Arabpsynet

أبحاث أصيلة / Original papers

شبكة العلوم النفسية العربية

 

هذيانــات مخـبريــة

توماس ساوم- ألديهوف

ترجمة : د. سامر جميل رضوان

 

 

q       النص الكامل /  Full text / Texte  entier 


    هل نستطيع-  نحن العلماء- تقليد ما يعيشه الفصاميون في أثناء طور ذهاني وما يجري في تلك الأثناء في الدماغ وذلك من خلال تناول مواد مغيرة للوعي ؟

    فبعد عقود من الامتناع  عن التجريب مع العقاقير المخدرة يعاود بحث الأسس الطبي النفسي نشاطه ، حيث تشهد " ذهانات النموذج"  المحدثة بوساطة المواد المخدرة،  مثل  ل س د LSD أو البسيلوتسيبين   Psilocybin أو الميسكالين Mescalin عودة جديدة.

 

    كان إميل كريبلين إنسانا فضولياً  ودقيقا  ومنهجياً في الوقت نفسه. وقد بدا للباحث والطبيب، الذي قام  في مستهل القرن العشرين بتأسيس الطب النفسي التجريبي ،  شيئا ما محيرا،  فحاول ملاحظته ووصفه وتصنيفه بطرق العلم  الدقيقة.

    وعندما أثارت اللغة المشوهة، التي تفاهمت بها الصور في أحلامه بين الحين والآخر دهشته أكثر من مرة،  قرر تدوين هذه التعابير الحلمية الغريبة  بدقة  بعد اليقظة مباشرة وبشكل دائم.   

    ولم يكن هذا سهلا إذ أن عمق اللامعنى الكامن في خطاب الحلم المتسلل إلى الشعور اليقظ بقي في البدء متخفيا عن المستيقظ. ولكنه عندما أخذ بتكرار الجمل مرات ومرات لنفسه كي لا ينساها  اتضح له  شيئا فشيئا" شذوذ أو لا معنى التعبير اللغوي ".

    وهنا تحتم على المجرب على نفسه أن يكتشف وجود بعض من التدهور فيما يتعلق بالمنطق في تجليات أحلامه الليلية.

    فقد جاء  في " حكاية  - أندرسن "،  على سبيل المثال، والتي التي تبدت في شكل حلم ما يلي: لم يكن أحد يعرف بأن المصباح كان في حالة سيئة توحي بالخوف تجاه القمر. وهكذا أحمل  تهنئتي للحرس!  ومنذ ذلك الحين  لم يعد الولد الصغير يتسلل من النافذة .

    هذا وقد  كانت كثير من  أجزاء لغة ال274 حلم التي دونها  في النهاية طبيب الأعصاب وبعض من معارفه  متشابهة الدلالة مشوقة.(.....)

    في عام 1910 كتب كريبلين يقول  :" يشكل  التبديل المفاجئ للحوادث المتعاقبة  والفقدان المستمر للخيط ، الذي تتسلسل وفقه الأحداث، الخصوصية الأكثر لفتا للانتباه لخبرات أحلامنا ".وطبعاً لم يقم الأب الأول لبحث الذهان بتدوين غموض أحلامه من أجل مجرد المتعة ، وإنما لغرض استكشافي عبقري. فقد لاحظ كريبلين أن التعاقب الشاذ للأفكار وعدم تجانسها، الذي يعيشه كل إنسان  "  سوي "  في أحلامه ،  يشبه بشكل مثير للدهشة اضطرابات شكل التفكير الذي غالبا ما يعاني منه الفصاميون. وتشكل حالة الشاب المذكورة في الكتاب التعليمي " علم النفس الإكلينيكي" لروجرز كومر  Roger Comer مثالا على ذلك، فقد أجاب عن السؤال عن يده التي تحكه بما يلي : إن المشكلة هي الحشرات. فقد جمع أخي دائما الحشرات.  إنه الآن رجل بخمسة أقدام عرضها عشر بوصات. أتدري، العشرة هي رقمي المفضل. أنني أحب الرقص والرسم ومشاهدة التلفزيون.

    ويرى كر يبلين أنه  من المألوف بالنسبة للفصام  والحلم  وجود  "  انحرافات شبيهة …، يحال فيها بين  الوضوح السليم لفكرة ما من خلال ظهور تصورات جانبية ملهية، سواءْ أكانت  هذه الانحرافات عبارة عن تداعيات  أو تشابهات مفهومية " . ويمتلك الحلم بالنسبة للعلماء قيمة لا تقدر بثمن، ذلك أنه يمكن التجريب مع حالمين "  أصحَاء " بشكل أريح من التجريب مع ذهانيين خائفين.

