Arabpsynet

أبحاث أصيلة / Original papers

شبكة العلوم النفسية العربية

 

الثمـن الغالـي لتطـور الإنسـان

أ.د. يحيــى الرخــاوي

أستاذ الطب النفسي بجامعة القاهرة

 

 

q       النص الكامل Full text / Texte  entier / 

 

    من يراجع مسار الإنسان فردا ونوعا، بكل تاريخه الحيوي، ثم ينظر إلى ما يحدث بنا، ولنا، ومن حولنا مما يبدو مناقضا للمنطق الظاهر والعقل السليم. لابد وأن يتوقف مذعورا وهو يستشعر نكسة شاملة تحتاج إلى يقظة كل فرد من هذا النوع البشري طول الوقت. إن التطور البيولوجي الذي لم نعرفه إلا استنتاجا من التشريح المقارن، وعلم الأجنة المقارن، وخيال بعض المبدعين من العلماء (أمثال داروين وولاس) المدعم ببعض الملاحظات الناقصة، هو المفتاح الذي أحاول أن أفك به شفرة طلاسم ما آل إليه حال البشر حالا.

 

    كل المزاعم المعلنة، من القابعين أعلى الدرج، تدعي أنها تسعي إلى الأمان أو السلام للعالم. كل القائمين بهذا القتل والتشريد والاستغلال والاستبعاد. يرفعون السعي إلى مجتمع حر آمن من شر الإرهاب، (يقصدون: من شر الاختلاف من الذين أنهوا التاريخ لحسابهم).

 

§         ما الحكاية بالضبط؟

    هل الأمان بمعني ضمان الأمن والسلامة هو غاية الحياة، أم أنه الوسيلة لاستمرارها؟

    وإذا كان مجرد استمرار الحياة عند الكائنات الأدنى هو غاية المراد للحفاظ على النوع، فهل هو كذلك عند الإنسان بعد أن امتُحن بالإسهام في تقرير مساره ومصيره بدرجة ما من الوعي اليقظ؟

    وما هو نوع الأمان الذي يمكن أن يحافظ على حياة نوعٍ على حساب نوعٍ آخر من الأحياء؟ هل هو نفس نوع الأمان الذي يسمح بارتقاء الإنسان إلى ما يمكن أن يكونه؟

    وماذا لو عجز النوع الأرقى (مثل البشر) عن تحقيق أمان لائق بما وصلت إليه مرحلة تطوره (من اكتساب الوعي ورفض الحرية وشرف المسئولية)؟        هل تريد إلى نوع سابق من الأمان؟ أم يواصل السعي إلى ما هيأته له مكاسبه على مسار التطور؟

    وهل في محاولة الإجابة على هذه الأسئلة ما يفسر بعض ما يجري؟

 

§         فشل التقمص وضرورة البحث

    لا أتعرف على مرضاي بتعليق لافتة عليها اسم مرض. أنا أتعرف عليهم بالتقمص، مما يعرضني لهزات ليست عابرة، لكنه يمكنني من فهم معني ما اضطرهم إلى ذلك (إلى أن يختاروا المرض حلا خائبا!)، كما أحاول أن أترجم لغتهم الخاصة إلى ما عجزوا عن التعبير عنه بلغة الكافة. أفعل ذلك بسهولة بسبب طول المران، لكنني أعجز حين أحاول نفس المحاولة مع من يسمون «الأسوياء».

    حين بدأت في محاولة تقمص بعض الأفراد المسئولين عن الجاري في الدنيا هذه الأيام، كان موقف السيد دبليو الأمريكي أصعبها علي. رحت أتساءل: ماذا يمكن أن يكسبه هو شخصياً من هذا القتل بالجملة لأبرياء لا يعرفهم، بل لم يسمع عنهم أصلا، وحتى إذا سمع عنهم فيبدو أنه لا، ولن، يفهم موقعه الإنساني ــ منهم، أو موقعهم منه.؟

    هل يمكن تفسير كل هذا الذي يجري بمجرد رغبة فرد، هو وبطانته، أن تمتد فترة شغلهم للبيت الأبيض أربع سنوات أخري؟ هل هذه السنوات من المنظرة والسيطرة والخطب التي لا يعرف هذا الدبليو كيف يلقيها، والأوامر التي ليس له دور إلا في تسميعها وترديدها وهو لا يعرف مصدرها، كافية لتبرير موقفه وهو يواصل بكل العمي كل هذا القتل والذبح والإذلال والإبادة؟

