السلوك، وبالتالي فهي جزء لا يتجزأ من التركيب البيولوجي
للمخ، خاصة باعتباره القائد الحيوي المسئول عن نوعية وحركية مسيرتنا الجدلية
المتضافرة، ذلك أن الدراسات الأحدث، جنبا إلى جنب مع المراجعة الأوعى، تشير أكثر
فأكثر إلى أن المخ البشري، في كليته، إنما يتواجد في حالة نشاط دائم، دوري
الأطوار، بالغ المطاوع ، وأن تنظيماته المتداخلة تتعلق تعلقا شديدا بنوع، وكم
المعلومات المتاحة، سواء تلك المتمثلة في الذاكرة الوراثية (الجينات)، أم
الواردة من معطيات البيئة المحيطة، ثم من تفاعلهما معا في جدل ولا في دائم. واللغة من هذا المنطلق- هي ذلك الكيان البيولوجي: الراسخ/ التوح: معا،
وبالتالي فهي دائمة التشكيل والتشكل، وليس "الكلام " إلا بعض ظاهرها
في سلوك رمزي منطوق أو مكتوب، على أن الكلام وهو يؤدى بعض وظائفه للتواصل
والاقتصاد، يعود فيؤثر ارتجاعا على الكيان اللغوي ذاته، أي على تنظيم وجودنا
وفاعليته، لذلك: فإن ما يصيب الكلام من وهو أو تشويش، يفقده قدرته على الإثارة
والحفز، أو يطمس دلالته ويجهض إيحاءاته، فيرقد كل ذلك مؤثرا على وجودنا/ لغتنا،
بما يمكن أن يهز معالم كياننا الحيوي الأساسي نفسه، فنتعرض حتما إلى نكسة
تدهورية منذرة بالانقراض. لكن يبدو أن الظاهرة الوجودية التي قد تصاغ في "كلمات " هي
ظاهرة أسبق وأشمل من التركيب اللغوي الذي يحاول احتواءها، ناهيك عن اللفظ الذي
يحاول إعلانها، يترتب على ذلك أن يجد الإنسان نفسه في مأزق حرج إذ يحاول عبور
الهوة بين الظاهرة القبلية المتحررة نسبيا من التشكيل اللغوي، وبين احتوائها فيما
يمكن التعبير عنه بالتنظيم الإشاري الدال عليها، وأرجح أن هذا المأزق إذا
ما وصل إلى بعض وعي صاحبه بشكل أو بآخر، هو من أدق الخبرات البشرية، وأي استسهال
في محاولة عبوره، بالقفز فوقه تجاهلا، أو بطمس الوعي دفاعا، لابد وأن يترتب عنه
إجهاض للمعرفة الأدق، ونكوص إلى اختزال خطر- وقد رجحت أن بعض محاولات تحديد
مصطلحات علمية، أو تحديث المعاجم بصورة عصرية، إنما يقع في هذا المحظور. وهذه الدراسة هي
محاولة للتنبيه إلى هذا الخطر الزاحف. وتظهر آثاره ذا الخطر بوجه
خاص بشكل محدد في محاولات العلوم النفسية صياغة الظواهر الكيانية الأساسية،
والوظائف النفسية الأشمل، في إطار اصطلاح محدد، لا يكاد يصلح للإحاطة بالظاهرة،
بل ربما يؤذى العملية المعرفية من حيث لا نحتسب فضلا عما يترتب على ذلك من تشويه
للكيانات اللغوي= وجودنا الأعمق. ولنتدرج أولا مع الخبرة الإنسانية بدءا مما يمكن أن يكون "قبل
اللغة"، منتهين إلى التعريفات الإجرائية، مارين ببعض محاولات الإبداع
الشعري، عارجين على بعض الأمثلة من السكون أو التحريك المعجمي: (1) وأحسب أنه بالنسبة للكائن البشري، فإنه يصعب - بما هو بشر- أن نفترض
أن ثمة مرحلة معرفية يمكن أن تعتبر أنها مرحلة "ما قبل اللغة"، ذلك أنه
قد توجد مرحلة "ما قبل الكلام" أو مرحلة ما قبل اللغة القائمة
(مرحليا)، لكن يبدو أنه يستحيل أن توجد ظاهرة بشرية أصلا ليست ملتحمة التحاما
كاملا بلغتها، بمعنى تركيبها الحيوي الغائر. وعادة لا تصل هذه المرحلة اللغوية الأولية إلى الوعي الكامل في الحياة
العادية، لكنها في بعض الخبرات الإنسانية الأعمق يمكن أن تقترب من الوعي بدرجة
أو بأخرى، وأشهر مثل ذلك هي الخبرة الصوفية الأصيلة على اختلاف مستوياتها، إلا
أن طبيعة هذه الخبرات في هذه المرحلة تحول دون إمكانية تناولها بالأدوات
التعبيرية العادية، ناهيك عن الدراسة المنهجية ثم الخضوع للوصف الكلام، وبالتالي
فهي مرحلة تنذر بالخطر إذا استسهلنا القفز منها إلى أقرب ما يمكن أن يحتويها من
تراكيب لغوية أقرب ما يمكن أن يحتويها من تراكيب لغوية سابقة التجهيز، أو ألفاظ
محكمة .. ساكنة"، والتاريخ الطويل (المجهول) للمعرفة الباطنية (أو الجانية)،
وللتواصل غير اللفظي إنما يشير إلى حقيقة جانب من جوانب وجودنا البشري لابد من
استنتاجه وتصوره واحترامه رغم العجز عن الإحاطة به، ذلك أنه لا ينبغي أن يكون
العجز عن التواجد في ألفاظ محدودة مبررا للإنكار الدفاعي، وإلا فنحن نتنازل عن
أصل من أصول وجودنا الأعمق بلا مبرر إلا الخوف من سوء الفهم، أو القصور عن دقة
التناول- وهذا وذاك مبرران للحذر، والصبر، والتأجيل، والبحث عن الوسيلة
المناسبة، ولكنهما أبدا ليسا مبررين لإنكار الحقيقة الأولية: الأهم والأخطر،
وهي: إن الظاهرة الوجودية اللغوية هي أصل الأصول، ظهرت أم لم تظهر في متناول