    و كان كريبلين مولعا بالتجريب. فقد تعلم صنعته في أثناء عمله مساعدا لمدة سنتين  لفيلهيلم فوندتWelhelm Wundt   الذي أدار في ليـبزغ أول مخبر تجريبي في علم النفس في العالم. وكان تلميذ فوندت النشيط  مسحورا بفكرة محاكاة أعراض الخبل المبكرDementia praecox  ،  وهو الاسم الذي أطلقه على الفصام، لدى الأصحاء  وبالتالي إثارة  " اضطرابات عقلية اصطناعية ". حتى أنه في عام 1892 كان قد تحدث حول تجارب " للتأثير  على الحوادث النفسية البسيطة بوساطة الأدوية ".

    غير أن بدايات الدراسة التجريبية للذهان بوساطة عقاقير "  منشطة نفسياً " ترجع إلى أبعد من ذلك، ففي عام 1845  ألف  جاكوس جوزيف موري دي تورزJacques Joseph Moreau de Tuors   كتابا حول الأشياء المشتركة بين تدخين الحشيش والأمراض العقلية. إذ أن هذا الطبيب المساعد الباريسي قد تعرّف في أثناء مرافقته لمريضة ثرية في " رحلة علاجية "  إلى مصر مزايا وسيئات القنب ودرسها في وقت لاحق. وهذا ما قاده إلى الاتصال مع بودلير  Baudelaire   و ( نادي الحشاشين)،  في حين جرّب علماء آخرين مع الأفيون أوالكوكائين أو فطر عيش الغراب أو الميسكالين أو البيُوت - صبار - ، منهم على سبيل المثال الطبيب النفسي كورت بيرينغر من فرايبورغ الذي يعود إليه مصطلح "  ذهان النموذج " في العشرينيات من هذا القرن.
 

§         رصـد الرحلة في الدمـــاغ

    ومع اكتشاف السمات المغيرة للوعي لمادة LSD في عام 1943 حظيت دراسة ذهان النموذج بدفعة جديدة،  إلاّ أنه في عام 1966 تم وضع حد للتجريب البيوكيماوي على الوعي، وذلك عندما تم  تقييد سياسة المخدرات بما في ذلك البحث أيضا.

    على أية حال  لم يبق ذلك الوقت الكثير من الصحوة السابقة للمخدرات،  فقد اعتبر أنه على الرغم من أن المخدرات تقود إلى إنتاج حالة نفسية شبيهة بالفصام ،  غير أنها لا تعكس "جوهر" أو " لب" الاضطرابات الفصامية.

    غير أنه في هذه الأثناء عادت دراسة ذهان النموذج  لتتقدم ثانية. ومن المثير للمفارقة أنه يمكن الآن في تجارب ذهان النموذج محاكاة "الأعراض الأساسية"  للفصام، أي الاضطرابات الشكلية للتفكير ( اضطرابات شكل التفكير) ، بصورة واعدة - واعدة  إلى درجة أن مسؤولي الصحة في هذه الأثناء اصبحوا يجيزون بين حالة وأخرى القيام بتجارب مراقبة مع عقاقير  مغيرة للوعي . وفي الوقت الراهن يوجد نصف دزينة تقريبا من موضوعات البحث في العالم التي تقوم بتجارب بوساطة  تلك المواد. وكان من الممكن أن تكون أكثر من ذلك لو لم يكن هناك " تقييد قانوني لمثل  هذه التجارب"- كما يرى الطبيب النفسي الهايديلبيرغي مانفريد  شبيتسر.  ويعرف الباحثون اليوم  أكثر حول التأثير البيوكيماوي للمواد المستخدمة  المثيرة للهلوسة من جهة ؛  ويستطيعون من جهة أخرى  مراقبة ما يجري في الدماغ  بدقة في أثناء رحل  مخدرات من ناحية أو هجمة ذهانية  من ناحية أخرى بوساطة  أساليب التصوير بالكمبيوتر.