    هل هذه الحروب التي أتاح لنفسه ولذويه فرصة خوضها بفضل 11 سبتمبر، الذي لا يستبعد أن يكون هو أو رجاله من أهم صناعه، بشكل مباشر أو غير مباشر، هل سيعود عليه كل ذلك هو شخصيا بأي فائدة تستأهل كل هذا النكوص والقتل والردة؟

    هل ممارسة كل ذلك بكل هذه الضراوة هنا وهناك ستجعله ــ فرداً أجمل أمام نفسه، أو أمام ابنته، أو زوجته، أو صاحبته، أو حتى أمام كلبته؟

لم أستطع أبداً أن أنجح في تقمص شيخ خفراء العالم الغشيم هذا (أو شيخ المنسر) أكثر من ذلك.

    من أسهل السهل أن نعزو غزو أفغانستان، ثم التخطيط لغزو العراق، والاستمرار في إبادة الشعب الفلسطيني بكل ما يصاحب ذلك من تقتيل وتشريد وإذلال وإبادة، من أسهل السهل أن نبرر كل ذلك بمصالح شركات البترول والسلاح والدواء والمعلومات، وهذا ما أفعله ــ مثل غيري ــ مكررا، سواء كانت تلك هي الحقيقة أم أنها جزء مما يسمي التفكير التآمري. لكن هذا التفسير، الذي يبدو لأول وهلة وجيها مقنعا، احتاج مني أن أنتقل خطوة أخري حين رحت أتصور ما يمكن أن يعود على هذه الشركات من فائدة، لا باعتبارها كيانا اعتباريا يسير بالقصور الذاتي تحو التراكم الكمي دون هدف موضوعي، لكن بتجسيدها في أفراد من البشر لهم أسماء وجوازات سفر وأطفال وأحلام، وحين لم أتمكن من رصد ما يعود على أي فرد بعينه من فائدة تفسر لي ما يجري من حولي، تأكدت حاجتي إلى تفسير آخر.

    نحن لا يمكن أن نستسلم للتفسيرات السطحية الشائعة ونحن نري العالم وكأنه يدار بواسطة شخص يصفه عضو حزب العمال البريطاني «آلان سمبسون» قائلا: «بحزن، أعتقد أن بوش سيضرب العراق بالطريقة التي يضرب بها ثمل قنينة المشروب» (النيوزويك 5 أكتوبر 2002).

 

§         أمان وأمان

    إن الإنسان بعد أن اكتسب القدرة على الاختيار والتخطيط لم يعد يناسبه أن يحقق الأمان بنفس الطريقة التي نجح أجداده في اللجوء إليها عبر التاريخ الحيوي. يتحقق الأمان في الأحياء الأدنى بوسائل دفاعية لا حصر لها، نكتفي هنا بالإشارة إلى نوعين دون التطرق إلى تفاصيل مضامينهما.

أولاً: الأمان بالتكاثر، والاحتماء بالقطيع.

ثانياً: الأمان بالافتراس والتخلص من المختلف.

    النوع الأول من الأمان تحققه البكتريا ــ كمثال ــ بالتسارع بالانقسام وتكوين المستعمرات الخاصة colonies، (ربما لهذا فرحت حين عرفت أن حديث «تناسلوا تكاثروا.. إلخ» لا وجود له في كتب الأحاديث المعترف بها) أما النوع الثاني فهو يتحقق في الغابة عادة بين طبقات الحيوانات المفترسة، الأقوى فالأقوى. وفي كلتا الحالتين يتم الحصول على الأمان البدائي عن طريق إلغاء «الآخر» «المختلف»، اللهم إلاّ  في بعض الصفقات البيولوجية، الطفيلية عادة.

 

§         الأمان البشري

    أمان الإنسان، له مواصفات أخري تتجاوز الأمان البدائي بالتكاثر، أو بالقطيع، أو بالافتراس.

