Arabpsynet |
||
|
||
الطــب النفســي عبـر الحضــاري محمد فاروق السنديوني جامعة تشارلز- واغا واغا- أوستراليا - عدد 22 |
||
|
||
q النص الكامل / Full text / Texte entier |
||
إن الحياة النفسية للفرد تتعلق أساسا بأسلوب معايشته لها و بأساليب تموقعه في الزمان والمكان. التي تحدد بدورها طرائق تفاعل الفرد مع الأحداث ومواقفه منها. ولقد لاحظ الباحثون الروابط العضوية القائمة بين ثقافة الفرد الحضارية وبين أسلوب معايشته للحياة. حتى أدى تراكم هذه الملاحظات إلى قيام فرع "علم النفس عبر الحضاري". حيث كانت هجرتي إلى أوستراليا في العام 1973 مناسبة مكنتني من الإطلاع على تطبيقات هذا الفرع في مجتمع تعددي مثل المجتمع الأسترالي. خصوصا وأن فرع "الطب النفسي متعدد الحضارات" كان قائما في الجامعة التي عملت فيها من حينه ولغاية اليوم. هذه الورقة تحاول إعطاء فكرة عمومية ملخصة عن تجربتي في المجال كأستاذ للطب النفسي عبر الحضاري في هذه الجامعة.
1- لمحة تاريخية عن نشوء الفرع عبر الحضاري: بدأ الاهتمام بالدراسات عبر الحضارية مع محاولات إدخال العلاج والدراسات النفسية إلى الدول النامية وخصوصا أميركا اللاتينية وإفريقيا. حيث لأحظ الباحثون أولا عدم صلاحية الاختبارات النفسية الغربية للتطبيق في هذه المجتمعات. فقاموا بتعديل هذه الاختيارات بما يلائم كل مجتمع من هذه المجتمعات. ثم أتت ملاحظة هؤلاء الباحثين للامراضيات الخاصة ببعض هذه المجتمعات. مثال ذلك الحالة الذهانية التي أطلقوا عليها تسمية ذهان آموك أو المجنون الراكض. من هنا كانت بداية اهتمام بعض المجلات المتخصصة بنشر الأبحاث عبر الحضارية. حيث اهتمت بها مجلات مثل مجلة علم النفس الدولي (The international journal of psychology)
ومجلة علم النفس الاجتماعي ثم مجلة علم النفس عبر الحضاري ومجلة رسالة الأخبار
التي ظهرت في العام 1967.
ثم كان تأسيس الجمعية الدولية لعلم النفس عبر الحضاري التي عقدت عدة مؤتمرات
عالمية في هونغ كونغ (1972)
وفي كندا (1974)
وفي هولندا(1976)
وفي ألمانيا(1978)
وفي تركيا (1986).
أما الخطوة التي أقرت الفرع وكرمته بصورة نهائية فكانت خطوة إدخاله في الجامعات
كاختصاص أكاديمي متفرد. فكانت البداية في معهد التكنولوجيا وفي جامعة جيمس كوك
وجامعة فلاندرز وجامعة تشارلز في أوستراليا. كما في مدرسة ملهالا (إندونيسيا)
وجامعة كراتشي وجامعة السند و في الفيليبين وتايلاند والولايات المتحدة
الأميركية. أيضا في ليبيريا ونيجيريا
cultural
وجنوب إفريقيا والجامعة الأميركية في بيروت... الخ.
2- اهتمامات الفرع: يهتم علم النفس عبر الحضاري بالدراسة المنظمة للخبرة والسلوك اللذين يحدثان في حضارات مختلفة، ويتأثران بتلك الحضارات، ويصدران من خلال التغييرات الحضارية القائمة. وكلمة حضارة cultural وأخذ من تلك الأفكار التي مازالت حتى الآن تشغل المفكرين الاجتماعيين، والتي تعرف بطرق مختلفة حتى أنه لم يستقر بعد على تحديد لمفهومها. ففي الأنثروبولوجيا يشير مفهوم الحضارة للأنشطة الكلية الخاصة بفترة ما وبجماعة إنسانية معينة والتي تتضمن ما تقوم به من زراعة وحرف صناعية، واقتصاد وموسيقى وفن، و معتقدات دينية وتقاليد ولغة.
