|
||||
ظواهــر التزامــن
كمثــال علــى قصــور علــم النفــس اليونغــي
الجزء الأول د. جمــال نصــار حسيــن ص.ب 941342 الشميساني، عمان 11194، الأردن |
||||
|
||||
بِسْمِ اللهِ
الرَّحْمنِ الرَّحِيم بقي عالم النفس
السويسري كارل غوستاف يونغ لمدة عشرين سنة يشير بشكل متناثر في كتاباته
إلى نظرته إلى مشكلة المتزامنات قبل أن يبادر إلى الكتابة عنها بشكل
تفصيلي ومباشر. ولذلك كان يستهل بحثه عن هذا الموضوع بقوله: «بكتابتي لهذا البحث، فإنني أكون، إذا جاز التعبير، قد
نفَّذتُ وعدا بقيت لسنوات عديدة افتقد الشجاعة لتنفيذه. بدت لي صعوبات المشكلة
وكيفية عرضها هائلة؛ والمسؤولية الفكرية هي أيضا هائلة، والتي بدونها لا يمكن
معالجة هذا الموضوع» (Jung, 1977a: 419). والسبب في هذا التردد هو أن المتزامنات بشكل
عام ليست بالظواهر التي تسهل دراستها على الإطلاق، كما أن نظرة يونغ هو بالذات
إلى هذه الظواهر ليست بالنظرة المألوفة التي يمكن أن تُتَقبَّل بسهولة. لذلك نجد
يونغ يطلب من القارئ في مقدمة بحثه بأن يتزود ب «تفتح
ذهني وودّية» ليس فقط لأنه يتوقع من القارئ «أن
يغوص في أماكن للخبرة البشرية مظلمة ومريبة ومحاطة بسياج من الحُكم المُسبَق»،
ولكن أيضا لان «الصعوبات الفكرية هي كبيرة بالقدر
الذي تحتمه معالجة وتوضيح موضوع بهذه الدرجة من التجريد abstraction» (Jung, 1977a: 419). ثم يكمل يونغ
مشيرا إلى انه بمعالجته لموضوع المتزامنات فإنه لا يدعي تقديم وصف وتفسير كاملين
لهذه المشكلة المعقدة وإنما يحدد طموحه بأن تكون الدراسة التي يقدمها هي «محاولة لطَرْق الموضوع بشكل يكشف عن بعض مظاهره
وارتباطاته المتعددة، ويفتح مجالا غامضا جدا ذا أهمية عظيمة من الناحية
الفلسفية» (Jung, 1977a: 420). إلا أن نغمة التواضع هذه سرعان ما تختفي من نص البحث حين يعالج يونغ
العديد من المواضيع بثقة لا مبرر لها. إن الصعوبة التي وجدها يونغ في معالجة
موضوع المتزامنات يمكن إدراكها من ملاحظة انه وعلى الرغم من كونه كاتبا غزير
الإنتاج فانه لم يخصص للمتزامنات غير بحث واحد فقط! لاشك أن سبب تخصيص يونغ لجزء
محدود جدا من كتاباته للمتزامنات هو انه لم يكن لديه الكثير ليقوله عن هذه
الظواهر الغامضة للغاية، إذ يبدو أن يونغ وضع في البحث الذي كتبه كل ما أراد
وتمكّن من قوله عن هذا الموضوع. استخدم يونغ مصطلح المتوافقات
في الحدوث بشكل عام ليشمل به كل تجمعات الحوادث التي بينها عنصر تشابه؛ تلك التي
يمكن أن تكون نتاج صدفة والتي ليست بصدفة، مشيرا إلى أن التوافق في الحدوث
coincidence يجب أن يعتبر صدفة طالما لم يتجاوز حدود ما تسمح
به نظرية الاحتماليّة. فهو يعتبر مثلا الحوادث المتوافقة في الحدوث التي جمعها
كاميرير (1) نتاجات عشوائية ولذلك يعلق عليها قائلا بأنها «لا تحتوي على أي شيء سوى بيانات صدفية قانونها الوحيد هو
قانون الاحتماليّة؛ أي بعبارة أخرى، ليس هنالك أي سبب ظاهري لبحثه عن أي شيء آخر
وراءها» (Jung, 1977a: 425). ولذلك يعتبر يونغ هذه المتوافقات في الحدوث «غير
ذات معنى» meaningless (Jung, 1977a: 426). أما النوع الثاني
من المتوافقات في الحدوث فهي التي يشير إليها يونغ بأنها «ذات معنى» meaningful ، والتي اعتبرها، خلافا للظواهر التي اهتم بها كاميرير،
فوق مستوى الاتهام بأنها قابلة للتفسير بواسطة قوانين احتمالية الصدفة. أما عن
كيفية التوصل إلى أن وقوع عدد معين من الحوادث يجب أن يُعتبر «متوافقة في الحدوث ذات معنى» وليس توافقاً
عشوائياً تفسره قوانين احتمالية الصدفة فيقول يونغ: «يمكن
التفكير في المتوافقات في الحدوث ذات المعنى على أنها صدفة خالصة. ولكن كلما
تضاعفت وكلما كان التقابل [بين الحوادث] اعظم واكثر دقة، ضعفت احتماليّتها
وازدادت لا معقوليتها، إلى أن تصل حداً لا يمكن بعده اعتبارها صدفة خالصة ولكن،
بسببٍ من عدم وجود تفسير سببي، يجب التفكير بها كترتيبات ذات معنى» (Jung,
1977a: 518-519). في الحقيقة، أن موقف
يونغ هذا يتضمن خطأين جسيمين بالإمكان استنتاجهما. أولا، أن يونغ لم يدرك أن
اعتبار أية مجموعة من الحوادث متوافقة في الحدوث يتضمن بالضرورة الإقرار
بأنها «ذات معنى»، ولذلك فإن تعبير متوافقة في الحدوث غير ذات معنى
هو نفسه تعبير فارغ من أي معنى، وان مجموعة الحوادث التي لا يربط بينها معنى يجب
أن لا يُشار إليها بتعبير متوافقة في الحدوث أساسا. ثانيا، أن كون
متوافقة في الحدوث هي «ذات معنى» هو أمر لا يمكن أن يُستنتج من كون ظهورها غير
قابل للتفسير بقانون الاحتماليّة، إذ أن المتوافقات في الحدوث هي ظواهر لا يمكن
تطبيق قانون الاحتماليّة عليها أساسا. لذلك فان كونها ذات معنى هو أمر يجب
التوصل إليه باستخدام معايير مختلفة غير قانون الاحتماليّة. إن كتابات يونغ عن
المتوافقات في الحدوث فيها الكثير من الغموض والمغالطات المنطقية أيضا، كحال
كتاباته بشكل عام، ولكن باستثناء هذين الانتقادين اللذين تتوجب الإشارة إليهما
هنا، فإننا سنقتصر في هذا القسم على عرض فحوى أفكار يونغ فيما سنترك التطرق إلى
تفاصيل الانتقادات التي ينبغي توجيهها إلى هذه الأفكار إلى مقال قادم. كما فعل كاميرير من
قبله بافتراضه وجود «قانون التَسلسُليّة» كتفسير لوقوع «المُتَسلسِلات»،
فقد افترض يونغ بأن هنالك مبدأً يقف وراء حدوث «المتوافقات