(1) بما أن الإنسان لا يكون كذلك (إنسانا) إلا مع، وفي حضور إنسان آخر من نفس نوعه. إنسان آخر مختلف وموضوعي وماثل طول الوقت في الواقع و/أو في الوعي. فإنه لا يتحقق الأمان البشري بدون الجدل الحيوي مع هذا الآخر البشري.

(2) إن مجرد تواجد الإنسان مع إنسان آخر لابد أن يمثل تهديدا متجددا. حتى في الزواج الحقيقي، يمكن أن نلحظ أن مجرد اقتحام آخر لدائرة الوعي بهذه الطريقة اللصيقة، يولد تهديدا رائعا وخطيرا في آن.

(3) إن قبول هذا التحدي (التهديد بالاختلاف مع حتم الاستمرار معا) يخلّق نوعا من «اللاأمان الموضوعي»، الذي هو الطريق إلى الأمان البشري.

(4) إن هذا اللاأمان الموضوعي لا يمثل قهرا يدفع إلى الإسراع بالتخلص منه، ولا هو عكس الأمان الذي تسلحت به الأحياء في المراحل السابقة للنمو أو التطور. إن هذا اللاأمان الموضوعي هو هو الحافز لحركية جدلية مع الآخر (وليس لمجرد «قبول الآخر» كما يشيعون) ليحققا معا نوعا أرقي من أمان إبداعي، دون تحقيقه، لأنه مفتوح النهاية.

(5) إن جدلية الإيمان سعيا إلى وجه الحق سبحانه وتعالي، (وهي الموقف المرادف لمسيرة النمو مفتوحة النهاية) إن صحّت ممارستها واقعا آنيا، هي التي تحافظ على زخم حركية متصاعدة، دورية إيقاعية بطبيعتها، متجهة نحو أفق مفتوح، لا يلغي اللاأمان، ولا يستسلم له في نفس الوقت.  

(6) يتوقف نجاح الإنسان في تحقيق هذا الوجود الصعب على ما تُتاح له من فرص نمو سليم في مجتمع يستوعب مراحل النمو البشري كما يليق. إن درجة نمو المجتمع البشري المحيط، بدءا من الأسرة امتدادا إلى العالم أجمع، هي التي تتيح للإنسان الفرد، في كل موقع، أن يكون إنسانا.

 

§         الردّة

       الذي يجري الآن يشير إلى أن طريقة الحياة، وطريقة التربية، وخدع السياسة، وكذب الشعارات (بما في ذلك شعارات الديمقراطية الزائفة، وحقوق الإنسان الموثقة على الورق فقط، للتطبيق الانتقائي) كل ذلك يشير إلى أن أغلب الذين يجلسون على القمة ليديروا المجتمع البشري في الوقت الراهن، لم يعودوا يحتملون أن يواصلوا مواجهة هذه الصعوبات الرائعة، لتهيئة الفرصة للإنسان أن يكمل مسيرته إنسانا. لقد فشلوا في أن يحققوا الأمان البشري، فارتدوا إلى أمان القتل والتكاثر والقطيع.

 

§         قياسا على النمو الفردي

(1) لا يوجد أكثر أمانا من جنين في رحم أمه تحيطه جدران الرحم وهو يترجّح في السائل الأمنيوتي بعيدا عن مخاطر البيئة الخارجية وعن اختلاف الناس وعن عشوائية المظالم. هذا الموقف يشير إلى نوع من الأمان ليس فيه «آخر» أصلا. ويسمي «الموقف المنفرد» (أو بالتعريب، وهو أفضل هنا، الموقف الشيزيدي (Schizoid Position وهو موقف نمائي عند كل الناس. ليس خاصا بالفصاميين.

(2) بمجرد أن يولد هذا الطفل ينتقل من موقف الأمان الأولي (الموقف الشيزيدي) إلى مواجهة حقيقة لم يكن يعرف عنها شيئا وهو في بطن أمه، وهي أنه ليس وحدة في هذا العالم. فهو يشعر بالتهديد من أي كائن آخر، من أي ممن هو «ليس أنا». تبدأ علاقة الرضيع مع العالم الخارجي (الذي يتمثل حتى ذلك الحين في أمه أساسا) باعتبار أن كل ما يقع خارجه ــ بدءا بأمه ــ هو خطر صرف: [«كل من «ليس أنا» هو تهديد لوجودي، لأماني]، وهذا ما يسّمي «الموقف البارنوي» Paranoid Position. (وهو ليس علاقة مباشرة أيضا مع مرض البارانويا).

