|
||
سيكولوجيـة السياسـة الأميركيــة E.mail : ceps50@hotmail.com |
||
|
||
q
النص الكامل
Full text / Texte entier / |
||
هذا التحليل هو الفصل الأول من كتاب " النفس المفككة / سيكولوجية السياسة الأميركية" وفيه محاولة لفهم الخلفيات الفكرية والثقافية لنمط
الحياة الأميركي ومواقفه من الآخر. وهي مواقف تبدو في غاية القبول الليبيرالي
داخل الولايات المتحدة لتتحول إلى جبروت إلغاء الآخر بالقوة خارج أميركا. ويضم
هذا الفصل مقدمة وعرض للدراسات السابقة حول الشخصية الأميركية. الفصل
الأول : التحليل النفسي للشخصية الأميركية
خلف سقوط الاتحاد السوفياتي فراغا
عالميا جعل الولايات المتحدة اللاعب الرئيسي في العالم. بما أغرى رئيسها جورج
بوش بإطلاق مصطلح النظام العالمي الجديد لتأكيد سطوة الولايات المتحدة وجبروتها
العسكري. الذي كرسته حرب الخليج الثانية. التي ذهب بعضهم لاعتبارها الحرب العالمية
الثالثة. استنادا إلى عدد الدول المشاركة فيها و إلى كمية الأسلحة المستخدمة
خلالها. وعلى الرغم من الاحراجات الدبلوماسية والأخلاقية التي سببها قرار الحرب الأميركي
فان الجبار الأميركي لم يتوقف عن الشكوى. وتركزت شكاويه على الأمور التالية
بصورة خاصة: 1- انه لا يحظى بنفوذ سياسي يتناسب وتفوق قدراته
العسكرية. بما يعكس عدم كفايته بالرغم من قدرته على جر دول عديدة إلى تلك الحرب
بضغوطات نفوذه وقوته الاقتصادية والعسكرية والسياسية. فقد كانت كل من فرنسا
وروسيا تبذلان المستحيل من الجهود لمنع هذه الحرب. ليس فقط لأضرارها بمصالحهما
ولكن أيضا لوعيهما أن هذه الحرب هي حاجة أميركية وليست ضرورة دولية أو إنسانية أو
غيرها. عداك عن حرج الدول العربية بالمشاركة في حرب أميركية ضد دولة عربية. خاصة
بعد الرفض الأميركي لمحاولة إيجاد مخرج عربي للأزمة. 2- انه يبحث عن عدو ولا يجده. حتى بدا الأمر وكأنه
يطالب العالم بتقديم ضحية ليتسلى الجبار افتراسها وممارسة جبروته عليها. وفي
غياب هذه الضحية راح الجبار يتسلى بالحروب الصغيرة وبالحصارات متعددة الدرجات
ومعها تصنيف دول العالم إلى تابعة ومارقة. وفي ذلك الإعلان عن عدم وجود حالة
وسطية. 3- انه يواجه عقبات في وجه عولمة نظامه القيمي الذي يرى الجبار
الأميركي انه اثبت نجاحه ليصبح سيد العالم دون منازع. فإذا ما فشلت العولمة في
مجموعة كبيرة من الدول المتعولمة والمستسلمة لشروط الأمركة رد الجبار هذا الفشل إلى
الفساد والتخلف في هذه الدول. وليس إلى عدم صلاحية نظامه للعولمة. 4- إن بعض تطبيقات العولمة تضر بالاقتصاديات الأميركية
مما يعطي للجبار الحق بتجاوز العديد من قوانين السوق ومنظمة التجارة العالمية.
لكن هذا الحق بالتراجع لا يمتد إلى أية دولة أخرى مهما بلغ شانها وقوتها
العسكرية. حتى لو أدى الأمر إلى معاناة شعبها من المجاعة كما حصل في روسيا هذه هي باختصار المظالم الأميركية
التي جعلت الولايات المتحدة تبرر تجاوزاتها لمبادئها الليبيرالية. لتخوض صراعات
مثل حرب كوسوفو ولتفرض الحصار على مئات الملايين من البشر. بل إنها أجبرت
الاتحاد الأوروبي على اتخاذ الخطوات الكفيلة بالقضاء عليه وعلى إمكانيات تطويره.
وكان ذلك عبر التعديلات الاستراتيجية المدخلة على ميثاق حلف الناتو. والتي بدأت
طلائعها مع إعلان بوش الابن عن إصراره على مشروع "الدرع الصاروخي الأميركي"
ولما يمضي شهر على دخوله البيت الأبيض. هذه المظالم
تقودنا إلى السيكولوجيا وإلى الحديث عن العقل الجمعي المنتج لهذه السياسات
والمواقف؟. ليصدمنا هذا السؤال بواقع التعددية الأميركي الذي يجعل من المجتمع الأميركي
تجمعا أشبه بالموزاييك الذي يتطلب أولا السؤال عن المواد اللاصقة لأجزائه
والجامعة بين جماعاته. وهو السؤال الأصعب!. فعلى الرغم من وجود جواب سهل وجاهز
يتمثل بالوفرة الاقتصادية (متوسط الدخل الأميركي 35 ألف دولار سنويا) فان
الموضوعية تقتضي تحري أجوبة أخرى. فالوفرة المادية قد تكون المادة اللاصقة
الأساسية للموزاييك البشري الأميركي. إلا أنها ليست الوحيدة فماذا عن بقية
المواد؟ إن معرفة
المواد اللاصقة الأخرى غير ممكنة بالنظر إلى المجتمع الأميركي من الخارج. إذ أن
هذا المجتمع يختلف بصورة كلية عندما ننظر إليه من داخله عنه عندما ننظر إليه من
الخارج. ففي الداخل الأميركي رفاهية نفسية تضاعف الأثر اللاصق لتلك المادة.
