Arabpsynet

Livres  / كتــب /  Books

شبكة العلوم النفسية العربية

 

طرائـق و منهجيـة البحــث في علـم النفــس

الثروات الأكثر قيمة هي الطرائق العلمية

تأليف د. فــاروق مجــذوب

شركة المطبوعات للتوزيع و النشر  2003

 

 

q       فهــرس الموضوعــات /  CONTENTS / SOMMAIRE 

 

-    المقدمة : هدف الكتاب - تعريف المنهجية

 

الفصل الأول: دافعية التفكير: الفضولية، الابتكار، والالتزام

-    العلم كتقنية فكرية

-    طرح الأسئلة

-    العلم و الفن

-    اكتساب المعرفة : التشبث – الحدس – السلطة – العقلانية – الأمبريقية – العلم

-    نشأة العلم : الحضارة الباكرة – العلم عند اليونان – العلم في القرون الوسطى – الثورة العلمية

-    تاريخ علم النفس

-    علم النفس كعلم

 

الفصل الثاني : ميزات البحث العلمي: البحث هو عملية استقصائية

-          عملية استقصائية

-          الاقتراحات الأساسية في العلم

-          الملاحظة والاستدلال: وقائع ومركبات

-          مفهوم النماذج المجردة في العلم

-          الطرائق العلمية الأساسية: الاستقراء (أو الطريقة الاستقرائية).

-          الاستقراء و بناء النظرية

-          الاستدلال المنطقي (أو الطريقة الاستدلالية).

-          طريقة الاستدلال الفرضي

-          النماذج والنظريات في العلم

-          العلاقة بين النظرية والبحث العلمي

-          تنوع النظريات في العلوم السلوكية

-          نموذج عن عملية البحث : مراحل البحث، مستويات القيد

 

الفصل الثالث : نقطة الانطلاق بالبحث في علم النفس

-          التساؤلات : الاهتمامات الفردية، متابعة أبحاث الآخرين، الأبحاث التطبيقية والأبحاث الأساسية

-          إعادة صياغة أسئلة البحث

-          أنمط المتغيرات في البحث : تصنيف المتغيرات وفقا لطبيعتها – تصنيف المتغيرات وفقا لكيفية تداولها في البحث

-          الصدق وضبط المتغيرات الدخيلة

-          أخلاقيات البحث

 

الفصل الرابع : البيانات وطبيعة القياس

-          متغيرات البحث

-          القياس

-          سلالم القياس : السلالم الاسمية، السلالم الترتيبية، سلالم المسافات، سلالم النسب

-          قياس المتغيرات وضبطها : خطأ القياس، التعاريف الإجرائية، الثبات، المدى الفعال، الصدق، التأثيرات التي تحد من مدى سلم القياس.

-          الحاجة إلى قياس موضوعي

 

الفصل الخامس : التحليل الإحصائي للبيانات

-          الفروقات الفردية والإجراءات الإحصائية : التوزيعات التكرارية، الرسوم البيانية، الإحصاء التلخيصي

-          الإحصاء الاستدلالي : الجمهور و العينات، الفرضية الصفرية، القرارات الإحصائية ومستويات ألفا، خطأ نمط I وخطأ نمط II، اختبار الفروقات بين المتوسطات، قوة الاختبار الإحصائي، الدلالة الإحصائية مقابل الدلالة العملية، تأثير الحجم، ما وراء التحليل

 

الفصل السادس : البحث الميداني: الملاحظة الطبيعية، ودراسة الحالة، والبحث الاستقصائي

-          البحث الميداني

-          التحدي الذي يواجهه الباحث في البحث ذي قيد- منخفض

-          أمثلة حول الملاحظة الطبيعية

-          أمثلة حول دراسة الحالة

    -          أهمية الأبحاث ذات قيد- منخفض : الشروط التي تخول الباحث اعتماد بحث ذي قيد- منخفض، المعلومات التي يتم اكتسابها بواسطة البحث ذي قيد- منخفض

-          الإشكالية والفرضيات في الملاحظة الطبيعية وفي دراسة الحالة

-          استعمال تقنية الملاحظة الطبيعية وتقنية دراسة الحالة : إجراء الملاحظات، القياسات الحيادية والسجلات الأرشيفية، الناحية الأخلاقية المترتبة عن القياسات الحيادية، معاينة المبحوثين، معاينة الوضعيات، معاينة السلوك

-          تقويم وتأويل البيانات

-          حدود الملاحظة الطبيعية وطرائق دراسة الحالة : التمثيل الضعيف للجمهور، ضعف إمكانية تكرار البحث ذاته، الاستدلال السببي والبحث ذو قيد، منخفض: خطأ الاستدلال بعد حدوث الواقع، حدود الملاحظ، التأويل الذي يتجاوز البيانات

-          البحث الاستقصائي : أنماط الاستقصاء، الخطوات المعتمدة في الاستقصاء، نوعية أداة الاستقصاء، تطوير أداة الاستقصاء، بناء الأسئلة، أشكال أسئلة الاستقصاء، كيفية صياغة الأسئلة، دور المبحوثين في الاستقصاء: الجمهور والعينات

-          التقنيات الاحتمالية : العينة العشوائية البسيطة، العينة العشوائية الطبقية، العينة العنقودية، العينة الاحتمالية المنظمة