في الحدوث ذات المعنى» اسماه «مبدأ
التَزامُنية» synchronicity. ولذلك فإنه أطلق على
«المتوافقات في الحدوث ذات المعنى» تعبير «الظواهر
التَزامُنية» synchronistic phenomena. بخلاف مصطلحَي
«المُتَسلسِلات» و «التَسلسُليّة» اللذين وضعهما كاميرير واللذين لا يرد ذكرهما
في الأدبيات إلا عند التطرق إلى كاميرير وأفكاره، فان مصطلحي «الظواهر
التَزامُنية» و «مبدأ التَزامُنية» اصبحا مصطلحين تقنيين يُستخدمان
في الكتابات العلمية عن الموضوع، وهذا الأمر يعود إلى التأثير الذي تركته كتابات
يونغ بشكل عام، حيث أن هنالك العديد من المصطلحات التي وضعها يونغ وجدت طريقها
إلى قاموس علم النفس لتصبح بين مفرداته القياسية. عرّف يونغ مبدأ
التَزامُنية بأنه «التوافق زمانيا [أي الوقوع
في وقت واحد] لحادثتين أو اكثر غير مرتبطتين ببعض بعلاقة سببية ولهما نفس المعنى
أو معنى متشابه». وفي تعريف اكثر تحديدا لطبيعة الحوادث التي تتكون منها
الظاهرة التَزامُنية يعرِّف يونغ التَزامُنية بأنها
«تزامن وقوع حالة نفسية معينة مع حادثة خارجية أو اكثر والتي تبدو متماثلة من
ناحية المعنى meaningful parallels
للحالة الذاتية الآنية- وفي حالات معينة بالعكس [أي تزامن وقوع واحدة أو مجموعة
من الحوادث الخارجية مع حالة نفسية معينة]» (Jung, 1977a: 441). ولغرض جعل تعريف
يونغ للمُتَزامِنة (الظاهرة التَزامُنية) ومبدأ التَزامُنية
واضحا تماما فان من الأفضل وصف إحدى المُتَزامِنات التي سردها يونغ والتي كانت
وقعت له شخصيا. في يوم الجمعة الأول من نيسان (إبريل) من عام 1949 لاحظ يونغ وقوع الحوادث التالية له: 1- كان لديهم على طعام الغداء سمك؛ 2- أشار أحد الحضور على مائدة الغداء إلى عادة جعل شخص
ما «سمكة نيسان» (2) April fish؛ 3- في نفس ذلك الصباح دوّن يونغ ملاحظة عن عبارة
باللاتينية تضمنت كلمة سمكة. 4- في عصر نفس اليوم زارته في العيادة مريضة كان قد عالجها في السابق ولم
يكن قد رآها لأشهر مضت، حيث أطلعته على مجموعة صور لسمك كانت قد رسمتها خلال
المدة التي كانت قد انقطعت عن زيارته فيها؛ 5- في المساء اطلعه أحد الأشخاص على قطعة قماش طُرِّز عليها وحش بحري
على شكل سمكة. أما في صباح اليوم التالي فقد قامت بزيارته مريضة قديمة له لم يكن
قد رآها منذ سنين، وسردت له حلما رأت نفسها فيه واقفة على شاطئ بحيرة حيث رأت
سمكة كبيرة سبحت نحوها حتى انتهت عند قدميها. وينهي يونغ سرده لمجموعة الحوادث
الغريبة هذه بالإشارة إلى انه خلال تلك المدة كان منشغلا بدراسة دلالات رمز
السمكة على مر التاريخ! ومما يزيد في غرابة الأمر هو انه عندما دوّن يونغ هذه
المتزامنات وبضعة اسطر من التعليق عليها كان جالسا على شاطئ بحيرة، فلما انتهى
من كتابة هذا التعليق القصير قام يتمشى إلى سور البحيرة، فما أن وصل إليه حتى
وجد لدهشته سمكة ميتة طولها حوالي قدم، ولم يكن يبدو عليها أي أثر إصابة. علما
بأنه لم تكن هنالك سمكة في ذلك المكان مساء اليوم السابق! (Jung,
1977a: 426-427). هذه المجموعة من
الحوادث الغريبة تمثل مُتَزامِنات حسب تعريف يونغ لمبدأ التَزامُنية لانطباق
شروط مبدأ التَزامُنية الخمس عليها وهي: أولا، وقوعها بشكل
مُتَزامِن، أي في وقت واحد أو متقارب. وثانيا، وجود عنصر
تشابه أو معنى يربط بينها جميعها وهو رمز السمكة وثالثا، ارتباط هذا
المعنى بحالة نفسية ليونغ لأنه كان في ذلك الوقت منكبا على دراسة تاريخية
لدلالات رمز السمكة على مر العصور رابعا، تضمنت حالة
نفسية، متمثلة بانشغال يونغ بدراسة رمز السمكة، وحوادث خارجية أو فيزيائية، كما
في عثور يونغ على السمكة الميتة قرب سور البحيرة خامسا، عدم وجود أية
علاقة سببية تربط بين هذه الحوادث المكوِّنة لظاهرة التزامن هذه؛ حيث ليست أية
حادثة منها السبب في وقوع حادثة أخرى من نفس المجموعة، فعلى سبيل المثال فان
عثور يونغ على السمكة الميتة لم يحدث بسببٍ من حلم السمكة الذي كانت مريضته قد
روته له. إذاً فمبدأ
التَزامُنية هو المبدأ المسؤول عن ظهور المُتَزامِنات والتي عرّفها
يونغ بأنها حوادث «متوافقة في الحدوث ذات معنى». إن مبدأ التَزامُنية،
وفقا ليونغ، يساوي مبدأ السببية في أهميته ودوره حيثما كان فاعلا، وكما هو الحال
في المُتَزامِنات. فكما أن القول بأن العلاقة بين الحادثتين (أ) و (ب) هي علاقة
سببية يعني أن هنالك قانوناً يجعل من وقوع إحدى الحادثتين (أ) أو (ب) نتيجة
لوقوع الحادثة الأخرى، فان القول بأن العلاقة بين الحادثة النفسية (ج) والحادثة
الفيزيائية (د) هي علاقة تَزامُنية هو قول له نفس القوة والوظيفة
التفسيرية لمبدأ السببية، ويشير إلى ارتباط الحادثتين بنمط أو رمز له معنى
متعلّق بالحالة النفسية (ج)، إلا أن هذا الارتباط قد نشأ عن مبدأ لاسببي
هو مبدأ التَزامُنية. من الواضح أن مبدأ التَزامُنية يعاني من نفس التناقض الذي
يعاني منه مبدأ التَسلسُليّة والذي أشار إليه مايكل شيليس والعديد من الفلاسفة
وهو أن أي مبدأ أو قانون يتضمن بالضرورة شكلا من الميكانيكية التي يعمل من
خلالها، وبالتالي فإنه لابد وان يكون سببياً (Braude,
1979: 221; Shallis, 1982: 146). إذ أن أية محاولة
لتفسير دور مبدأ التَزامُنية في وقوع المُتَزامِنة لا يمكن إلا أن يأتي بشكل