فالحرية الأميركية لا تقف عند حدود ممارسة القناعات الخاصة بل تتعداها إلى
التحرر من قيود الآخر لدرجة اللامبالاة به. وذلك على عكس المجتمعات التقليدية
حيث يكون الفرد أسيرا لرأي الآخر ومقيدا بالنظم الرمزية للجماعة وقيمها. بما
فيها تلك التي تتعارض مع قناعاته ورغباته. بما يجعل الفرد يحس أحيانا بالاغتراب
داخل جماعته. أما المجتمع الأميركي فيقدم للفرد حرية شخصية في حدودها القصوى.
وهذا ما يعطي للمجتمع الأميركي قدراته التذويبية الفائقة. التي تصهر المزيج
الأتني والثقافي الهائل التنوع في موزاييك المجتمع الأميركي. فإذا أردنا أن نعطي
مثالا على اللامبالاة والتحرر من قيود الآخر فإننا نأخذ المقابلة التي أجريت مع
الرئيس بوش الابن عندما كان مرشحا. ففي تلك المقابلة الشهيرة كان بوش نموذجا
للمواطن الأميركي العادي الذي لا يهتم بما لا يعنيه. ومن هنا فشله في الإجابة
على أسئلة من بديهيات السياسة. وهو فشل فضائحي بالنسبة إلى مرشح لرئاسة القطب
العالمي الأوحد. ومن الأمثلة أيضا ذلك الإحصاء الذي بين أن 80% من الأميركيين
يعتقدون أن باكستان و إيران هي دول عربية! وقس عليه. في المقابل
لابد من السؤال عن "الحنين إلى الأصول" وهو حنين من طبيعة الجنس
البشري. والجواب اختصارا هو أن عوامل انتصار البراغماتية الأميركية عقائديا
والوفرة المادية وخمود القوميات كانت عوامل مذوبة كبتت هذا الحنين. الذي عاود
ظهوره بقوة تتنامى مع تنامي انبعاث القوميات. وهو ردة الفعل الطبيعية أمام خمود الأيديولوجيات
(ويقال سقوطها). وهذا ما يجعل دراسة المجتمع الأميركي الراهن اكثر تعقيدا. فهل
نقسمه وفق انتماءاته العرقية والقومية؟ أم نتبع التقسيم البراغماتي الذي يصنف
الناس في أنماط وقوالب سلوكية بغض النظر عن شخصياتهم ولا وعيهم الفردي
والجماعي؟. لذلك كان من
الهام التطرق لموضوع التحليل النفسي للشخصية الأميركية. عله يقدم لنا الأجوبة
على هذه التساؤلات. حتى نصل إلى الموضوع الأهم والأكثر إلحاحا" وهو موضوع "مستقبل
الولايات المتحدة الأميركية". إذ يبين علم المستقبليات أن الإمبراطوريات
متعددة القوميات تموت موتا بطيئا و موجعا وجالبا للكوارث ومريقا للدماء. فهل تشذ
الولايات المتحدة عن هذه القاعدة المستقبلية المتعارف عليها؟. إن المواطن
الأميركي اليوم فاقد للتوجه. إذ يتنازعه الحنين للأصول ( الآريون الأميركيون
واللوبي اليهودي والتجمعات العرقية والدينية المختلفة) ومتعة اللامبالاة
والذوبان. مما افقد الموزاييك الأميركي دعم الوفرة المادية بنشوة الحرية الشخصية
التي تبدت مثاليتها ولا واقعيتها في الزمن الصعب. حيث اشتكى الآريون من سيطرة
اليهود على الحكومة الفيديرالية. وحيث اشتكى الزنوج من تدني دخلهم واستمرارية
التمييز العنصري ضدهم. وحين اتهم ذوو الأصول العربية بانفجار اوكلاهوما وغيرها
من المواقف التي غذت الحنين إلى الأصول وهي في طريقها لإلغاء متعة
اللامبالاة بالآخر. هذا الإلغاء الذي يترك الموزاييك الأميركي قائما على الوفرة
المادية وحدها. وهكذا يتوضح تدريجيا عجز الذات الأميركية عن مكاملة وتركيب
مجموعاتها الدينامية. إذ يزداد بروز عوامل الاختلاف بين هذه المجموعات حتى ينفجر
مع أول أزمة اقتصادية أميركية قادمة. وعندها ستتبدى الفوارق بين هذه المجموعات
على الأصعدة المختلفة ( العرقية واللغوية والدينية والمذهبية والقومية ...الخ).
حتى أمكن القول أن انفجار اوكلاهوما وقبله حوادث ليتل روك ولوس أنجلوس وبعدها
حوادث سينسيناتي لم تكن سوى مظاهرين لبداية تفكك الذات الأميركية . على طريق
تحويلها إلى فتات من الأقليات المتنافرة. إنها النفس
الأميركية المفككة... الدراسات السابقة
تجد الأنثروبولوجيا الثقافية جذورها في تاريخ الفكر الإنساني. ولعل اقدم
الملاحظات الأنثروبولوجية هي تلك المنقولة عن المؤرخ هيرودوتس الذي لاحظ الفوارق
بين العادات الإغريقية والعادات الفرعونية. ثم توالت الملاحظات الشبيهة مع تنامي
إمكانيات الاختلاط بين الأمم عبر التاريخ. حتى وصلت إلى تقارير منظمة تتعلق ،
بخصوصيات الأمم، من إعداد المبشرين الدينيين. إلا أن تحول الأنثروبولوجيا
الثقافية إلى فرع علمي مستقل تأخر لغاية الحرب العالمية الثانية. حين قادت
الولايات المتحدة دراسات الشخصية القومية من منطلق فائدتها في التعرف على بنية
وهيكلية مجتمعات الأعداء. إضافة إلى التعرف على أساليبهم التفاعلية وردود أفعالهم
المحتملة أمام الأحداث والشائعات وغيرها. وتولت هذه المهمة هيئات رسمية أميركية
استعانت بكبار الباحثين الأنثروبولوجيين في حينه. فقد عمل العالم
"باتسون" في هذا المجال لدى مكتب الخدمات العسكرية الأميركي
(المخابرات في حينه). كما عمل العلماء "غورير" و "لايون"
و"كلاكهوهن" في مكتب المعلومات البحرية الأميركية (فرع المخابرات
الآخر في حينه). وقام هؤلاء بدراسة الشخصيات القومية في الدول الصديقة والعدوة
على حد سواء. إلا أن الاهتمام تركز في حينه على الشخصية اليابانية (بسبب جدية
التهديد الياباني وخطورته أثناء تلك الحرب) والشخصيات الرومانية والتايلاندية
والروسية والألمانية بالطبع.