-          التقنيات غير الاحتمالية: المعاينة العرضية، الآنية، عينة الحصص النسبية، العينة النموذجية أو القصدية، عينة كرة الثلج، العينة الطوعية

-          حجم العينة وهوامش الثقة

-          تصميم الأبحاث الاستقصائية

 

الفصل السابع : الطرائق الترابطية والتفاضلية في البحث

-          طرائق البحث الترابطي

-          طرائق البحث التفاضلي : البحث التقاطعي مقابل البحث الطولي، تداخل المتغيرات واختلاطها: المتغيرات العرضية

-          ما الذي يجعل من طرائق البحث التفاضلي أكثر قيدا

-          من طرائق البحث الترابطي؟

-          مجال اعتماد البحث الترابطي والبحث التفاضلي

-          مجال تطبيق البحث الترابطي : طرح الإشكالية (المشكلة) ونمط الأسئلة في البحث الترابطي، قياس المتغيرات، المعاينة (انتقاء العينة)، تحليل البيانات، تأويل الترابط

-          مجال تطبيق البحث التفاضلي : طرح الإشكالية ونمط الأسئلة في البحث التفاضلي، قياس المتغيرات في البحث التفاضلي، كيفية اختيار المجموعات الضابطة المناسبة، المعاينة (انتقاء العينة)، تحليل البيانات، تأويل البيانات

-          حدود البحث الترابطي والبحث التفاضلي : المشاكل المترتبة عن تحديد علاقة سببية

 

الفصل الثامن : اختبار الفرضية، الصدق، والعوامل التي تهدد الصدق

-          اختبار الفرضية : البدء بالبحث بفكرة أولية، طرح أسئلة الإشكالية، التعاريف الإجرائية، فرضية البحث، دور النظرية ومساهمتها في فرضيه البحث، اختبار فرضية البحث

-          الصدق والعوامل التي تحد من الصدق : صدق التركيب أو الصدق الاستدلالي- الفرضي، الصدق الخارجي، الصدق الداخلي

-          المتغيرات الدخيلة الأساسية : النضج، سيرة المبحوث، تكرار الاختبار على المبحوثين ذاتهم، تأثير الانحدار نحو المتوسط، تأثير الاختيار، تناقص المبحوثين عبر الزمن، تناقل المعلومات بين المبحوثين حول طبيعة التجربة ومتغيراتها، تأثير التتابع

 

الفصل التاسع : اعتماد الضوابط للحد من العوامل التي تهدد الصدق

-          العوامل التي تهدد الصدق

-          إجراءات الضبط العامة : إعداد الوضعية، قياس الاستجابة، تكرار التجربة

-          ضبط تأثير المبحوث والقائم بالتجربة : إجراءات التعمية الأحادية و التعمية المزدوجة، تقنين المعلومات و اعتماد المسجلة، تعدد الملاحظين، اعتماد التضليل

-          الضبط من خلال اختيار المبحوث وتوزيعه : اختيار المبحوث، توزيع المبحوث

-          الضبط من خلال التصميم التجريبي

 

الفصل العاشر : ضبط التباين من خلال التصميم التجريبي: متغير واحد، تصاميم المجموعات المستقلة

-          التصميم التجريبي

-          التباين : أنماط التباين، ضبط التباين في البحث

-          المقاربات غير التجريبية : دراسة الظاهرة بعد حدوث الواقع، دراسة مجموعة واحدة حيث يحرك الباحث المتغير المستقل ثم يقيس، فيما بعد، المتغير التابع، دراسة مجموعة واحدة وخضوعها لاختبار قبل المعالجة وبعدها، دراسة مجموعة تخضع لاختبار قبل المعالجة- اختبار بعد المعالجة، مع مجموعة ضابطة طبيعية

-          التصاميم العشوائية وتحليلاتها الإحصائية : الاختبار التائي t-test، تحليل التباين (أنوفا ANOVA)

-          تصاميم تجريبية أخرى

 

الفصل الحادي عشر : ضبط التباين من خلال التصميم التجريبي: متغير واحد، تصاميم المجموعات المترابطة

-          تصاميم المجموعات المترابطة

-          تصميم ضمن الأفراد : مجال اعتماد تصاميم ضمن- الأفراد، تحليل تصاميم ضمن الأفراد، أوجه الضعف والقوة في تصاميم ضمن- الأفراد

-          تصميم الأفراد المتناظرين : مجال اعتماد تصاميم الأفراد المتناظرين، تحليل تصاميم الأفراد المتناظرين، قوة وضعف تصاميم الأفراد المتناظرين

-          تصاميم الفرد الواحد

-          المصطلحات التي وردت في الكتاب مرتبة بحسب الألفباء الإنكليزية

-          المراجع العربية

-          المراجع الأجنبية

-          الفهرست

 

q       المقدمــة

 

