Arabpsynet

 مقـالات أصيلة  / Original Articles

شبكة العلوم النفسية العربية

 

 المدرســة المصريــة في علــم النفــس الحديــث

د. عبد الرحمن العيسوي

أستاذ علم النفس بجامعة الإسكندرية

 الثقافة النفسية المتخصصة - العدد 54  أبريل / نيسان 2003

 

     مدخل : لعلم النفس الحديث تاريخ قصير نسبيا، في مجتمعنا المصري وفي العالم كله، ولكنه يسير بخطوات سريعة نحو التقدم والنمو والازدهار والتنوع، بحيث أصبح يمد خدماته إلى مختلف مجالات الحياة العصرية، وإلى مختلف طوائف المجتمع السوي منها والشاذ. وتمتاز المدرسة المصرية في علم النفس بتعدد أبعادها وتنوع اتجاهاتها الفكرية والمذهبية والتطبيقية. فلقد تناول علماء النفس المصريون هذا العلم الفتي الناشئ من رؤى وزوايا متعددة وبذهنية متفتحة. وعلم النفس وان كان منقولا عن العلوم الغربية، إلا أن له جذورا عربية وإسلامية عميقة يحفل بها التراث الإسلامي العظيم.

    فلقد عرف علماء الإسلام كثيرا من المفاهيم والتصورات والمعاني والمناهج النفسية حتى قبل أن يستقل علم النفس الحديث وينسخ عن "أمه " الفلسفة التي كانت تحتضن كل العلوم ومختلف المعارف في العصور اليونانية والرومانية والوسيطة. فلقد أدرك علماء الإسلام من أمثال ابن سينا والرازي والكندي والغزالي والفارابي وابن رشد وإسحاق بن حنين وغيرهم، أدركوا كثيرا من الأعراض والأمراض العقلية والنفسية وتحدثوا عنها ونجحوا في تشخيصها وفي علاجها، من ذلك الخبل والعبط والمانخوليا والسرسام والحزن والغم والاكتئاب والهستيريا، وأدركوا كثيرا من الأعراض. كالوساوس والهلاوس والهذاءات أو الضلالات.

ولقد شهد علم النفس تقدما هائلا على أيدي العلماء المصريين الذين ربطوه بالقيم الإسلامية والمثل الأخلاقية العربية وحاولوا طبعه بالطابع المصري وبالثقافة العربية ولم يقصروا اهتماماتهم على مدرسة واحدة من مدارسه، أو الأخذ باتجاه منهجي واحد كالمنهج الإحصائي أو المنهج التحليلي، وإنما اهتموا بكل الاتجاهات الفكرية والمنهجية والمذهبية في علم النفس الحديث، حتى أن الباحث الواحد تناولت أبحاثه واهتماماته الجانب التحليلي المنحدر إلينا من أعمال سيجمند فرويد ومدرسة التحليل النفسي، تلك المدرسة التي قامت في النمسا والتي سرعان ما انتقلت لتجوب كل أنحاء العالم. اهتم علماء مصريون من الرعيل الأول من أمثال يوسف مراد وإسماعيل القباني واحمد عزت راجح ومصطفى زيور.

    وازدهر علم النفس التكاملي أي المتعدد الاتجاهات على يد علماء أفذاذ من أمثال كمال دسوقي ولويس كامل مليكة واحمد زكي صالح ورشدي منصور فام وفؤاد البهى السيد وعطية محمود هينا ومحمد خليفة بركات، ومن لحقوا بهم من أصحاب الاتجاهات المتعددة كمحمد عبد الظاهر وفرج عبد القادر طه وفرج احمد فرج ومحمود أبو النيل ومحمود منسى وعبد الوهاب كامل ومحمد سلامة وغيرهم ممن تتلمذوا على أيدي الرائدين الأولين لعلم النفس عبد العزيز القوصى ومصطفى فهمي، من أمثال فؤاد أبو حطب وحامد زهران وفاروق صادق وآمال صادق. وقاد حركة الإهتمام بدراسة الظاهرة الإبداعية مصطفى سويف ومصري حنورة وعبد الحليم محمود. واهتم صلاح حوطر بإدخال علم النفس وتطبيقاته في حل الخدمة الاجتماعية وحل مشكلات المجتمع.

   ووحد علم النفس طريقه للتطبيق عن طريق الأعمال المتصلة لعلماء النفس بالمركز القومي للبحوث الاجتماعية والجنائية خاصة ظواهر الإجرام والانحراف والعدوان والإدمان والبطالة وأطفال الشوارع وما إلى ذلك.

