Arabpsynet

Livres  / كتــب /  Books

شبكة العلوم النفسية العربية

 

 

سيكولوجيــة الشائعــة

أ.د. محمــد أحمــد النابلســي

مركز الدراسات النفسية و النفسية الجسدية 2004

 

 

 

q       فهــرس الموضوعــات /  CONTENTS / SOMMAIRE 

 

المقدمة

الفصل الأول: مدخل إلى سيكولوجية الشائعات

-        أهمية الشائعة

-        أنواع الشائعات

-        مواصفات الشائعات وعناصرها

-        شروط نجاح الشائعة

-        شائعات فاشلة شهيرة وتحليلها

-        الآثار المتناقضة للشائعة.

1.      بحسب الجماعات

2.      بعد مرور الزمن

3.      بعد تأكيد نفيها

 

الفصل الثاني : الشائعات الأميركية في حرب العراق

1.      شائعات مكررة من 1991

2.       شائعات التمهيد للحرب

3.       شائعات أثناء الحرب

4.       شائعات ما بعد الحرب

5.      شائعات محجوبة

 

الفصل الثالث : تقنيات الشائعة

الفصل الرابع : نماذج من تحليل الشائعات

  

q       المقدمــة

 

    غالبا ما يبدو دخول السيكولوجيا إلى الميدان السياسي نوعا من الإقحام آو حتى الاقتحام. بما يستدعي سقوط المبررات وعرض الشروحات للروابط والمصطلحات الاختصاصية. وهذا يأتي كنتيجة لنجاح السياسة في استغلالها للسيكولوجيا، كما للعلوم الإنسانية الأخرى، واحتكارها هذا الاستغلال باتجاه واحد. فقد رفضت السياسة التحول إلى علم وتمكنت بهذا الرفض من شل إمكانيات مقاربتها بصورة علمية.

    إلا أن توسع السياسة في استخدام تطبيقات السيكولوجيا، وصولا إلى الشائعات الموجهة للرأي العام مرورا بانتقائية تسريب المعلومات وصولا إلى الحرب النفسية، جعل البحث في موضوع السيكولوجيا السياسية مقبولا حتى وصل هذا القبول إلى الإعلان عن دور حيوي للاختصاص في ميدان السياسة والمعلومات.

    ولعنا بحاجة للتذكير ببعض الأمثلة قبل الولوج إلى آلية الدفاع النفسية التي تعتمدها الشائعات وتؤسس عليها. ولائحة أمثلة تداخل السياسي بالسيكولوجي يتصدرها مثال يعود إلى العام 1953 عندما جرب أحد عملاء المخابرات الأميركية (ويدعى أولسون) عقار L.S.D. على أصدقاء له لاختبار الدواء كدافع لقول الحقيقة (مصل الحقيقة الذي يعطى للجواسيس كي يدلوا بالأسرار) ولم تكن تجارب تربية الأطفال العباقرة أو بعدها تجارب الهندسة الوراثية لإنتاج العباقرة) ببعيدة عن السياسة. فقد كانت النازية هي البادئة بهذا النوع من التجارب. ثم تابعتها المختبرات الأميركية. أما آخر الأمثلة التي نوردها فهي تتعلق بإنتاج الاتحاد السوفياتي لأسلحة غير تقليدية، دعيت في حينه. الأسلحة العقلية ا، ولا يزال اللغط دائرا حول هذه الأسلحة. حيث يعتبر بعضهم أنها من النوع الجرثومي المؤثر على الدماغ والجهاز العصبي. في حين يصر بعضهم الآخر على أنها مجرد شائعة شيوعية في إطار الحرب النفسية التي كانت دائرة آنذاك.