    في هذا الموقف تكون علاقة الطفل بالآخر بمثابة علاقة حربية معلنة، باعتبار أن أي «آخر» هو  مصدر تهديد بالإغارة. هذا الموقف يعترف بالآخر بعكس سابقه الذي يلغيه تماما، لكنه يعلن باعترافه هذا: أن كل ما هو «ليس أنا» "not meس، هو تهديد ينبغي التخلص منه (هل تذكر تعبير بوش وبطانته وتابعه أنه «من ليس معنا فهو ضدنا» هذا الشعار هو إعلان الردة لإبادة المختلف باعتباره يمثل تهديدا ينبغي إزالته؟؟).

(3) يتواصل نمو الطفل بعد ذلك (كما تواصل التطور من قبل) لتبدأ مرحلة حضور الآخر متكاملا متناقضا في الوعي، وفي الواقع على حد سواء، وهو ما يسمي: الموقف الاكتئابي (Depressive position. هذا الموقف بالذات، الذي ليس له علاقة مباشرة بمرض الاكتئاب، هو مرحلة حتمية في النمو لنكون بشرا، وهو المرحلة المميزة لما حققه الإنسان المعاصر الأرقى من جدلية نتيجة للوعي والحرية والإسهام في تخليق ذاته مؤخرا. وهي هي نفس المرحلة التي يحرموننا منها بفضل السياسة، وسوء استعمال أدوية السعادة المفبركة واليقين المصنوع، والتدين الساكن المتجمد.

 

§         تفسير الجاري بقياس حذِر

    خطر لي أنه يمكن تتبع مراحل الأمان البدائية على مستوي الدول قياسا بما قدمناه على مستوي تطور الأحياء ومراحل نمو الفرد، فجاءت قراءة الجاري على الوجه التالي:

    كانت الخطة الباكرة لأمريكا (الدولة) هي الاستغناء عن العالم الخارجي حيث بدأت بالتراجع أولا إلى العزلة (السياسية والاقتصادية، التي أسمتها الاستكفاء الذاتي، بما يعني الاستغناء الذاتي، وهو ما يقابل الموقف الشيزيدي).

ثم انتقلت أمريكا بعد أن امتكلت أدوات التخلص من كل المخالفين، انتقلت إلى مرحلة الهجوم الوحشي على كل من هو «ليس أنا»:، وهو ما يقابل الموقف البارنوي (للفرد والنوع معا).

    موازيا لهذا وذاك، عجزت أمريكا عن أن تحتمل وجود الاتحاد السوفيتي مختلفا، فكانت النتيجة، بعد أن أسهمت في إنهيار الأخير، أن الولايات المتحدة طغت وتغطرست وتنازلت عن مواصلة المسيرة البشرية إذ استفردت بالأمر والنهي والحساب والعقاب، في حسين سلم الاتحاد السوفيتي نفسه لصفقات ربما تحفظ ماء وجهه، ولكنها تنفي وجوده آخرا مختلفا.

    على الجانب الآخر، راح الشرفاء والمبدعون من «أمريكا الناس»، مع كل الناس، راحوا يواصلون مسيرتهم إلى غاية البشر الواعدة. راحوا يبدعون، ويتحملون، ويحاورون، ويحتجون، حتى كان آخر ما سمعنا من إعلان الألفي مفكر ومثقف أمريكي وهم يصيحون في وجه هذا الدبليو أنك «لست نحن»، وأنه «قف عندك يا غبي».  (وهذا ما يقابل الموقف الاكتئابي، وهو الموقف الإنساني الجدلي الممتد).

 

§         فروض من منظور التطور

    من هذا المنطلق التطوري خطرت لي سلسلة من الفروض لتفسير الجاري على الوجه التالي:

أولاً: فشل «اليقين المصنوع» (من الجانبين: الديني المتجمد، والوصاياتي الأحدث) في الحفاظ على اضطراد مسيرة الإنسان. ربما لأنه كان لصالح فئة محدودة على حساب سائر أفراد النوع.

