Arabpsynet

وجهـات نظـــر /  Points of View

شبكة العلوم النفسية العربية

 

قــــراءات : أحمــد غريــب - سطــور – العــدد 63 /2002

فــخ الجســـد

أ.د. منــى فيــاض

أستاذ علم النفس بالجامعة اللبنانية

 

    تشير منى فياض في مقدمة كتابها "فخ الجسد" إلى أن فهم الإنسان للأساطير كان من أهم الاكتشافات في القرن العشرين، فقد كشفت هذه العودة للأساطير عن وجود استمرارية بين العالم الأسطوري والحضارة المعاصرة، بين العالم البدائي والعالم الغربي الحديث، ومن جانب آخر تنبه إلى أن كثيرا من الباحثين لم يعتادوا بعد على التعامل مع ما هو باق في وجودنا من الرؤى الأسطورية، لذلك ترسم لكتابها "فخ الجسد" منهجا يتعامل على قدم المساواة مع التقسيمات الشائعة بين شرق وغرب أو بين أسطورة وحقيقة أو بين متخيل وواش، حيث يشكل كل من تاريخ هذه المفاهيم والكيفيات المختلفة للنظر إلى الجسد من قبل الثقافات، يشكل ظاهرة حضارية تشارك فيها معظم المجتمعات الحديثة وإن على درجات متفاوتة وبتمايزات ثقافية مختلفة. وتعرض المؤلفة آراء باحثين إثنولوجيين وسيكولوجيين تؤكد أن أنواع السلوك الإنساني المركزية تتواجد في كل المجتمعات المعاصرة والقديمة مثلما أن أنواع السلوك تتعدد بحسب الثقافات والفئات الاجتماعية في المجتمع نفسه في حقبة تاريخية معينة، وتشير إلى فكرة الباحث الفرنسي مارسيل موس عن هجرة الحضارة أو رحلتها وتحولها عبر استعارة بصمات وعناصر من خلال الهجرات واختلاط الشعوب.

    تزيل هذه النظرة المنهجية التوتر الذي يوحي به عنوان "فخ الجسد" وتسمح للكتاب بالتنقل بين عديد من الحقول المعرفية مثل الطب والفنون والأدب والدين وعلوم النفس والاجتماع والأساطير وأحيانا السياسة، مما يجعل الكتاب سجلا لمختلف الأسئلة التي أثارها الوعي الإنساني أو توقف عندها بخصوص الجسد كهوية وكقدرة تعبيرية فائقة عن طموحات الوجود الإنساني وعجزه وأزماته كذلك يخصص الكتاب فصولا مستقلة لأجزاء الجسد ووسائله التعبيرية كالعين والوجه والنظرة والجلد والسمع إضافة إلى تصنيفها أنواع الجسد إلى أيروسى وسياسي وصامت ورياضي ومعوق ومركب، وهو ما يسمح للكتاب بمعالجة موضوعات الجسد في العالم الحديث وما أسفرت عنه التكنولوجيا من مفاهيم جديدة للجمال وللقدرات التعبيرية وموضوعات التواصل والاتصال، فالكتاب يتناول جراحات التجميل وجماليات المرأة بعد شيوع الأيروبك والثورة الجنسية التي بدأت في ستينيات القرن الماضي وانتهت في تسعيناته، ثم يعالج أزمات العلاقات في وقتنا الراهن من خلال قضايا المرأة العاملة والتيارات النسوية.