    وبهذا فإن الشائعات و الحرب النفسية تدخلان في إطار الطب النفسي العسكري الذي يسخر كل تقنيات الاختصاص للخدمة العسكرية سواء في زمن الحرب أو السلم. حيث تتوزع مسؤوليات الاختصاص وتتنوع باختلاف الحاجات. وتشكل ظروف الحرب ميدانا مميزا للاختصاص إذ تتحول مسئوليته إلى الإشراف على الحرب النفسية. التي تتمحور حول وقاية الداخل من الإرباك وتحصينه في وجه التجسس. كما المساعدة في عمليات التجسس المضاد وعمليات إرباك الخصم. وهي تتضمن كل وجوه النشاط الإنساني و المعلوماتي. ومنها الشائعات والأنباء والإعلام وتصنيع المعلومات وإعادة تصنيعها. وبالعودة إلى حرب العراق يمكن الحديث عن تطويرات كبيرة في مجال الحرب النفسية. حيث عمدت المختبرات الإعلامية الأميركية والعراقية إلى مراجعة وتتقيح وتطوير أدوات الحرب النفسية المستخدمة في حرب العراق الأولى (1991). حيث كان الترويع والتخويف أحد أهم الإضافات إلى تلك الحرب. وهي ما يسميه المسؤولون الأميركيون بمصطلح "الصدمة والترويع". في اعتراف ضمني بقذارة هذه الحرب على المدنيين وعدم مراعاتها لقدرتهم الإنسانية على الاحتمال. وهذا التجاوز المعلن لمبدأ الحرب النظيفة (تتجنب إيذاء المدنيين وتعريضهم لضغوط التهديد العسكري بطرق غير تقليدية وبأسلحة جديدة وأخرى محرمة دوليا) ينبئ باستعداد الولايات المتحدة لتكرار هذه القذارة وهذه المخالفات لقوانين حماية المدنيين في حروبها المقبلة.

    هذا وينظر الاختصاص إلى أحداث الحروب ومخاطرها على أنها تهديدات مباشرة للحياة. وهي بالتالي صدمات نفسية تحتاج للعلاج. وهنا يجب التفريق بين صدمات المقاتلين والمدنيين. حيث يهدف علاج المقاتلين إلى إعادة تأهيلهم لإعادتهم إلى الجبهات. في حين يهدف علاج المدنيين إلى معالجة القلق المرافق و إعادة الاطمئنان للمصدوم. مع الإشارة إلى أن الحروب القذرة لا تفرق بين المدنيين والعسكريين بحيث تكون تهديداتها متساوية للفئتين بما يناقض اتفاقيات جينيف. ولعله من المفيد بداية الحديث عن الشائعات باستعراض الدراسات السابقة حولها.

الرجوع إلى الفهرس

 

q       الفصـل الأول

 

مدخـل إلـى سيكولوجيـة الشائعـات

    ما هي شروط انتشار الشائعة؟. يجيب المؤلفون على هذا السؤال مز خلال مناقشتهم لحادثة المفاعل النووي في جزيرة ثري مايل، في بنسلفانيا فقد أثارت هذه الحادثة عددا من الشائعات التي يمكن اتخاذها كمثال لدراسة أسباب انتشار الشائعة وأسباب تكرار ظهور بعض الشائعات بصور مختلفة.

    ظهرت الأخبار الأولى عن الحادث الذي جرى في المنشأة النووية في جزيرة ثري مايل بالقرب من هاريسبورغ في بنسلفانيا في 28 آذار 1979 وبعد ثلاثة أيام انتشرت شائعة في المدن المجاورة تقول بأن المفاعل سينفجر وتمضي القصة قائلة بأن الانفجار سوف يدمر كل شيء على مساحة أميال حوله وينفث الإشعاع النووي وفق مناطق واسعة وعلى الرغم من وجود مخاطر حقيقية كثيرة فلم ليكن هناك خطر من انفجار وشيك ولتأكيد هذه النقطة ظهر هارولد رابي دانتون من لجنة تنظيم الشؤون النووية على التلفزيون ليعلن بوضوح أنه على الرغم من أن مفاعل المنشأة لا يزال تحت خطر جدي فإن غاز الهيدروجين المجتمع فيه لم يصل بعد إلى درجة قريبة من درجة الانفجار.