أما بالنسبة إلى الدراسات المتعلقة بالشخصية الأميركية فقد تأخر ظهور أول
الدراسات المنشورة في هذا المجال إلى العام 1948 عندما نشر العالم
"غورير" كتابه المعنون: Gorer.G: The American People,A Study in National Character, W.W.
Norton,NY,1948 في هذه الدراسة يلاحظ غورير أن الأميركيين يطبقون نظاما صارما بالنسبة
لمواعيد إرضاع أطفالهم. ومن الطبيعي إن الطفل يحتاج إلى فترة للتكيف مع هذا
النظام (الموضوع من قبل بالغين عاجزين عن التحديد الدقيق لحاجات الطفل. خصوصا و إنها
عشوائية وغير منتظمة). خلال هذه الفترة يمر الطفل بتجربة الجوع التي تغضبه فيعبر
عنها بالصراخ. ويستنتج غورير أن الشعور بالخوف من الجوع يلازم الأطفال الأميركيين
على مدى حياتهم. وهذا سبب الاحتجاجات الأميركية الشعبية على المعونات الأميركية
التي قد تؤدي إلى مجاعة أميركية في حال استمرار توريد الأغذية إلى الخارج. ويدعم
الباحث هذا التحليل بالخوف الذي يجتاح الأميركيين من احتمالات تناقص المحاصيل
الزراعية في المستقبل (كانت هذه المخاوف منتشرة في حينه في المجتمع الأميركي).
كذلك يربط غورير بين تجربة الجوع هذه وبين اهتمام الأميركي بصدر المرأة. ويصف
المرأة الأميركية بأنها شبقية وعمياء معتبرا هذه الصفات على علاقة بجوعها إبان
فترة الرضاعة. والواقع أن هذه الدراسة
تعرضت لانتقادات عديدة أهمها أن الباحث يؤكد على كون مرحلة الطفولة محددة
للشخصية البالغة (توجه تحليلي-فرويدي). ومع ذلك فان أثر مرحلة الطفولة غير قابل
للإلغاء وان لم يكن وحده المحدد لشخصية البالغ. بل إننا ،وبالرغم من تغير الظروف
والمعطيات، لا نزال نلاحظ خوف الأميركي من الجوع في مواقف عديدة. مثل الجماعة
التي كانت تخزن الأطعمة في أقبية خاصة تحسبا للحرب النووية. وكذلك الاهتمام الأميركي
البالغ بالرفاهية الاقتصادية. وهو الاهتمام الذي جعل كلينتون يفوز على بوش تحت
شعار"أميركا أولا". ومن احدث تبديات هذا الخوف من الجوع ذلك الشلل
الذي أصاب تجارة البيع بالتجزئة في النصف الثاني من العام 2000 حين قتر الأميركيون
على أنفسهم حفاظا" على مدخراتهم. التي اعتبروها مهددة بسبب التغيير المرافق
لسياسة الرئيس المقبل. وكان قرار خفض سعر الفائدة بعد فوز بوش على علاقة بهذا
الخوف. فهذا الخفض يسمح للمواطن العادي بالاقتراض بفائدة اقل مما يشجعه على الإنفاق
ويحرك جمود تجارة التجزئة. وإذا كان غورير قد التمس
نقطة الضعف هذه فان ذلك لا يعني بحال استمرار صلاحية تحليله للشخصية الأميركية.
فقد لحق التغيير بنظم التربية (نعايش حاليا الجيل الأميركي الذي تربى وفق مبادئ
الدكتور سبوك.وهو ما عرف بالتربية الحديثة التي حولت الأطفال إلى متحكمين
بأهاليهم) وبالتركيبة الديموغرافية ومستوى الدخل الفردي ومستوى الهيمنة العالمية
للولايات المتحدة. هذه المتغيرات وكثيرة غيرها تسقط تحليل غروير وتجعله مجرد
مرجع لتلك الحقبة. وهذا يقودنا إلى طرح السؤال حول الشخصية الأميركية المعاصرة
بعد كل هذه التبدلات؟. إن الموزاييك الأميركي،
الذي يزداد تعقيدا مع مرور الوقت، يقطع الطريق أمام مجرد محاولة الحديث عن شخصية
أميركية بالمعنى القومي لسمات الشخصية الجمعية. ولقد أدرك الأميركيون هذه
الاستحالة لذلك طرحوا المسألة على صعيد ما أسموه ب:"نمط الحياة الأميركية".
بما ينسجم مع تعدديتهم التي تضعهم في ردة فعل دفاعية-فكرية تجعلهم يرفضون
القوميات والأفكار القومية. وهذا ما سيقود للحديث عن الأمة الأميركية عوضا عن
القومية الأميركية. وبذلك يصبح استكشافنا لهذه الشخصية مرتبطا بالفكر المقرر
لنمط الحياة الأميركي. وهو الفكر البراغماتي الإنساني. الذي تسعى الولايات
المتحدة اليوم إلى عولمته. بما يعادل فرض نمط الحياة الأميركي على شعوب العالم.
وهنا تكمن مفارقة شديدة الأهمية. إذ أن نمط الحياة هو سلوك برهنت التجربة الأميركية
على كونه قابلا للاعتماد من أشخاص وجماعات ينتمون إلى مختلف الثقافات والأعراق.
والسلوك هو نمط تصرفات وحياة قابل للاعتماد من قبل الشخصيات المختلفة. أي انه من
الممكن اعتماد النمط السلوكي مع الحفاظ على الشخصية ومعها على الفروق الفردية.