السلوك، بما في ذلك السلوك الكلامي. (2) نأتي بعد ذلك إلى مرحلة "الشعر، وهي مرحلة الجدل الحركي
الولافي بين الظاهرة ع الوجودية الأعمق، إذ تتفجر في علاقات وتركيبات جديدة،
وبين التشكيل اللغوي السابق لها مباشرة، والعاجز عن استيعابها تماما، ويلزم
الشعر، فينشأ، حين ترفض الظاهرة أن تظل كامنة في ما ليس لفظا متاحا للتواصل، وفي
نفس الوقت حين ترفض أن تحشر نفسها في تركيب لغوى جاهز (مسبق الإعداد)- فالشعر هو
عملية إعادة تخليق الكيان اللغوي في محاولة الوصول إلى أقرب ما يشير إلى الخبرة
الوجودية المنبثقة، ومع النجاح النسبي لهذه العملية، تزيد اللغة ثراء، أي ينمو
الكيان البشري إذ يتحدد نوعيا، وهذا ما يعنيه بعض النقاد والشعراء من أن القصيدة
تخلق الشاعر في نفس الوقت الذي يخلقها الشاعر. (3) لكن، ليس كل إنسان شاعرا (وإن كان ينبغي أن يكون كذلك بهذا المعنى
الأعمق والأشمل للشعر)، لهذا فإن الشخص العادي سرعان ما يختزل خبرته اللغوية /
الوجودية الأعمق إلى أقرب لفظ سائد، فيتعامل أكثر فأكثر، بأقل فأقل "مما
هو" فضلا عما يمكن أن يكونه، لكن عدم اقتصار الشخص العادي في تعامله،
وظهوره، على "الكلام" كوسيلة أولى، أو وحيدة للتعبير والتواصل المعرفي
وغيره، لابد وأن يخفف قليلا، أو كثيرا، من آثار هذه المضاعفة المتواترة، تلك
المضاعفة التي تتكثف، وتتفاقم، حين نرضخ لمزيد من تحديد الحركة بتقديس
"المقرر" من المصطلحات لا تظل محدودة في مجالها المتخصص بالنسبة
للعلوم الإنسانية خاصة، بل هي تمتد عن طريق الوصاية التخصصية، والإغارة
الإعلامية على وعي الناس، تمتد حتى تشغل مساحة رحبة من حياتنا اليومية. (4) على أن الإغارة الإعلامية لا تزال تلاحق وعي الناس، تفرض عليهم
ألفاظا قاصرة، بل وتساهم من جانب آخر فيما يؤدى إلى رخاوة في اللغة، وتخلخل في
المفاهيم، وأكتفي هنا بالإشارة إلى ظاهرت التعتيم و "التقريب"
لأن استعمالهما استشرى في التأثير على اتجاهات مجاميع الناس، وحركة مشاعرهم في
مجالي السياسة والدعاية بوجه خاص، حيث درج المناورون على استعمال الألفاظ
المحملة بالمشاعر، والمثيرة للاحتياج، بطريقة تجعل اللفظ مجرد غطاء لإخفاء معالم
المحتوى الضائع بين ألاعيب السياسة وانفعالات العامة، ومن ذلك فرط الاستعمال
المغرض لألفاظ مثل: "الحرية"، و"الديمقراطية"، و
"الإشتراكية" و"الثقافة، و"الحضارة "- حتى أصبح من
الممكن أن يدل اللفظ على الشيء ونقيضه، أو على الجزء بدل الكل، أو العكس، كما
يتغير المضمون بتغير قائل اللفظ وغرضه، في وقت بذاته. وتساهم ما يسمى بالعلوم
النفسية في تبرير وتشريع هذا الخلط وسوء الاستعمال المشبوه القصد، مثلما شاع في
إدخال بعض مصطلحات الطب النفسي (السياسي!!!) في مجالات المناورات المفاوضاتية. (5) على أن دور المعاجم في إنقاذ اللغة من هذه الفضفضة والرخاوة هو دور
محدود، وتتوقف آثاره على فهم معنى ومرحلة وظروف كل معجم، إذ ينبغي التنبيه
ابتداءا على أن المعاجم ما هي إلا إعلان مرحلة "في تطور اللغة، وليست فرض
وصاية على حركيتها، ولعلنا نلاحظ أن أغلب المعاجم الأقدم تقوم بوظيفتها بأكبر
قدر من المرونة حين تعرض اللفظ في حركته في أكثر قدر من المرونة في أكثر من
اتجاه، حسب موقعه من السياق، أو حسب تشكيله، أو حسب حرف الجر اللاحق به (أو
السابق عليه.. الخ)، فهذه المعاجم لا تعطى للفظ تعريفا محددا، وإنما تورده
مباشرة في استعمالاته المتنوعة حسب السياق الذي لا يقتصر على الجملة الواحدة، بل
قد يمتد إلى الفقرة الكاملة (أو حتى الموضوع)- وهكذا تقوم مثل هذه المعاجم
بدورها في عرض "مجالات الاستعمال، وتوجهات الدلالة" أكثر من حبس اللفظ
في تعريف ساكن، الأمر الذي يغلب على المعاجم الأحدث فالأحدث، والذي كاد أن يجعل
المعاجم بمثابة المسكن لحركة اللفظ حتى الصمود العاجز، وهذا هو الخطر بعينه. (6) فإذا انتقلنا إلى السجن الاصطلاحي (العلمي مثلا) فإننا قد نجد مبررا
قويا يؤيد- بل ويدعو إلى- التحديد المبدئي لمضمون أي لفظ يرد في الاستعمال
العلمي، وخاصة فيما يتعلق باتخاذ منهج إجرائي محدد لفحص ظاهرة بذاتها، إلا أنه
في مجال العلوم الإنسانية خاصة، لا بد أن ننتبه إلى أن هذا التحديد- مع فائدته
المبدئية- إنما يحمل مخاطرة الاختزال والتسكين معا، والتوفيق بين ضرورة التعريف،
وبين مخاطر التقلص والهمود، لابد من تحديد هذا الاستعمال الخاص، وقصره على إجراء