    كما أنه لم يكن هناك احتمال لانفجار نووي من مستوى قنبلة هيروشيما وحصول انفجار كيميائي لغاز الهيدروجين سيكون أقل قوة بكثير على الرغم من أنه قد يتسبب بحصول تصدع في غلاف الوعاء الحاوي مما يؤدي إلى نشر الإشعاع النووي في المنطقة الريفية المجاورة وكانت شائعة الانفجار واحدة من عشرات الشائعات التي سرت في منطقة هاريسبورغ وجوارها في الأيام التي أعقبت الحادثة، ذلك لآن حادثة جزيرة ترى مايل كانت مثالا رائعا للظروف المؤاتية لانتشار الشائعات، ففي الدرجة الأولى كانت النتائج المحتملة للحادث قاسية كالت تشكل تهديدا للحياة نفسها، ثانيا، كان هناك قلق كبير وحيرة بين الأهلين الذي كانوا يحاولون اتخاذ قرار حول ما إذا كان عليهم الفرار من بيوتهم أم لا.

    فكم من الناس عدا المهندسين والعلماء يمتلكون فهما كافيا لكيفية تمديد الأنابيب في المنشآت النووية؟. وكان هناك جانب مرعب آخر في الحادثة وهو يتمثل في طبيعة العدو الغامضة، فقد كان ذلك العدو إشعاعا مميتا لا يرى ولا يمكن التنبؤ بنتائجه.

    وفي محاولة لإيقاف موجة الشائعات افتتح الحاكم ديك ثورنبرغ مركز السيطرة على الشائعات في هاريسبورغ وكان يمكن لأي شخص أن يتصل بالهاتف بهذا المركز ليحصل على الحقائق. وعندما بدأت بعض الشائعات المتفائلة بالانتشار، شعر جويل ثمروتثالر وهو أحد مسئولي طوارئ الولاية في المنطقة بأن الأمر يشبه ما يحدث في رواية روسية بقوله: ويستمر الوضع في الهبوط والهبوط، والهبوط حتى نرى أنه لم يعد هناك مجال للمزيد من الهبوط، ثم يحدث شيء ما ويبدأ الصعود. لقد مررنا بأسبوع من الشائعات الفظيعة أما اليوم فهناك ما يمكننا أن نحسبه شائعة طيبة. ولكن الناس ستفقد ثقتها بالأخبار الطيبة لفترة من الزمن في حال حصل تسرب إشعاعي جديد في المنشأة، أو أي إنذار آخر من أي نوع هناك، فلا أظن آن ثقة الناس التي ضعفت بسبب الحادث سوف يمكنها أن تتحمل ذلك، وهذا الآن ما يثير قلقنا أكثر من قضية الإجلاء.

    ومع أن الشائعات التي نجحت عن حادثة جزيرة ثري مايل كانت من النوع القصير الأمد، فإنها بالتأكيد سوف تعاود الظهور لدى حصول آية أزمة مشابهة في المستقبل وحتى الشائعات التي تبدو تافهة تغوص في أعماق النفوس ليس لأنها تكون موضوعا للقيل والقال، والثرثرة الاجتماعية المثيرة بل لأنها تلامس الحيرة والقلق العميقين السائدين في زمن الشائعة. فقد حصل في سنة 1978 مثلا أن ظهرت شائعات حول بعض المنتجات الغذائية المشهورة، وتقول أحدها أن شركة ماكدونالد تضيف الديدان إلى سندويشات الهامبرغر التي تنتجها لتقوي من المحتوي البروتيني فيها، وتقول شائعة أخرى أنك إذا ما شريت الصودا وأكلت حلويات من ماركة بوب فسوف تتفجر معدتك. وحدث أن ذكر مذيع إحدى الإذاعات هاتين الشائعتين وسارع إلى القول بأن كلتا الشائعتين على خطأ ولكنهما انتشرتا في مناطق مختلفة من البلاد خلال تلك السنة.

    وقد اضطرت شركة ماكدونالد وشركة جنرال فودز منتجة بوب إلى إنفاق آلاف الدولارات في محلات إعلانية ونشاطات أخرى لدحض الشائعات. وتعتقد شركة ماكدونالد أن قصة الديدان بدأت في الصيف السابق في مدينة تشاتانوغا في ولاية تينيسي.