 

    ففي الربط الذهني للمفاهيم على سبيل المثال تتداعى أفكار المجرب عليهم "الأصحاء "في العادة بصورة " نمطية " وعادية إلى حد ما. فعندما تذكر لهم كلمة "  طاولة " يخطر على بالهم بصورة دائمة تقريبا " كرسي" ،  ويذكرهم  " الأسود "  " بالأبيض"  ويربطون بين "فوق "  و " تحت ".  أما الفصاميون بالمقابل فإنهم ينتجون في بعض الأحيان ترابطات غير مألوفة من الأفكار.  وهذا ما لاحظه أبو الطب النفسي السويسري أويغن بلويلر ومساعده في ذلك الوقت كارل غوستاف يونغ في بدايات القرن العشرين  في مئات من اختبارات تداعي الكلمات التي طورها في عقود سابقة قليلة الإنجليزي فرانسيس غالتون .ففي هذا الاختبار يتم ذكر كلمة على نحو  " شمس" للمفحوص وعليه أن يذكر أول كلمة تخطر على باله مثل " شتاء ".  وبهذه الطريقة يمكن إعداد شبكة منتظمة من البطاقات، التي تحدد الطريقة التي ترتبط فيها المفاهيم اللفظية في الدماغ مع بعضها(  أنظر الشكل التخطيطي) .ومن خلال الوسائل الفيزيوكهربائية والتصويرية الحديثة التي أصبحت في الوقت الراهن تحدد بدقة كبيرة الباحات الدماغية النشطة عند وجود مجهود معرفي،  تمكن مانفريد شبيتسر من البرهان بأن  هذه "  الخرائط الدلالية " لا توجد في المحيط النفسي الخالي من الهواء فقط ،  وإنما تتموضع المفاهيم المتقاربة في اختبار تداعي الكلمات أيضا بشكل متقارب مكانيا  في محيط الدماغ (المادة السنجابية) بطريقة مثيرة ،  وبالتحديد في باحات معينة من التلفيف الجبهي والصدغي.  ففي هذين الحقلين يتجمع  مكانيا بالفعل ما يتلازم مع بعضه في أثناء التفكير،  أي " الثور"  إلى جانب "البقرة "  والبقرة من جهتها إلى جانب "الحليب".

 

§         الشكل التخطيطي شجرة المفاهيم هنا تقريبا

      وقد أثبت شبيتسر في هذه المحاولات بطريقة فيزيودماغية ما كان يونغ قد وجده في تجاربه حول  التداعي (أو الترابط).  فعندما يطلب من المجرب عليهم "  الأصحاء " أن يربطوا بين كلمة ما وأخرى فإنهم يختارون بشكل دائم تقريبا مفهوما من المحيط المفهومي المباشر للكلمة المعطاة لهم.  أما ما يحصل على المستوى الفيزيولوجي الدماغي  فهو التالي: تنشِط الكلمة المعطاة في محيط الدماغ شبكة أعصاب محددة بإحكام،  تطابق هذا المفهوم اللغوي. وتطلق على هذه البنى التي تطابق  الكلمات  في البرمجيات اللينة(Software)   الفيزيولوجية للدماغ   تسمية " العقد الدلالية". وقد لاحظ الباحثون بأنه في  التداعي(أو الترابط)  "السوي"  تقفز الإثارة من عقدة منشّطة قبلاً إلى إحدى العقد المجاورة مكانياً وتتوقف.

                            

الفصاميون يتداعون بشكل أكثر  " إبداعية "

      أما الفصاميون فيتداعون بشكل أكثر اتساعا، وبالتالي بشكل أقل دقة .  فهم غالبا ما يغفلون العقدة الأولى الأقرب ويقفزون إلى ما بعدها، أي  من "الليمون" إلى "حلو " مباشرة (مع إهمال "حامض").

    ومؤخرا أثبت شبيتسر وزملاءه بطرق أخرى أن التداعي غير المباشر  من نوع "  ليمون  - حلو " يبدو  غريبا  بالنسبة للمجرب عليهم غير الذهانيين في حين  يبدو عاديا للفصاميين.  فمن المعروف من تجارب باكرة أن الناس يستجيبون على الجمل المنتهية بشكل غريب من الناحية الدلالية وعلى أزواج الكلمات التي لا معنى لها بعد 400 ميلي\ثانية بذبذبات  مميزة في مخططة الدماغ الكهربائية  EEG.  ويستفيد باحثوا هايديلبيرغ " من  موجة -N-400 " هذه.  فقد عرضوا على كل من 20 فصاميا و 20 شخص يمثلون عينة ضابطة أزواج من الكلمات،  من بينها مفاهيم ترتبط بصورة غير مباشرة  مع بعضها،  مثل  " عتمه -  نهار ". وكما هو متوقع فقد استجاب غير الذهانيين على هذه الأزواج من الكلمات المترابطة مع بعضها بشكل غير مباشر، بموجة N-400  في مخططة الدماغ الكهربائية،  أي بإشارة فيزيولوجية تقول :  "هناك - شيء ما - غير مضبوط- لغوياً"،  أما لدى المفحوصين الفصاميين فلم تظهر  موجات N-400  وعلى ما يبدو فإن المفاهيم المرتبطة مع بعضها بصورة غير مباشرة تبدو "عادية " بالنسبة لهم. وتتوافق هذه الارتباطات غير المنظمة لمحتويات الوعي مع تشتت واضطراب التفكير واللغة لكثير من الفصاميين.  ومن هنا ينص السؤال الرئيسي لدراسة ذهان النموذج على ما يلي: هل يمكن محاكاة اضطرابات الترابط (أو التداعي) هذه لدى الأصحاء أيضا؟