سببي، وهذا أمر لا يحتاج ذكاء أو مهارة خاصة للتأكد منه. من الواضح إذا أن
هنالك فرقا بين مصطلح «التَزامُنية» synchronicity من جهة
ومصطلح «الظاهرة التزامنية» synchronistic phenomenon من جهة
أخرى. ففي فكر يونغ، يشير مصطلح التَزامُنية إلى «مبدأ» principle رابط بين
حوادث معينة بينما يشير مصطلح «الظاهرة التزامنية» إلى مجموعة الحوادث التي يربط
بينها هذا المبدأ. والواقع أن العنوان الذي اختاره يونغ لبحثه في هذا الموضوع
يبيّن هذا الأمر بشكل واضح، إذ جعل يونغ عنوان البحث هو «التَزامُنية: مبدأ رابط
لاسببي» Synchronicity: An Acausal Connecting Principle . فالفرق إذاً بين «مبدأ التَزامُنية» و
«المُتَزامِنة» أو «الظاهرة التَزامُنية» هو كالفرق، على سبيل المثال، بين «مبدأ
السببية» و «الظاهرة السببية». فالظاهرة السببية هي مجموعة حوادث يرتبط بعضها
ببعض بعلاقة «سببية» من خلال مبدأ السببية. لذلك، فان من الخطأ، من وجهة النظر
اليونغية، مثلا استعمال مصطلح «تَزامُنية» بصيغة الجمع، أي «تزامنيات» synchronicities، وهو خطأ
وقع فيه فعلا العديد من الباحثين الذين استخدموه في الإشارة إلى «المُتَزامِنات
أو الحوادث التَزامُنية» synchronistic events (انظر على
سبيل المثال Lindorff, 1995b: 578; Padfield, 1981; Wilson, 1991:
197-206; Zabriskie, 1995: 540). إلا أننا يجب أن
نشير أيضا إلى الحقيقة التي أشار إليها مايكل شيليس من أن استعمال يونغ
نفسه لهذا المصطلح لم يكن متسقا وبدا في كثير الأحيان وكأنه يستخدمه للإشارة إلى
متزامنات وليس إلى مبدأ معين من جملة المبادئ الكونية الفاعلة في هذا الوجود! (Shallis,
1982: 147). يعترف يونغ بأن
المُتَزامِنات تدفع الإنسان الذي يلاحظها إلى الاعتقاد بأن قوة غيبية، سحرية، أو
فوق طبيعية هي التي تقف وراء حدوثها. والواقع أن يونغ نفسه يقر بأن توالي حوادث
مُتَزامِنة السمكة ترك عليه «أثرا كبيرا»، إذ بدت هذه المُتَزامِنة وكأنها ذات
صفة «روحية أو مقدسة» numinous، وهي صفة تتضمن الإيحاء بأن
هنالك مُسبِّباً خفياً دبّر أمر حدوث المُتَزامِنة. ويشير يونغ
أيضا إلى أن الشعور ب «روحانية numinosity سلسلة من الحوادث التصادفية
يزداد بازدياد عدد حوادث هذه السلسلة» (Jung,
1977a: 426). ويؤكد يونغ بأنه «على المستوى البدائي، من الطبيعي أن
لا تبدو التَزامُنية كفكرة قائمة بذاتها، وإنما كسببية «سحرية» (Jung,
1977a: 501)، وان «العقلية البدائية
كانت دائما تفسر التَزامُنية على أنها سببية سحرية وإلى يومنا هذا»
(Jung, 1977a: 483). ويقصد يونغ ب
«السببية السحرية» هنا هو وجود مُسبِّبات ذكية فوق طبيعية لا يفسّر وجودها
العلمُ هي التي تسبِّب حدوث هذه الظواهر، كإلهٍ أو أرواح على سبيل المثال، أو
حتى تدخّل طاقة بشرية خارقة للمألوف تتجاوز الطاقة التي يمكن أن يمتلكها الإنسان
وفقا للقوانين الطبيعية المألوفة. إلا أن يونغ لا يوافق على أي من مثل هذه التفسيرات
لأنها تفسيرات سببية تفترض بأن هنالك ذكاءً يخطط لإحداث حوادث
المُتَزامِنة وان لهذا الذكاء طاقةً هي التي تسِّبب تزامن حوادث
المُتَزامِنة، بينما يعتقد يونغ بأن المُتَزامِنات هي نِتاج مبدأ التَزامُنية
اللاسببي! عند الحديث عن مفهوم
اللاسببية لمبدأ التَزامُنية فإن من المهم تأكيد أن ما يقصده يونغ
بوصف مجموعة من الحوادث بأنها لاسببية هو ليس كالقول بأن سبب توافقها في المعنى
وحدوثها في أوقات أو أمكنة متقاربة هو سبب غير معروف، وإنما المقصود هو
أن هذا التوافق في الحدوث ليس له سبب أساسا! هذه نقطة أساسية في مفهوم
الرابطة اللاسببية بين حوادث المُتَزامِنة الواحدة. إن يونغ على دراية بأن هذا
الفهم يولّد تساؤلا مَفاده كيف يمكن أن يكون المرء واثقا من أن مجموعة ما من
الحوادث التي وقعت في وقت أو مكان واحد هي حوادث مرتبطة من خلال مبدأ
التَزامُنية اللاسببي إذا كان من المستحيل أن نحصي، بسبب صعوبات عملية، كل
احتمالات كون هذه الحوادث مرتبطة ببعض بشكل سببي؟ أي أن السؤال هنا هو كيف يمكن
ان نعرف بأن متزامنة معينة لا نجد سببا لحدوثها هي فعلا متزامنة لاسببية
وأننا مهما بحثنا فأننا لن نجد سببا لحدوثها؟! يرى يونغ بأن الرد على هذا
الاعتراض هو كون «الحوادث اللاسببية يمكن توقعها
بشكل اكثر يسرا حيثما يكشف التأمل [في الظواهر] أن الرابط السببي لا يمكن تصديقه»
(Jung, 1977a: 424). وكمثال واقعي على
ما يقول يشير يونغ إلى ظاهرة «تكرار الحالات» التي يعرفها الأطباء، ويقصد بذلك
توالي مجيء مرضى يعانون من نفس المرض إلى الطبيب نفسه، حيث يمكن أن يتوالى مجيء
ثلاثة مرضى بنفس المرض. إذ يرى يونغ أن أي سبب يُطرح لتفسير هذه الظاهرة الغريبة
يُمكن وصفه بأنه صعب التصديق. ثم يشير يونغ إلى مثال افتراضي هو انه إذا كان رقم
بطاقة الباص الذي يستقله شخص هو نفس رقم بطاقة المسرح التي يبتاعها بعد نزوله من
الباص وهو نفس الرقم الذي يسمعه كرقم تلفون في مكالمة هاتفية في نفس اليوم، فان
«وجود علاقة سببية بين هذه الحوادث يبدو لي بعيد
الاحتمال جدا، بالرغم من انه من الواضح انه لابد من أن هنالك سببية لكل حادثة من
هذه الحوادث» (Jung,
1977a: 424). أي أن هنالك سبباً لوقوع كل حادثة من مجموعة الحوادث
التي تتشكّل منها المُتَزامِنة إلا أن ارتباط هذه الحوادث سوية هو أمر لاسببي.