    وكانت الشائعة في البداية تقول بوجود عنصر غامض في سندويشات هامبرغر ويندي وهي شركة منافسة لماكدونالد. ويلاحظ أحد علماء النفس أن الخوف من وجود الديدان في الهامبرغر هو خوف معقول ومبرر لأن لحم الهامبرغر النيئ يفرم بشكل لولبي يشبه الديدان، ولكن سرعان ما انتقلت الشائعة لإلصاق صورة الديدان بسندويشاد ماكدونالد. وظهرت قصة حلويات بوب في غضون أسبوع واحد من إطلاق هذه المادة في إحدى مناطق البلاد وتقول الشائعة أن أحد الأولاد في الجانب الآخر من المدينة أو أحد مشاهير التلفزيون قد أكل ثلاثة أكياس من تلك الحلويات بينما كان يشرب الصودا فمات من جراء الانفجار الذي حصل بعد ذلك في معدته.

    وتستهوي هذه الشائعات حول ماكدونالد وبوب روكس أكثر ما تستهوي الأطفال الذين يحبون قصص الشقاوة والقصص الفظيعة.

    ونستطيع أن نتصور كيف أن الأطفال الذين يروجون مثل هذه القصص يباهون أمام رفاقهم بأنهم أكلوا من هذه المنتجات وبأنهم من المغامرين.

    ولكن هناك ما هو أكثر وأعمق من ذلك فاستمرار هاتين الشائعتين في الرواج قد يفسره القلق والحيرة في المجتمع حول ما يضاف إلى المنتجات الغذائية والكولسترول والمخاطر الصحية في بعض أنواع الطعام الذي تتناوله والتوترات والمخاوف التي تنتقل من الأهل إلى الأطفال. ويكفينا بالنسبة لهذه الدراسة أن نعرف الشائعة بأنها رواية منتشرة بين الناس دون أن يكونوا متأكدين من صحتها. وقد تعلم علماء النفس الكثير عن نشوء مثل هذه القصص وانتشارها منذ ظهور كتاب علم النفس الشائعة لغور ودون والبورت وبوستمان وهذا الكتاب هو أصل الأعمال في هذا الحقل.

    ويعتمدون قانون الشائعة الأساسي حسب هذا الكاتب وهو القانون الذي كان مقبولا حتى وقت قصير مضى يعتمد جزئيا على نظرية الجيشتالت في علم النفس التي قامت تؤكد أن الإدراك الحسي، للأشياء ينحو دائما نحو البساطة والانتظام والإحساس بالاكتمال، والشائعات تنبثق لتشرح المواقف المميزة التي تهمنا ولتريحنا من توتر الحيرة، ويفترض البورت وبوتسمان أيضا أن عدد الشائعات يتغير حسب أهمية موضوع الحدث ومقدار الغموض في الموقف.

    بالرغم من القبول الواسع الذي لقيه هذا القانون الأساسي في علم النفس الاجتماعي فإنه لم يثبت تجربيا. وتشير نتائج تحقيقات عديدة الآن إلى أن هناك متغيرات أخرى بالإضافة إلى الأهمية والغموض تؤثر على منشآ الشائعات ودوامها وقد قامت الدارسة في علم النفس الاجتماعي سوزان انطوني، في كلية ثمالوديت في واشنطن، بإحدى هذه الدراسات. وهي قامت مؤخرا باختبار الفكرة المتضمنة في إحدى نظريات كارل يونغ والتي تقول: إن الإثارة العاطفية ضرورية لاستمرار حياة الشائعة. وقد أجرت أنطواني اختبارا قياسيا في القلق المزمن لعدد من الطلاب الثانويين في فيلادلفيا، وعلى أساس نتائج الطلاب في الاختبار قامت باختيار الطلاب الذين كانوا يتميزون إما بدرجة عالية من القلق أو بالهدوء النسبي.