        هدف الكتاب

لا يتوجه هذا الكتاب إلى الكشف عن المعرفة الكلية، فهذا شيء بعيد كل البعد عن هدفه. ذلك أن أفضل الكتب العلمية هي دائما غير وافية من ناحية تفسير الوقائع والمظاهر الكونية، ولا يمكن أن تمثل، بشكل صادق كليا، معنى الحقيقة التي تحاول الكشف عنها. فالوقائع، التي تقوم الكتب العلمية بتفسيرها اليوم، قد يكشف عن خطأ في تفسير بعضها غدا. ففي ميدان العلم الحديث لا يوجد مكان للكتاب- "المنقذ" الذي يكشف عن المعرفة الكلية. إن نمط المعرفة التي يستهدف هذا الكتاب نقلها إلى الباحث ليست بالمعرفة النهائية، بل هي تتطلب المناقشة والتساؤل حول مدى صدق مضمونها. إنها اقتفاء ومقاربة للظواهر التي تحيط بنا، وهي، بالتالي، في حالة تبذل مستمر وفق القراءات والنقاش مع الآخرين المتعطشين إلى المعرفة. فاكتساب معرفة كهذه يتطلب الفضولية، وبذل المجهود، والصبر. وتطوير هذه المعرفة كما هو اكتسابها لهما متطلباتهما ويؤديان أحيانا إلى الشعور بالإحباط عند الساعي إليهما. إلا أن مقام الهدف الذي نريد التوصل إليه يبزر المجهود الذي علينا بذله في التوجه نحوه. ويجب ألا يغيب عن فكرنا أن هذه المعرفة تخولنا اكتساب استقلاليتنا، والتحكم بالمظاهر التي تحيط بنا والسلطة عليها، وبالتالي السلطة على ذواتنا.

وما من شك بأن هذا الكتاب كغيره من الكتب العلمية، يعالج موضوعا دقيقا ومحددا ألا وهو منهجية العلوم الإنسانية، وبالتحديد علم النفس. فالسؤال الذي يطرح نفسه هو: ماذا نعني بعبارة منهجية علم النفس؟ وللإجابة على هذا السؤال، يجب أن نعرف أولا ماذا تعني كلمة "علم ". فمن خلال تعريفنا للعلم يصبح باستطاعتنا تحديد معنى "منهجية" العلوم، وما تتميز به من أهمية.

إن كلمة "علم " science" مشتقة من الكلمة اللاتينية  « scienta » التي تعني "معرفة" (1). كما أن كلمة « scienta » مشتقة من « sciens »  و « scientis »  وتعنيان "الذي يعرف "، "متعلم "، "فطن "، و"عارف ". فالعلم يعلم؟ والعالم هو "عارف "، أو، على الأقل، الذي يريد أن يعرف.

وبما أن المعرفة تتمحور، بالضرورة، حول أشياء معينة، أي أنها هادفة- عندنا دائما معرفة بشيء خاص- هذا يؤدي إلى وجود علوم وفق مواضيع الدراسة. وبهذا، فإن هناك العلوم الطبيعية التي تتناول المواد الطبيعية؟ كما نجد أيضا علم الظواهر الفيزيائية (الفيزياء)، وعلم المواد الكيميائية (الكيمياء)، وعلم الأجسام السماوية (علم الفلك)، وعلم الكائنات الحية (البيولوجيا). ويوجد أيضا العلوم الإنسانية التي تدرس الكائن البشري من خلال أوجه مختلفة، وعلم سلوك الفرد (علم النفس)، ودراسة العلاقات الاجتماعية بين البشر (علم الاجتماع)، ودراسة علاقات السلطة بين البشر (علم السياسة)، ودراسة ماضي الإنسانية (علم التاريخ ودراسة الحضارات القديمة)، وعلم اللاهوت الذي يتناول الأديان المختلفة، ودراسة الثقافات عند الجماعات البشرية معتبرة، بشكل خاص، انبناءاتها العائلية، والمؤسسات، والتكنولوجيا والمعتقدات (علم الأنثروبولوجيا)، وعلم السلوك الجنسي عند الإنسان (الجنسلوجيا)، ودراسة الإنتاج عند الإنسان والثروات المادية والخدمات (علم- الاقتصاد)، وعلم يتناول دراسة الظواهر الفيزيائية، والبيولوجية والإنسانية على سطح الأرض (الجغرافيا)، إلخ. وباختصار، تساعدنا العلوم في فهم بيئتنا الطبيعية والإنسانية. فالعلم هو، في الواقع، طريقة معينة في فهم وتفسير عالمنا. كما يتخصص كل علم في دراسة أحد أبعاد هذا العالم المعقد.

إلا أن العلم ليس هو بالطريقة الوحيدة لمعرفة الظواهر الطبيعية والإنسانية. فالأساطير والأديان هي أيضا أشكال معرفية لما يحيط بنا. فنحن نعلم، من خلال الكتب السماوية والمقدسة مثلا، بأن الكون هو من خلق إله كلي القدرة، وبأن أول رجل من خلق الله هو آدم. كما نعلم أيضا بأن على البشر أن تعمل بعرق جبينها، وعلى النساء أن تلدن بالألم وذلك لأن حواء عصيت أمر الله بأكلها الثمرة المحرمة- التفاحة- التي ترمز إلى الفعل المحرم.

وتبعا لذلك، إذا لم يكن العلم الطريقة الوحيدة للمعرفة، بماذا إذن يختلف العلم عن الأنماط والطرائق الأخرى للمعرفة؟ من الشائع أن العلم يتميز عن الأنماط الأخرى بطرائقه التي يعتمدها في إنتاج المعلومات والمعارف. فمنذ القرن الثالث عشر (حوالي سنة 1265)، أخذت كلمة "علم " معنى قريبا من معناها الحديث: فهي تشير إلى "مجموعة من المعارف ذات موضوع محدد وطريقة محددة" (1). فوفقا لذلك، تكون المعرفة علمية إذا نتجت عن تطبيق طريقة علمية، أي إذا التزمت عملية التطبيق ببعض القوانين والإجراءات الخاصة بالعلم. وتبعا لذلك، نستطيع أن نقول بأن الطريقة العلمية تؤدي إلى المعرفة العلمية.