    وهذا ما حاوله مانفريد شبيتسر. فقد اختبر في البدء مقولة سلفه ومثله الأعلى الهايديلبيرغي إميل كريبلين حول "اضطرابات الترابط"  في الحلم. فعندما كان شبيتسر باحثا زائرا  لبعض الوقت في مخبر ألان هوبسون للنوم في جامعة هارفارد،  وضع لبعض المجرب عليهم كمبيوترا إلى جانب السرير وأيقظهم من نومهم العميق ليغمرهم  مباشرة باختبارات ترابط كلمات (أو تداعي كلمات). وكانت النتيجة أن الغارقين في النوم يتداعون بالفعل بشكل أقل توجيها، أي  بشكل مشابه لما يحدث عند الفصاميين.

    وحدث ما يشبه ذلك  لثمانية متطوعين أصحّاء أعطاهم شبيتسر وزملاءه جرعة مولدة للهلوسة من البسيلوتسيبين بعد موافقة مركز الأفيون الاتحادي في برلين، فقد تداعى  " ذهانيوا- النموذج"  هؤلاء بشكل أكثر تقلبا و غير مباشر من مجموعة الضبط التي لم تتناول أي عقار. وعلى حد تعبير شبيتسر فإن "  نتائجنا تشير إلى أن المدخل إلى ذاكرة الترابط (أو التداعي) أصبح أكثر اتساعا".

    بالإضافة إلى ذلك وجد باحث الفصام أنه لا يمكن خلخلة الترابطات بشكل اصطناعي بوساطة طرق بيوكيماوية فحسب، وإنما تضييقها كذلك. فقد لاحظ هذا التأثير عندما أعطى مجرب عليهم أصحاء مادة L-Dopa التي تقوم الخلايا العصبية منها ببناء المرسل الدماغي الدوبامين . ويمتلك الدوبامين  التأثير نفسه على قدرة التفكير الذي يمتلكه الخوف،  فهو يقوم  بتثبيت   و " تضييق "  التداعيات.  ولكن ليس بالضرورة أن يكون ذلك دائما مفيدا،  كما يعرف هذا الأشخاص الخوافين الذين يقدمون امتحانات من خلال خبرتهم المشحونة بالمعاناة. فعندما يكون المرء متوترا كثيرا يتشنج التفكير و لا تخطر على بال الشخص إلاّ  لحلول النمطية ،  وتغيب " وثبات الأفكار"  الإبداعية.

    وتتناقض هذه المقولة  والقائلة أن الدوبامين  يضيق طلاقة  التفكير أكثر من  أن يرخيه مع النظرية المناقشة منذ زمن في البحث الطبي النفسي  والقائلة بأن الفصام يقوم على أساس من فرط إفراز الدوبامين في الدماغ.  فالفصاميون  لا يعانون من تداعيات  (أو ترابطات)  شديدة الضيق  وإنما من تداعيات شديدة التخلخل.  فهل يمتلك هؤلاء في النهاية القليل جدا من الدوبامين في الخلايا السنجابية بدلاً من الكثير منه،  باعتبار أن الدوبامين "يهذب " ترابطات الأفكار؟  الإجابة : لا هذا ولا ذاك.  ففي آخر النظريات المناقشة في المؤتمرات حول الفصام اصبح الدوبامين يلعب دورا ثانويا على أية حال،  فعند  حدوث الذهان يصبح عمل الدوبامين على ما يبدو  عملا غير مباشر ليس إلاّ . ويخمن كثير من الباحثين في هذه الأثناء  أن  "الاضطراب الأساس " للفصام يكمن في "  خطأ موروث أو ناجم عن تضرر حاصل للدماغ في رحم الأم   في الشق المادي "Hardware، يلاحظ  في البدء من خلال خلخلة تصعب ملاحظتها لترابطات الأفكار .  وحسب هذه التكهنات يمكن أن تكون سبب حساسية الفصاميين للدوبامين محاولة العضوية  لإعادة توجيه تشتت التفكير. فالدماغ يحاول تسوية  الخطأ الحاصل في الشق المادي وذلك من خلال قيامه بتثبيت الترابطات إلى أبعد حد ممكن  بوساطة الدوبامين.  وعلى ما يبدو فإن هذه التسوية لا تنجح إلاّ لفترات محددة فقط. ففي وقت من الأوقات - في موقف حياتي مرهق بشكل خاص مثلا - ينقلب نظام الدوبامين المفرط الإفراز لدى الشخص المعني إن صح التعبير و يحدث الذهان.