فحصول راكب الباص على هذه البطاقة بالذات يعود إلى صعوده إلى الباص في ذلك الوقت
بالذات، وهو أمر يمكن تتبع أسباب حدوثه. وهنا من المهم الانتباه إلى أن بطاقة
الباص التي يقتنيها الراكب لابد أن تحمل رقما ما طبعا، إلا أن كون البطاقة تحمل
هذا الرقم أو ذاك ليس أمرا ذا معنى أو ذا وجه غرابة إذا أخذنا هذه الحادثة
لوحدها. كذلك هو الأمر مع بطاقة المسرح. كما أن الشيء نفسه ينطبق على سماع المرء
لرقم هاتف ما يُتلى عليه أثناء مكالمة هاتفية. فكل هذه أمور اعتيادية حدوثُها
طبيعي ولكل منها أسباب تقع وراء حدوثها بهذا الشكل بالذات. إلا أن ما ليس له
سبب، حسب رأي يونغ، هو وقوع هذه الحوادث في نفس اليوم أو خلال وقت قصير يفصل
بينها. إذاً يرى يونغ أن اللاسببية
تكمن في صلب تكوين المُتَزامِنة وليست نتيجة جهل الدارس للظاهرة
بسبب أو أسباب حدوثها، حيث انه يعتقد بأن أي سبب يُراد الاستعانة به
لتفسير تزامن وقوع حوادث مُتَزامِنة ما هو بطبيعته «غير معقول» وأيضا «لا يمكن
تخيّله ولا التفكير به» inconceivable and unthinkable، وهذا هو الموقف الذي يتبناه بقوة ووضوح في صفحات بحثه عن التَزامُنية،
والذي يكرره في فقرته ما قبل الأخيرة حيث يقول عن المُتَزامِنات: «إن عدم إمكانية تفسيرها لا يعود إلى حقيقة كون السبب غير
معروف، ولكن إلى حقيقة أن السبب لا يمكن التفكير به بمصطلحات عقلانية»!
(Jung, 1977a: 519). لاشك أن اللاسببية
هي اكثر صفات مبدأ التَزامُنية ليونغ التي يستعصي على العقل أمر تقبُّلها. أحد
أسباب ذلك، كما يعترف يونغ نفسه، هو أن عدد الحوادث السببية، أي التي يمكن
تَتبُّع أسباب وقوعها، بغض النظر عن مدى صحة الأسباب التي يتم تحديدها، يتجاوز
إلى حد كبير عدد الحوادث التي تبدو لاسببية، وبالتالي فان «المُراقِب السطحي أو ذا الأحكام المُسبَقة يمكن أن يتجاهل
بسهولة الظواهر اللاسببية والنادرة نسبياً» (Jung,
1977a: 424). أشار يونغ إلى أن افضل
أسلوب لتجنب النظر إلى مبدأ التزامنية بشكل سببي هو بالنظر إليه كحالة خاصة من «التنظيم اللاسببي» acausal
orderedness الأكثر عمومية. ويقصد يونغ بمفهوم التنظيم اللاسببي هو الحالة
التي توجد عليها بعض الظواهر الطبيعية، كالإشعاع النووي الطبيعي والمظهر الكمي للطاقة، (3) من غير أن يبدو أن
هنالك سبباً لوجودها على هذا الشكل المعين بالذات (Franz,
1992: 213-214; Jung, 1977a: 516-517). وترى فون فرانتس
أن تقدم العلوم الطبيعية قد جعل من الممكن فعلا استخدام مفهوم التنظيم اللاسببي
في وظيفة تفسيرية (Franz, 1992: 303-304). المُتَزامِنات واللاوعي الجمعي إن لمفهوم التَزامُنية
اليونغي صلةً وثيقة بنظرية التحليل النفسي التي طرحها يونغ، وذلك لأن معنى
وكيفية حدوث المُتَزامِنة مرتبطان بأشهر المفاهيم التي قامت عليها النظريةُ
النفسية اليونغية وهما مفهوما اللاوعي الجمعي والبُنى الأولية
archetypes. لقد اخذ هذان المفهومان قدرهما من الغموض الذي
تحفل به كل كتابات يونغ، إلا أن هذا لا يحول دون إعطاء فكرة عنهما قبل التطرق
إلى العلاقة بينهما وبين المُتَزامِنات. تتكون النفس البشرية
psyche حسب رأي يونغ من ثلاث مستويات. أول هذه المستويات
هو «الوعي» consciousness الذي يحتوي على كل الأفكار
والصور والدوافع التي هي في متناول العقل والتي لدينا فكرة واضحة نوعا ما عنها. المستوى الثاني هو «اللاوعي
الشخصي» personal unconscious، ويتكون من، أولا، كل تلك
المحتويات التي أصبحت لاواعية إما لأنها فقدت شدّتها وبالتالي نُسِيَت أو لسحب
الوعي منها، أو ما يُعرف بالكبت، وثانيا، محتويات، بعضها انطباعات حواسية، لم
تتمتع أبدا بشدة كافية لتصل الوعي إلا أنها وجدت سبيلها بشكل ما إلى داخل النفس. أما مستوى النفس
الثالث فهو ما اسماه يونغ ب «اللاوعي الجمعي» collective
unconscious، وهو مستوى نفسي ورثه الإنسان من أجداده وهو متشابه المحتويات
عند كل البشر. إذاً فالفرق بين مستويي اللاوعي في النفس هو أن «اللاوعي الشخصي»
تختلف محتوياته من فرد لآخر اعتمادا على حياة ذلك الشخص وخبراته وما مر به من
حوادث وظروف، أما «اللاوعي الجمعي» فانه مشترك بين كل البشر وان محتوياته ليست
لها علاقة بالتجارب الشخصية للإنسان وإنما هي مُوَرَّثة لكل أفراد النوع
(Jung, 1977c: 151-152). أما عن هذه
المحتويات المشتركة المُوَرَّثة للاوعي الجمعي فيكتب يونغ: إن اللاوعي الجمعي - هذا إذا كنا نستطيع أساسا أن نقول
عنه شيئا لغاية الآن - يبدو متكونا من دوافع أسطورية أو صور بدائية، ولذلك فان
أساطير جميع الأمم هي مُفسِّراتُه الحقيقية. في الواقع، أن موضوع الأساطير
بأكمله يمكن اعتباره نوعا من الإسقاط projection
للاوعي الجمعي. أننا نستطيع أن نرى هذا بأوضح شكل إذا نظرنا إلى التجمّعات
النجمية السماوية، التي تم تنظيم أشكالها العشوائية في الأصل بواسطة إسقاط الصور
[مثل تشبيه إحدى التجمّعات النجمية بالحَمَل وأخرى بالثور وهكذا...... ] وتماما
كما أن هذه التجمّعات تم إسقاطها على السماء، فان أشكالا شبيهة تم إسقاطها على
أساطير وقَصَص كائنات من الجن أو شخوص تاريخية. (Jung, 1977c: 152-153). أي أن يونغ يشير إلى
انه وان كانت النجوم موجودة فعلا في السماء فان التجمّعات النجمية ليس لها وجود
