|
||
حـول مستقبـل العلـوم الإنسانيـة فـي الوطـن العربـي أ.د. محمد احمد النابلسي مؤتمر الاتحاد العربي للعلوم النفسية / القاهرة 1999 |
||
|
||
q
ملخـص |
||
تتعرض العلوم الإنسانية
راهنا لمراجعات نقدية مكثفة. وهذه المراجعات ليست من نوع الترف النظري-الفكري
كسابقاتها. فهي مطروحة كضرورة ملحة وحيوية للحفاظ على الفعالية الإجرائية لهذه
العلوم. إذ أن استمراريتها مرتبطة بالتعديلات المنهجية والفكرية التي يمكن لهذه
المراجعات إدخالها لتحديث هذه العلوم وتخليصها من شوائب تكاد تقضي على فعاليتها.
وبهذا يمكن لهذه العلوم الاستمرار في البرهان على فعاليتها وقدرتها على تحسين
مستوى اللياقة النفسية والفكرية للإنسان. حيث الإنسان هو طموح هذه العلوم
وموضوعها.
والواقع أن ثورة الاتصالات والمعلومات قد تسببت في إحراجات كثيرة ومتعددة
الصعد لمناهج العلوم الإنسانية وأيديولوجياتها. مما اقتضى المراجعة. ورقتنا هذه تهدف تحديدا" إلى مناقشة
دواعي المراجعة النقدية لهذه العلوم على ضوء تطبيقاتها العربية. وذلك عبر محاولة
تحليل رجعي لهذه التطبيقات. ويمكننا تصنيف دواعي هذه المراجعة على النحو التالي:
1- جاءت
طفرة العلوم النفسية مرافقة لصعود النظرية البراغماتية الداعية لتخلي الفلسفة عن
طموح التصدي لألغاز الكون لصالح التعمق في دراسة العوالم الداخلية للإنسان
وللسلوك الإنساني. الأمر الذي افقد هذه العلوم مرجعيتها الفلسفية وأبقى
الماورائيات خارج حدود اهتمام هذه العلوم. مما جعلها تصطدم بالفكر التقليدي وشجع
ظهور علوم إنسانية موازية (الباراسيكولوجيا مثلا") يقبل عليها الإنسان
المعاصر لمواجهة قلقه مما بعد الموت. 2- بالرغم
من الجهود والإمكانات الموظفة لخدمة العلوم الإنسانية نلاحظ تصاعد إقبال الجمهور
على العلوم الموازية. 3- إذا كانت
العلوم الإنسانية قد برهنت على فعاليتها الإجرائية في الحضارة الغربية فإنها
عجزت في المقابل عن إثبات مثل هذه الفعالية في الدول العربية. حيث عجزت هذه
العلوم عن تقديم دعم فعلي لسيرورات التنمية والتطور العربية. كما اصطدمت محاولات
استنساخ التجارب الأجنبية بالفوارق الثقافية مما أفقد هذا الاستنساخ أية فعالية. 4- بدت
العلوم الإنسانية وكأنها البديل لعلم السياسة التقليدي. لكن مجريات الأمور أثبتت
قدرة السياسة على توظيف هذه العلوم لمصلحتها. فباتت مصداقية الشمولية الإنسانية
التي تدعيها هذه العلوم موضع شكوك. 5- يبدو فرع
المستقبليات المستجد وكأنه يصهر كافة العلوم الإنسانية و يكامل في ما بينها. مع
ملاحظة تسخير هذه التكاملية للتوظيف السياسي. وان كان لها الفضل في إبراز مواطن
الضعف في مناهج هذه العلوم. وبالتالي فقد كان للمستقبليات الفضل في إطلاق حركة
المراجعة النقدية لهذه العلوم. إن مناقشة هذه النقاط تقتضي الانطلاق من نظرة
نقدية-ابستمولوجية للعلوم الإنسانية وللمخاض العسير لها في الوطن العربي. حيث لا
يمكننا الادعاء بالإحاطة الشاملة بالموضوعات التي تطرحها هذه الورقة. فحسبنا
أننا ننبه إليها ونطرحها للنقاش. |
||
q تـمـهـيــد |
||
لم
تنجو العلوم المسماة بالدقيقة من تهمة عدم الدقة. فقد بدأ الجدل حول دقة
الفيزياء من التعارض بين نظريتي الإشعاع الأساسيتين. وهما نظرية الجزئيات
(الإلكترونات) لنيوتن ونظرية الموجات لبوكو. بحيث ظل الباحثون ينظرون للضوء
نظرتين مختلفتين باختلاف هاتين النظريتين لفترة. ولم يكن أحد قادر على الانتقاء