 

تعريف المنهجية

    إن كلمة "طريقة" Method/Méthode هي مشتقة من الكلمة اللاتينية Methodus  التي بدورها تعود إلى الكلمة اليونانية Methodos التي تعني "طريق "، و"اتجاه يؤدي إلى هدف ". ولقد أدخلت كلمة "طريقة" في علم الطب حوالي سنة 1537 وكانت تعني: "نهج خاص بتطبيق المعالجة"، ثم "إجراءات منطقية يرتكز عليها التعليم، وتطبيق فن ". وفي سنة 1637 أعطى الفيلسوف الفرنسي ديكارت لهذه الكلمة معنى "نهج " و"أسلوب " العلم، أو "نسق " تفكير علمي. وبشكل عام، يشير مفهوم منهجية البحث إلى مجموع القواعد، والخطوات، والإجراءات التي يعتمدها العلم للتوصل إلى فهم مواضيع دراسته.

    وعلى هذا الأساس، تبدو صعبة الإحاطة بمنهجية البحث من كل جوانبها، وبخاصة للمبتدئ الذي يريد إتقان علمه حول موضوع معين، ذلك لأنها تتطلب معرفة القواعد، والخطوات، والإجراءات التي يعتمدها العلماء في العلم وفي تفسير عالمنا بشكل علمي. ومن خلال هذا المنظور، يتناول موضوع كتابنا هذا، حول منهجية علم النفس، الأساليب المعتمدة، من يتل العلماء في دراستهم للظواهر الإنسانية، ولكيفية إنتاجهم للمعارف.

إن منهجية البحث في علم النفس هي موضوع هام جدا. إذ تكون العلوم العصب الأساسي في صيرورة المجتمعات المعاصرة. فإذا أردنا التحكم بعالمنا وبحياتنا، علينا أن نلم بالأسلوب الذي من خلاله ينتج علم النفس المعرفة.

الرجوع إلى الفهرس

 

q      الفصــل الأول

 

دافعية التفكير: الفضولية، الابتكار، والالتزام

n       العلم كتقنية فكرية

يفتش العلماء عن أجوبة للأسئلة التي يطرحونها. ويعتمد عملهم على مهارة كبيرة في طرح الأسئلة والإجابة عليها. كما أن معرفة كيفية طرح الأسئلة هي عملية مهمة جدا تماما كمعرفة كيفية الإجابة عليها. إن العلم هو عملية طرح أسئلة معينة ومن ثم إيجاد أجوبة لها من أجل التوصل إلى فهم الظواهر الطبيعية التي تحيط بالكائن الحي. فالعلم هو إذن عملية استقصاء، أي أنه نمط معين من التفكير.

وبفضل عملية الاستقصاء هذه، تم ابتكار أدوات كثيرة ووسائل مجدية ساهمت في تطور الإنسان. ومن هذه الأدوات والوسائل نخص بالذكر المختبر بتجهيزاته المتطورة، والإجراءات الإحصائية، والمعلوماتية، والطيران في الفضاء، والطب، ومبيدات قوية جدا وفعالة في القضاء على البكتيريا، و، لسوء الحظ، أسلحة متطورة جدا للقضاء على الكائن البشري. وغالبا ما يخلط الناس بين أدوات ووسائل العلم وبين جوهر العلم. إن جوهر العلم هو طرائق تفكير العالم، أي المنطق الذي يعتمده العالم في تساؤلاته المنظمة وأجوبته عنها. فباستطاعة العالم أن يفكر علميا بينما هو جالس تحت شجرة في الغابة يفكر في مسألة معينة مستعملا فقط ورقة وقلما كأداة تقنية لحل هذه المسألة. وبهذا فإن علم الكيمياء لا يصبح أكثر أهمية من علم النفس بفضل تجهيزات مختبره وفقاقيع الذرات السائلة.

 

n       طرح الأسئلة

إن تقنية طرح الأسئلة للتوصل إلى المعرفة ليست بالشيء الجديد. فلقد أتقن سقراط وأتباعه منذ حوالي 2400 سنة هذه التقنية. فالسؤال هو جانب واحد من فكرة حيث يكون في الجانب الآخر كمية مجهولة- إجابة ممكنة. يشير كل سؤال إلى مجهول- إلى مجال يجهله الإنسان. ويظهر أن سقراط كان على دراية بأنه من خلال طرحه أسئلة واضحة حول الدين، والسياسة، والأخلاق، قد تنفذ إلى أعماق تفكير مواطنيه، كاشفا لهم جهلهم وشكوكهم، ومؤديا بهم إلى حالات قصوى من عدم الطمأنينة. إلا أن هذه الحالات الأخيرة، ولسوء الحظ، دفعت مواطنيه إلى إدانته والحكم عليه بالموت بتهمة إفساد الشبيبة. تبين لنا الأحداث التاريخية، في الواقع، حدوث خضات اجتماعية وسياسية عديدة، بسبب طرح الأسئلة ومحاولة كشف الجهل عند الإنسان. ولا يسعنا إلا أن نذكر، هنا، ليوناردو دافنشي  Leonardo da Vinci و غاليليو Galileo اللذان هددا مبادئ الكنيسة خلال عصر النهضة؟ كما نخص بالذكر تشارلز داروين Charles Darwin وبعض علماء الجيولوجيا، في القرن التاسع عشر، الذين قدموا دلائل، من خلال اكتشافاتهم، أدت إلى الشك بما تقر به تعاليم الأديان من ناحية الله والخفق.