وقد أكد كثير من الكتاب على جوانب مختلفة من مكونات المفهوم السابق. فقام كل من
كروبر Kroeber
وكلكهوهن (Kluckhohn
1952) بعمل مسح
لتعريف مفهوم الحضارة عبر المائة والخمسين عاما الماضية وآثارا لأوجه
الاختلاف فيها ثم قاما بوضع التعريف الآتي لمفهوم الحضارة : والتعريف بصورته تلك يتضمن كلا من النواحي الطبيعية كالطرق والمباني والأدوات، والتي تشكل الثقافة الفيزيقية Physical Culture ، كما يتضمن الاستجابات الذاتية عما يقوم به الإنسان من أدوار وما لديه من قيم واتجاهات ومعتقدات، والتي تشكل الحضارة الذاتية Subjective culture و تتداخل كل من نواحي الحضارة الطبيعية في بعضها البعض، فالأبنية والقوانين والأدوات والقيم والاتجاهات عادة ما تكون مترابطة بشكل معقد. ويشير مفهوم عبر الحضاري Cross culture للمقارنات التي تجري بين الحضارات، وهذا بالتالي يثير في الذهن سؤالا يختص بما هي تلك النواحي أو الوحدات Units التي تقوم المقارنة حولها؟. و يستخدم نارول (Naroll 1970) في هذا الصدد مفهوم وحدات الحضارة ِCultunits والتي يقصد بها "الناس الناطقون باللسان المحلي Domestics speakers و باللغة الأم Dialect language ، والذين ينتمون لنفس الدولة أو لنفس الجماعة". وعلى هذا الأساس فإن كثيرا من المتخصصين يقارنون بين تلك الوحدات الحضارية، وآخرون يقارنون بين وحدات أكبر تتضمن القوميات. ويعتمد تحديد مفهوم وحدة الحضارة، Cultunit على الوقت، والمكان، واللغة. ويعتبر الوقت محددا لذلك المفهوم لأننا عادة ما نهتم بفترة تاريخية خاصة، والمكان وذلك لأنه يتم التأكيد على الاتصالات بين الأفراد أو على النظام السياس
3- أهداف علم النفس عبر الحضاري: يمكن أن تحدد أهداف علم النفس عبر الحضاري بصورة عامة في النواحي الآتية: 1- يتمثل الهدف الأساسي من علم النفس عبر الحضاري في اختبار عمومية القوانين السيكولوجية، وفي هذا الصدد قامت مجهودات كبيرة تضمنت العديد من المحاولات لمعرفة ما هي الجوانب العالمية في نظرية جان بياجيه مثل، و أيها يتعدل بالمتغيرات الحضارية، و أيها أصدق على ابناء سويسرا. وقد أشارت البيانات التي تم جمعها أن فترات النمو التي صورها بياجيه --، موجودة في كل الثقافات، وفي ثقافات معينة تظهر مراحل النمو في فترات لا تسير وفق نظام ثابت -- فعلى سبيل المثال فغن الألفة بمواد خاصة من شأنها إكساب خبرة ما فإنها ستؤدي إلى استجابات ثابتة في وقت مبكر، وهكذا فإن الأطفال الذين يتعرضون لهذه المواد سوف يصلون للمرحلة الاجرائية -- عند بياجيه، في حين أن الأطفال الذين يحرمون من هذه الخبرات قد لا تظهر لديهم علامات تدل على وصولهم لهذا المستوى المعرفي. وباختصار فإن الدراسات عبر الحضارية تكشف عن كل النواحي العامة، والنواحي الخاصة في الحضارة. 