حقيقي وأنها من وضع اللاوعي الجمعي، وإلى هذا اللاوعي الجمعي ينسب يونغ جميع
الأساطير التي أنتجتها عقولُ البشر! وبسببٍ من هذه الطبيعة الخاصة لفعاليات
اللاوعي الجمعي فان يونغ يكمل قائلا «أننا نستطيع
لذلك أن ندرس اللاوعي الجمعي بأسلوبين، أما في الأساطير أو بتحليل الفرد»
(Jung, 1977c: 153). يحتوي اللاوعي
الجمعي على ما اسماه يونغ ب «البُنى الأولية» archetypes. وهذه البُنى الأولية ليست
أشياءً مادية ولا هي أفكاراً مغروسة في الإنسان قبل ولادته ولكنها «أشكال نمطية من السلوك التي ما أن تُصبح واعية حتى تَعرض
نفسها طبيعيا كأفكار وصور، كأي شيء آخر يصبح أحد محتويات الوعي» (Jung,
1977b: 227). ثم يصف آثار البُنى الأولية فيقول «إن البُنى الأولية، على قدر ما نستطيع أن نلاحظها ونعيشها
لحد الآن، لا تُظهِر نفسها إلا من خلال قدرتها على تنظيم صور وأفكار، وهذه هي
دائما عملية لاواعية لا يمكن تحسسها إلا بعد حدوثها» (Jung,
1977b: 231). إذاً فالبُنى الأولية غير قابلة لأن يتم تمثيلها irrepresentable ولا
يمكننا أن نتلمس وجودها بشكل مباشر لأنها تقع في أقصى نهاية «الطيف النفسي» ولأن
العمليات التي تُظهِر من خلالها تأثيراتِها هي عمليات لاواعية، أي أننا يمكننا
أن نكشف عن وجود البُنى الأولية بشكل غير مباشر فقط وذلك من خلال تأثيراتها التي
هي ما ينتج عنها من أفكار وصور عقلية. وبسببٍ من الطبيعة الخاصة التي تتميز بها
البُنى الأولية فقد أطلق عليها يونغ اسما خاصا هو السايكويد psychoid والذي
يشير إلى ما يتجاوز كلا من النفس والمادة. لم يكن يونغ أول من
طرح مفهوم اللاوعي الجمعي المُتوارَث والذي يشترك فيه كل الناس، حيث سبقه
إلى ذلك عدد من الكُتّاب، كما لم يكن أول من ادخل مفهوم البُنى الأولية.
إذ يشير يونغ إلى أن أول من ادخل هذا المفهوم هو أفلاطون Plato، ومن ثم
توارثه عنه بصيغ مختلفة فلاسفةُ أوروبا في القرون الوسطى بدءاً بسانت اوغسطين
St Augustine (354-430) الذي يذكر
يونغ بأنه قد اخذ عنه هذا المفهوم (Jung,
1977g: 135-136). أما أول مرة استخدم فيها يونغ مصطلح البُنى الأولية
فكان في بحث شارك فيه في مؤتمرٍ في لندن عام 1919، حيث كان قبل ذلك يُشير إلى هذا المفهوم مستخدما
مصطلح «الصورة الأولية» primordial image (Jung,
1977g: 133). وحتى فرويد نفسه افترض مفهوما شبيها أطلق عليه مصطلح
«البقايا القديمة» archaic remnants (Freud,
1939: 127; Frey-Rohn, 1974: 126-132) إلا أن مما لاشك
فيه أن يونغ هو الذي أعطى لمفهومَي اللاوعي الجمعي والبُنى الأولية الأهمية
التي احتلها كل منهما في علم النفس التقليدي. لقد عزا يونغ لهذه
البُنى الأولية تأثيرا كبيرا جدا على السلوك البشري بشكل عام ونسب إليها كل ما
يعتقده أفكارا مهمة ظهرت في تاريخ الإنسانية. ولذلك فهو يقول: إن أقوى الأفكار في التاريخ ترجع كافةً
إلى البُنى الأولية. وهذا القول صحيح بشكل خاص فيما يخص الأفكار الدينية، إلا أن
الأفكار المركزية في العلم والفلسفة والأخلاق ليست استثناءً من هذه القاعدة.
فبشكلها الحالي فان هذه الأفكار ما هي إلا تنويعات لأفكار البُنى الأولية، تم
خلقها [التنويعات] بتطبيق هذه الأفكار وتكييفها بشكل واعٍ مع الواقع وذلك لأن
وظيفة الوعي هي ليست مجرد قيامه بادراك وهضم العالَم الخارجي من خلال بوابة
الحواس، ولكن أيضا أن يقوم بترجمة العالَم الذي بداخلنا إلى واقع مرئي (Jung, 1977c: 158). تطوَّرَ مفهوما
اللاوعي الجمعي وبُناه الأولية عند يونغ نتيجة مقارنته بين ما يظهر من أفكار
وصور وأحلام عند مرضاه النفسيين وبين ما قد اطّلع عليه من خلال قراءاته العامة
للتاريخ والفلسفة، وبالذات قراءاته في أساطير الشعوب. فقد بدا له أن الكثير من
الأحلام والهلوسات التي تظهر عند مرضاه لها معانٍ ورموز شبيهة بما هو موجود في
الأساطير والخرافات المنتشرة في مختلف أنحاء العالَم، وان أساطير وخرافات شعب من
الشعوب لها ما يناظرها عند الشعوب الأخرى. ويبدو يونغ متأكدا من أن العديد من
مرضاه العقليين والنفسيين ما كان يمكن أن يكونوا على علم بأن رموزاً معينة شاهدوها
في أحلامهم وهلوساتهم لها مقابلات في القصص الأسطورية التي يعود تاريخ بعضها
لبضعة آلاف من السنين، ولذلك فانه يرى أن التشابهات الكثيرة الموجودة بين أساطير
شعوب العالَم منذ القدم وكذلك التشابهات بين الأساطير الشعبية وبين الرموز التي
تظهر في أحلام أفراد ليس لديهم سابق علم بمضمون تلك الأساطير هي أدلة على أن عقل
الفرد البشري لا يُنتج الأساطير جرّاء نوعٍ من المحاكاة والنقل المباشر
لما قد سمع أو قرأ وإنما يقوم بإنتاج هذه الأساطير باستقلالية تامة عن أية
تأثيرات خارجية، والعقل هنا لا يقوم بإنتاج هذه الأساطير من لاشيء وإنما
يستنبطها من مصنع الأساطير الذي يمتلكه كل إنسان والذي اسماه يونغ باللاوعي
الجمعي. ويقدم يونغ أمثلة على أفكار يعتقد أنها من نتاج البُنى الأولية
كفكرة أو أسطورة «البطل» التي تظهر في الأساطير والموروثات الأدبية لمختلف
الشعوب في العالَم (Jung, 1953a: 97-98). ولذلك فهو يعرّف البُنى الأولية في موقع آخر بأنها «نوع من الاستعداد لتكرار إنتاج نفس الأفكار الأسطورية أو
أفكار أسطورية مُشابَهة» (Jung,
1953a: 68). ومن المهم هنا الإشارة إلى أن مفهوم يونغ عن