    إن التساؤلات والشك كمنهجية لتوخي الحقيقة العلمية، و إزالة الجهل، كانا ولا يزالان تقنيتين مبعدتين في الدول ذات النظام التوتاليتاري.

لقد أضحت المعرفة العلمية، في عالمنا المعاصر، بغاية الأهمية لدرجة أن الحكومات، في البلدان المتطورة، تضع قيودا أمام إفشاء بعض المعلومات العلمية عند علمائهم. فالمعرفة العلمية هي، في آن واحد، حرجة ونقادة لنشاطات وأعمال الدول، وتؤذي بالتالي عملية نشرها، بشكل عشوائي، إلى انزعاج العديد من الناس.

يحاول العلماء حل المسائل والمعضلات الكونية ليس من خلال تثبيت المعتقدات القديمة، بل من خلال دراسة الأسئلة وإيجاد أجوبة جديدة. فالعالم هو متشكك يتحمل عدم اليقين كمرحلة مؤقتة، ليتوصل، فيما بعد، من خلال شكه، إلى اليقين (Sternberg & Lubart, 1992). فهو يجد متعته الفكرية بطرحه أسئلة جديدة، والتفتيش عن أجوبة حول الطبيعة. إن عملية طرح الأسئلة هي محاولة خلاقة. كما أن الابتكار والاكتشاف يؤديان إلى شعور بالرضى عن الذات عند المبتكر، بفضل إرضاء فضوليته التواقة دائما إلى إضفاء معنى جديد، أو معنى آخر، على الظواهر الطبيعية التي تحيط به. فهنا تشكل الفضولية الدافع الأساسي عند كل عالم. فتساؤلات العالم الأساسية هي: "ماذا؟ "، "كيف؟ "، و"ماذا إذا؟ ". وفي هذا المجال يفسر لينوس بولنغ (linus Pauling, 1981)  بأن إرضاء الإنسان لفضوليته هو أحد المصادر الأساسية لسعادته. وتفسير بولنغ هذا، تعززه فكرة العالم النفسي سكينر في قوله "حينما تقع على شيء مثير للاهتمام دع كل شيء جانبا وقم بدراسة هذا الشيء" (Skinner, 1956:223).

وعلينا أن نشير، هنا، بأن فضولية العالم  ليست بالفضولية العشوائية، أو ما نفهمه باللغة العربية بمعنى الحشرية، بل هي فضولية منظمة تجعل العالم  في حالة من التهيؤ تؤدي به، أحيانا، إلى اكتشافات عرضية تظهر للآخر كأنها فجائية. ففضولية العالم هي فضولية نشطة، تؤدي إلى اكتشافات، ليس من خلال الحظ ودونما هدف، بل يوجهها تفكير ناقد معزز بساعات طويلة من البحث. إنها فضولية منظمة تدفعها دينامية العمل والإحباطات والنجاح.

 

n       العلم والفن

إن بعض المزايا التي أضفيناها على العلماء من فضولية، وابتكار، وشك، وتحفل الغموض والالتزام، والعمل الجاد، وطرائق تفكير معينة- جميع هذه المزايا موجودة أيضا عند الأدباء، والنحاتين، والفلاسفة، والرسامين، والموسيقيين، والكتاب، وغيرهم. فكل واحد من هؤلاء يقوم، في آن واحد، بمحاولات فكرية وفنية. فهو يحاول الإجابة على الأسئلة التي يطرحها والتعبير عن بعض الأوجه في العالم من خلال وسيلته الخاصة: اللون بالنسبة للرسام، الشكل بالنسبة للنحات، الصوت بالنسبة للموسيقي، اللغة بالنسبة للأديب... إلخ. ويضحي نمط تعبيره عن الأفكار جزءا من مجال الجمهور حيث يتم تقويم إنتاجه، وتكون نتيجة التقويم إما القبول أو الرفض لإنجازاته.. وفي أسوأ الأحوال التجاهل. ولا بد لنا من الإشارة، هنا، إلى أن الابتكار العلمي هو أيضا نوع من الفن. إذ أن كل نشاط يؤدي إلى التغير البناء هو فن. إلا أن هذا لا يعني أن العلم مثله كمثل الفن أو الأدب.. فكل منهما- العلم والفن- يعتمد، وبعبارات موسيقية، تبدلات للمتون ذاتها: الفضولية الإنسانية مع التزام بالأفكار، وعملية استقصائية منظمة، وحاصل يمثل أفكار العالم  أو الفنان.