 

    ويخمن شبيتسر أن آلية ترابط التفكير  نفسها لا تضطرب في   أثناء إحدى تلك الهجم الذهانية - وكذلك في أثناء الخبرة الذهانية المحدثة بوساطة العقاقير أيضا-،  وإنما رئيسها بمعنى ما،  أي أن  "مقدم السياق " الأعلى في الفص الجبهي (الجهة العليا المسؤولة عن تنظيم سياق التفكير) لا يقوم بوظيفته القيادية. وتعمل هذه الجهة الافتراضية المرتبطة بصورة وثيقة مع الذاكرة قصيرة المدى والانتباه والشعور على ترابط وتماسك التفكير، إنها تقوم بإبلاغ حقول الترابط (أو التداعي) بالاتجاه " الذي ينبغي فيه ربط الأفكار إن صح التعبير.

  ومما لاشك فيه أنه لا يمكن جعل اضطرابات الانتباه والذاكرة قصيرة الأمد وحدها المسؤولة عن الفصام أيضا،  إذ  أن تكدرات الشعور من هذا النوع لا تظهر في كل الحالات الذهانية الممكنة . فعندما "  يسكب المرء ثلاثة أقداح من الويسكي في رأسه"،  يقول شبيتسر،  "  يضطرب التفكير لديه ولا يعود قادر على التركيز بصورة جيدة ".  ولحسن حظ الباحثين  فإن المواد المولدة للهلوسة  لا تؤثر على الوعي والتفكير بمثل هذا النوع من البساطة. وبشكل خاص فإن الكيتامين و (PCP)  يسببان اضطرابات في الإدراك والتفكير،  قريبة إلى حد ما من الخبرة الفصامية.

فما هو جانب الخبرة المشترك  بين الذهانات الحقيقية و ذهانات النموذج؟ و هل هناك جوهر مشترك لهذه الحالات من الوعي ؟.

نحن جميعا نجد أنفسنا من وقت لآخر - وليس بعد تناول الفطور والأدوية -، في أثناء  الحلم أو عند التأمل أو الرياضة أو في  " غمرة " العمل المركز في بيئة روحية متبدلة. وكما استنتج النفساني السويسري  أدولف ديتريش في عام 1985 في دراسة ~استبيانيه عالمية مكلفة  فإن لهذه  الحالات كلها من الوعي،  بما قي ذلك الخبرات الناجمة عن العقاقير، جوهرا مشتركا.

    وكثير مما ينتمي إلى جوهر  التبدل الحاصل في الوعي عند  " الأصحاء " يلاحظ كذلك في خبرة الفصاميين في أثناء ذهان حاد. وهذا ما تظهره نتائج دراسة ما تزال غير منشورة للطبيب النفسي إلمار هابرماير من آخن الذي استجوب مؤخرا 100 مريض بالفصام في أثناء وبعد زوال هجمة فصامية بوساطة استبيان ديتريش .  والنتيجة نفسها حول وجود أمور مشتركة بين الخبرة الذهانية وحالات الوعي  "للأصحاء " كانت قد توصلت إليها الطبيبة النفسية وعالمة النفس مايا ماورير من بيرن  قبل سنتين في تحليل بعدي  لمعطيات دراسات سابقة.