والمفاضلة بينهما. وبقي الأمر على هذا النحو لغاية العام 1938 عندما ظهرت كتابات
تكامل بين النظريتين. ولعل أهمها كتابات كل من نيلز وبوهر. التي أكدت أن كلتا
النظريتان صحيحة. إلا انهما تتفاعلان على مستويات مختلفة من غير تلازم أو
تبادلية. ففكرة التلازم عند بوهر تنطلق من استحالة القياس المتلازم والمتزامن
لوضعية إلكترون ما بنفس المستوى من الدقة. وهذا المثال يقودنا إلى إدراك مدى
شيوع الوقائع الممكنة التفسير بشكل أو بآخر مع فارق زمني بين الأشكال و مع وضع
كل تفسير في إطاره المرجعي الخاص. إلا أن هذه الأشكال المختلفة للتفسير تجد
نفسها في إطار تكاملي بكل معنى الكلمة. وعليه فان أية واقعة خام لا يمكن إرجاعها
مسبقا" إلى العلوم الإنسانية (بمختلف فروعها). إذ أن تفسيرها وحده هو الذي
يمكنه أن يحولها إلى معطى علم إنساني. وإذا أردنا إعطاء أمثلة اكثر انتشارا
وتداولا" حول انعدام الدقة العلمية أمكننا مراجعة الكم الهائل من المعلومات
الطبية التي تعرضت لمراجعات جذرية. بما في ذلك الفروع الطبية الفيزيائية
والكيميائية. ومثل هذه الأمثلة غير ممكنة الحصر في مختلف الميادين العلمية. مما
يجعل من عمليات التحليل الرجعي للعلوم الإنسانية ومعطياتها وتطبيقاتها عمليات
مبررة وضرورية. خاصة إذا ما أخذنا في الحسبان توقعات التغيير الجذري للمجتمع
الإنساني بفعل ثورة الاتصالات وسيول المعلومات المصاحبة لها. في ما يلي سنحاول مقاربة القراءة النقدية للعلوم
الإنسانية عبر ارتباطها بالعلوم الدقيقة. علنا بذلك ننجح في تبيان محاولات وجهود
العلوم الإنسانية لاكتساب معايير اكثر دقة عبر اعتمادها مبادئ تنتمي للعلوم
الدقيقة. وكذلك نرى أن هذا الربط من شأنه أن يوجه عملية التحليل الرجعي وفق
معادلات ومبادئ اكثر دقة ومعيارية.
1.الوظيفة المرجعية للعلوم
الدقيقة. سئل داروين عن المرجع الفكري لنظريته فأجاب بأنه
استوحاها من المالتوسية القائمة على خطين بيانيين. الأول يقيس النمو والثاني
الزيادة السكانية. مما يجعل من الأوبئة والحروب ضرورة لتجنب المجاعات. وهنا يقول
داروين بأنه استنتج من هذا النموذج الرياضي فكرة أن الصراع على البقاء هو الذي
يمتص الزيادات السكانية. وهكذا دعم داروين فكرته (القائلة بان الإنسان سليل
القرود) بمعادلة رياضية. واستسلم معاصروه لهذا الدعم (بناء" على نمط
التفكير السائد في حينه). لكن أحدا" لم يسأل أو يناقش داروين في مسألة كونه
يطرح المشكلة من الخارج في حين أن المشكلة الحقيقية هي من الداخل. أي كيف يتم
الانتقال من حلقة إلى أخرى في سلم داروين. انطلاقا" من مثال داروين يمكن القول بأن
الموديلات الرياضية لا تزال تحقق الانتصارات. وهذه الانتصارات لاتعود إلى فعالية
هذه الموديلات وحقيقيتها بقدر ما تعود إلى فعاليتها. وهنا تجب مناقشة عدم دقة
الرياضيات. إذ انه من الممكن الوصول إلى النتائج المحددة مسبقا" عن طريق
انتقاء الموديلات الرياضية المناسبة. وتزداد خطورة هذا الانتقاء مع تقدم
الاتصالات والمعلوماتية. الأمر الذي يستدعي إيجاد الضوابط الكفيلة بالحد من
إساءة استخدام العلوم الدقيقة من قبل الباحثين في العلوم الإنسانية. وهنالك
محاولات جادة في هذا الاتجاه تعمل على إخضاع البحوث الإنسانية لضوابط ومبادئ
العلوم الدقيقة. وهذه المحاولات تعتبر مرجعية في عملية النقد العلمي للإنسانيات.