    ووحد علم النفس طريقه للتطبيق في مختلف مجالات الحياة العصرية كالمجال التربوي والاجتماعي والإكلينيكي والعسكري والحربي والإداري والسياحي والإعلامي والسياسي والاقتصادي، وفي مجال رعاية الأحداث والجانحين ومدمني الخمور والمخدرات وفي السجون والإصلاحات. وكان من جهود أقطاب هذا العلم أن صدر قرار وزاري بتعيين أخصائي نفسي في كل مدرسة من مدارس الجمهورية بمختلف مستوياتها ومراحلها التعليمية وهذه خطوة رائدة في طريق التنمية البشرية والاجتماعية.

    وما زالت الجمعية المصرية للدراسات النفسية والجمعية المصرية لخريجي علم النفس (رانم) تواصلان السعي الجاد لتعيين أخصائي نفسي في المؤسسات الصناعية والإنتاجية والإدارية والسياحية وفي كل تجمع بشري، ليتولى تقديم الرعاية النفسية تشخيصا وعلاجا ووقاية لأبناء هذه المؤسسات والعاملين بها خاصة بعد أن اثبت علم النفس، بكل جدارة، جدواه وأهميته في رفع الكفاءة الإنتاجية كما وكيفا وحماية العمال والموظفين من التوريط في حوادث العمل وإصاباته. ومن التعرض للإصابة بالأمراض المهنية، وفي علاج الحالات النفسية والاضطرابات العقلية التي قد تظهر بين العاملين بهذه المؤسسات مما يسهم في دفع عملية الإنتاج وزيادة كفاءة المؤسسات. ومدرسة الإسكندرية في علم النفس، تعد امتدادا طبيعيا لمدرسة علم النفس المصرية الكبرى، ولقد شهدت تقدما بارزا ونهضة شاملة- كان كاتب هذه السطور، بكل تواضع، من لين تلاميذها- فلقد بدأ علم النفس في بلادنا بداية متواضعة خجولة انحصر جل الاهتمام فيه على دراسة بضع ساعات لطلاب عدد قليل من الكليات والمعاهد العليا في تخصصات محدود كعلم النفس العام وتاريخ علم النفس وعلم النفس الصناعي والاجتماعي والتربوي، ولكنه سرعان ما ازدهر وغصن ونما أفقيا ورأسيا.

    وتاريخ علم النفس، إن كان قد شهد تقسيما لأعماله ورجاله إلى مدارس كالتحليلية والسلوكية والوظيفية والغرضية والبنائية والترابطية والتجريبية، فإن علماء النفس المصريين لم يحصروا أنفسهم في اتجاه واحد بعينه، وإنما اخذوا من كل بستان زهرة فجمعوا هذه الاتجاهات جميعا وصهروها في بوتقة واحدة متعددة الاتجاهات والأبعاد والمناهج والرؤى. خاصة بعد أن سقطت هذه المدارس في الفكر الغربي وحلت محلها اتجاهات فقط ومناح ينظر من خلالها للظواهر النفسية محل الدراسة، كالإدراك والتفكير والتخيل والصتور والتعلم والتذكر والإبداع والتجريد والتعميم والتمييز والانفعال والنقد والمقارنة والتحليل والتركيب.

    تلك المدرسة التي ركزت الاهتمام نحو مرحلة الطفولة الباكرة في حياة الكائن البشري واعتبرتها المرحلة التي توضع فيها بنور الشخصية الأولى أو جذورها الأولى التي تمتد طوال رحلة الحياة.

    ومدرسة التحليل النفسي ينظر إليها على أنها مدرسة أتت بنظرية في تفسير الشخصية وفي بنائها، كما ينظر إليها على أنها منهج من مناهج العلاج النفسي لعلاج الأمراض والاضطرابات النفسية بالكشف عن أسبابها اللاشعورية الحسية. وتمثل هذا الاتجاه فيما يكتب عن مدرسة التحليل النفسي وعن الشعور واللاشعور وعن تكوين الشخصية والطفولة والمراهقة وعمليات النمو ومراحله خاصة النمو الجنسي. وتضافر هذا الاتجاه التحليلي مع الاتجاه الكمي التجريبي العلمي الموضوعي القائم على أساس إجراء التجارب وتطبيق الاختبارات والمقاييس النفسية والعقلية وتحديد كم وكيف ما يمتلك الإنسان من تلك القدرات أو ما يعانيه من العلل والأمراض والاضطرابات تحديدا كميا رقميا عدديا، وما يتبع ذلك من إجراء التحاليل الإحصائية فيما يعرف باسم الإحصاء الوصفي والإحصاء التفسيري أو التأويلي. وقد تمثل هذا الاتجاه في مؤلفات مثل "الإحصاء السيكولوجيالتطيقي" أ و "المنهج الكمي في الدراسات والبحوث النفسية والاجتماعية والتربوية" لكاتب هذه السطور، ويتمثل هذا الاتجاه في تقنيات مقاييس النزعة المركزية والتشتت والارتباط ومقاييس الدلالة الإحصائية البارامترية واللابارامترية وبذلك تنحو المدرسة المصرية في علم النفس بهذا العلم الناشئ منحا علميا.