    فحالات الوعي الفصامية و  "السوية " غالبا ما تمتلك شعورا  يطلق عليه الأطباء النفسيون تسمية "الاغتراب Derealisation " على سبيل المثال،  أي فجأة  يبدو المحيط  والانا الخاصة بالشخص متبدلين وغير حقيقيين،  وتزول البديهية التي تقابلنا فيها الأمور اليومية . وتتميز هذه الظاهرة بمقولات مثل

" لقد بدا لي محيطي غريب بشكل فريد"،

" بدت لي الأشياء ذات معنى جديد،  غريب"،

شعرت وكأن كل شيء حولي غير حقيقي بشكل ما" . 

ويمكن أن تتوج خبرات الاغتراب هذه بشعور ذوبان الحدود بين ذات الشخص والمحيط،  وهذه الحالة إمّا أن يحسسها المعنيون متطرفة السعادة أو أنها رحلة مثيرة للاشمئزاز.  وكما لاحظ كل من  هابرماير و ماورير يعيش الفصاميون  في بعض الأحيان خبرات اغتراب سارة أيضا. ويصف المعنيون ذهانهم بتعابير مثل " بدوت متعمقا بشكل خاص " ؛ "  اكتسبت رؤيا في العلاقات التي بدت لي محيرة قبل الآن " . ولكن يغلب أن يمر  مرضى الذهان بخبرات مقيتة بصورة جوهرية أكثر، " كنت خائفا من فقدان السيطرة على نفسي"؛  "  شعرت كدمية مسرح العرائس" ؛ "  كنت خائفا من عدم الخروج من حالتي ثانية ".

فهل الذهانات الفصامية عبارة عن  متغيرات " رحلة مزعجة bad trip  "  فحسب  ؟

    كان الروائي والمعجب بمادة  LSD الدوس هكسليAldous   يرى أن نشوة المخدر التي يثيرها الدماغ نفسه لدى الفصاميين لا تختلف عن الرحلات الأخرى من حيث المبدأ،  إلاّ  أن الفصاميين لا يمتلكون أية سيطرة على نشوتهم،  فعلى عكس رحالو الوعي "المألوفين"  فإن الفصاميين لا يمتلكون أية ضمانة " بالسماح لهم بالعودة إلى أمور الحياة اليومية     المهدئة "،  بالإضافة إلى ذلك ينزلقون في هلع يجعلهم يعيشون في هول جهنمي بدلا من رؤى سماوية،  على حد تعبير هكسلي.

    غير أن مانفريد شبيتسر واثق من أن    هذا وحده لا يمكنه تفسير الفرق المرضي النفسي بين  الذهان الحقيقي والذهان الناجم عن العقاقير المخدرة، وإلا لكان لابد وأن يتطور الأمر إلى هذيان " حقيقي " لدى أولئك الجنود الذين  تحولوا بدون علمهم  إلى مجرب عليهم من قبل وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية  CIA لمادة LSD.  وعلى الرغم من أن  هؤلاء التعساء الذين لم يدروا ما الذي جرى معهم قد عانوا،  حسبما قيل،  من مخاوف مرعبة في الواقع،  فقد  كانوا يختبئون مرتجفين تحت الجسور لقناعتهم بأن العربات الهادرة حولهم بأنوارها الساطعة عبارة عن تنانين،  إلاّ أن تحويل عربة الثلاثين طنا إلى تنين لا تشكل هذيانا فصاميا بعد،  بل على العكس،  يرى شبيتسر، " إن الفصامي يرى السيارة تماما مثلما يراها أي شخص آخر  غير أنه يمتلك هنا شعور أكيد أنه لابد لهذه السيارة وأن تكون على صلة  به  نفسه بطريقة تآمرية ما.  وهذا الإدراك البصري السليم الذي تلتصق فيه الأفكار الهذيانية،  أي  الربط المرضي لكل شيء مع الشخص ذاته غير موصوف في الخبرات الهلاسية الناجمة عن العقاقير المخدرة.

    وفي الواقع فقد حصل هابرماير وماورير في التحليل الذي قاما به للاستبيان حول حالات تبدل الوعي على مجموعة من المقولات الأقرب لأن تكون غير نمطية بالنسبة لخبرات العقاقير المخدرة ،  والتي غالبا ما  أجاب الفصاميون عنها بنعم.  وهذه الخبرات كانت في غالبيتها عبارة عن تصورات هذيانية،  مثل : "  كنت مقتنعا بأن أفكاري كانت مراقبة " ؛  "كنت أملك انطباعا بأن الناس يتحدثون عني من وراء ظهري"، "..أُضمر لي العداء"؛  كنت أشعر كما لو أن أمرا مروعا سيحصل لي".