بذاته، بحيث يكون إجراء موقتا ومشروطا بشروط الدراسة الجزئية المختصة بجانب معين
من الظاهر المعينة، لكن الذي يحدث في واقع الحال، في أغلب الأحيان، هو غير ذلك
تماما، حيث يؤثر الاستعمال الخاص على الاستعمال العام تحت زعم أنه تعبير علمي هو
أدق وأصدق مما هو استعمال شائع، -هكذا يختلط المفهوم العلمي بالمفهوم العام، ثم
يتراجع المفهوم العام رغما عنه حتى يختزل ما يحتويه، فتتضاءل الظاهرة قسرا داخل
مفترضات علمية (شبه علمية) غير جازمة وغير مفيد تعميمها، بل هو حتما ضار وخطر. وبالنسبة للعلوم النفسية بوجه خاص، كما تتناولها للغة العربية حديثا، فقد
وقعت في أخطاء عديدة جعلتها تتحرك في نطاق شديد الضيق وهي تتناول بعض ظاهرات
وتمراميه الأبعاد مكثفة الشمول، وأهم هذه لأخطاء أن بدايتها مستمدة من
"ترجمة. " لما سبق بحثه في بيئة أخرى، بلغة أخرى، ثم إن هذه الترجمة
لا ترجع إلى فحص الظاهرة المعنية أساسا، وإنما تبدأ من اجتهاد معجمي (ترجمي)
قاصر، وحتى بعد هذه البداية المشبوهة لا ترجع هذه العلوم إلى التاريخ التضميني
اللغوي للفظ المستخدم، فتكون النتيجة في النهاية: أننا نتحرك على أرض لا نعرفها،
في مساحة لا تسعنا، منقطعي الجذور عن تاريخنا من ناحية، وعن نبض وجودنا اللغوي
الأصيل من ناحية أخرى. وبما أن هذه المضاعفة الأخيرة هي أقرب ما يكون إلى تخصصي، فسوف أقدم فيها
بوجه خاص ما قد يدعم ما أزعمه في هذا المقال من مخاطر حبس مشاعرنا الإنسانية في
سجن المصطلحات المستورد. وبدأ من منطقة بالغة الحساسية شديدة الأثر، وهي المنطقة
الخاصة بما يسمى عاطفة أو انفعال أو "وجدان " - سيكون انطلاقي لمناقشة
لفظ الوجدان في أصله اللغوي، بالمقارنة بمحاولة اختزال إلى مصطلح علمي، وذلك
كمثال لما أغنى من أسبقية الظاهرة الكيانية اللغوية على ما يليها من محاولات
عملية اختزالية خاطئة، كما سأحاول أن أقدم هذا اللفظ ابتداء في حركته المتشعبة،
وتوليدة المتفجر، لإثبات خطورة (أو استحالة) اختزالة إلى ما هو دونه، فضلا عما
هو، ولعلى بذلك أنجح في بيان قدرة اللغة العربية على الانحناء بالوافر من
التوجهات الواجب الاستجابة لها إذا ما أريد الاقتراب الأدق من حقيقة الظاهر
البشرية كما أحاطت بها لغتنا القادرة. ولفظ "وجدان " هو مصدر من فعل "وجد" (بفتح الجيم
وكسرها) ويختلف مفهوم مشتقات هذا الفعل واستعمالاتها باختلاف رسمه، وتشكيله، وحر
الجر الملحق به، ثم السياق الوارد فيه. فهو يتضمن أبعادا
متعددة في مجالات مختلفة، لكنها متداخلة بالضرورة: 1- ففي مجال ما هو
انفعال/ عاطفة، نجد أنه قد يعنى (أ) الحزن:
وجد في الحزن وجدا، وتوجد لفلان: حزن له، وبدون حرف جر: أنا أجد وجدا: وذل؟ في
الحزن. كما يعنى (ب) الغضب: وجد عليه (في الغضب)، في الحديث: إني سائلك
فلا تجد على كذلك يعنى (ج) الحب: وجد به وجدا، في الحب، وله بها وجد: وهو
المحبة: وأيضا (د) الكراهية: أوجده على الأمر: أكرهه. 2- وفيما يتعلق بمعنى العرفة والتبين: نجد أنه يستعمل عادة بلا حرف جر:
وجد زيادا ذا الحفاظ، "ووجدك عائلا فأغنى"، وقريب من هذا معنى العثور
على، أو الحصول على: أوجده الشيء جعله يجده: خلاف عدم. 3- ولكن ثمة معنى يتعلق بالإبداع والخلق: أوجده الله: أنشأه من غير سابق
مثال، وهو أقرب إلى الوجود بما هو ضد العدم، وجد: خلاف العدم. 4- وتمتد المعنى إلى ما يتضمن ما هو أكثر عيانية فيما يتعلق بالإشارة
إلى: السعة، والكثرة، والبسط، ومن ذلك: أوجده الله: استغنى غنى لا فقر بعده، ثم
الوجد السعة "أسكنوهم من حيث سكنتم من وجدكم"، وأخيرا فالوجد: مستنقع
الماء. فإذا كان لفظ الوجدان أن يحمل كل تلك المعاني فكيف نرضى أن نقصره-
حتى كمصطلح علمي- على استعمال أقره المجمع اللغوي اصطلاحيا ليعنى: أولا: كل حساس
أولى باللذة أو الألم، وثانيا: (يدل) على ضرب من الحالات النفسية من حيث تأثرها
باللذة الألم في مقابل أخرى تمتاز بالإدراك والمعرفة- وما جاء من أن هذا هو
الاستعمال في الفلسفة لا يستبعد الاستعمال ذاته فيما يسمى بعلم النفس. فإذا
انتبهنا إلى المحاذير التي قدمناها في بداية هذا المقال راعنا تصور الآثار التي
يمكن أن تترتب على هذا الاستعمال الضيق، الذي حتما سيبعد لفظ الوجدان بكل
إيحاءاته السابقة وشموله المترامي عن أي معنى سوى هذا التعريف الخامل، فهو (لفظ
الوجدان) سينفصل- بذلك - عما هو نبض إنساني أعقد تركيبا وأشمل إحاطة، وأعلى