    لقد اهتم الرعيل الأول من أقطاب هذه المدرسة بحركة الترجمة ونقل التراث السيكولوجي الغربي والأمريكي إلى المكتبة العربية، وذلك قبل أن تنشط حركة التأليف العربي في هذا المجال الخصب، ولذلك وجدنا مؤلفات مترجمة في ميادين علم النفس وفي مناهجه ومدارسه وفروعه المختلفة كالصحة العقلية التي أسهم في نقلها احمد عزت راجح ويوسف مراد وإسماعيل القباني، وكان من نصيب محرر هذه الكلمات ترجمة كتاب "النمو الروحي والخلقي في الأطفال" وكذلك كتاب "طبيعة البحث السيكولوجي". ضمن السلاسل التي اشرف على صدورها ورعايتها محمد عثمان نجاتي. واهتم أقطاب هذه المدرسة بمعامل علم النفس ومختبراته، فتم تزويد هذه المختبرات بالأجهزة والمعدات والأدوات والمقاييس والآلات الصالحة للتطبيق على أبناء المجتمع العربي بعد تطويرها وتعديلها.

    وتجلت أعمال المدرسة المصرية في علم النفس في حركة صدور المعاجم والقواميس ودوائر المعارف، فظهر العديد منها ضمن أعمال فرج عبد القادر طه وحسين الدريسينى وحامد عبد السلام زهران، وكاتب هذه السطور، حيث صدرت له عدة معاجم آخرها قاموس مصطلحات علم النفس الحديث والتربوية. ولا تخلو مؤلفاته من قوائم بالمصطلحات الإنجليزية ومقابلاتها العربية، بقصد تيسير الفهم والقراءة والإطلاع لدى شبابنا المتطلع للتخصص في هذا المجال الخصب الذي لا بد لصاحبه من إتقان اللغة الإنجليزية.