الأسطورة هو مفهوم واسع يشمل الأفكار الدينية أيضا! بالرغم من أن الكثير
من محتويات اللاوعي الجمعي، أي البُنى الأولية، تبقى ثابتة ويمكن
تتبع آثارها واضحةً جليةً في النتاجات الفكرية لأفراد النوع الإنساني على مر
آلاف السنين، فان يونغ يعتقد أيضا بأن محتويات اللاوعي الجمعي يمكن أن تخضع لبعض
التغييرات التي قد تستغرق قرونا عديدة لتكتمل وتنتج عنها تغييرات جذرية في نظرة
الإنسان إلى العالَم وإلى نفسه. وعلى سبيل المثال، فان إحدى هذه التغييرات حسب
رأي يونغ نتج عنها انهيار الصورة التقليدية للديانة المسيحية (Storr,
1986: 26). لنعد الآن إلى ما
يهمنا هنا وهو العلاقة بين المُتَزامِنات واللاوعي وبُناه الأولية. يقول
يونغ عن هذه العلاقة: «إن العدد الأكبر من الظواهر
التَزامُنية التلقائية التي سَنحَت لي فرصة ملاحظتها وتحليلها يمكن البرهنة
بسهولة على أن لها ارتباطاً مباشراً مع بُنية أولية معيّنة» (Jung,
1977a: 481)، بإمكاننا أن نتبيّن في كلام يونغ هذا نوعاً من
التراجع عما كان قد قاله قبل ذلك في بداية بحثه من أن «جميع» الحالات التي
قابلها في خبرته الطويلة لها هذه الخاصية (Jung,
1977a: 440). ولتوضيح هذه النقطة المركزية في مفهوم التَزامُنية
عند يونغ نورِد فيما يلي إحدى المُتَزامِنات التي يرويها والتي غدت مثالا
تقليديا لا يغفل عن الإشارة إليه أي دارسٍ للنظرة اليونغية للمُتَزامِنات: في مرحلة حرجة من حياتها، شاهدت امرأة شابة كنت
أعالجها حلما قُدِّم لها فيه خُنفساء ذهبية. بينما كانت المريضة تقص عليَّ حلمها
[في العيادة] جلستُ بحيث كان ظهري باتجاه الشباك المغلق. فجأة، سمعتُ ضوضاءً
خلفي كطَرْقٍ خفيف. فاستدرتُ وشاهدتُ حشرة طائرة تضرب على جانب الشباك من
الخارج. فتحتُ الشباك وأمسكت الحشرة في الهواء حين دَخلَت. كانت اقرب شبيه إلى
خنفساء ذهبية يمكن للمرء أن يجده في مناطق ذات خطوط عرض مثل مناطقنا، كانت
خنفساء من النوع الشائع «جُعَل الوَرد»، والتي خلافا لعادتها، كان واضحاً أنها
شعرت بحافز لتدخل غرفة مظلمة(4) في تلك اللحظة بالذات. يجب أن اعترف
بأنه لم يكن قد حدث لي شيء مثل هذا قبل ذلك وحتى هذه اللحظة، وان حلم المريضة
بقي فريدا في تجربتي. (Jung, 1977a: 438). من الواضح أن يونغ
يعتبر هذه الحادثة مُتَزامِنة وذلك لتزامن مجيء الخنفساء مع رواية
المريضة لحلمها عن خنفساء. فهنالك حادثة رواية الحلم الذي يمثل «حالة نفسية
خاصة»، ثم هنالك «حادثة خارجية» يتوافق حدوثها مع الحالة النفسية وهي
مجيء تلك الحشرة التي تشبه الخنفساء. يصف يونغ الوقت الذي شاهدت فيه المريضة
الحلم بأنه كان يمثل «مرحلة حرجة» في علاجها لأنها كانت قد استشارت قبله
طبيبين فشلا في علاجها، وكان هو الآخر قد فشل لغاية ذلك الوقت في إحراز أي نجاح
في علاجها. وحسب رأي يونغ فان فشل العلاج لغاية ذلك الوقت كان بسبب النظرة
الديكارتية (5) Cartisian للواقع؛ هذه النظرة التي اعتادت
«شخصيتها الذكرية»(6) على رؤية الواقع من خلالها والتي لم تكن تتقبل أية
محاولة لتغييرها. لقد كان تغير هذه النظرة الديكارتية إلى الواقع، والتي تفصل
بين ما هو نفسي وما هو فيزيائي، ضرورياً لنجاح علاجها. ولذلك، حسب رأي يونغ
أيضا، فان المريضة كانت بحاجة لحادثة "فوق طبيعية" لكي تؤثر فيها
بالشكل الذي يجعلها تغير من نظرتها هذه، وهو ما حدث عندما شهدت وقوع
المُتَزامِنة بمجيء الخنفساء. إذ هزت هذه الحادثة نظرتها الديكارتية إلى الواقع
وحينئذ فقط بدأت تستجيب للعلاج وبدأت حالتها النفسية بالتحسن. أما الرمز الذي
يُشير إلى كون الحادثة ذات أساس ذي صلة بالبُنى الأولية فهو الخنفساء. إذ يبيّن
يونغ أن الخنفساء هي من الرموز التقليدية لعملية «الولادة من جديد» rebirth، ويستشهد
بمثال من «كتاب الموتى» المصري عن أسطورة إله-الشمس الميت الذي يتحول في المحطة
العاشرة إلى خنفساء قبل أن يصعد في المحطة الثانية عشر المركب الذي يأخذه وقد
وُلد من جديد إلى سماء الصبح. لقد كانت حالة
المريضة النفسية قد وصلت إلى حد تعذَّرَ معه تحقيق أي نجاح في العلاج. ويرى يونغ
أن في مثل هذه الحالات كثيرا ما تظهر «أحلام مؤسسة على البُنى الأولية»
تشير إلى اتجاه يتحقّق باتّخإذه تقدّم العلاج. في حالة المريضة المذكورة كان
مجرد حدوث المُتَزامِنة وانهيار نظرتها الشخصية إلى الواقع هو المخرج من حالة
فشل العلاج. بهذا يعلل يونغ سبب حدوث المُتَزامِنة أعلاه. ولكن بعيدا عن هذه
التفسيرات الافتراضية لسبب حدوث المُتَزامِنة، يبقى السؤال الأهم
والأعقد هو: كيف حدثت هذه المُتَزامِنة؟ أي كيف تزامن حدوث الحلم وسرْده
مع وصول الخنفساء إلى نفس المكان؟ وهنا يقدم يونغ تفسيره الذي لا يقصره على
حادثة حلم الخنفساء وإنما قام بصياغته بشكل يجعل منه شاملا لجميع المُتَزامِنات،
وبالنتيجة لجميع القابليات الإنسانية الخارقة للعادة والتي اعتبرها نوعا من
المُتَزامِنات، وكما سنرى في قسم قادم من هذا المقال. كما سبق ذكره، فان
يونغ يعتقد بأن تفسير المُتَزامِنة يتكفّل مبدأُ التَزامُنية اللاسببي بالقيام
به، ولذلك فإنه لا يعتقد بأن هنالك علاقة سبب-نتيجة بين الحوادث التي تشكّل
المُتَزامِنة. ففي مُتَزامِنة الخنفساء مثلا من غير الممكن أن تكون الحالة
النفسية في هذه المُتَزامِنة، أي حادثة رواية الحلم، قد تسببت في وقوع