 وفى ظني أن "فخ الجسد" للكاتبة منى فياض، أستاذة علم النفس بالجامعة اللبنانية، هو أول كتاب لباحثة عربية (أو باحث) يعالج هذه الجملة من الموضوعات بأسلوب بحثي حديث، ويتضمن إلى جانب الأبواب التقليدية المشهورة في كتب مثل الروض العاطر موضوعات بهذه الجدة، وهو إلى جانب ذلك كتاب يعتمد على المناهج البحثية الأحدث في علوم النفس والاجتماع، ولا يخلو من الإحالة على واقع المدينة والريف العربيين في العقود الخمسة الأخيرة، مما يمنح قارئه العربي حسا حميما خلال القراءة على عكس ما يشعر مع الكتب الأجنبية أو المترجمة في نفس المجال. وقد اخترت لهذه القراءة خيطا واحدا من خيوط الكتاب المتشابكة يمكن تسميته بتطور الخطاب الفكري عن الجسد بشكل عام.

 

§         غــزو الجســد

 ميز البطء خطوات الوعي الإنساني الأولي بالجسد، وساد خلال تلك الفترة مفهوم الحفاظ على تماميته، فلم يشهد الجسد اختراقا إلا مع الظهور المتأخر للطب التشريحي، حيث ظل الخطاب الطبي تحت الهيمنة الذهنية لقدماء المصريين والصينيين، فقد اعتمد المصريون التحنيط للحفاظ على مظهر الجسد من الغزو حتى بعد الموت عوضا عن النفس الهاربة، وفى الوقت نفسه تعامل الشرق الأقصى مع الجسد بمفهوم آخر تمثل في اليوجا التي عكست حاجة إنسانية إلى تجسيد المقدس باعتبار اليوجا نسكا للعبادة الشعبية الصوفية أو تجربة دينية فعلية، لكن اختلاف زاوية النظر بين قدماء المصريين والصينيين لم تؤثر على احتقارهم للطب التشريحي من منطلق الحفاظ على تمامية الشخص، مما أدى لتنمية طرق أكثر سلمية للعناية تهتم بالوقاية أكثر من العلاج .

 أما الطب اليوناني فقد شهد جدلا حول الفكرة، إذ لم يثق أبوقراط بالتدخل المفاجئ الذي يعتدي على الجسد واعتبر الشفاء نسقا ذهنيا أكثر منه تقنيا، في حين مارس جالينوس الجراحة وكان له أثر في تحديد اللغة المرضية الطبية والارتقاء بها، وتمثل تعريفا ته للأمراض التطور اليوناني والروماني في مطلع القرن الثالث، حيث صدمت افتراضاته العقائدية الباحثين الذين جاءوا بعده إذ أكد على أن المرض مادة مرذولة في الجسم يجب القضاء عليها. وقد أكمل طبيب قرطبة القاسم خلف بن عباس الزهراوي فلسفة جالينوس فيما يتعلق بالجراحة، ومثل رأيه في استخدام التشريح تجديفا في رأى معاصريه المسيحيين والمسلمين على السواء، لكن كتابه "التصريف " أدى إلى تشريح العلاج بالكي. ولم يتجاوز حالة التردد تجاه غزو الجسد إلا بسلسلة من التدخلات لعب فيها الفن والاجتماع السياسي الدور الأهم في صياغة العلاقة مع الذات ومع الآخر، فالحب عند اليونانيين، حسب مفهوم أفلاطون، لا وجود له إلا بين رجل ومراهق، وليس بين الرجل والمرأة إلا الإنجاب، وهو ما يجعل باحثا فرنسيا مثل سيرولنيك يؤكد أن تاريخ الحب الذي كتب عنه الغرب بإسهاب كان من اختراع العرب في القرن الحادي عشر الميلادي.