2- إن المتغيرات الموجودة في كل حضارة تكون -- ببعضها البعض، لكنه ليس امتزاجا كاملا ويتضح ذلك في وجود حالات شاذة. فإذا كان المتغير أ، ب يرتبطان ببعضهما ارتباطا موجبا وعاليا، فمع ذلك نجد أن هناك حالات (وحدات حضارية) قليلة تكون عالية في أ، ومنخفضة في ب، و حالات قليلة منخفضة في أ، ومرتفعة في ب. فإذا درسنا الوحدات الحضارية (الحالات) الشاذة فإننا نستطيع أن نحدد أي العلاقات بين المتغير المستقبل (ج) والمتغيرين المعتمدين (أ، ب) يكون سببه أ، ب وسببه ب، أو سببه الاثنان معا أ، ب. وتلك المعلومات الأخيرة ذات قيمة كبيرة في علم النفس عبر الحضاري، فعندما يشير فرويد -- إلى أن عقدة أوديب -- عالمية، فانه بذلك قد لفت النظر للعلاقة الجنسية بين الآباء وزوجاتهم، ولم يشر إلى أن الآباء في فيينا عام 1900 كانوا صارمين في تأديب أبنائهم و غالبا ما كانوا يعاقبونهم. وعندما وجد مالينوسكي -- في دراسته على البدائيين من التروبرياندر -- أن لديهم أشكالا مختلفة من التنظيمات الاجتماعية فإنه يعني بذلك أن عقدة أوديب عبر متغيرات الزمان – والمكان -- واللغة -- ليست عالمية وهذا يفتح الباب على مصراعيه لإعادة النظر في الظواهر التي لاحظها فرويد مثل الحسد. 3- تمدنا الوحدات الحضارية، -- بتجارب شبه طبيعية -- وذلك بإخضاع المتغيرات للبحث والدراسة، فعندما تكون بعض وحدات الحضارة مرتبطة بالزراعة والبعض الآخر بصيد السمك فإن التنظيمات الاجتماعية الخاصة بهما تختلف فالأطفال الذين تكون تنشئتهم وفق درجات مختلفة من الشدة تنم لديهم نماذج مختلفة من الإدراك حسب تأكيد الحضارة على الزراعة أو صيد السمك. 4- تشكل الحضارات المستقرة الوظائف السيكولوجية للأفراد. أما الحضارات التي لا يكون التنبؤ بالأحداث فيها عاليا بسبب الحروب المتكررة، والثورات، والانقلابات والزلازل، والفياضانات فإن التخطيط يكون أقل احتمالا في ان يؤدي إلى التنمية. إذ أن الناس في هذه الحضارات يكون الاحتمال أقل في نظرتهم للتخطيط كقيمة، أو في مساندة بعضهم البعض من لاأجل التخطيط ويرجع ذلك ببساطة إلى أن الناس لا يعززون السلوك غير المثاب. فحيث أن البراكين والثورات والفياضانات تقلب الخطط رأسا على عقب، فبالتالي إن الناس لا يهتمون بالتخطيط. وإن الدراسة العالمية المتكاملة لسلوك الإنسان هي التي تحاول الربط بين خصائص البيئة -- وخصائص الإنسان. وتساعدنا الدراسات عبر الحضارية في تعلم كيف ترتبط المتغيرات البيئية بالمتغيرات النفسية. 5- إنه من المهم معرفة التكرار الخاص بالسلوك والأحداث لدى مجموعات مختلفة من السكان. فعلى سبيل المثال إذا وجدنا أن العدوان -- موجود في كل الحضارات، فإننا نعلق على ذلك بأن هناك شيئا ما إنسانيا أساسا لا يتغير بالنسبة لهذا السلوك. أما إذا وجدنا أن هناك حضارات لا يلاحظ فيها العدوان إطلاقا فإن ذلك لا يتسق مع التحليق السابق ويفسر ذلك بالعوامل الحضارية.