ومن الاعتقاد السائد أن الفن والعلم يختلفان عن بعضهما بشكل قاطع. إذ غالبا ما نسمع بأن فلانا هو من النمط الفني (شاعر، موسيقي، إلخ.). وبالتالي لا تتوافر لديه القدرة الرياضية أو الفيزيائية، أو، من ناحية أخرى، بأن عالما رياضيا لا يستطيع تذوق الفن أو الأدب. إن هكذا افتراضات هي خاطئة. ولا يسعنا هنا إلا ذكر ليوناردو دافينشي (1452- 1519) الذي كانت لديه معرفة واسعة في العلوم الطبيعية، والفيزياء، والموسيقى، وعلم التشريح، Gross, 1997)) هذا إلى جانب فن النحت الذي برع فيه ويرتبط باسمه. كما لا بد لنا من ذكر الفلاسفة المسلمين، في القرنين العاشر والحادي عشر، الذين حاولوا التوفيق بين الحكمة (الفلسفة) والشريعة (الدين)، وما تميزت به محاولاتهم هذه من تفكير منهجي ناقد، وتساؤلات علمية، تماما كما هي تساؤلات العالم الذي يفتش عن الأجوبة الصحيحة في تفسيره للظواهر الكونية. ومن ضمن هؤلاء الفلاسفة نخص بالذكر ابن سينا (980- 1037) الذي كان عالما كبيرا في العلوم الطبية إلى كونه فيلسوفا. فلقد وضع كتاب "القانون " الذي يعتبر أشهر كتب الطب في القرون الوسطى، وتم تداوله في معاهد الطب في فرنسا وإيطاليا قرابة ستة قرون متتالية. كما نخص بالذكر كتاب "الحاوي " للرازي الذي أدخل أيضا في برامج تعليم كليات الطب الأوروبية. ولا بد لنا، أيضا، من ذكر ابن النفيس الذي اكتشف الدورة الدموية قبل الأوروبيين، وابن طفيل الذي توصل، في القرن الثاني عشر، إلى وضع مبادئ للتشريح "قريبة من مبادئ العلم الحديث. فلقد كان هؤلاء، في الواقع، رواد الطب الحديث والتفكير المنهجي القائم على الاستقراء والاستدلال الفرضي.

 

n       اكتساب المعرفة

يلتزم العالم ، لاكتساب المعرفة حول الطبيعة، بالتفكير المنظم. فهو يولي اهتماما كبيرا لملاءمة معلوماته، وللعملية التي يجب اعتمادها في التوصل إلى هذه المعلومات. إلا أن التفكير العلمي ليس بالتفكير الوحيد الذي يتم بواسطته اكتساب المعرفة. وفي هذا المجال، يعدد هلمستادتر ( G.C. Helmstadter, 1970) الطرائق الشائعة في اكتساب المعرفة ألا وهي: التشبث، الحدس، السلطة، العقلانية، الأمبريقية ، والعلم. وتصنف هذه الطرائق وفق المتطلبات المحددة بالنسبة لملاءمة المعلومات، ولطبيعة المعلومات المتؤخاة. فالعلم يرتبط بالعقلانية والأمبريقية وهو، بالتالي، الأكثر تطلبا. بينما التشبث، والحدس، والسلطة فمتطلباتها قليلة.

 

التشبث Tenacity/Ténacité: هو قبول الأفكار على أنها معرفة صادقة، لأنها مقبولة منذ زمن بعيد، أو لأنها تكررت غالبا بشكل اكتسبت فيه مكانا من الحقيقة دون منازع.

وتعتمد آلية التشبث في الحملات السياسية الانتخابية حيث تتردد الأفكار- غالبا ما تكون غير صحيحة ومشوهة- باستمرار بشكل يؤدي، في النهاية، إلى قبول الناخبين بها كواقع حقيقي. ويعتمد إعلاناتيون هذه التقنية، فيرددون الجمل الدعائية باستمرار آملين، من جزاء ذلك، أن ينتهي الأمر بالمستهلكين في تصديقها وقبولها. فالإعلانات التي يبثها التلفزيون والحملات السياسية هدفها إيصال مجموعة من المعلومات المقبولة، والمرتكزة على التشبث، للمواطنين. وحينما تترشح المعرفة، من خلال التشبث، لا يكون هناك حاجة للتأكد من دقة الأفكار وصحتها- فلا يتم اختبار تلك الأفكار بمراجعات موضوعية ناقدة.

 

الحدس Intuition/Intuition: الخدش هو التوصل إلى المعرفة دون مجهود فكري أو عمليات حسية. ومن ضمن الأمثلة على هذا النمط، الذي يسمى أحيانا، المعرفة المعاشة، نخص بالذكر الإدراك الذي هو خارج نطاق الإدراك الحسي  Extrasensory perception/Perception extrasensorielle الذي عبر عنه الأنبياء، وبعض الفلاسفة، في تفسيرهم للوجود الإلهي. ولنا هنا مثل حول الفيلسوف الغزالي الذي حاول، كغيره من الفلاسفة المسلمين، التوفيق بين المنطق (العقلانية) والدين، وأراد أن يتبين وجود الله منطقيا، فمرّ بمراحل من الإحباط والشك لينتهي به الأمر، في نهاية تأملاته وتنسكه، إلى اليقين بواسطة الحدس الذي تمثل في قوله عن برهنة إيمانه بالوجود الإلهي: "هذا نور يقذفه الله في القلب ". كما نخص بالذكر، أيضا، التحولات التي تطرأ على حالات الوعي من جزاء تناول بعض أنواع المخدرات كالـ LSD مثلا، التي تدفع بمتناولها إلى الاقتناع المطلق بأنه توصل إلى الحقيقة والمعرفة.