الحادثة الخارجية، أي حادثة مجيء الحشرة. وهنا يتوصل يونغ إلى أن تفسير
المُتَزامِنات يتطلب افتراض وجود نوع من «المعرفة المسبقة» a priori knowledge في
اللاوعي، ووجود هذه المعرفة المسبقة هو نفسه وجود لاسببي. ففي حالة مُتَزامِنة
الخنفساء يعتقد يونغ بأن لاوعي المريضة احتوى على صورة عن الحالة التي كانت
ستحدث في اليوم التالي لمشاهدتها الحلم، أي قيامها بسرْد الحلم وظهور الخنفساء، وان حلم الخنفساء كان «تمثيلاً واعياً ناشئاً من صورة
لاواعية موجودة مُسبَقا عن الحادثة التي كانت ستقع في اليوم التالي، أي رواية
الحلم وظهور الخنفساء» (Jung,
1977a: 447). ولكن ما هو مصدر هذه «المعرفة المُسبقة»؟ تقوم السببية، وفقا
ليونغ، على موضوعية مفهومَي الزمان والمسافة أو المكان،(7) إذ انه يرى أن تجارب الظواهر
الخارقة للعادة والمُتَزامِنات بشكل عام تقوم على "نسبية نفسية"
لمفهومي المسافة والزمان، ولذلك فإنه يرى أن هذه الظواهر لا يمكن أن تكون
ظواهراً سببية. إن المكان والزمان لا يتمتعان بصفة الإطلاق إلا للوعي الذي
يحتاجهما لوصف سلوك الأجسام المتحركة، بينما تبيّن ظواهر اللاوعي،
كالمُتَزامِنات، أن الزمان والمكان مفهومان نسبيان وليسا مطلقَين وان وجودهما
يتلاشى تماما في بعض الظواهر. وتقع البُنى الأولية، بحكم كونها من محتويات
اللاوعي، خارج حدود الزمان والمكان. ومن خلال هذه "النسبية النفسية"
للزمان والمكان يمكن تفهّم احتواء اللاوعي على «المعرفة المسبقة» ذات الوجود اللاسببي.
فلو كان الزمان للاوعي مفهوماً مُطلقاً يتقدم بانتظام كما هو حاله للوعي، وهي
طبعا النظرة التقليدية لمفهوم الزمان، فلن يكون هنالك معنى للقول بوجود معرفة
مسبقة في الحاضر عن حوادث مستقبلية لم تحدث بعد، وهي فرضية يعتقد
يونغ انه لابد من الأخذ بها لتفسير الكثير من الظواهر! فهنالك عتبة threshold بين الوعي
الذي يقوم عمله على أساس من موضوعية زمانية ومكانية واللاوعي الذي يقوم عمله على
أساس من نسبية زمانية ومكانية، وتَنتُج المُتَزامِنات عندما يكون لاوعي الشخص في
حالة نشاط ولذلك فإنها ظواهر تتجاوز حدود المكان والزمان، فإذا اجتازت محتويات
النفس العتبة التي تفصل بين اللاوعي والوعي وانتقلت إلى الوعي فإن المُتَزامِنة
تتوقف ويستعيد الزمان والمسافة مفهومَيهما التقليدييَن المطلقَين (Jung,
1977b: 231-232). يستخدم يونغ عادة
مصطلح «المعرفة المُطلقة» absolute knowledge للإشارة
إلى هذه المعرفة المُسبقة الموجودة في اللاوعي وذلك لأنها، حسب ما تقول مساعدته
ماري-لويز فون فرانتس Marie-Louise von Franz، «تلك المعرفة أو القدرة على
المعرفة التي ليست بمعتمدة على الإدراكات الحواسية والمعالجات الدماغية لها» (Franz,
1992: 212). إن «المعرفة المُطلقة» هي معرفة يولد بها الإنسان لان
اللاوعي الجمعي يحتوي على «صور كل الخلق» (Jung,
1977a: 494)، أي صور كل ما حدث وسيحدث في الخلق، وهذه الصور هي
«المعرفة المُطلقة»! كما بيَّنا، فإن مبدأ
التَزامُنية اليونغي يشير إلى توافق حدوث حالة نفسية مع حادثة موضوعية
خارجية، بينهما معنى مشترك، ولكن من دون وجود أية علاقة سببية بينهما. أما دور
اللاوعي في المُتَزامِنة فتوضِّحه إشارته في أحد المواضع من بحثه إلى أن
المُتَزامِنة «تتكون من عاملين: أ- صورة لاواعية
تأتي إلى الوعي أما بشكل مباشر (أي كما هي) أو بشكل غير مباشر (مُشكَّلة كرمز أو
مُوحاة) على شكل حلم، فكرة، أو هاجس داخلي. ب- حالة موضوعية تتزامن مع هذا
المضمون» (Jung, 1977a: 447). لذلك فان مبدأ التَزامُنية يمثل الترابط من خلال معنى مشترك بين
الحوادث النفسية والحوادث الفيزيائية والطبيعية. إن مبدأ التَزامُنية عند يونغ
هو مبدأ أساسي أو أولي fundamental، أي لا يمكن إرجاعه إلى ما هو
اكثر أساسية منه، كما أن مبدأ السببية أساسي. والفرق الرئيسي بين الاثنين هو في
مجال سيادة كل منهما، إذ يعتقد يونغ بأن مبدأ السببية يسود في العالَم
الخارجي، العالَم الكبير، بينما مجال عمل مبدأ التَزامُنية اللاسببي هو
الحالات النفسية، أي ظواهر اللاوعي! على الرغم من أن
يونغ يصرّح بأن «العدد الأكبر من الظواهر
التَزامُنية التلقائية التي سَنحَت لي فرصة ملاحظتها وتحليلها يمكن البرهنة
بسهولة على أن لها ارتباطاً مباشراً مع بُنية أولية معينة» (Jung,
1977a: 481)، فانه يُحذِّر من الاستنتاج من مجرد هذه الملاحظة بأن
البُنى الأولية هي أسباب حدوث المُتَزامِنات قائلا: «حالما يُدرِك
المُراقِب الخلفية ذات الصلة بالبُنية الأولية [للمُتَزامِنة] فإنه ينجذب نحو
إرجاع الذوبان المُتبادل للعمليات النفسية والفيزيائية المستقلة [عن بعض] إلى
تأثير (سببي) للبُنية الأولية، وبهذا ينجذب نحو إغفال حقيقة مفادها أنها مجرد
[حوادث] عَرَضية» (Jung, 1977a: 516). وتؤكد مساعِدة يونغ ماري-لويز فون فرانتس هذه النقطة مشيرة إلى أن «نسبة
انتظام الحوادث التَزامُنية إلى لاوعي المُراقِب [للحوادث] لن يكون سوى نكوص إلى
أسلوب التفكير السحري البدائي» (Franz,
1992: 231)، وان «الترتيب ذا الصلة بالبُنى الأولية «يظهر» أو
يصبح «مرئيا» في الظاهرة التَزامُنية؛ [إلا] انه لا يسبِّبها». (Franz,
1992: 237). 1- بول
كاميرير عالم نبات نمساوي هو أول من اهتم بتوثيق حدوث ظواهر التوافق في الحدوث 2- هي نفسها العادة