وهذا ما يقودنا للحديث تفصيلا عن نمط الحياة الأميركي ومنطلقاته الفكرية التي
طالما تعرضت للسخرية لكونها لا ترقى إلى مجال الفلسفة. وهذا ما حال دون تحويل
هذا النمط إلى نظام أيديولوجي. وها هو هذا النمط يحفظ استمراريته بعد غياب
(سقوط) الأيديولوجيات. لدرجة استغلال الفراغ، الناجم عن هذا الغياب، من اجل
الدعوة لعولمة هذا الفكر (البراغماتي) ونمطه الحياتي. 1- البراغماتية الإنسانية
نصادف عناصر الفكر البراغماتي موزعة في محطات عديدة من التراث الإنساني. بل إننا
نجد اثر هذه العناصر في بعض الديانات القديمة. كما نجدها في العديد من الأساطير
القديمة والمنسوخة. إلا أن انتظام الفكر البراغماتي شهد بداياته عند نيتشيه حيث
طغت عليه النزعة التشاؤمية. في حين يعتبر الفيلسوف الأميركي وليام جايمس، المؤسس
الفعلي للبراغماتية، الذي اصدر أول كتبه بعنوان " مبادئ السيكولوجيا"
مكرسا فيه قناعته بضرورة انحسار طموحات الفلسفة من الكون إلى الإنسان. ومطلقا
نظريته البراغماتية التي لم تتجاوز كونها مجرد واحدة من نظريات المعرفة. ولم تكن
نظرية جايمس لتقاوم وتستمر لغية الآن لولا التطوير الذي ادخله عليها الفيلسوف
فرديناند كانغ سكوت شيلر(1864 – 1934). الذي أطلق ما عرف باسم "البراغماتية
الإنسانية". وهو يعتقد إن إنسانية نظريته تعود إلى الأهمية المركزية للإنسان
فيها. فقد حافظ شيلر على مبدأ جايمس بالحكم على قيمة المعرفة من خلال منفعتها.
وبما أن الإنسان هو الحكم على هذه المنفعة فان شيلر يعطيه مكان الصدارة في
التفلسف بحيث يشارك فيه بحسه وعقله و إدراكاته وحتى بوجدانه. وبذلك يعتبر شيلر أن
الإنسان هو المركز لكامل العالم الفكري. جامعا" بذلك بين اكسيولوجية
بروتاغوراس ( القائلة بان الإنسان هو المرجع في الأمور جميعها) وبين تشاؤمية
نيتشيه ( القائل بان الإنسان هو حيوان لن نصل يوما إلى فهمه). وانطلاقا من أهمية
الإنسان في هذه النظرة اعتبر شيلر ان مذهبه هو "المذهب الإنساني
للبراغماتية". وبهذا فهو يسمح لنفسه باستبدال أحكام "الوجود" بإحكام
"القيمة". وهكذا تتحول الحقيقة إلى مجرد أداة للعمل ( بعد أن فقدت
اطلاقيتها وتجريديتها) وهي لا تصبح واقعة إلا بفعل الإنسان فيها. وقبل متابعة
شرحنا لنظرية شيلر نود إيراد الخلاصة العملية لهذه النظرية والتي تنعكس بوضوح
على نمط الحياة الأميركي. حيث يمكن اختصارها بالمبادئ التالية:
1-
يجب
احترام جميع المعتقدات حتى ما يبدو لنا منها باطلا. شرط أن يكون أصحابها صادقين
ومخلصين لها.
2-
يجب الابتعاد
عن مواقف التشيع والانحياز.
3-
يجب
الابتعاد عن المواقف التحزبية.
4-
يجب
الابتعاد عن مواقف العنصرية والتمييز وتجنبها.
5-
يجب
اعتماد قيم التسامح والشمولية الإنسانية.
وبالرغم من قائمة الأسئلة
التي تثيرها هذه المبادئ ،والتي نؤجل مناقشتها، فإننا نلاحظ أن هذه المبادئ هي
المعتمدة كأساس لليبيرالية الأميركية. أما عن نمط التفكير الداعم والمرافق
لتطبيق هذه المبادئ فيلخصه شيلر عبر تصنيفه للاعتقادات التي يعتبرها أداة قمع
اجتماعية أو سلطوية. بحيث يجب الخلاص من تأثيرها. وعلى طريق هذا الخلاص فانه
يصنفها إلى: 1-
الاعتقادات الضمنية – التي لا نجاهر بها ولا
نناقشها. 2- الاعتقادات الجدالية – وهي غير مستقرة لكننا نسلم
بها عن بينة. 3- إنصاف الاعتقادات – وهي غير ثابتة (غالبا"
دينية برأي شيلر). 4-
الاعتقادات الموهمة – وهي إيحائية
الطابع. عبر هذا التصنيف يبين لنا
المذهب الإنساني لا إطلاقية المعتقدات وعدم اضطرارنا للاستسلام لها كأداة بطش
اجتماعية أو سلطوية. وتاليا" فإننا لسنا عبيدا" لمعتقداتنا. فنحن أحرار
في اختيارها وتعديلها بما يتناسب مع طموحاتنا الفردية ورغبتنا في تعديل البيئة
(الواقع) وفق غاياتنا. ونحن إذا ما قرنا دعوة شيلر للخلاص من سلطة الاعتقادات
وجدنا انه المؤسس الحقيقي لدعوة العولمة الراهنة. فالخطوة الأولى لتطبيق نظام
السوق (العولمة) تبدأ من إلقاء الاعتقادات جانبا". لأن الخلاص من سلطتها
شرط رئيسي لليبيرالية الأميركية التي أرسى شيلر مبادئها. وبذلك يحق لنا الاعتقاد
بأن كتاب شيلر المنشور عام 1929 تحت عنوان "منطق للاستخدام" هو
المقدمة الفكرية للعولمة. مما يجعل من مناقشة هذا الكتاب وأفكار مؤلفه عامة
مناقشة للينابيع الفكرية وللارهاصات الأولى للعولمة. ولعله من المفاجئ أن
الباحثين العرب المتصدين لمناقشة العولمة لم يتطرقوا إلى هذا الجانب الفكري
منها. 2. مناقشة البراغماتية الإنسانية
ولكن هل تفضي هذه المنطلقات إلى
حرية العيش الإنساني؟. فلو نحن سلمنا بأن الإنسان يصنع واقعه بنفسه فإننا سنقع
في إشكاليتين ميتافيزيقيتين هما: أ- عدم كمال الواقع وب- إطلاقية حرية الفعل الإنساني.