ولافا، ثم هو (الوجدان) سوف يتلم كأداة معرفية أسبق عن، وأحد من، ما يسمى تفكيرا
(تجريديا)، ثم أين يذهب تاريخ اللفظ وتوجهاته المعقدة المتضفرة في ذات اللفظ بين
الدفع العاطفي المختلف الاتجاه، وبين الإبداع من العدم مغلفا بالقدرة المعرفية
المدركة إدراكا سبقيا متصلا بالسعة والقوة والرأي والطمأنينة؟؟، ألا يبدو كل هذا
من حركة اللفظ كما تجلت لنا مما سجلته بضعة معاجم؟ فما بالك بتاريخه الحقيقي حتى
تضمن ذلك، أفلا يشير ذلك إلى أننا لو رضينا بالاستعمال الأحدث للفظ الوجدان بهذه
الصورة المختزلة فإننا نتنكر لحقيقة اللفظ وتاريخه؟ إذ نحن نبتعد حتما عن
الظاهرة التي نشأ أصلا مواكبا لها في محاولة احتوائها أو الدلالة عليها- ولا
يحتج محاور بأن الاستعمال الأدبي والعام شيء، في حين أن الاستعمال الفلسفي
والعلمي آخر، لأنه إذا جاز هذا الفصل التام في العلوم البحتة، فهو لا يجوز
إطلاقه في العلوم الإنسانية، والنفسية خاصة، ثم إننا بهذا الاختزال إنما نلصق
لفظا عريقا كلافتة على ظاهرة لم نتبين معالمها أصلا، بدلا من أن نستلهمه ما
ينبغي أن نبحث فيه، لأن اللفظ إذ نشأ وتطور، إنما نشأ وهو يلامس ظاهرة، تنم هو
يحاول احتواءها، فيكشف ويكتشف تعدد وجوهها، وثراء عطائها، فيتحرك في سياقات
متعددة ومتنوعة، ثم يلحق به حرف مساعد، أو تسبقة أداة موضحة، فيقترب ويبتعد،
ويجتهد لاحتواء مضمون مناسب لما يريد وصفة، ثم يعجز- عادة فتفيض عن حدوده تولدات
الظاهرة الأرحب، فيلاحقها باستعمال جديد، أو يساعده لفظ جديد، وهكذا. ولقد قلنا سابقا إن الظاهرة أسبق من تسميتها، ولكنها ليست بالضرورة أسبق
من لغتها الأساسية، ذلك أن التركيب اللغوي الغئر هو أسبق حتما من التحديد اللفظي
(المعجمي بالذات)- ونذكر القارئ هنا أيضا أن التحديد المتنوع في السياق هو أسبق
من التحديد العلمي المصطلحي، لكن التحديد العلمي في هذه المنطقة بالذات من
العلوم النفسية- يدتد حتما بالأثر المختزل والمشوه لما هو أشمل لغة و أوجب
وجودا. ويجدر بنا أن نشير هنا إلى محاولة إبداعية عربية (محددة ومبتورة) اتخذت
من هذا اللفظ (وجدان) منطلقا لتقديم ما أسمته ثورة فلسفية، ولا أقول إن هذا
اللفظ بمدلولاته اللغوية هو الذي أوحى لصاحب هذه المحاولة بانطلاقته المبدعة،
وإنما أرجح أن صاحب هذه الفلسفة حين نبض برؤيته التي تجاورت اللغة السائدة، إذا
به يجد نفسه يقترب من أصول لغته ليتقى بأقرب ما يمكن أن يضمنه خبرته، وهو لفظ
الوجدان المتعدد التوجه، والحاضر حضورا شاملا في أكثر من مجال وسياق، ومع تفاعل
الفيلسوف مع لغته، استطاع أن يعيد النظر، وأن يجدد، وأن يضيف، وأن يجتهد، وأن
يتخطى سجن الساكن والمستورد جميعا، وأهم ما في فلسفة تيسير شيخ الأرض هذه (بما عليه)
أنها تقرر ضرورة الرجوع إلى الوجود، لا القناعة بالمجردات العقلية، حيث
"الوجدان أصل الذات التي يكون العقل جانبا من جوانبها"- ولن أتطرق هنا
إلى استعمالات الفيلسوف لكلمة (الوجدان) والتي بلغت أكثر من ستين استعمالا
أصيلا، من أول أنه "القبض على الوجود"إلى أنه "الذات الأخلاقية
إذا ما أضيف إليها القوة البديعة حيث يصبح الخير والجمال مضمونة النزوعي". وأكتفي بهذه الإشارة التي أردت بها أن أؤكد أن حوارنا مع لغتنا في حركتها
الحرة هو الذي يسمح لأفكارنا الجديدة أن تجد ما يحتويها، ولو نسبيا، أما اختصار
رؤانا ومشاعرنا إلى أقرب لفظ ينقل ما سبقنا إليه أبناء لسان آخر، لو كان مصدر
هذا الخطر هو مجمع لغوي، أو مرجع علمي، أو إجراء بحثي، فحين عاد شيخ الأرض (على
ما هو) إلى أصول لغته في نبض جسده محييا تاريخه: قبض على وجوده (على حد تعبيره)
فأبدع وأضاف غير هياب (وإن كان قد شطح حتى تجمد)، أما استعمال لفظ الوجدان-
كمثال- في حدود الوصاية المصطلحية أو المعجمية الأحدث، فهو يختزل اللفظ حتى
يضمحل عطاؤه الأصلي، فينكمش بلا فاعلية، وتنطمس معالمه حتى يعجز عن الإيحاء
والإشارة إلى الاتجاهات التي سبق الإشارة إليها عبر تاريخ التضميني الطويل، وكذا
إلى الاتجاهات الواعدة المتجددة حسب حركة صاحبها المبدعة. لكن هذا اللفظ- الوجدان- ليس شائعا على كل حال في الاستعمال اليومي لدى
عامة الناس، فإذا كنا أثبتنا- بمرجعته- الفرق الشاسع بين تاريخ تضميناته وشمول
إيحاءاته، وبين قصور تعريفه المصطلحي، فنحن لم نثبت مدى أثر هذا الاختزال أو
التشويه على الكيان الأعمق لمستعمليه هكذا، حيث أن الإعلام لا يقحمه علينا،