    ثم اختارت بضعة طلاب من كل نوع وأخضعتهم لمقابلة مع مرشد توجيهي للتحدث حول النوادي التي كانوا ينتمون إليها. وخلال تلك المقابلة قام المرشد، بطلب من الباحثة، بإطلاق شائعة تقول بأن صعوبات مالية قد تجبر النوادي على وضع حد لبعض أنشطتها ثم ذهب المرشد بعد ذلك تاركا الطلاب مع أعضاء آخرين في النوادي.

    عندما سئل الطلاب فيما بعد إذا كانوا قد ناقشوا الشائعة فيما بينهم وجدت أنطوني أن الطلاب ذوي الدرجة العالية من القلق نشروا الشائعة بحماس أكثر كثيرا مما فعله الطلاب الآمنون.

    وقد قام الباحث روسنو بالعمل مع أنطوني والعالمة النفسية ماريا جايفر بييريان من مدرسة لندن للاقتصاد في تجربة كان من شأنها أن أثبتت ووسعت ما اكتشفته أنطوني في تجربتها.

    وقاموا بإجراء دراسة في ثمانية من صفوف الكلية ونشروا شائعة تقول إن طلابا في صفوف أخرى قد ضبطوا وهم يدخنون الماريجوانا في امتحان نهائي. وكانوا قد قاموا قبل بضعة أيام بقياس درجات القلق المزمن عند الطلاب متبعين المثل الذي وضعته أنطوني في تجربتها السابقة، وبعد أسبوع سئل الطلاب إذا ما كانوا قد نشروا القصة.

    وكانت النتائج التي توصل إليها الباحثون (بالإضافة إلى الأبحاث التي نشرت في كتاب الشائعة والقيل والقال، وعلم النفس الاجتماعي والشائعة الذي ألفه روسنو بالاشتراك مع العالم الاجتماعي غاري ألان) إن هذه الأبحاث تدعم النظرية التي تقول إن الشائعة تنتج عن الامتزاج الأقصى بين الحيرة والقلق. وباختصار، فإن الشائعة تعيش إما لتحقيق الحاجات والتوقعات التي أثارتها أو حتى تخفض مستوى القلق.

    كان القانون الأساسي لدى البورت وبوتسمان يتفاعل مع الشائعات القصيرة الأمد التي تنتعش في غياب الأدلة التي تنقضها. ولكنها سرعان ما تحدث عندما تجد ما يدفعها أو عندما تصب في نواح ذات مغزى بالنسبة لحاجات الجمهور، وهناك حاجات وتوقعات لا تسكن ولا تهدأ ومن بينها الحاجة لفهم الوضع الإنساني والجوع لما هو فوق الطبيعة مما يجعل من الشائعة حاجة إنسانية واجتماعية. لذلك فإن أهم الشائعات هي تلك التي تستجيب لهذه الحاجات فتعاود الظهور تكرارا وتتجذر في بنية المجتمع الإيمانية والفلكلورية.

    وقد كان الناس منذ قرون ولا يزالون يتبادلون الشائعات غير المألوفة التي كان أبطالها غالبا من المخلوقات الأسطورية أو الوحوش أو من القادمين من كواكب أخرى.

    وكان يونغ يسمى هذه الحكايات بالشائعات التخيلية أو بالأساطير الحية، وكان يعتقد بأن الشائعات العادية تعتمد على الحشرية والسعي وراء الأشياء غير العادية أما الشائعات التخيلية فتحتاج إلى شيء غير ذلك إذ تحتاج إلى عاطفة عميقة مشتركة بين العديد من الناس. وكان يونغ ينظر إلى حكايات الصحون الطائرة كشائعات تخيلية ناجمة عن توتر عاطفي وكرب جماعي من حالة العالم. إضافة إلى رغبة لا واعية بمجيء قوة خارقة من ما وراء الطبيعة للتخفيف من المخاوف. فمشاهدات من نوع الصحون الطائرة يبلغ عنها منذ القرن السادس عشر. إلا آن هناك تزايدا في الإبلاغ عن هذه المشاهدات عم العالم كله منذ الأربعينيات من هذا القرن. ويبدو أن حكايات معاصرة عن الصحون الطائرة وركابها تدعم تفسير يونغ، ومعظم هذه الحكايات تتركز إما حول مخلوقات عليا طيبة أتت لإنقاذ الإنسانية أو حول مخلوقات شريرة بتهديدها أهل الأرض بأجمعهم تلعب دورا في توحيد أصحاب العقائد المختلفة ضد عدو مشترك.