وشيلر يتجاهل الإجابة على هاتين الإشكاليتين ليرى أن حرية الإنسان هي أمر واقع لأنها
غير محدودة بواقع ثابت (لأن العالم غير تان لذلك فهو يتغير ويتطور باستمرار
مغيرا" معه الواقع). في المقابل نجد أن شيلر لا ينكر الحتمية لكنه يجد
البينة على محدوديتها في نتائج أبحاث الفيزياء الكوانتية. التي أثرت الفلسفة
وقدمت لها أداة ثمينة لاستيعاب منهج العلم وطبيعة المعرفة. مما تقدم نلاحظ أن الإغراق
في الجانب النظري لآراء شيلر يحجب عن البعض علاقة هذا المذهب بدعوة بداية القرن
21 (وما العولمة إلا واحدة من تجلياتها) لكن الخلاصة التالية توضح لنا بجلاء هذه
العلاقة وهي اختصارا" التالية: " إن عدم تمام العالم وحاجته إلى
التطور تحولان الواقع إلى عدم الثبات وإلى إمكانية التحكم به وتشكيله. بحيث
يمكننا أن نصنع منه ما نشاء. بل إننا نبدل فيه ونبتدع منه على الدوام ودون
توقف. وبما أن عالمنا مستمر في نموه وتطوره فأن عملية ابتداعنا للواقع غير قابلة
للتوقف أو الانتهاء. وبذلك يكون المستقبل مجموعة ممكنات (أو احتمالات) يمكننا أن
نحول بعضها إلى واقع وبعضها الآخر إلى مستحيل (المستقبليات من تجليات هذا
المذهب) أما عن اتجاه هذا التحويل فهو يتعلق بعوالمنا الفردية ومنها الاعتقادات
المصنفة أعلاه.
ونعود إلى مبادئ نمط الحياة الأميركي لنناقشها واحدة بعد الأخرى ولنبدأ ب: 1- احترام معتقدات الغير شرط أن يكون صادقا"
في اعتناقه لها.
وهنا يطرح السؤال من يحدد هذا الصدق ومقداره؟. ومن يتولى مهمة توزيع المعتقدات
وفق تصنيفاتها المذكورة أعلاه؟. وغموض الأجوبة على هذه الأسئلة يكاد يساوي شرعية
احتقار آراء الغير ومعتقداته (لدرجة إلغائها) إن هي لم تتوافق مع معايير التصنيف
وفق رؤية الطرف الأقوى لها!؟. بل أن سؤالا" اكثر جذرية يطرح نفسه وهو: هل
تعني الحرية الإنسانية وجوب الحصول على الاعتراف بالمعتقدات؟. وإذا كان ذلك
واجبا" فمن هي الجهة المانحة لهذا الاعتراف؟. وما هي الإثباتات والقرائن
الواجب على صاحب الاعتقاد تقديمها لنيل هذا الاعتراف؟. وإذا كان هذا المذهب
شريكا" للسيكولوجيا (شراكة الموضوع وهو الإنسان) فإننا نسأله عن سبب إهماله
للغرائز الإنسانية وهي محركات اكثر فعالية من الاعتقادات. فماذا عن غرائز البقاء
واستمرارية النوع لدى شعوب يأكلها المرض والمجاعات فتتعرض لمساومات تبديل
اعتقاداتها حتى يسمح لها بالاستمرار في الحياة!. فهل هذه هي الليبيرالية؟. 2- الابتعاد عن مواقف التشيع.
ألا يتعارض هذا المبدأ مع أبسط المعطيات التاريخية والإنسانية؟. ماذا فعلت
البشرية عبر حربين عالميتتين وعبر آلاف الحروب الصغيرة؟ وماذا عن مبدأ الأحلاف
(الاقتصادية والعسكرية والعرقية ...الخ) ؟ ألا تندرج هذه جميعها في خانة
التشيع؟. 3- الابتعاد عن الحزبية.
والحزبية هي المصطلح السياسي لما تطلق عليه السيكولوجيا تسمية الانتماء.
والانتماء مرادف للحياة واستمراريتها. هذا دون أن نتجاهل الإشارة المحقة لشيلر
حول أعباء الانتماء وتبعاته الثقيلة على طموحات الفرد. إلا أن
"اللاانتماء" يعني "فقدان الاعتراف" وهي أزمة وجدانية تهون
أمامها إعاقة الطموحات. 4- الابتعاد عن العنصرية والتمييز.
وهو ما يكتسب راهنا" تسمية الحقوق المدنية. وهو شعار إنساني رائع إذا توصلت
البشرية لوضع المعايير العالمية له. أي المعايير الصالحة للتطبيق بدون تمييز
يقوم على عوامل المصالح . فالواقع يشير إلى أن أغنياء المعلومات هم الذين يفرضون
معايير الحقوق وفق مصالحهم. في حين يدفع فقراء المعلومات فواتير هذا الخلل
المعياري. بما يقود للتأكيد على أن ازدواجية المعايير هي عنصرية متطورة تهون
أمامها العنصرية التقليدية. 5- اعتماد قيم التسامح الإنساني.
وهنا نتساءل عما إذا كان السباق على مشاريع الدمار الشامل وجهود احتكارها هو
مظهر تسامحي؟!. أم أن التسامح يتجلى في الحروب الرمزية. حين تستخدم القوة
العسكرية بكل طاقتها وتسيل الدماء بدون الحاجة لمجرد إعلان الحرب؟. مما تقدم نستطيع
استنتاج الباعث الحقيقي على الفوارق القائمة في تطبيق مبادئ الليبيرالية ما بين
داخل الولايات المتحدة وخارجها. وعندها يمكننا القول بأن المواطن الأميركي
ليبيرالي لغاية تلقيه إيحاءات إعلامية عن وجود تهديدات للمصالح الأميركية،
وبالتالي لمستوى الرفاهية الذي يعيشه، فعندها فقط يتحمس الأميركي لتخطي
الليبيرالية!. وبمعنى آخر فان الليبيرالية ونمط الحياة الأميركية هما مجرد خدعة إعلامية.