والناس- عامة الناس- لا تداول بما يظهر مخاطر اختزاله، لذلك لزم لكمال هذه
الدراسة أن ننتقي مثالا آخر أكثر توترا بين الناس، وسوف أحاول ذلك أملا في كشف
بعض حركة الإغارة والإحلال التي تجرى ليحل لفظ مصطلحي ساكن، محل لفظ متحرك مرن
متفجر، في حياتنا اليومية، ومن ثم في تحوير لغتنا، (وجودنا) دون وعي كامل أو
اختيار مسئول، وقد اخترت لذلك تناول الظاهرة المتضمنة فيما يسمى
"حزنا" فأقول: إنه شاع مؤخرا أن الحزن هو الشيء مرفوض أصلا تماما وإنه- دائما- نقيض
الطمأنينة والسعادة والرفاهية.. ومع انتشار هذه الشائعة، على مستوى "
التصريحات النفسية" خاصة، أخذ لفظ "الاكتئاب " بحل محل لفظ الحزن
رويدا رويدا، حتى كاد أن يصبح أي حزن مهما كان حفزه، أو نبضه، أو اتجاهه، أو توليده،
أو غايته، أو مضمونه، أصبح أي حزن وكل حزن مطالبا بأن يقبع داخل حروف اللفظ
الجديد ". اكتئاب" - ومع أن ظاهرة الحزن هي الحزن هي أعمق وأرسخ وأقدم
وأدق من كل وصف حاول أن يلمها أو حتى يحوم حولها، فإن حضورها اللغوي الأصيل قد
استطاع أن يقترب من حقيقتها بشكل أو بآخر، ولكن حين تسلل "الاكتئاب"
زحفا على نبضها خنقها أو كاد، فقد تضخم هذا اللفظ (الاكتئاب) وألح (بالعلم
والإعلام معا) حتى كاد أن يطمس كل ما عداه، فينعكس هذا كله على الكيان اللغوي
للظاهرة الأصلية حتى يخل- بالتالي- بحقيقتها أو يشوه جوهرها، بتحريكها إلى ما
ليس هو، أو قل: بتسكينها فيما ليس هي، وهذا خليق بأن يجمد المسيرة الإنسانية في
ارتقائها الحيوي والرمزي معا، لأنه ناتج عن وصاية مفتعلة، وليس عن جدل طبيعي
خلاق. ولكن دعنا نبدأ من البداية: فالحزن- في عمق أصوله- هو جزء لا يتجزأ من طبيعة الوجود البشري: مواجهة
ولا أميز بين حزن دافع وحزن وعجز، لأن طبيعة دورته تجعله يتناوب حتما بطأ
وإسراعا، وضوحا وخفاء، في ظاهر السلوك بما يوحي بمثل هذه الفرقة التي إن صح
وصحيح بعضها، فإنها لا ينبغي أن تكون تكئة للاستسلام للرفض التدريجي لكل ما هو
حزن تحت ضغط الإعلاء من مطلب "الرفاهية" كمرادف للصحة والسعادة، بل
و.. الحضارة (كما شاع مؤخرا)، وبالتالي، ورغم التفرقة السابقة التي ننساها من
إلحاح التشويه المنظم للظاهرة الأصل، يصبح كل حزن هو ضد هذه القيم جميعا
(الرفاهية/ الصحة/ الاسترخاء الحضاري.. الخ) إذ يتسحب لفظ الاكتئاب بديلا زاحفا
يكاد تمتلئ به الساحة. ولنبدأ بإلقاء نظرة سريعة على ما يقال له
"اكتئاب" كما تجمد داخل المصطلح العلمي أولا، فنجد أنه
"الإحساس" بالحزن وسوء المزاج "، أو أنه "صعوبة في
التفكير.. وكساد في القوى الحيوية وهبوط في النشاط الوظيفي" أو أنه "
الشعور في بالعجز واليأس وعدم الكفاءة والحزن"، وهذا كله صحيح بدرجة ما،
وفي حدود ما، فإذا انتقلنا إلى كيف عرضت المعاجم للفظ الكآبة، نجد أنها أكدت على
الكم " الكآبة هي شدة الهم والحزن " وبعضها أكدت على ما هو كسر انكسار
"الكآبة" سوء الحال والانكسار من الحزن، واكتأب: حزن واغتم وانكسر،
وأخيرا فقد تصل الشدة والكسرة إلى الهلكة أكأب: وقع في هلكة " فشروط
الاكتئاب لغة- من الشدة والكسرة والهلكة- تبدو لازمة بما لا يترادف مباشرة وبلا
تحفظ، مع ما هو حزن. تعميما ، إلا أننا من واقع سوء الاستعمال وفرط لاستسهال
رضينا بهذا الإحلال، حتى يصبح كل ما "يكدر المزاج" أو "يهدد الرفاهية" مهما كانت
درجته أو وظيفته هو كآبة، والتالي فهو مرفوض بعد أن انسلخ عما هو حزن بمعناه
الأصلي، ثم زن المسألة ليست في التأكيد على زن ما هو حزن هو أقل شدة من الكآبة
أو أصلب عودا، بل في محاولة بيان أن الحزن هو لفظ آخر له مضمون أشمل، أو هذه
الصفات جميعا وغيرها، وباستشارة المعاجم كمنطلق بما (وليس كمنتهى) نجدنا نكاد لا
نرضى بالبداية بوصف على الحزن بما هو مقابل نقيضه، باعتبار أن علينا أن نتعرف
على الحزن على أنه: نقيض الفرح وخلاف السرور ذلك أن لفظ الحزن، وخاصة إذا ما
أخذنا في الاعتبار تنويعايته التشكيلية، وإنما يتضمن غير قليل من إيحاءات الجدية
والخشونة والدفع بحيث يصعب فصل هذه الإيحاءات عن متضمنه العاطفي (الانفعالي،
فالحزن أيضا- ضد السهل المنبسط، حزن المكان حزنا: خشن وغلظ، والحزن: ما غاظ من
الأرض، والحزن فيه مواجهة وعناد ولقاء وشدة)" شيخ إذا ما لبس الدرع حرن سهل
لمن ساهل حزن للحزن، أو هلكة، وليس فيما هو اكتئاب حفز أو مواجهة أو عناد أو
خشونة- لكن الخلط في ازدياد، والزحف لا يتوقف، حيث أن اللفظ المقابل للاكتئاب،