 

§         المدخل إلى العالم الداخلي للمرضى

    و لا تعد مثل هذه التصورات الزورية (البارانوئية) من الأمور النمطية أو المألوفة بالنسبة لرحلات -  الرعب أو بالنسبة لخبرات العقاقير المخدرة المريبة،  غير أنها كذلك بالنسبة لأشكال محددة من الفصام. ففي حين أن الأنا الخاصة تبدو بأنها تـذوب بالنسبة لمستهلكي مادة LSD ،  فأنها تتضخم (أو تتسع)  بالنسبة للفصاميين : ففي نوبة الهذيان يتم ربط جميع أحداث المحيط بعلاقة مع ذات الشخص.

    والظاهر أن الفصاميين أنفسهم أيضا يستطيعون تمييز رحلة رعب ناجمة عن العقاقير المخدرة عن  الهذيان "المألوف" لديهم. ففي الثلاثينيات من هذا القرن حقن الطبيب النفسي كونراد تسكر (بطريقة يشيب لها شعر الرأس من الناحية الأخلاقية !)

    مرضى فصاميين مادة الميسكالين بدون علمهم وموافقتهم،  بحجة أنها حقنة " فيتامين " . وعندما بدأ هؤلاء المساء استخدامهم لأغراض البحث  يشعرون بتأثير العقار، استجابوا مرعوبين.  فقد أحسوا بدقة  بأن هذه الحالة من الوعي (أو الشعور) كانت حالة " أخرى"  غير مألوفة بالنسبة لهم. فتأثير الميسكالين لم يقو الذهان الموجود وإنما شعر به وكأن الخبرة قد طعّمت بأجسام غريبة .

    فما قيمة بحث ذهان النموذج إذاً ؟  أيقلد الباحثون  بعقاقيرهم المخدرة بعض الوجوه الجانبية للخبرة الفصامية ببساطة بشكل غير خبير كثيرا  أو قليلا بدون الولوج في لب أو " جوهر" الاضطراب ؟

    منذ بدايات البحث الطبي النفسي ما يزال هناك خلاف عما إذا كان هناك مثل هذا النوع من "الاضطراب الأساس "  للفصامات على الإطلاق. و أويغين بلويلر الذي أوجد مفهوم "الفصام" تحدث دائما عنه بصيغة الجمع،  وجمع تحت " طائفة الفصامات" اضطرابات عقلية مختلفة الأنواع ، تشترك فيما بينها باضطرابات التفكير والإرادة  وخبرة الأنا. ولم يعتبر بلويلر بالمناسبة الهذيان من الأعراض الأساسية للفصامات،  وإنما اعتبره عرض مرافق ليس من الضرورة أن يظهر.

    ومن هنا فإنه ليس من المثير للدهشة كثيرا ألاّ يكشف ذهان النموذج إلى حين كثيرا حول أسباب أو مجرى أو إمكانات معالجة الأمراض الفصامية. ومع هذا تشكل  هذه التجارب محاولة واعدة لإنارة  تلك الحوادث النفسية والفيزيودماغية التي تسيل من المجداف لدى الفصاميين بشكل أقرب. أما النتائج النظرية والعلاجية التي يمكن استنتاجها من ذلك فما تزال غامضة في البدء كما هو الحال في بحث الأسس ككل.

    والفائدة العملية الأولى للتجارب يمكن أن تكون في تزويد الأطباء النفسيين  بمدخل إلى العالم الداخلي للمرضى،  يمكنهم من الإحساس ببعض الوقائع من التفكير  والإحساس الفصامي على الأقل، وذلك من خلال جمع المعالجين أنفسهم لخبرات عقاقير "شبيهة بالفصام".

    مانفريد شبيتسر قام مرة بتجريب جرعة من الميسكالين في إطار دراسة علمية، وقد كان إلى حد ما خائفا من التجربة الذاتية،  ولكن ليس  كثيرا من تأثير العقار بحد ذاته وإنما كان مرعوبا من إمكانية أن يهزأ درسه العملي من كتابه الثخين الذي كان قد أنجزه قبل أسبوعين حول الهلاوس. ولكنه عندما راقب بقلب خافق كيف بدأت معالم الأشياء تتجلى آخذة بالتحرك،  وعندما تحول مقبض الباب أخيرا إلى سمكة سبحت مبتعدة،  عندها استطاع أن يتكئ هادئا وأن يستمتع ببقية الرحلة مسترخيا.

"  لقد كان كل شيء كما وصفته من المراجع تماما ".