3- تجاربنا الخاصة مع المظاهر عبر الحضارية: يقدم المجتمع الأوسترالي نموذجا مثاليا للدراسات عبر الحضارية. فإلى جانب السكان الأصليين، الذين يملكون ثقافتهم الخاصة، هنالك السكان الحاليون الذين يحملون معهم ثقافات بلادهم الأصلية. وهؤلاء يكادون يتوزعون على أنحاء العالم قاطبة. حتى أمكننا القول بوجود نموذج مثالي للتثاقف هو كناية عن مجموعة معقدة من الارتباطات الثقافية. بحيث تلتقي مجموعتان عند عوامل حضارية مشتركة لتنتج نموذجا مختلفا عن النماذج الأساسية. ثم يلتقي هذا النموذج مع نموذج تعددي آخر لينتجا نمطا مختلفا عن النماذج وعن المجموعات الأساسية وهلم جرا. وصولا إلى البنية الاجتماعية- الثقافية الراهنة للمجتمع الأوسترالي. هذه البنية التي تصيب القادمين الجدد بصدمة تثاقفية تتجلى أحيانا بردود فعل حادة. لكن هذه البنية الاجتماعية- الحضارية الشمولية لا تحول دون حفاظ كل مجموعة حضارية على ارتباطاتها الاساسية. فلو أخذنا العرب المهاجرين إلى اوستراليا فإننا نجد أنهم لا في يزالون على ارتباطاتهم بعائلاتهم في بلدانهم الأصلية وعلى لغتهم وعلى معتقدلهم وعلى امزجتهم. لكنهم في المقابل يستجيبون لقوانين البنية الاجتماعية- الحضارية الأوسترالية. فإذا كنا في سياق الحدث عن الطب النفسي عبر الحضاري فإنه من الضروري التذكير بأن الطب النفسي موضرع وفق المعايير الأجنبية. بحيث يواجه تطبيقه في الثقافات الأخرى معوقات عديدة من شأنها أن تعيق عملية التشخيص الموضوعي للحالة. في هذا المجال أود أن أذكر تحديدا الحالة التالية: - شاب يعاني من حالة إحباط تتمازج مع علائم انهيارية واعتقاد جازم بأن عثراته و سوء حظه يتأتيان من تأثير جارته العجوز التي تقيم بمفردها والتي تمكنت من ممارسة تأثيرها عن بعد على حياته وأعماله. عندما عرضت هذه الحالة على المعالج الأوسترالي الأجنبي الأصل كان تشخيصه لها على أنها حالة ذهانية. على اعتبار تأثير العجوز بمثابة شكل من أشكال هذيان التأثر (---). لكنني فحصت الحالة فوجدت أن هذا الشاب لا يعاني من أي مظهر ذهاني وإنما كان مؤمنا بأن هذه الجارة قد أصابته بالعين. وبما أن هذا الاعتقاد شائع في الثقافة العربية (التي ينتمي إليها الشاب) كما في ثقافات أخرى، فإنه من غير الموضوعي وصف حالته بالذهانية. ففي مثل هذه الحالة قد يمكننا الحديث عن مخاوف طفولية فجرتها هذه العجوز التي تسكن بمفردها. كما قد يمكننا الكلام على استعداد زائد لتقبل الايحاءات ولكننا لا نتكلم بحال عن ذهان او عن مظاهر ذهانية. إن هذه الحالة المعروضة باختصار، هي نموذج عن الحالات الني تفرض على الجهاز الصحي في بلدان التعددية الحضارية، دراسة مفصلة عن أنماط الحضارات التي تنتمي إليها مجموعاتها السكانية. إضافة الى دراسة مفصلة لردود الفعل التثاتفية لأبناء كل حضارة على حدة.
5- العرب الأوستراليون: من الطبيعي أن يشكل العرب المهاجرون إلى أوستراليا جزءا من اهتماماتي. خصوصا لجهة دراسة ردود فعلهم أمام صدمة التثاقف والآثار التي تخلفها هذه الصدمة. من هذه الآثار ما نلاحظه لدى قسم منهم في الإقبال القهري على ممارسة محظورات الثقافة العربية كمثل الميسر(لعب القمار)، وغيره من الممارسات التي تعتبر انحرافية في المفهوم العربي- الإسلامي. كما نلاحظ لديهم إقبالا تعويضيا قهريا ايضا على التمتع بالمظاهر الحضارية كمثل اقتناء السيارات والكماليات... الخ. لكننا نلاحظ أيضا آثارا ايجابية لصدمة التثاقف وتتجلى هذه الآثار في الإقبال استيعاب التطورات الحضارية والافادة منها بصورة عملية. وهكذا بحيث تختلف آثار صدمة التثاقف ونتائجها باختلاف الشخصيات وتغييراتها الدينامية.
|
||
Document Code OP.0038 |
ترميز المستند OP.0038 |
Copyright
©2003 WebPsySoft ArabCompany, www.arabpsynet.com
(All Rights Reserved) |