بالإنجليزية قد دخل إلي الاستعمال اليومي حتى Depression أصبح كثير من الناس يتحدثون عن
مشاعرهم العادية بأن عندهم اليوم " دبرشن " قل أم كثر، حفز أم كسر ،
وبالرجوع إلى لفظ Depression في اللغة الإنجليزية (
الوصية الأولى على وجودنا المستعار) نجحد أن هذا اللفظ إنما يفيد أساسا معنى
الحزن في أسطع صوره، ومعنى الهبوط في شكله العياني (إلى أدنى)، ومعنى العتامة gloominess والهمود، وحتى في الاستعمال
الاقتصادي الاجتماعي هو يشير إلى ركود السوق والسوق والبطالة، وليس هذا مجال
التطرق إلى تفصيل تاريخ هذا اللفظ بالإنجليزية، أو علاقته ببعض مترادفاته أو
مواكباته من ألفاظ أخرى مثل Dejection أو Boredom أو Grief فكل هذا قد ينحرف بنا إلى استطراد مسهب يخرج عن
هدف هذه الدراسة، لكنني رجعت إلى اللفظ الإنجليزي لأنه مصدر الإغارة الزاحفة إلى
لغتنا العلمية أولا، ومنها إلى لغتنا اليومية، حتى كاد يصبح هذا اللفظ الأجنبي
بأصوله وحدوده هو الوصف المقرر الذي يحدد حركة مشاعرنا، كل هذا ونحن مستسلمون
لوهم دقة المصطلح العلمي وإلحاح الملاحقة الإعلامية. لكن المقاومة الواعية ضد هذه الإغارة المنظمة من خلال حالة الشعر التي
تتحمل مسئولية المواجهة العنيدة للحفاظ على لغتنا بتحريكها من أصولها الغنية إلى
وعودها المترامية، وأقول حالة الشعر مستعيرا تعبير صلاح عبد الصبور حتى لا يقتصر
الأمر على قرض الشعر، ثم أستشهد، به شاعرا في مواجهة ما هو حزن في قصيدته
"أغنية إلى الله". (1) حزني غريب
الأبوين لأنه تكون ابن لحظة
مفاجئة أراه فجأة إذ يمتد
وسط ضحكتي فهو يبدأ بأن يكتشف في الحزن على ذلك الحضور المفاجئ، الذي لا ينفي
تراكما سابقا صامتا، وهو أيضا في هذا المقطع يعارض ذلك الاستقطاب المعجمي الذي
يضع الحزن والفرح على أقصى طرفين متباعدين متضادين، فهو يكتشف حزنه ممتدا وسط
ضحكته، ثم يروح يصنف الحزن كما عاشه، (يعيش) لا كما فرض علية (أو استورده). (2) لقد بلوت الحزن
حتى يزحم الهواء بالدخان فيوقظ الحنين ويهمني هنا- رغم تحفظي في نقد سابق - فعل " يوقظ "، وإلى درجة
أقل "الحنين"، لما في ذلك من إشارة إلى قدرة الحزن على الحفز والبعث،
ثم إلى ارتباطه بالعلاقة بالآخر- وكل ذلك يتنافى مع ما يشيع عن الحزن (بعد زحف
الاكتئاب المصطلحي عليه) من إعاقة وهبوط هامد، وهو يفتح وعينا لحركته المتحدية
الأقوى. (3) ثم بلوت الحزن
حين يتلوى كأفعوان فيعصر الفؤاد ثم يخنقه وبعد لحظة الإسار
يعتقه وهنا يجدر بنا أن نستعيد ما إليه لنؤكد- من واقع لغتنا العربية- هذه
القدرة الطاغية التي يتمتع بها الحزن (هذا الحزن) في إغارته المتمكنة على حركية
المشاعر. (4) ثم بلوت الحزن
حينما يفيض جدولا من اللهيب ومن جوف هذه النار المتدفقة (جدولا)... يشوق الجديد
نورا بعثا: (5) يتجمع في إشراقة الغد ثم لأول مرة يستعمل لفظ "الكئيب" ، في زمن يمضى، دون مواجهته؟
وفيما يتعلق بما هو"ممات"، وكأنه قد التقط ما في لفظ الكآبة من فراغ
ساكن، بالمقابلة بما استشعره في الحزن من حركة باعثة، حتى أنى رجحت أن جذور هذا
الفرج لم يروها إلا نهر الحزن، فدبت الحياة في الكآبة الممات. (6) ثم يمر ليلنا
الكئيب ويشرق النهار باعثا
من الممات جذور فرحنا الحبيب. لكن الشاعر واصل مواجهته للظاهرة في حركتها الجدلية المولدة، فتبين له
بعد آخر، لعله النقلة بين ما هو حزن، وما هو اكتئاب، حين يعجز الأول أن يبعث، أن
يولد، أن يفجر، فلا، يعود حزنا، أو هو حزن لم يألفه، لا يعترف به، وكأنه يرفض-
معنا- أن يكون هو حزننا الذي يحركنا، فلعله الحزن المفروض علينا شائعا، أو
مستوردا، أو مجهضا، أو عنينا: وبنظرة متأنية فاحصة لجدل الشاعر مع لفظ الحزن وهو يعايش الظاهرة المحتمل
أن يحتويها، نجد أنه نجح بدرجة مناسبة في أن يعيد تخليق التراكيب اللغوية
المتضفرة، والمتآنية، والمتناقضة، والمتعاقبة، والمتباينة، بأمانة مغامرة دون أن
يركن إلى مضمون سابق ساكن، أو يحبس نفسه في إيحاءات مصطلح ساكن، أو معجم خامل،
وهذا هو الشعر. وقد يكون مناسبا أن أعرض لمحة من خبرة خاصة حين هاج بي الشعر في مواجهة
ما يلقيه مرضاي في وعيى وخاصة حين يرفضون، وأرفض معهم، أن تختزل خبراتهم إلى
مصطلح تشخيصي عاجز، هاج بي الشعر فرحت أصف الحزن من خلالهم قائلا: يتحفز حزن أبلج حزن أرحب من دائرة
الأشياء المنثورة الأشياء العاصية النافرة الهيجي حزن