التي تعرف ب «كذبة نيسان» أو «أحمق نيسان» والتي تُمارس في مختلف أنحاء العالَم
في يوم الأول من نيسان. 3- سنتطرق لهذا
الموضوع بالتفصيل في مقال قادم إن شاء الله 4- يتحاور
الأطباء النفسانيون مع مرضاهم في بعض الأحيان في غرفة مظلمة أو شبه مظلمة لجعل
المريض يشعر باسترخاء وراحة نفسية اكبر. 5- النظرة
الديكارتية للواقع: هي النظرة التي تراه واقعاً لا علاقة لما هو ذاتي بما هو
موضوعي فيه. 6- الـ «الشخصية
الذكرية» animus
في السايكولوجيا اليونغية: هي الجانب الذكري من نفس الأنثى. 7- في اللغة
الإنكليزية وفي سياقات هذا الموضوع يتم عادة استخدام كلمة space وكلمة distance بشكل متبادل، لذلك فان تعبيري «المكان» و
«المسافة» سيُستعملان للدلالة على نفس المعنى المشترك الذي يحمله المصطلحان
الإنكليزيان أعلاه. المراجع Bolen, J. S.
(1979). The Tao of Psychology: Synchronicity and the Self, New York:
Harper & Row. Braude, S. E.
(1979). ESP and Psychokinesis: A Philosophical Examination,
Philadelphia: Temple University Press. Franz, M.-L. von
(1992). Psyche and Matter, Boston: Shambhala Publications. Freud, S. (1939). Moses
and monotheism, New York: Random House. Jung, C. G.
(1953a). The Psychology of the Unconscious; CW 7: Two Essays on
Analytical Psychology, Edited by H. Read, M. Fordham & G. Adler,
Translated by R. F. C. Hull, London: Routledge & Kegan Paul. Jung, C. G.
(1953b). The Relations Between the Ego and the Unconscious; CW 7:
Two Essays on Analytical Psychology, Edited by H. Read, M. Fordham &
G. Adler, Translated by R. F. C. Hull, London: Routledge & Kegan Paul. Jung, C. G.
(1977a). Synchronicity: An Acausal Connecting Principle; CW 8: The
Structure and Dynamics of the Psyche, Edited by H. Read, M. Fordham &
G. Adler, Translated by R. F. C. Hull, London: Routledge & Kegan Paul. Jung, C. G.
(1977b). On the Nature of the Psyche; CW 8: The Structure and Dynamics of
the Psyche, Edited by H. Read, M. Fordham & G. Adler, Translated by
R. F. C. Hull, London: Routledge & Kegan Paul. Jung, C. G.
(1977c). The Structure of the Psyche; CW 8: The Structure and Dynamics of
the Psyche, Edited by H. Read, M. Fordham & G. Adler, Translated by
R. F. C. Hull, London: Routledge & Kegan Paul. Jung, C. G.
(1977d). On the Nature of Dreams; CW 8: The Structure and Dynamics of the
Psyche, Edited by H. Read, M. Fordham & G. Adler, Translated by R. F.
C. Hull, London: Routledge & Kegan Paul. Jung, C. G.
(1977g). Instincts And The Unconscious; CW 8: The Structure and Dynamics
of the Psyche, Edited by H. Read, M. Fordham & G. Adler, Translated
by R. F. C. Hull, London: Routledge & Kegan Paul. Lindorff, D.
(1995b). Psyche, Matter and Synchronicity: A Collaboration Between C. C. Jung
and Wolfgang Pauli. Journal of Analytical Psychology, 40, 571-586. Mansfield, V.
(1995). Synchronicity, Science, and Soul-Making: Understanding Jungian
Synchronicity Through Physics, Buddhism, and Philosophy, Illinois: Open
Court. Padfield, S.
(1980). Mind-Matter Interaction in the Psychokinetic Experience. In: B. D.
Josephson & V. S. Ramachadran (Eds.), Consciousness and the Physical
World, Oxford, Pergamon Press, 165-170. Padfield, S.
(1981). Archetypes. Synchronicity and Manifestation. Psychogenetics,
4, 77-81. Rhine, J. B.
(1934). Extra-sensory Perception, Boston: Boston Society for Psychic
Research. Rhine, J. B.
(1937). New Frontiers of the Mind, New York: Farrar & Rinehart. Rhine, J. B.
(1947). The Reach of the Mind, New York: W. Sloane Associates. Rhine, J. B.
(1950). An Introduction to the Work of Extra-sensory Perception. Transactions
of the New York Academy of Science. Series II, 12, 164-168. Rhine, J. B. & Humphrey, B. M. (1942). The Transoceanic ESP Experiment. Journal of Parapsychology, 6,
52-74. Shallis, M. (1982).
On Time, London: Burnett Books. Soal, S. G. &
Bateman, F. (1954), Modern Experiments in Telepathy, New Haven, Conn.:
Yale University Press. Storr, A. (1986). Jung:
Selected Writings, London: Fontana Press. Tyrrell, G. N. M.
(1947). The Personality of Man, Middlesex: Penguin. Wilhelm, R. (1950).
The I Ching or Book of Changes, Translated by C. F. Baynes, Princeton:
Prinecton University Press. Wilson, C. (1991). Beyond
the Occult, London: Corgi Books. Zabriskie, B.
(1995). Jung and Pauli: A Subtle Asymmetry. Journal of Analytical
Psychology, 40, 531-553.
|
||||
Document Code OP.0055 |
ترميز المستند OP.0055 |
|||
Copyright
©2003 WebPsySoft Arab Company www.arabpsynet.com (All Rights Reserved) |