     وفى هذا الصدد تورد المؤلفة تعليقا آخر ورد في كتاب " الجنس في الإسلام " الذي صدر في باريس عام 1979 أبو حديبة "مؤلفات الإيروتيكية في التراث العربي لا تعد ولا تحصى وهى بانتظار من يحققها لإعادة نشرها الممنوع والمغفل" ومن خلال عودة مؤلف كتاب الجنس في الإسلام إلى العدد القليل المتوفر من هذه المؤلفات يرى أن الإيروسية مرتبطة بالحياة الثقافية للمجتمعات العربية- الإسلامية بشكل وثيق، كما يعتقد بوجود علم إيروتيكى عربي معمق ومرهف تمت بلورته عبر العصور ولم تتم دراسته بعد، فمن الأرواح المؤمنة إلى القضاة الجادين وعلماء الفقه والدين والشيوخ الكبار، جميعهم درسوا الإيروسية دون عقد، ويؤكد أيضا على شمول واتساع طبيعة الإيروسية العربية- الإسلامية، فهي وفقا لتعريفه فن إثارة وصيانة وإشباع وتجديد الرغبة، وكل الوسائل جيدة من أجل ذلك، من ذهاب المرأة إلى الحمام والساعات الطوال التي تمضى في تحضير الوجبات إلى ذهاب الرجل إلى السوق من أجل تبضع الحوائج والمشروبات والحرائر والعطور، حتى إنه يرى أن تنظيم الحياة اليومية تقريبا مبني ومنتظم من أجل غاية قصوى هي فن التمتع. وتعلق المؤلفة على هذه الجزئية بإحالة إلى الراهن من حياتنا "أما الآن فالمنع يصل إلى حد إلغاء التربية الجنسية من البرامج التعليمية في بلد منفتح مثل لبنان،،.

 

§         المــرأة ضــد القمــع

  نقلتان مهمتان تركتا أثرهما على الثقافة الإيروسية، الأولى هي ثقافة الاستحمام وما أنتجته من طقوس مرتبطة بالنظافة (الاستحمام لا يعنى النظافة فقط، فالأحلام والذكريات تعبر عنها الإشباعات النرجسية في الحمام، الاعتناء بالجسد يعنى تحضيره للرؤية، لم يعد يكفي إظهار الملابس والزينة والمجوهرات " وتسجل بعض المراجع وجود 27 ألف حمام في بغداد في القرن العاشر، وفى بعض مراجع أخرى يصل العدد 60 ألفا، لكن ما يعني هذا السياق هو بزوغ ثقافة النظر التي تصل إلى ذروتها في تلك المرحلة مع المرآة.

  النقلة الثانية هي دخول المرآة وانكسار الخوف من التعامل معها، فقد تناولت أساطير كثيرة فكرة المرآة أو النظر إلى الذات، وفى معظمها يؤدى هذا الفعل إلى التهلكة، مما يؤكد عدم شيوع استخدامها والخوف منها، كانت الهوية الجسدية تقرأ في عيون الآخرين، وهو ما يدعو مؤلفة الكتاب للتساؤل: كيف أمكن العيش في جسد لم نره؟ وتشير إلى بعض العادات للريف العربي التي لا تسمح للطفل بالنظر إلى المرآة وعدم ترك المرآة مكشوفة، بينما ظل ممنوعا على الفتاة الشابة في الأوساط الثرية أن تنظر إلى نفسها عارية ولو عبر انعكاس صورتها في مياه البانيو، واستخدم لذلك نوع من البودرة التي تجعل المياه عكرة.