    وخاض علماء النفس المصريون غمار معركة قوية أرسوا خلالها حركة نقل الاختبارات والمقاييس النفسية والعقلية والتربوية والاجتماعية من أصولها الغربية والأمريكية إلى البيئة المصرية والعربية، بعد أن نجحوا في تعريب هذه الأدوات القياسية وطبعها بالطابع العربي، وبعد أن أعادوا تقنينها، ووضع معايير جديدة لتفسير معطياتها المستمدة من البيئة العربية والمصرية الصرفة، بحيث لا نقارن درجة الطفل المصري، صاحب الإطار الثقافي الخاص، بزميله الأمريكي أو الإنجليزي، وإنما نقارنه بنتائج أقرانه من المصريين وحسب، وبذلك ازدهرت حركة القياس في ظل المدرسة المصرية في علم النفس ، ونمت على أيدي كثيرين ممن اهتموا بوضع الاختبارات الجديدة كإسماعيل القباني ويوسف مراد واحمد زكي صالح وفؤاد البهى السيد والسيد محمد خيري، وكاتب هذه السطور، ونجحت المدرسة المصرية في علم النفس في وضع علم النفس في مصاف العلوم الطبيعية والتجريبية. فتتكاتل الاتجاهات في المدرسة المصرية في علم النفس من ناحية التنظير والنظر وكذلك من الناحية التطبيقية، حيث تجرى البحوث الميدانية ذات الطابع التحليلي والإحصائي وإلى جانب ذلك ينحو علم النفس في المدرسة المصرية نحو التطبيق في مجالات علم النفس الإكلينيكي وما يتضمنه من التشخيص والعلاج وبرامج الوقاية إلى جانب تطبيقه في المجالات العسكرية والحربية وفي حقل من أخصب حقول علم النفس ألا وهو الحقل التربوي والتعليمي. فالمدرسة النفسية المصرية من ابرز معالمها أنها تحليلية وكمية أو إحصائية وقياسية في آن واحد وكذلك إنها مدرسة في النظر والتنظير وفى التطبيق والوقاية والعلاج. والمأمول أن يزداد الاهتمام بالاتجاه التجريبي وان يتجه البحث الميداني للتصدي لمشاكل المجتمع في التنمية وفي البطالة والإدمان والعنف والجريمة والتوعية الوطنية وترسيخ مشاعر الانتماء الوطني والعربي والإسلامي وحل مشكلات الأسرة الحديثة وتحريرها مما يكبل طاقاتها من المشكلات والأزمات والتوترات والأعباء التي تنوء بها قدراتها المالية خاصة في ضوء امتصاص الدروس الخصوصية جل دخولها وفي ضوء اشتغال الأم والأب، والدخول بمصرنا الحبيبة في عصر العولمة والانفتاح الفكري والفضائي والعالمي، وانتشار قيم الجودة والإتقان والتحسين والأمانة فيما تقدمه من السلع والخدمات والاهتمام بالجوانب الأخلاقية في سلوك أفراد المجتمع، وحمايتهم من طغيان النزعات المادية والإلحادية والبعد عن مظلة الإيمان وتنمية روح التضحية والفداء والبذل والعطاء وعدم الانبهار بالثقافة الغربية والسير في ركابها وتقليدها تقليدا عشوائيا. لقد أتى حين من الدهر كانت البحوث النفسية تهتم بالنظر والتنظير وتطيق تقنيات إحصائية جافة وجامدة كالتحليل العاملي بصورة آلية ميكانيكية حرفية وفي خضم هذا الاتجاه الإحصائي الجاف ضاعت البصيرة السيكولوجية والوعي السيكولوجي والاستبصار السيكولوجي لمشكلات المجتمع وأفراده وأعراضهم وآمالهم وآلامهم. لقد خفت في بلاد الغرب، حركة "التحليل العاملي " والاهتمام فقط بمعرفة ما إذا كانت القدرة أو السمة عبارة عن سمة واحدة أم انها من الممكن تقسيمها إلى عدة سمات أو قدرات فرعية مستقل بعضها عن البعض، كأن ننظر للذكاء على انه مكون من عاملين هما العامل العام والذي يوجد في جميع الأنشطة الذهنية والعامل الخاص الذي يظهر في نشاط معين مثل النبوغ في الموسيقى أو الرياضيات أو الآداب. أم انه ينظر إليه على انه قدرة واحدة فقط.

    علم النفس أداة فاعلة في معركة الحياة وفي ملاحم التنمية والتطور والتقدم والازدهار وخاصة التنمية من جانبها البشري أو الإنساني، وهو أداة من أدوات التطوير والتقدم والرخاء. ويستهدف تحقيق المزيد من سعادة الإنسان وتكيفه وتمتعه بالصحة النفسية والعقلية الجيدة، وفوق كل شيء ترسيخ وتدعيم إيمانه بالله الخالق العظيم. وبالوطن وقادته وفي تنمية روح الإخاء الوطني والتماسك الاجتماعي والوحدة والاتحاد والتساند الاجتماعي والانصهار جميعا في بوتقة واحدة هي مصريتنا وعروبتنا وإسلامنا الخالد إلى الأبد. وما زالت المدرسة المصرية في علم النفس تسير قدما بفضل جهود العديد من علمائنا الشباب من أمثال عبد الفتاح دويدار ومحمد سمير عبد الفتاح وحمدي محمد ياسين وحسين سعد الدين ومايسة النيال ومدحت عبد الحميد ومحمد نجيب الصبوة وغيرهم من الذين يحملون الراية ومشعل التقدم والنماء في هذا الفرع الحيوي من فروع العلم الحديث الذي أصبح يدرس في كثير من كليات الجامعة والمعاهد العليا ومراكز البحث والكليات العسكرية.

 

سعيا وراء ترجمة جميع صفحات الشبكة إلى الإنجليزية و الفرنسية نأمل من الزملاء الناطقين بالإنجليزية و الفرنسية المساهمة في ترجمة هذا البحث و إرساله إلى أحد إصدارات الموقــع : الإصــدار الإنجليــزيالإصــدار الفرنســي

 

Document Code OP.0030

IssaouiEgyptPsy.School 

ترميز المستند OP.0030

 

Copyright ©2003  WebPsySoft ArabCompany, www.arabpsynet.com  (All Rights Reserved)

 

 

تـقـيـيــمــك لهــذه المقالــة

****

  ***

**

*