وتجنبا" للإغراق
في النظري نجد من الواجب تقديم لمحات تطبيقية عن السلوك الأميركي العام إبان
الأزمات. لأن السلوك المأزمي هو خير مدخل للاطلاع على مكونات الشخصية. 3- ملامح الأزمات الأميركية
سنحاول في هذه الفقرة تقديم رواية مختصرة عن التاريخ
المأزمي الأميركي. لنجد أن المؤشرات الامراضية الأميركية ممكنة التصنيف في ثلاثة
محاور مرضية هي: المحور الاقتصادي (البورصة تحديدا") والمحور السياسي
(وراثة زعامة العالم الحر) والمحور الديموغرافي (الأقليات الداخلية). أ- الانعكاسات النفسية لأزمات الاقتصاد الأميركي. في المحور الأول تعود أولى
الأزمات المالية الأميركية إلى العام 1907 حين واجهت البورصة الأميركية وضعية
الخراب بسبب الضغوط لتحويل تغطية عملتها من الفضة إلى الذهب. وحدث حينها ما سمي
ب"الرعب في وول ستريت" الذي أثار غضبة الجمهور الأميركي. مما اجبر الإدارة
على اتخاذ بعض الإجراءات التي أثبتت التجربة عدم فعاليتها. ثم كان بعدها صدور
"قانون الاحتياط الفيديرالي" الصادر عام 1913 . والذي اعتبره المواطن
الأميركي حماية له. إلا أنه ومع نشوب الحرب العالمية الأولى تبين أن هذا القانون
يعاني من ثغرات تسمح للمصارف الأوروبية باستغلال الاقتصاد الأميركي. ثم توالت
بعد ذلك الأزمات وصولا" إلى الانهيار التام في أزمة 1929 الشهيرة. ثم توالت
عقب ذلك الإصلاحات الاقتصادية ومعها الأزمات المتسربة من ثغرات هذه الإصلاحات.
حتى تكرس الإحساس بوجود متربصين متخفين جاهزين للانقضاض على الاقتصاد الأميركي
عندما تحين الفرصة. بل إن هؤلاء بدوا وكأنهم يختبرون قدرتهم على التسبب في فوضى
البورصات الأميركية من وقت لآخر.مما انعكس على المواطن الأميركي بنوع خاص من
الخوف التوقعي. الذي يشبه الخوف من الحسد في الثقافات الأخرى إلى حد بعيد. ولعل
الخوف من الفقر الأميركي يعود إلى هذا السبب وليس إلى تحديد أوقات الإرضاع كما
فسرها غورير. ولقد كرست أزمة 1929 هذه المخاوف مرسخة شعور المواطن الأميركي بأنه
مجرد نقطة ماء في المحيط الأطلسي الذي يجلب معه العواصف التي لا يمكن للنقطة سوى
أن تستسلم لها. من هنا كانت صعوبة إقناع الأميركيين بتجاوز مبدأ الحياد والدخول
في الحرب العالمية الثانية. ولولا ردة الفعل الناجمة عن الهجوم على بيرل هاربر
لما اقتنع قسم منهم بالمشاركة في الحرب. كما أن هذه المخاوف التي لا تجد تعويضها
إلا بالرخاء هي التي دفعت الأميركيين للتظاهر ضد الحرب في فيتنام. فهم غير
مستعدون لتقديم التضحيات والمخاطرة بمستوى رفاهيتهم من أجل مكاسب استراتيجية
باهظة الثمن وبعيدة عن الولايات المتحدة. والواقع أن لهذا الرهاب الأميركي
تظاهراته على مختلف الصعد (سنذكر بعضها في الفقرات التالية) لكننا نكتفي بذكر
العارض الاقتصادي لهذه المخاوف. فنعود إلى ما سمي في حينه ب: "الاثنين الأسود".
الذي وافق يوم الاثنين في 19/10 /1987 .حين بلغت خسائر وول ستريت 500 مليار
دولار في ذلك اليوم. فاجتاح الأسواق رعب كارثي اجبر الرئيس ريغان على التدخل
شخصيا" بالإعلان عن أن المؤشرات الاقتصادية الأميركية قوية جدا" ولا
داعي للاستنفار...الخ. لكن إدارة ريغان كلها استنفرت لمواجهة هذه الكارثة التي
تهدد بالتفاقم. وشارك الأكاديميون الأميركيون بدراسة الوضع. فكانت الدراسات التي
أعدت في جامعات يال وكولومبيا واريزونا أهم هذه الدراسات. وكان باحثوها
مساهمين في وضع التقرير الذي أعدته اللجنة التي ألفها ريغان لدراسة الأزمة.
والتي أصدرت التوصيات التالية: 1- إيلاء قدر أقل من الثقة لحكمة المستثمرين والانتباه
إلى دوافعهم الفردية.( مما يعني تقييد حرية الاستثمار والخروج على مبادئ السوق.