ثانياً: رأت الشركات التي تمثل قمة الاغتراب الكمي المعاصر، والتي لم تعد تنتمي لوطن أو دولة أو مبدأ أو بشر، أن بقاءها واستمرار عملقتها، مرتبط بقواعد ونزعات وغرائز بدائية لا ينبغي أن تغيب عن وعي الناس حتى تضمن استمرار مسيرتها اغترابا وتراكما كميا. فراحت تسلك الطريق الأضمن لها بأن تثير في الناس بطول الدنيا وعرضها رعبا بدائيا يدفعهم إلى النكوص إلى مراحل كانوا على وشك تخطيها.

ثالثاً: لعلها ــ الشركات ــ هي التي دبّرت، أو استغلت بطريق غير مباشر، حادث 11 سبتمبر لتحقيق ذلك، وبعد تمثيليات الاتهام والأشرطة والغزوات والتقتيل، راحت تنفخ في لهيب اللاأمان البدائي بشكل متواصل لا يقتصر على الحادث إياه.

 

§         ردّة محسوبة

    إن هذه الفروض لا تفسر فقط ما جري حتى الآن من حروب وقتل وتدمير، لكنها تفسر ــ أيضا ــ كيف أنه كلما تصور أصحاب المصلحة الخبيثة الجاثمة أن الإنسان الأمريكي (والأوروبي، ثم كل الناس) قد نسي، أو يمكن أن ينسي ما جرى في ذلك اليوم (11 سبتمبر)، ألقوا بكرة مشتعلة، أو سكبوا مزيدا من البترول على نار اللاأمان حتى لا تهمد، وذلك ليحافظوا على استمرار الشعور بالهلع البدائي طول الوقت. يفعلون ذلك: مرة بالمبالغة في حكايات جمرة الأنثراكس، ومرة بإشاعة العثور على قنبلة قذرة تحوي مواد نووية، ومرة بتلفيق امتلاك قنبلة ذرية لمن لا يملك قوت عياله.

    إن كل ذلك يسَخَّر ليؤدي إلى الحفاظ على دفع اللاأمان البدائي حتى يبرروا مواصلة الكر فالإغارة لنفي الآخر، للحصول على أمان منفرد ساكن، يمارسون من خلاله اغترابهم الكمي المتزايد.

    هذا الأمان البدائي الساكن هو الذي يظهر تحديدا في موقف: «كن معي وإلا قتلتك!!»، وهو الذي يتطور تدريجيا إلى «كن مثلي وإلا أبدتك»، فتكون النتيجة بعد نجاح القتل والإبادة هي إلغاء الآخر جملة وتفصيلا، سرا أو علانية.

 

§         الأضعف يستجيب بنكوص مقابل

    استجابة لهذا الموقف من الأقوى صاحب المصلحة في الردة والنكوص، يجد الأضعف نفسه في موقف الضحية الذي لا يملك أبسط الوسائل للدفاع عن النفس، فهو يستجيب لقهر الأقوى، بالانسحاب فالتسليم، أو بالانتحار (لا أعني العمليات الاستشهادية، وإنما أقصد الكسل واليأس) أو بالتكاثر منفصلا عن كل من خالف قطيعه، فضلا عن الذهول بالجمود.

    يضاعف هذا الموقف أن حكام هؤلاء المستضعفين يبدون وكأنهم قد تحالفوا سرا مع الأقوى لإذكاء نار اللاأمان البدائي بدورهم، فكأنهم  يمارسون تفويضاً ــ محدوداً ــ للعب نفس دور القوي الناكصة الأعلى. إنهم يلعبون مع شعوبهم المقهورة نفس الدور الذي يلعبه الأقوى مع المختلفين عنه عبر العالم.

    ثم تتفاقم المصيبة حين تشارك الشعوب الأضعف في الإسهام بدورها في تمادي نكسة الردّة، إذ تدرك أنه لم يعد مسموحا لها إلا بالصياح والتظاهر (وأحياناً كتابة الشعر)!!

    دور المقهور هذا وهو يلغي نفسه يذكرنا بجدل العبد والسيد (هيجل) حين يحرم العبد سيده من إنسانيته بطاعته المطلقة فيعدم نفسه «آخرا» فيستحيل على السيد أن يكون إنسانا (إذْ لا إنسان بدون آخر).