أقوى من ثورة تشكيل الكلمات حزن
يصرخ بكما يشرق
ألما حزن
يستوعب أبناء الحيرة يجمع
أطراف الفكرة يوقد
نار الأحرف والأفعال حزن
يحنو، يدمى، يلهب، يصرخ، يحيى
روحا ميتة ضجرة. (من قصيدة للكاتب لم تنشر: الريح والأحزان). وأكتفي بهذا القدر، لأني قصدت إلى عرض مثال متواضع لعله يبين كيف يقوم
الشعر بثورته على التهديد بسجن المشاعر والظواهر الأشمل داخل المصطلح العلمي
الشائع- (وللأمانة فلابد من الإشارة إلى ما تحداني في اتجاه معاكس وأنا أراجع
لفظ الحزن في التنزيل الحكيم مما لا مجال لتفصيله هنا. وقد يكون مفيد آ بنفس الدرجة، أو أكثر أو أقل، أن نسافر إلى بعض مترادفات
ما هو حزن، نستلهم منها أبعاد الظواهر الإنسانية (النفسية) في أصولها، لعلنا
نتحمل مسئولية فحصها كما هي، وكما توحي به، لا كما نستورد شبيهاتها، بما تطمسنا
فيه، ولا أجد متسعا في هذا المقام لاستطراد مطول، لذلك فسأكتفي بالإشارة إلى لفظ
قريب وهام يبدو أنه شغل الشعراء الأقدم، كما شغل لفظ الحزن، الشعراء الأحدث، وفي
نفس الوقت، فقد وجدت في شكله وحركته ما يستلزم الإشارة إليه هنا كمثال توضيحي
مساعد، ألا وهو لفظ "الهم"، بادئا بالعلاقة بين ما هو "هم"
وما هو "همة" فالهم لغة ينتمي أساسا إلى
العزم على القيام بأمر ما "هم بالأمر ولم يفعله "، لكنني لم أرتح
للاستسلام هكذا لشرط أنه لم يفعله، اللهم إلا إذا أضفنا لفظ "بعد" أي
أنه "لم يفعله بعد"- ذلك أني حين عايشت اللفظ من الممارسة الذاتية
والمهنية والإبداعية، رجحت أن ثمة علاقة خليقة بالعناية ما بين الهم بمعنى
الحزن، والهم بمعنى العزم (على)، والهم بمعنى الشدة (بما يحمل معاني الجدية
والصعوبة والقوة جميعا، المهمات من الأمور الشدائد)- وكل هذا يقربنا أكثر فاكثر
من المعاني الإيجابية التي استوحيناها من حركية لفظ "الحزن" فكلاهما
(لفظا الحزن والهم) إنما يؤكدان كيف أن الظاهرة التي تشملهما أو تجمعهما أو
يحومان حولها.. الخ، هي ظاهرة تتحرك لغويا/كيانيا، من المواجهة إلى الألم إلى
العزم إلى الشدة بما يشمل الخشونة والصلابة، وكل ذلك يناقض معنى الكآبة (كما
قدمنا) لغة ومصطلحا. وأجده مناسبا هنا أن أعرج إلى ابن عربي كمثال لمحارب صوفي فحل، لم يحبسه
عجز الكلام المتاح عن محاولة وصف خبرته الفيضانية المنطلقة، فراح يبتدع لغته
المتجاوزة بكل إصرار ومغامرة، وأجد في هذا الاستشهاد ما قد يوضح بعض ما ذهبت
إليه في أول هذه الدراسة حين أشرت إلى أزمة المتصوف حين لا يجد لخبرته ما
يحملها- بأمانة وإحاطة- من ألفاظ، اللهم إلا من خلال مثل هذه المغامرات الشعرية
الخطرة. فالهمة عند ابن عربي: قوة وطاقة فحركة، وفيها يقول: "إنها تتوجه
كطاقة بحركة عشقية" وأنها "تحمل صاحبها: تترقى فيترقى"- وكأن ثمة
علاقة جدلية بين "همة" و"إرادة" الوصول، فيناقش ابن عربي
مراتب الهمة من همة "تنبه"، إلى همة "إرادة"، إلى همة
"حقيقة"، فيتدرج بذلك مع يقظة الوعي إلى تعاظم القدرة (النفس إذا
تجمعت أثرت في أجرام العالم) إلى التكامل مع اللامتناهي (جمع الهمم بصفاء
الإلهام)، وأكتفي بهذا المدخل الذي أوضحت من خلاله كيف حاول ابن عربي أن يطوعه
لوصف درجات وعيه لأقول إنه نفس اللفظ الذي يشير إلى ما هو حزن، مما يتواكب مع
الوعي بآلام مواجهة الواقع بحجمه الموضوعي، وقد تصبح الصورة أكثر اقترابا فوضوحا
إذا استشهدنا بموقف بعض الشعراء القدامى مما هو"هم" بالمعنى الذي رجح
عندنا: يقول ذو الرمة: وكنت إذا ما الهم
ضاف قريته مواكبة ينضو الرعان ذميلها فالهم هنا يأتي ضيفا، فيكرمه الشاعر ويحسن وفادته، إذ يواكبه صبرا وتقبلا
وتحديا واثقا من أن السير الحثيث، وحمية الحركة، خليقان بأن ينضوا عنه الحزن،
وهذا الموقف الواعي هو أرقى بكل قياس مما أصاب مشاعرنا نتيجة للإغارة الاكتئابية
المستوردة، والتي جعلت الهم جسما غريبا ونشازا منفرا ينبغي التخلص منه أو
إخفاؤه، نفورا: ورفضا. أما امرؤ القيس، فهو يلتقي بالهم، أو بأنواع الهموم، في اختيار وجودي
مواجه حين يرخى الليل- كموج البحر- سدوله" على بأنواع الهموم ليبتلى"،
وهو يتلقى الهموم يهيجها الشوق روادعا "وهاج بي الشوق الهموم
الروادع". وأكتفي بهذا القدر مرجحا أن همة ابن عربي في ترقيها المتصاعد، ليست بعيدة
عن هم ذي الرمة الضيف المواكب، أو عن هموم امرؤ القيس المختبرة والروادع، وهذا
ما أردت به أن أنبه على أن البداية من لغتنا الغائرة في كياننا- وليس من المصطلح