مما يشكل اعترافا" ضمنيا" بحاجة النظام الرأسمالي (السوق) للإصلاح). 2- إخضاع الأسواق المختلفة لرقابة فيديرالية مركزية
واحدة.( وهو نوع من الحماية الذي ترفضه مبادئ السوق. حيث تشترط إلغات إلغاء
الحماية بكافة أشكالها). 3- استخدام آليات " قطع التيار" على غرار ما
يجري في توزيع الكهرباء. وذلك للتحكم بالتقلبات السريعة (لأن جنون السوق مرتبط
بزيادة سرعة التقلبات). وعلى هذا الأساس تم إقفال البورصة قبل نصف ساعة من موعده
في ذلك اليوم. 4- استخدام المبدأ السابق "قطع التيار" لوضع
الحدود للأسعار (مما يعني تدخل المراقبة المركزية في تحديد هوامش –حد أدنى وحد
أقصى لأسعار الأسهم- بما في ذلك من قضاء على حرية السوق وتحويلها خفية إلى
اقتصاد موجه على النمط الاشتراكي. (تولت الصناديق الاستثمارية لاحقا" هذه
المهمة لتصبح المتحكمة الكبرى بالشركات و بأسعار أسهمها – حول هذه النقطة
تحديدا" تتركز انتقادات جورج شوروش للرأسمالية. التي أودعها كتابه
"أزمة الرأسمالية العالمية" الذي سنعرضه لاحقا"). وكان من الواضح لدى جميع
المراقبين أن التحكم في الاثنين الأسود لم يتم عبر هذه التوصيات والنصائح و إنما
هو تم عبر الآليات السوداء للتدخل في السوق. وهي آليات تسمى بالسوداء بسبب
لامشروعيتها ومخالفتها للأخلاقيات المعلنة.
ويبقى السؤال عن نجاح هذه التدابير في التحكم بآليات السوق وصولا" إلى
تأمين حماية البورصات الأميركية؟. والجواب يقلق الأميركيين ويضاعف خوفهم
التوقعي. فقد أعطت البورصة إشارات خطيرة متعددة. لم تتعدى فوضى بعضها الساعات
القليلة حيث أمكن السيطرة على السوق بعدها. إلا أن يومين كاملين من الفوضى كانا
كافيين لإعادة تفجير الخوف. الأول كان يوم الاثنين شبيه الأسود في 27/10/1997 أي
بعد عشر سنوات كاملة. حيث هبط مؤشر داو جونز 153 نقطة في ذلك اليوم (مقابل
508 نقاط في اثنين1987) ويومها صرح مايك ماكوري باسم كلينتون بأن المؤشرات الاقتصادية
الأميركية قوية...الخ (بما يتطابق مع تصريح ريغان العام 87). أما عن محدودية
الهبوط فهو يعود إلى استعداد كلينتون المعروف لاستخدام الآليات السوداء على أنواعها
لحل المشاكل التي تصادفه.والثاني كان يوم الجمعة في 14/4/2000. الذي شهد
هبوطا" انتقائيا" في اسهم التجارة الجديدة. حيث بدا وكأن هذا الهبوط مدروس
من أجل التحكم بالأسعار والحد من ارتفاعها الوهمي (فقاعات السوق) الذي يعقبه
هبوط خارج السيطرة. ونصل إلى إحصاءات سوق
التجزئة الأميركي خلال العام 2000 لنجد أن مخاوف الفقر لدى المواطن الأميركي لا تزال
شديدة الحدة. فقد عمد هذا المواطن للامتناع عن الاستهلاك الزائد وتمسك بمدخراته
خوفا" من التغيير الآتي مع الرئيس الجديد. وكان خفض سعر الفائدة على القروض
الصغيرة فور انتخاب بوش بمنزلة الدعم المعنوي والتشجيع للمواطن كي يعود
للاستهلاك دون الخوف على مدخراته ومن أزمة محتملة. وهذه المخاوف قد تتحول إلى
كارثة في حال نجاح أي إيحاء في تفجيرها. وعندها تصبح المسألة شبيهة بأن يصرخ أحدهم
في دار للسينما حريق...حريق!. ب- وراثة زعامة العالم الحر. كانت التعددية الأميركية
مساهمة في نسج نمط التوجه الاستراتيجي الأميركي وتطوراته اللاحقة. ويلاحظ
هنتنغتون في مقالته "تآكل المصالح الأميركية" أن الولايات المتحدة
ومنذ قيامها توجه مصالحها واستراتيجيتها في الاتجاه المضاد لأعدائها. فهي كانت
تتوجه عكس القارة القديمة (أوروبا) لغاية الحرب العالمية الثانية عندما تحولت إلى
معاكسة للنازية ومن ثم للشيوعية. ويتابع هنتنغتون بأنها فقدت وجهة مصالحها بعد نهاية
الحرب الباردة لأنه لم يعد لديها أعداء توجه نفسها بالنسبة إليهم!. وبهذا يوضح
هنتنغتون الثمن الذي تدفعه الولايات المتحدة بسبب خسارتها للعدو وبالتالي
وراثتها للعالم الحر. هذه الوراثة التي كلفت الولايات المتحدة وزر إلقاء قنبلتين
ذريتتين على اليابان. ومعهما مشاعر الذنب وتوقع الانتقام ورهاب المحاكمة
واحتمالات الانقلاب في الأدوار الذي يجعل المواطن الأميركي غير مقتنع بأنه يعيش
في وطن نهائي. هذه الوراثة التي بدأت التكاليف الباهظة للمحافظة عليها تتبدى أمام
عيون المواطن الأميركي مع حروب فيتنام وكوريا ومع تهديدات الحرب الباردة وغيرها
من التكاليف التي ولدت عقدة فيتنام الأميركية. ومعها رفض الأميركيين للتضحيات
البشرية بأولادهم من اجل مكاسب استراتيجية بعيدة عن الأرض الأميركية. ولقد تجلى
هذا الرفض في حرب كوسوفو عندما أدرك كلينتون عجزه عن دفع الثمن الاستراتيجي للإنزال
البري في كوسوفو فرفضه. والواقع أن حرب كوسوفو قد بينت الفهم الأميركي لوراثة
العالم الحر. الذي يمكن تلخيصه بالمعادلة التالية: "التفوق العسكري الأميركي
بتضحية اوروبية لحماية مبادئ العالم الحر.". ومن الواضح أن أوروبا غير
موافقة على هذه المعادلة. مما يعد الأميركيين بالاضطرار قريبا" لتقديم
التضحيات. وهو وعد يعيد تفجير الرهاب الأميركي. خصوصا" عندما يقترن مع
تهديدات التجسس الروسي والصيني والإسرائيلي ومعهم تهديدات الإرهاب الداخلي متعدد
المصادر. وهذا يبين أدراك الرئيس نيكسون لهذه المخاوف ولاحتمالات الخطر فيها إذ
كتب في مذكراته: ... لو سألني مواطن أميركي عن البلد الذي يمكنه أن يضمن له
مستقبلا مستقرا" لأولاده لنصحته بأوستراليا!... ج- الخطر الديموغرافي قلنا أن نمط الحياة الأميركي
يقوم على استبدال محركات الشخصية بقوالب أو بأنماط سلوكية محددة يمكن للأشخاص
اعتمادها وتبنيها بمعزل عن الشخصية الأساسية. مما يحفظ للفرد عالمه الداخلي
ويقولب تصرفاته وعلاقته بالآخرين وفق شروط محددة ومقبولة. وبذلك كانت الأقليات
الأميركية تخوض كفاحها من اجل توسيع إمكانيات انصهارها في البوتقة الأميركية.