    ترتبط المفاهيم المخزنة في الدماغ مع بعضها بشكل شبيه لنموذج "الشبكة الدلالية " الموضح في الشكل. فعندما يقوم الأشخاص الأصحاء بعملية التداعي فهم غالبا ما يربطون بين المفاهيم المتجاورة ، فمفهوم "النهار" يربطونه مع "الليل"،  أما الفصاميون  و "ذهانيو النموذج" بالمقابل فينحرفون عن ذلك.  فعند ذكر كلمة " نهار" تخطر على بالهم كلمة "أسود".

 

§         بعض العقاقير المخدرة، التي تسبب حالات شبه ذهانية

    الميسكالين يشبه في بنيته الكيماوية  المرسل العصبي الدوبامين والنور أدرينالين. ويستخرج من نوع من الصبار القادم من شمال ميكسيكو، ويصنع منذ مدة طويلة بطريقة تركيبية. ويقود

    الميسكالين إلى هلاوس بصرية بشكل خاص. ويبدو الشيء المدرك أشد "كثافة "من المعتاد. مدة التأثير بين 6-8 ساعات.

-                    DOM عبارة عن مركب أمفيتاميني صنعي،  يمكن أن يقود إلى حالات حادة من الخوف. يستمر التأثير لفترة قد تصل إلى 72 ساعة (!)

-                    DMT يشبه كيماويا المرسل الدماغي السيروتونين. يحقن عضليا.  يبدأ التأثير الذي يشبه تأثير LSD   بعد 10 دقائق ويزول بعد 40 دقيقة على شكل موجات

-                    بسيتوتسيبين يوجد في فطور مختلفة. ويسبب العقار إلى جانب الهلاوس المألوفة خبرات صوفية بشكل خاص، وكذلك "رحلات مقيتة bad trips" . مدة التأثير 6 ساعات.

-                    LSD استخرجه البيرت هوفمان في عام 1938 من حمض أل Lyserg(حجر البناء الأساسي لكل أنواع المشيمة \المترجم\) الموجود في المشيمة. ويحدث حتى في جرعات منخفضة جدا  تبدلات في الإدراك البصري وخبرة الزمن والانا وفي تقويمات وتفسيرات الخبرة ( دينية و ميتافيزيقية غالبا). التأثير حتى 12ساعة.

-                    PCP (Phencyclidin)  طور كمادة مخدرة في العمليات الجراحية إلا أنه  لم يعد يستخدم بسبب تأثيراته الجانبية. ويستخدم منذ ذلك الحين بشكل غير قانوني في سوق المخدرات.  ويقود في جرعات بسيطة إلى هلاوس وتصورات هذيانية، وفي الجرعات الأعلى إلى فقدان الوعي ونوبات و توقف التنفس حتى تعطل القلب والرئتين. ويقود عند الاستخدام الدائم إلى أعمال عنف وسلوك فصامي واضطرابات نفسية دائمة . ويمكن أن تظهر تشوهات في الإدراك وضياع (فقدان التوجه)  حتى بعد سنوات من التوقف عن تعاطي هذا العقار.

-                    الكيتامين مشتق من أل PCP  ويمتلك تأثيرات نفسية غير مرغوبة كمادة مخدرة في العمليات الجراحية.  ويسبب تشوهات حسية،  ويشل الإرادة ويجعل المستهلك غير قادر على الحركة بصورة متطرفة. ويقول الصيدلاني النفسي أرنولد زيغيل حول تأثير هذا العقار:" يكون الدماغ حيا ويقظا،  إلاّ أنه يبدو منفصل عن الجسد بشكل غريب. لا يوجد إحساس باللمس وليس هناك ألم و إمكانية للمقاومة.  ويكون الناس منقادون إلى درجة يتركون كل شيء يحدث لهم حتى إجراء عملية جراحية."

-                    غاز الضحك (N2O)، وهو كذلك مادة تخديرية جراحية يسبب " حالات من نوع الأحلام مع غبطة وظواهر اغتراب الواقع واغتراب الشخصية  وفقدان السيطرة على الذات واضطرابات تركيز  وصعوبة في الحركات الموجهة وخداعات حسية بصرية وسمعية مختلفة". (Dittrich) وبمجرد التوقف عن تنفس الغاز تختفي الأعراض خلال دقائق

 

Document Code OP.0080

Samer.Exp.Delusion

ترميز المستند  OP.0080

 

Copyright ©2003  WebPsySoft ArabCompany, www.arabpsynet.com  (All Rights Reserved)