يشيع الحدس في حياتنا اليومية، وما من فرد إلا مر بتجربة حبه أو بغضه الفوري لشخص آخر خلال اللحظات الأولى من الاجتماع به. إن هكذا استجابات حدسية هي تقويم سريع، يرتكز على تجارب، ومواقف، ومشاعر ذاتية غير مدروسة. وما يجعلها حدسية هو أننا نقبلها بسرعة من دون تدخل التفكير أو دراسة الوقائع.

 

السلطة Authority/autorité: هي قبول فكرة بأنها معرفة صادقة، لأن بعض المصادر المحترمة والموثوقة- الكتابات الدينية، مؤلفات أرسطو، رئيس الجمهورية، سيغموند فرويد، ماركس، إلخ.- تفسر بأنها صادقة.

يؤكد كل من التشبث، والحدس، والسلطة على أن معرفتنا بصحة الشيء تعود إلى: 1) أن هذا الشيء هو دائما هكذا (تشبث)، أو 2) إننا نشعر بأنه صحيح (حدس)، أو 3) إن سلطة معينة تفسر ذلك (سلطة).

تتشارك أوجه المعرفة هذه بنمط من القبول الحاسم للمعلومات وللنتائج. فكل واحد منا، حتى العلماء، يعتمد هذه الطرائق في حياته اليومية. ونميل أحيانا لاتخاذ قرارات مرتكزين على قبول معلومات، دون التأكد من صدقها، بشكل حاسم. إذ لهكذا إواليات معرفية قيمتها في تذليل الصعوبات التي نواجهها في حياتنا اليومية، وفي تسهيل أمورنا التكيفية. فقد نقبل، مثلا، بتعاليم الدين حدسيا، أو على أساس السلطة، ونشعر، من جزاء ذلك، بالرضى عن ذاتنا.

ولكن، هل نوافق أيضا، وبشكل حاسم، بأن نتنزه مغمضي العينين على طريق تسرع عليه السيارات باتجاهين؟ ففي الواقع، ولاتخاذ بعض القرارات، على معلوماتنا والوسيلة التي اعتمدت في استقصائها أن تكونا أكثر تناسبا. وهنا تزودنا العقلانية والأمبريقية بأساس أكثر صلابة لقبول المعلومات كمعرفة.

 

العقلانية Rationalism/Rationalisme: هي نمط من التفكير يتم به التوصل إلى المعرفة من خلال الاستدلال. تطرح المعلومات في المقاربة العقلانية بعناية، ويتم اتباع قواعد منطقية للتوصل إلى نتائج مقبولة. مثال ذلك القول الاستنتاجي التالي:

كل إنسان هو فان (مقدمة منطقية كبرى).

سامر هو إنسان (مقدمة منطقية صغرى).

إذا، سامر هو فان (النتيجة).

يتم التوصل إلى النتيجة، في المقاربة العقلانية، من خلال المنطق- الذي هو تقنية أكثر أمانة، للتوصل إلى المعرفة، من التشبث، والحدس، والسلطة. ولكن للعقلانية حدودها. وهذا ما يبينه لنا القول الاستنتاجي التالي:

جميع الأطفال في عمر 4 سنوات يخافون الظلمة.

سهى هي طفلة عمرها 4 سنوات.

إذا، سهى عندها خوف من الظلام.

إن المنطق في القول الاستنتاجي أعلاه هو واضح، كما أن النتيجة هي صحيحة، إلا في حال لم يكن عند سهى خوف من الظلام. ما هو حدود هذا القول؟ فمن الممكن أن لا تخاف جميع أطفال عمر 4 سنوات الظلام، أو، وأيضا، أن يكون عمر سهى الحالي 8 سنوات وليس أربع. وهكذا نرى بأن العقلانية، بالرغم من أهميتها في التفكير العلمي، لها حدودها إذا اعتمدت لوحدها فقط، في العلم. فعلى المقدمتين (الكبرى والصغرى) أن تكونا صحيحتين من خلال براهين أخرى للتوصل، من ثم، إلى النتائج الصحيحة. وتتوقف النتائج الدقيقة والصحيحة على العملية الاستدلالية، وعلى صحة المقدمات في آن واحد.

وتتيح المقاربة العقلانية التطور المنظم والمنطقي للفرضيات التي يمكن اختبارها بطرائق أخرى. إن كل مقدمة هي فرضية والتي، في حال تبين بأنها صحيحة من خلال بيانات ومعلومات خارجية، قد تستعمل منطقيا للانتقال إلى النتيجة. وباختصار، تستعمل العقلانية في العلم لتطوير الفرضيات التي يمكن اختبارها بمعايير خارجية. ويخطو العلم خطوة إلى الأمام باختباره أمبريقيا كل فرضية.

 

الأمبريقية Empiricism/Empiricisme: تتضمن الأمبريقية اكتساب المعرفة من خلال الملاحظة- أي أن نتعرف على الأشياء والظواهر من خلال تجربتنا بواسطة حواسنا. وهذه التقنية هي قديمة منذ قدم الحضارة. فبالنسبة للأمبريقي لا يكفي أن نتعرف على الأشياء والظواهر ونفهمها من خلال الفكر (أو التشبث، أو الحدس، أو السلطة) فقط. بل من الضروري أن نختبر العالم- أي أن نرى، أن نسمع، أن نلمس، وأن نشم. فشعار الأمبريقي هو: أنا لا أؤمن بذلك إلا حينما أرى ذلك!". ولقد بنى كل من طاليس، وأبيقراط، وغالن، وكوبرنيكوس وغاليليو، وداروين استنتاجاتهم حول الطبيعة، إلى حد كبير، من خلال ملاحظاتهم. فلقد رفضوا المفاهيم غير الأمبريقية، المعززة دينيا، التي كانت شائعة في عصرهم متجاوبة مع السلطة والعقلانية. إن الأمبريقي الجيد هو الذي يقرر، حين يرى تلبد الغيوم في السماء ووميض البرق ويسمع صوت الرعد، أن يأخذ معه، عند خروجه من منزله، مظلة. فحواسه هي التي تشير إليه وتقوده إلى العمل الصائب.