    ومن أقدم الشائعات التي راجت في الولايات المتحدة مجموعة من الروايات حول الأطفال الشيطانيين. وأولى هذه الروايات المذكورة تدور حول طفل افترض أنه ولد لامرأة تدعى السيدة ليذر من ليدزيونيت ولاية نيوجرزي في عام 1735. وتقول الرواية إن السيدة لم تكن راضية بعيشها في الحياة. وأنها كانت أما لاثني عشر طفلا وأنها لذلك دعت إبليس لأن يلعن حملها الثالث عشر. وتمضي الرواية قائلة إن الطفل له مع مرور الوقت أجنحة وذيل كذيل السحلية وحوافر ووجه الحصان. وكما يمكننا أن نتوقع فإن شيطان ليدز، المعروف أيضا باسم شيطان جرزي لا يموت. وكان يشاهد لسنوات عديدة في النواحي الجنوبية لنيوجرزي. وخاصة في المستنقعات في منطقة باينبارينز. القرن التاسع عشر سرت شائعة مفادها أن أحد القضاة المحليين قد عقد صداقة مح ذلك الوحش. وكان الاثنان يتناولان طعام الإفطار سوية ويتباحثان في الشؤون السياسية. ويبدو أن ذلك الشيطان كان لا يزال حيا حتى عام 1966 وبصحة جيدة. فقد روى أحد جنود الولاية أنه شاهد أثر حافر أكبر من كف الإنسان، وقد أطلق هذا الكلام موجة جديدا التكهنات حول ذلك الوحش الشيطاني. ويمكن تفسير بعض الشائعات القديمة أيضا بكونها انعكاسات للصور الخطية الأصلية وموت الأب وهي فكرة تتناقلها الأجيال المتعاقبة في تراثها وتشكل أحد الموضوعات التي تستمر في العيش في التراث والأساطير الشعبية.

    ولقد سرت شائعة من هذا القبيل في الولايات المتحدة في أواخر 1969 تقول إن بول ماكارثي عضو فرقة البتلز الغنائية قتل في حادث سيارة وأن بديلا له أخذ مكانه. وسرت الشائعة كالبرق عبر البلاد وتناقلتها صحف الجامعات والأحاديث بين الطلاب تغذيها الهمزات والتلميحات. وتشبه شائعة ماكارثي أسطورة الإله الإغريقي ديو نيزيوس، الذي قيل إنه لقي مصرعه بعنف ثم أعيد إلى الحياة. هذا ويؤكد دارسو الكوارث أن المواقف الكارثية تنتج نوعا غريبا من الشائعات الدائرية التي تبدو في ظاهرها مثيرة للقلق ولكنها في الواقع قد تؤدي إلى خفضه. فالناس الذين يتجمعون مصادفة في أعقاب كارثة ما، مثلا قد يتناقلون بعض الشائعات التي يمكن أن تؤدي إلى التخفيف من القلق حول المشاكل المشتركة. فبعد الزلزال الذي حصل في الهند في عام 1934 مثلا سمع الناجون شائعات بوقوع كوارث أسوأ. ويفترض عالم النفس ليون فيستنفر في كتابه نظرية التفاوت المعرفي أن الشائعات ساعدت في تخفيض التفاوت العاطفي الناجم عن شعورهم بالذنب لبقائهم على قيد الحياة بعد الزلزال. ويمكننا القول بأن إعطاء الناجين من الزلزال شائعات ترعبهم فإن هذه الشائعات سوف تساعد في صرف انتباههم عن القلق الذي ينتابهم لكونهم نجوا من الكارثة بينما هلك أصدقاؤهم وأقرباؤهم. وبما أن الشائعات تفسر الأحداث وبذلك تخفف من التوتر الذي ينجم عادة عن الغموض، فهي تنتعش في أجواء السرية والتنافس. ويعلم العاملون في المكاتب مثلا، كيف تسري الشائعات بسرعة عبر ممرات المكاتب عندما يستلم رئيس جديد أو عندما تنتقل المكاتب إلى بناء آخر ...إلخ. والشيء نفسه يحصل عندما يتفاوض رؤساء الدول فتنتج المفاوضات طوفانا من الشائعات عن سير المفاوضات.