وقبل عرضنا لهذه المحاولات (بعضها تم إرساؤه بنظريات ومناهج) نود التنبيه إلى
الخطورة الفائقة الكامنة في عولمة الأنماط القيمية البراغماتية عبر العلوم
الإنسانية. التي تتحول إلى حصان طروادة يدخل الفكر البراغماتي عبره إلى عقول
باحثين في مجتمعات ذات نظم قيمية مختلفة. مما يحول هذه العقول إلى الأسر ويضعها
في مواجهة مع مجتمعاتها. بما يعود بالأذى على الباحث والمجتمع معا".
2. الرياضيات ومثلث الشواذ تعتمد السياسة راهنا على ثالوث فائق الفعالية
والخطورة في آن. ويتألف هذا الثالوث من: السلطة والإحصاء والمعلومات. وتعتبر
الرياضيات الأم الشرعية لهذه العناصر الثلاث. فقد أكد فيثاغوروس أن كل شيء هو
رقم. ولما طلب أحدهم من اوريتوس أن يبرهن له أن الإنسان هو "رقم" طلب
منه اوريتوس أن يتمدد على الأرض وراح يضع الحصى حول محيط جسده. الذي اتسع ل666
حصاة. فقال له أوريتوس أن رقمك هو 666 بادئا" بذلك لعبة تحويل الإنسان إلى
رقم. كما أن الطابع التجريدي للموديلات الرياضية جعل الناس يجهدون لتنظيم
أفكارهم عن طريق ربطها بأحد هذه الموديلات وتعديلها على أساسه. ففي أي حوار عادي
نجد أن الرأي الراجح هو ذلك الذي يستطيع صاحبه ربطه بأحد الموديلات الرياضية. بالمقارنة نجد أن الإحصاءات تلعب في عالمنا الراهن دور
الموديلات الرياضية الجاهزة. مع قابلية خاصة للانتشار والتعميم عبر الاتصالات
المتطورة. وهكذا يصبح المتحدث الأكثر إقناعا" هو ذلك الذي يدعم رأيه بقدر
اكبر من الإحصائيات. ولهذه الموديلات الإحصائية خطورة قاتلة للمنطق. إذ تتوافر
الإحصاءات بأشكال ونتائج متضاربة ومتناقضة. بما يجبر غير المتخصص على الاقتناع
بالرأي ونقيضه في آن معا". وهذه الجهوزية المسبقة للإحصائيات المتناقضة
تكاد تقضي على العلوم الإنسانية عن طريق تفريغها من مصداقيتها. وهذا هو الخطر
الأكبر الذي يهدد مستقبل هذه العلوم.
3. الأسر العقلي يمتاز العقل الأسير بمواقفه نظيرة الفصامية.
وذلك من خلال تفككه وتوزعه بين انتمائه الموروث وبين ذلك المكتسب (بالتبني). وهو
يعاني الرفض إذ انه مرفوض في الدول التي تأسره لكونه حاملا" بذور عالمه الأصلي.