إلا أن الأمبريقية كتقنية وحيدة، نعتمدها للتوصل إلى المعرفة الحقيقية، هي غير كافية، ولها حدودها. كما أنها قد تؤدي بنا إلى استنتاجات خاطئة وأحيانا خطرة. تتمحور المشكلة، هنا، حول ما يسمى بالأمبريقية البسيطة مقابل الأمبريقية المتطورة. وعبارة "أنا لا أؤمن بذلك إلا حينما أرى ذلك إ" تعثر عن المقاربة الأمبريقية البسيطة التي تؤذي إلى أخطاء ومشاكل عديدة. ففي حال لم يتسنى لي رؤية القاهرة أو القدس فهذا لا يعني أن هاتين المدينتين هما غير موجودتين! ولأنني لم أر في حياتي الجاذبية أو فيروس الحصبة، هل هذا يخولني أن أستنتج بأنني لا أقع أبدأ على الأرض، كما أنني سوف لا أصاب بالحصبة؟

إن هكذا تساؤلات تجيب عليها وتتخطاها الأمبريقية المتطورة. فليس باستطاعتنا رؤية الجاذبية أو الحرارة، أو، من دون أية مساعدة بصرية، رؤية فيروس الحصبة. ولكن باستطاعتنا قياس ارتفاع الحرارة كلما رقعنا الحرارة في مصدر لها، أو، وأيضا، قياس سرعة سقوط جسم ما، كما أنه باستطاعتنا رؤية الفيروس من خلال المجهر. ولا تتحدد الملاحظات الأمبريقية بالأدوات والوسائل المساعدة في الملاحظة فقط، بل باستطاعتنا أيضا ملاحظة الظواهر، بشكل غير مباشر، من خلال فلاحظتنا المباشرة لتأثيراتها على أشياء وظواهر أخرى (مثلا: تأثير الجاذبية على سقوط الأجسام).

وفي حال انحصر نشاط العلماء في تجميع الوقائع فقط، فهنا كل ما نستطيع التوصل إليه هو لائحة حول هذه الوقائع. فليس باستطاعتنا، عندئذ، معرفة كيفية ترابط الوقائع وعلاقتها ببعضها بعضا، وماذا يمكن أن يكون معناها. فللوقائع والظواهر الملاحظة فائدة كبيرة للكائن البشري حينما يعتمد هذا الأخير في ملاحظته وتنظيمه لها على ذكائه واستدلالاته، مستنتجا من خلالها المعاني التي تساعده في تنبؤاته حول مسار المظاهر الكونية التي تحيط به. وبعبارات أخرى، على الأمبريقية أن تتدامج مع العقلانية، مع التفكير المنطقي، بشكل يدعم كل منهما الآخر.

 

n        العلم

يصل العلم بين العقلانية والأمبريقية، معتمدا الاستدلال المنطقي ومتفحصا كل خطوة بواسطة الملاحظة الأمبريقية. ويقوم العلماء، باستمرار، بدور المكوك بين الملاحظة الأمبريقية، والتفكير المجرد، والقوانين العامة لينتقلوا، من ثم، إلى ملاحظات أمبريقية، أشمل وأوسع، حول وقائع خاصة. فالرجوع المتكرر إلى الملاحظة الأمبريقية في العملية العقلانية، كان من ميزات حركة التحول الفجائية نحو العلم في القرن السادس عشر. كما ارتكز التقدم في العلم، بعد ذلك، على تعزيز المكون الأمبريقي، بتطوير طرائق ملاحظة أكثر دقة.

إن العلم هو تقنية فكرية تتضمن تداخل مستمر ومنظم بين التفكير الاستدلالي المنطقي والملاحظة الأمبريقية. فالظواهر الملاحظة- أكانت مسار الكواكب، الذي يقوم بملاحظته عالم الفلك، أم سلوك الأطفال الذي يقوم بملاحظته عالم النفس- تشكل الوقائع الأساسية للعلم. إلا أن الملاحظة الأمبريقية للظواهر وما يترتب عنها من تعداد لها، لا تبرر وجود العلم ومعناه. فعلينا أن نتجاوز بفضوليتنا الظواهر التي نلاحظها، بشكل مباشر، لنتوصل إلى وضع قوانين عامة تخولنا إيجاد ضوابط للظواهر الطبيعية، وإلى إمكانية التنبؤ بها. إن ميزة العالم  الأساسية هي فضوليته، وتشككه، والتزامه، واعتماده على عمليات فكرية تساعده في اكتشاف الظواهر الطبيعية، ودمجها في تنبؤات متماسكة في تفسيرات وقوانين عامة.

الرجوع إلى الفهرس

 

Document Code PB.0166

MajzoubB1

ترميز المستند   PB.0166

 

Copyright ©2004  WebPsySoft ArabCompany, www.arabpsynet.com  (All Rights Reserved)