    ونعطي مثالا على ذلك شائعة عالمية خطيرة سرت عام 1977 عندما ألقي القبض في موسكو على المراسل الصحفي الأميركي روبرت توث من صحيفة لوس أنجلس تايمز بتهمة الحصول على أسرار رسمية حول الأبحاث السوفيتية في حقل الإدراك الحسي. وعقب ذلك نشرت صحيفة نيويورك تايمز مقالا في صفحتها الأولى ألمحت فيه إلى احتمال وجود علاقة بين حادثة إلقاء القبض على المراسل وبين تصريح أدلى به رئيس الحزب الشيوعي السوفياتي بريجينيف (أشار فيه إلى سلاح جديد غامض أكثر هولا من أي سلاح عرفه العالم حتى الآن. وهناك دليل على أن بريجينيف كان يشير إلى الأبحاث حول الإدراك فوق الحسي.). ولكن بالنظر إلى العلاقة السوفياتية الأميركية المتوترة في ذلك الحين. فإن تصريح بريجنيف كان غامضا بما فيه الكفاية ليطلق شائعات مفادها أن الاتحاد السوفياتي هو في سبيله للتحضير لشيء ما يمكن تسميته بـ حرب العقل. وقد تختفي مثل هذه الشائعات لسنوات ثم تظهر في يوم ما وتجتاح البلاد.

    ومن الأمثلة المثيرة على مثل هذه القصص قصة مزحة الملفوف الكبرى. وهي شائعة انطلقت في واشنطن في الأربعينيات من هذا القرن كردة فعل على حملة ضبط الأسعار خلال الحرب العالمية الثانية. وتقول القصة إن مكتب ضبط الأسعار أصدر مذكرة حول تحديد أسعار الملفوف. ولم يكن هناك شيء غير عادي في المذكرة سوى أن المذكرة كانت تتآلف من 26911 كلمة. وانتشرت قصة المذكرة في الأوساط الحكومية لفترة من الزمن مسببة الإحراج الذي سببته لآهل البيروقراطية الإدارية ثم اختفت وعادت القصة إلى الظهور عام 1951 في مؤتمر عقدته رابطة صانعي الألبسة الجنوبية، عندما قدم عريف المؤتمر مدير مكتب تثبيت الأسعار وقال مازحا أن خطاب غيتيسبيرغ كان يتألف من 266 كلمة وكانت الوصايا العشر تتألف من 2997 كلمة وتضمن إعلان الاستقلال 1348 كلمة بينما تضمنت مذكرة مكتب تثبيت الأسعار 26911 كلمة، وظهرت القصة خلال الأشهر التالية في عشرات الصحف مع بعض التحريف أحيانا. فقد قالت بعض الصحف أن مكتب تثبيت الأسعار أصدر مذكرة "من 26911 كلمة لضبط أسعار أبواب الضباب. و قد عاشت كلتا الروايتان عن مذكرة الملفوف لبضع سنوات ثم اختفت لتعاود الظهور في نيسان 1988 عندما عادت الشائعة إلى الظهور ثانية. وكان ظهورها هذه المرة في إعلان لشركة موبيل نشر في صحف مشهورة ويظهر في الإعلان شكل كرتوي يدعى بابيلدني بيت وهو يعد كلمات الصلاة و خطاب غيتيسبرغ وإعلان الاستقلال ثم تساءل كيف إذن تحتاج الحكومة الاتحادية إلى 26911 كلمة لتصدر مذكرة لضبط أسعار الملفوف؟!