المجلوب إلينا- هي السبيل الصحيح للتعرف على حقيقة مشاعرنا وطبيعة وجودنا وحركية
وجداننا وبعد فأعتقد أنه يحق لي بعد عرض هذه الأمثلة أن أحدد ما ذهبت إليه في بداية
هذه الدراسة في صورة ترجيحات غالبة، لابد وأن تحتاج إلى مزيد من البحث وإعادة
النظر، ومنها: 1- أن الظاهرة أسبق من لفظها. 2- أن لسان كل أمة هو تاريخها الحيوي المتراكم في عمق وجودها الآني،
ولغتها بالتالي هي منطلق معارفها في مجال ما هو ظاهرة بشرية
"معرفية/وجدانية". 3- أن هذه اللغة- حتى بحضورها المعجمي المحدود- في حركتها الموحية، هي
المصدر الأول (وليس الأخير) في تحديد التوجه نحو ما ينبغي- ويمكن- دراسته من
ظاهرات. 4- أن الجدل بين هذا المصدر الأول، وبين الموقف المتجدد منه هو المجال
الأصيل لتحريك اللغة وتوليدها، وهو الشعر. 5- إذن، فإن ما يسمى بالعلوم الإنسانية، والنفسية خاصة، ينبغي أن تستلهم
مادتها من لسان أهلها، لا أن تستوردها ابتداء من "سلوك" غيرها، كما
ينبغي أن تستلهم منهجها من جدل الشعر، لا أن تنقله من قياسات الظاهر، وبهذا فقط:
يمكن أن تؤصل وتضيف، لا أن تختزل وتعيق. 6- إن تقدسينا لما هو علم- بالمعنى الحديث الضيق - ينبغي أن يراجع تماما
حتى لا يصير النشاط المعرفي حكرا على فئة بذاتها، تمارس من خلاله الوصاية على
وجودنا ومشاعرنا، مع عجزها عن الإحاطة بأقل القليل مما هو نحن، بسبب انغلاقها
الساكن في مصطلحات جامدة (مستورد أغلبها) بما يفصلها حتما عن الظاهرة الأصل. 7- لكل ذلك، فإن اللغة العربية بوجه خاص، يمكن أن تؤخذ باعتبارها من أثرى
مصادر معرفة أبعاد مسيرتنا أن تحتل مركزها المحوري في أي محاولة للتعرف على
حركية نمونا و إمكانية بعثنا، وبالتالي تصبح البدايات منها (لا مجرد الترجمة
إليها) هي أكبر إلزاما مفروض على ضمائرنا ومحرك لفعل معرفتنا. وعلينا أن نتوقع
إذا أحسنا استلهامها أن تقف في مواجهة اللغات الأخرى- بما تمثله- في حوار حضاري
يعود على الجميع بالتكامل المحتمل والحتمي إن كان للإنسان أن يواصل مسيرته من
واقع إيجابيات بكل لسان. وقد يترتب على إحياء حركية اللغة- هكذا- والبدء منها أن نواجه تحديات
رائعة مضيئة مثل: 1- أن الفلسفة، التي كادت أن تختزل إلى علم كلامي تجريدي منفصل عن
الالتحام بالمسيرة اليومية وجدل الوعي، يمكن أن يدب فيها نشاط معرفي وجودي
حقيقي، لتعود مغامرة كيانية، تقوم بها ذات استوعبت أكثر من ذاتها، فتستطيع أن
تتجاوز مجرد إعادة ترتيب التجريد المعطى والساكن والتسوياتي، إلى إعادة تخليق
التركيب المعرفي الغائر، وتحريك الكل الجدلي في صياغة جديدة متولدة ومولدة،
فتعود الفلسفة تعبيرا عن العمق اللغوي الوجودي في حركته الدؤوبة (يقوم بها الأمي
والبدائي والمثقف على حد سواء). 2- وعلم التفسير (تفسير القرآن الكريم) يمكن أن يتحرك من جديد، بعد أن
حبسته الألفاظ الساكنة، والروايات المنتهية في ما كاد أن يجعل ألفاظه الموحية
مجرد أطلال تزار كما هي، قد نبكى عليها أو نفرح بها واقفين أو جالسين، مع أنها
كيانات حية لابد وأن تتحرك مع الزمن في كل اتجاه يمكن أن تعد به، فتتجاوز نفسها
إلى ما يتخلق منها، وبهذا وحده نفهم النصيحة أنه "أقرأ القرآن كأنه أنزل
عليك" ونرفض حتما وصاية المصطلحات العلمية العاجزة في محاولتها لاحتواء
النص القرآني الحيوي، تحت زعم تفسير علمي، أو ترويج عصري، الأمر الذي لم يقع فيه
الرواة من العلماء (والمتعالمين) فحسب، بل الثقات من اللغويين والمفسرين كذلك. وعلى العلوم الإنسانية (النفسية خاصة)، أن تعيد ترتيب اهتماماتها بحيث
تكون منطلقاتها من واقعين أساسيين: الخبرة المباشرة، واللغة الأم، ثم تستعين بعد
ذلك- لا قبله- بمسيرة المعرفة الموازية من كل حدب وصوب، وبكل لغة أخرى- ومنهج. 4- أما الشعر، فهو التحدي الدائم بطبعه، وهو- بأوسع
معانيه- (بما هو شعر كما ورد في أول هذه الدراسة) هو خليق مسيرتنا المبدعة في
جدله مع حركية اللغة لتحتوى خبراتنا في مرونة متجددة بلا انقطاع.
|
||||
سعيا وراء ترجمة
جميع صفحات الشبكة إلى الإنجليزية و الفرنسية نأمل من الزملاء الناطقين
بالإنجليزية و الفرنسية المساهمة في ترجمة هذا البحث و إرساله إلى أحد إصدارات
الموقــع : الإصــدار الإنجليــزي
– الإصــدار الفرنســي |
||||
|
||||
Document Code VP.0015 |
ترميز المستند VP.0015 |
|||
Copyright ©2003 WebPsySoft ArabCompany,
www.arabpsynet.com (All Rights Reserved) |