كما انه مرفوض في مجتمعه لعجز هذا المجتمع عن تامين شروطه كما لرفضه مبدأ
الأسر.وهكذا يتحول العقل الأسير إلى رافض في حيلة دفاعية لتجنب الاعتراف بكونه
مرفوضا". بما يستتبع إصرار هذا العقل على تطبيق مناهج ونظريات وأساليب
التفكير والحياة اليومية الغربية في بلد يفتقد لجزء كبير من التقديمات الأساسية.
وإذا كانت الشروط الصارمة للعلوم الدقيقة تحد من انعكاسات هذا الأسر فان نسبية
معايير العلوم الإنسانية تجعل منها الميدان المختار للأسر العقلي. مما يطرح
مشكلة تعوق إمكانية انتفاع الدول النامية بهذه العلوم. ومن المفارقات الهامة في
المجال إصرار الباحثين الأجانب على مراعاة الفروق الثقافية والبيئية في حين تصر
العقول الأسيرة على تجاهل هذه الفروق والتنكر لها. ولعل المثال الأوضح على ضرورة
احترام هذه الفوارق يتمثل في المتوسطات الإحصائية التي توضع القوانين والتشريعات
على أساسها والتي غالبا" ما تتحكم في تحديد الحقوق و الواجبات. والخطأ يبدأ
من اعتماد المتوسطات (وهي مجرد أرقام) وتجاهل الخصوصية الفردية. فبالاستناد إلى
المتوسطات نجد أن هنالك شريحتان بعيدتان تماما عنها. الشريحة الأولى تبتعد
صعودا" والثانية هبوطا" بحيث تتحول هاتان الشريحتان إلى الهامشية.
الناجمة في هذه الحالة عن عدم مطابقة القوانين لمتطلبات وظروف هذه الفئات. وعليه
فان على كل مجتمع أن يسعى لتحديد متوسطاته بالطرق التي تضيق هاتان الشريحتان قدر
الإمكان. 4. الإنسانيات والبحث عن الحقيقة للحقيقة وجوه عديدة وبسبب نسبيتها فان وجوهها
تملك العديد من سمات التمايز التي توحي بالاختلاف. وكلما تمكن المتعاملون مع
الحقيقة من مطابقة عدد اكبر من وجوهها كان ذلك مدعاة لإدراك اعمق للحقيقة. ومن
هنا كان اللقاء بين العلوم الباحثة في الحقيقة وتداخل هذه العلوم في ما بينها
بهدف استكشاف وجوه إضافية جديدة لها. وهنا يمكننا أن نذكر بقائمة من اللقاءات ما
بين العلوم الإنسانية والعلوم الدقيقة. حيث تتجلى أهمية هذه اللقاءات بدور النقد
والضبط المتبادل بالإضافة إلى إعطاء صور متنوعة تتضافر لإيضاح الحقيقة. من هذه اللقاءات يهمنا التذكير استخدام
الميكروتحليل نفسي لنظرية الطاقة المحايدة ولتطبيقات نظرية الهولوغرام
الفيزيائية-البصرية في مجال السيكولوجيا والطب العصبي. وكذلك باستعانة الدراسات
الانثروبولوجية بالبحوث والتحاليل الطبية. حتى وصلنا إلى مرحلة الحديث عن ثورة
ما بعد معلوماتية وهي الثورة البيولوجية. التي اعتبرها المستقبلي الأميركي
فوكوياما (صاحب فرضية نهاية التاريخ) بمنزلة الثورة المكملة للارتقاء البشري.
حيث الإشكاليات التي تطرحها هذه الثورة (الاستنساخ البشري وثورة الجينوم) تحتاج إلى مساندة ودعم
العلوم الإنسانية. بسبب طرحها لإشكاليات أخلاقية ربما كانت المبرر لاستمرارية
الحاجة للإنسانيات. ملاحق البحث 1- نظرية
الهولوغرام وتطبيقها العصبي (كيف يعمل الدماغ). 2- أخلاقيات
الاستنساخ البشري. 3- نحو
تعريب الإنسانيات. |
||
Document Code
VP.0046 |
Nab.ArabPsyFuture |
ترميز
المستند
VP.0046 |
Copyright ©2003 WebPsySoft Arab Company www.arabpsynet.com (All Rights Reserved) |