    بعدما سمحت المرآة بتكوين الهوية الجسدية للإنسان بواسطة نفسه، بدأت علاقة جديدة مع الذات، وقد ساهم في تطويرها ثلاثة مؤثرات وفقا لتحليل المفكر الفرنسي ميشيل فوكو، أولها النور الجديد للدولة الذي فرض نفسه انطلاقا من القرن الخامس عشر بأشكال متنوعة منها التدخل المتزايد للدولة في المساحات التي كانت متروكة للجماعات مما خلق تجمعات سكنية على أسس أخرى ترسخ فكرة الوحدة والعزلة في مكان محدود، وثاني المؤثرات: المطبعة التي أدت لانتشار القراءة الصامتة والتي سمحت بدورها بالتفكير في عزلة عن الآخرين وتكوين آراء خاصة بالفرد عن نفسه، أما المؤثر الثالث فهو ظهور أشكال من التدين بدءا من القرنين السادس والسابع عشر تستبعد الأشكال الجماعية وتلجأ إلى فحص الضمير الداخلي من خلال صلاة تتخذ شكل التأمل في وحدة وعزلة وقد تزامن ذلك مع توجه الفنون الأوربية في عصر النهضة نحو البورتريه، الذي أدى إلى ثورة في النظر، فقد درس ليوناردو دافنشي كل جزء من عناصر الجسد وعلاقاتها واكتشف أثر العمر الذي يغير أبعاد الجسد وكذلك التأثير الأعقد لحركة مختلف العضلات، ووجد أن الجسد يسجن بواسطة قوانين بنيته ذاتها وهو يتغير دون توقف ليحتفظ بالتوازن من خلال ممارسة جهده، وعرف أيضا استحالة التوقف عند هيئة الجسد الخارجية، فالجلد غلاف متحرك لا تفسر حركته إلا عبر أجزائه العميقة، كانت طريقة دافنشي رفضا أكثر منها قبولا بالمسلمات، وبذلك لم تعد الحقائق اليونانية والعربية غير قابلة للمس، لقد أكد قاعدة مهمة: لكي نرى علينا أن ننظر.

    يفرق فوكو بين القمع والمنع، فالأخير خارجي بينما القمع هو الذي يدخل التحريم إلى عمق الذات، وقد استطاع فرويد القيام بثورة على مستوى الجنس لكن الجسد ككل ظل غائبا حتى سادت وسائل الاتصال الحديثة التي أعادت الصلة بين المفهومين خاصة من خلال تناولها لأحداث ثورة الطلبة عام 1968، وكان ذلك إيذانا باكتمال ملامح عصر جديد لمفهوم الجسد تصفه المؤلفة ب "إمبريالية البصر" وهى السمة التي بدأت مع ثورة العرى في ستينيات القرن العشرين وانتهت في تسعينيات القرن نفسه بنموذج "التوب موديل "، حيث تمثل نموذجا مثاليا معادلا للأسطورة بالنسبة للبشر العاديين، فجسدها مبني عضلة عضلة ويكاد يكون الجسد في هذه الحالة محاولة للخلق والتصنيع، وإذا كان المثال الجمالي ومقاييسه في مجتمع معين هما تعبير عن وضعية اللبيدو فيه، يمكننا أن نفسر وفقا لنموذج  "التوب موديل " لماذا تشكل النظرة في الوقت الراهن المظهر المسيطر للمدنية، فكل البنى المدنية تشجع البصر وتضعه في مقدمة الحواس: الطرق والأرصفة والشوارع وكيفية السير وتنظيمه، واجهات الأبنية والممرات الطويلة والأبراج العالية، وانتشار الكاميرات والفيديو والشاشات في المحال والمطارات والبنوك ومحطات المترو، إن نموذج " التوب موديل " يلخص الفكرة الأسطورية عن الجسد المعاصر، والتي يمكن صياغتها بأن العالم أصبح شاشة هائلة، من خلالها ينتج الخيال البشرى أساطيره وحكاياته، ولعل أشهرها كما تقول المؤلفة هي أسطورة الليدي ديانا التي أنتجتها آليات التلصص بواسطة الكاميرا، وهى نفس الكاميرا التي عرضت للعالم على شاشاته انتهاك الحياة الخاصة وأدق التفاصيل الجسدية للرئيس الأمريكي السابق بيل كلينتون وهو يعترف بخطئه ويبرره ويعتذر لزوجته وابنته، حتى الجسد المحمى سياسيا أصبح منتهكا في عصر الفرجة مهما كانت الزعامة.

 

 

Document Code VP.0045

Lec.FayadBodyTrap

ترميز المستند  VP.0045

 

Copyright ©2003  WebPsySoft Arab Company www.arabpsynet.com  (All Rights Reserved)