    وكان للصحافة دورها إذ ذكر والتر كرونمكايت، الرواية في نشرة الأخبار المسائية في أحد التلفزيونات المحلية التابعة لشبكة سي بي أس، وفي هذه المرة اتخذت الشائعة أبعادا دولية ومرت بتحول جديد. وقد نقلت جريدة لندن كلاما لأحد الخطباء في مؤتمر غذائي جاء فيه " إن في الصلاة 56 كلمة وفي الوصايا العشر 297 وفي إعلان الاستقلال الأميركي 300 كلمة أما في التوجيه الإداري للسوق الأوروبية المشتركة حول تصدير بيض البط فهناك 26911 كلمة.

    إن هذا النمط الدائري لشائعة الملفوف يعكس المد والجزر في الحيرة والقلق اللذين ينتابان المجتمع الأميركي. فحيثما يكون هناك شعور بالقلق من الحكومة وحيرة حول نواياها ومصداقيتها تعود الشائعة إلى الظهور وهذا ما حصل بعد فضيحة ووترغيت. حيت قصة الملفوف تعزز المخاوف القديمة من عدم كفاءة الأجهزة الحكومية ومات الأسلوب البيروقراطي في إصدار التعليمات ذات الكلمات الجوفاء الغامضة وتكرار سماع الشائعة يعزز إمكانية تصديقها في بداية الأمر، ولكن هذا التكرار يؤدي إلى عكس ذلك عندما تنخفض حدة الحيرة والقلق. وعندما يصل القلق إلى نقطة دنيا تختفي الشائعة ولكن مؤقتا.

    في العادة تتراجع الشائعات عندما يصبح المجهول معلوما وتزول أسباب الغموض. ولكن المواضيع والأفكار العميقة المتضمنة في بعض الشائعات تبدو كأنها لا تموت وهي تصبح جزءا من البنية الاعتقادية للمجتمع وانعكاسا لما يشغل بال الناس ولما يحلمون به. إن طرفة الملفوف شائعة حديثة العهد نسبيا ولكن أمثالها تعمر طويلا. ومن المحتمل أن تعيش طالما كان هناك بيروقراطيون وكان توماس كارلايل قد وصف التاريخ بأنه عملية تقطير للشائعات: وإن أوهامنا تتفاعل مع احتياجاتنا وآمالنا وينتج عن هذا التفاعل ظروف خصبة تعيش فيها الشائعات التي تنتشر الآن بسرعة أكبر من ذي قبل بواسطة الراديو و التلفزيون ووسائل الإعلام المتطورة. فحينما يتم الإبلاغ عن مشاهدة صحن طائر مجهول الهوية في مكان ما من البلاد نجد آن ذلك ينتج سلسلة من البلاغات عن مشاهدات مماثلة في أنحاء أخرى. وعندما يصل الناس في نفاذ الصبر من البيروقراطية الحكومية إلى حد ما تعود قصة الملفوف إلى الظهور من جديد وتأخذ الصحف والتلفزيون والراديو في نقلها من أقصى البلاد إلى أقصاها في ظرف ساعات معدودة.

    إن فعالية وسائل الإعلام قد أوجدت طاحونة شائعات متمادية من شأنها إما أن تقرب الناس من بعضهم البعض أو ترفع من حدة قلقهم وأوهامهم وفي كلتا الحالتين نجد أن تكرار الشائعات التي لها جذور ممتدة في القرون الماضية يرينا أن الناس لم يتغيروا كثيرا عبر التاريخ. قد تكون أساليب حياتهم مختلفة الآن عما مضى إلا آن قلقهم وأوهامهم لا تزال كما هي.

الرجوع إلى الفهرس

 

Document Code PB.0167

Naboulsi B35

ترميز المستند    PB.0167

 

Copyright ©2004  WebPsySoft ArabCompany, www.arabpsynet.com  (All Rights Reserved)