 

§         مخاض أكيدة وولادة غير مضمونة

    برغم كل ذلك، فإن العالم يعيش مخاضا جديدا خليقا بتاريخ الجنس البشري. إنه التحدي الحقيقي لاستمرار البشر ــ كل الناس ــ وهم يحافظون على ما أوصلهم إليه تاريخهم الرائع. إن كل القوي الإبداعية في كل العالم ترصد هذا النكوص الجاري على السطح لتقاومه بمحاولة الاحتفاظ بما حققته البشرية عبر تاريخها، ومن ثم الانطلاق منه. إن حركات المقاومة من عامة الناس، ومن المبدعين خاصة،التي لا تقتصر على إصدار البيانات أو القيام بمظاهرات، هي الأمل الحقيقي في وقفة تفجر كل طاقات البشر لمراجعة كل الجاري، والإسهام في وقف التمادي في النكسة، وتحمل آلام وروعة ما وصل إليه الإنسان من صعوبات ليس أجمل منها  إلا التعامل معها بما تعد وتبدع.

    الأمر يحتاج من كل فرد أن يقبل مراجعة كل البديهيات بدون استثناء مهما بدت الشعارات التي أوصلتنا إلى ما نحن فيه براقة ومريحة.

ليس معني مراجعة البديهيات والمقدسات أن نحطمها قبل أن نجد البديل، إن المراجعة غير التراجع، إن الاعتراف بأن البديهيات الشائعة لم تكن لا نهائيا، لابد وأن يصاحبه اعتراف بدورها الإيجابي في مرحلة كنا نحتاجها فيه.

 

§         أسئلة وتحديات

    لم أكن أقصد وأنا أضع هذه الفروض أن أقدم إجابات، ولكنني عنيت أن أطرح تساؤلات أصبحت محاولة الإجابة عليها فرض عين على كل إنسان حريص على أن يستمر نوعه بما أنجز ويعد.

أولاً: كيف نسعى إلى الأمان المفتوح النهاية، بالحفاظ على «اللاأمان البشري» الناتج عن التواجد مع آخر مختلف فعلا.

ثانياً: كيف نوقف خدعة «قبول الآخر» التي ليست إلا فض اشتباك لصالح الأقوى، ليحل محلها «الجدل مع المختلف» لتخليق ما يمكن منهما معا؟

ثالثاً: كيف يمكن تحقيق الحرية الحقيقية من خلال التنازل عن أوهام الديمقراطية، دون أن نقع في الاستسلام لشمولية تتربص.

رابعاً: كيف يمكن أن نحافظ على حقنا في الاكتئاب الذي هو الدليل الطبيعي على وعينا بمأزق الاختلاف دون أن يعطونا حبوب السعادة متهمين إيانا بالمرض؟ إن الاكتئاب الموضوعي هو علامة الاعتراف بضرورة معايشة اللاأمان الموضوعي دون الإسراع نحو تحقيق أمان ساكن بإلغاء الآخر بالكر أو بالفر، بالعزلة أو بالإبادة.

 

§         الخلاصة

     إن الإنسان لا يكون إنسانا بأوهام امتلاك قوي ساحقة، أو بالأمل في خلود زائف، أو برفع شعارات قصيرة عمرها الافتراضي. أو بزعم محاولة توحيد العالم تحت راية شعارات ومذاهب تخص فئة دون سائر البشر.

    إن الإنسان يكون إنسانا بالحفاظ على ما وصل إليه من وعي وحرية، هما السبب المباشر في استمرارية اللاأمان الموضوعي المصاحَب بالاكتئاب الحيوي الضروري لمواجهة الواقع، والذي هو ــ برغم اسمه ــ ضد اليأس ومع الفرحة بكوننا قادرين على اقتحام الغيب إيمانا به واحتسابا، ساعين إلى وجه الحق سبحانه، وهو ــ تعالى ــ ليس كمثله شيء.

 

Document Code OP.0075

RakkaouiHumanEvolution

ترميز المستند  OP.0075

Copyright ©2003  WebPsySoft ArabCompany, www.arabpsynet.com  (All Rights Reserved)