والسماح لها بتباع هذه الأنماط وتوفير الشروط لذلك. لكن تغييرات عميقة تنامت مع
الوقت مدعومة بالظروف وآخرها سقوط الاتحاد السوفياتي. ففي البداية كانت الجماعات
الأميركية ساعية للانصهار. لكن بعضها كان يتميز بحس انتماء متطور جعلها تبقى
مصرة للحفاظ على خصوصياتها. ومن هذه الجماعات اليهود (يصرون على الانغلاق بوصفهم
الشعب المختار) والصينيون (بسبب تطور حسهم القومي). بالإضافة إلى الفقراء
المنعزلين في إحياء الصفيح من لاتينيين و أفارقة وغيرهم. إلا أن الأمور تعقدت
بعد نهاية الحرب الباردة بحيث باتت فضائح الاستغلال اليهودي للحكومة الفيديرالية
سببا" لانبعاث حركة الميليشيات الأميركية البيضاء. في المقابل وجدنا أن بحث
أميركا عن عدو دفعها للتصادم مع بلدان المنشأ للعديد من جماعاتها. فهي اصطدمت مع
الصين (حادثة السفارة في بلغراد وطائرة الاستطلاع ...الخ) ومع دول الأطلسي (عبر
ابتزاز حرب كوسوفو وتضارب المصالح الاقتصادية) ومع دول أميركا اللاتينية ومع أفغانستان
والدول العربية وإيران ...الخ. بحيث أدت هذه الأحداث المتراكمة والمتسارعة إلى
استشعار هذه الجماعات ضرورة إحياء خصوصياتها والتجمع بشكل جماعات ضغط
(لوبي) شبيهة باللوبي اليهودي. وينعكس ذلك عمليا" بفقدان الولايات المتحدة
التدريجي لأهم مقومات نمطها وهو اللغة الإنجليزية التي بدأت بالتراجع لتدخل في
منافسة مع الإسبانية خصوصا" ومع لغات أخرى عموما". هذه الملامح الانشطارية
غير قابلة للتجاهل بسبب خلفية الحرب الأهلية الأميركية. إذ يشير الاستقراء إلى
كون الحرب الأهلية نوعا" من الفصام(الشيزوفرانيا) غير القابل للشفاء
لأنه يعاود ولو بعد حين. وبأن علاجه الوحيد هو الوفرة الاقتصادية. التي لا زالت
الولايات المتحدة تؤمنها لمواطنيها. وتأمين هذا العلاج يستبعد الحرب الأهلية
لكنه لا ينفي علائمها (مظاهر التفكك بلغة الاختصاص). ومن أبرز هذه العلائم نذكر
الحوادث التالية: 1-
الحوادث العنصرية في ليتل روك العام 1957 التي
اضطرت الجيش الأميركي للتدخل فيها ضد سلطات الولاية وقضائها. مما وضع
الليبيرالية الأميركية والقضاء ومبادئ الحريات الأميركية في موقف شديد الحرج.
وعرض مصداقيتها محليا" وعالميا" للشك. 2-
حوادث لوس أنجلوس العنصرية. التي اندلعت اثر اعتداء
شرطي ابيض على مواطن أسود. وتسجيل الحادثة على شريط فيديو. الأمر الذي استتبع
حوادث عرقية تضمنت التمرد والنهب و إشعال الحرائق. 3-
حوادث مدينة سينسيناتي في ولاية اوهايو التي اندلعت
في7/4/2001 والتي استمرت لبضعة أيام تخللها النهب والشغب مما اضطر سلطات الولاية
للجوء إلى أساليب عنفية وإلى حظر التجول كي تتمكن من السيطرة عليها وعلى
الشغب في أحياء السود الثائرين لقتل جندي ابيض للأسود تيموثي توماس. وجاءت هذه
الحوادث بعد سلسلة من الاعتداءات التي ارتكبها بيض بحق مواطنين سود في تلك
الولاية. وتكرار هذه الحوادث العنصرية منذ 1957 وحتى اليوم هو مؤشر على وجود
مظهر تفككي قابل للانفجار في البنية الأميركية. 4-
انفجار أوكلاهوما (1995). الذي قامت به حركة
الميليشيات الأميركية البيضاء. في محاولة لإظهار عدم رضاها عن الحكومة
الفيديرالية. وإعلان خروجها عن طاعة الحكم الأميركي. الذي تعتبره هذه الميليشيات
تابعا" لليهود. 5-
هوس التسلح الأميركي. وأحد أبرز آثاره الجانبية
جرائم المدارس. حيث سجلت عشرات الحوادث التي قام بها أطفال مدارس بقتل رفاقهم.
في حوادث قتل جماعية. 6-
العمليات السوداء للمخابرات الأميركية. وهي قد
رافقت الوكالة منذ إنشائها ولغاية اليوم. وقد سميت بالسوداء نظرا" لتعارضها
مع المبادئ الليبيرالية المعلنة. وهي تعكس مظاهر فصامية –تفككية. إذ تشير
لاضطرار الحكم الأميركي لتجاوز قوانينه. 7-
الاغتيالات التي تطال الرؤساء الأميركيين وبعض
مقربيهم. وتطول القائمة منذ اغتيال لنكولن ولغاية محاولة اغتيال ريغان. وهذه الاغتيالات
تبقى في غالبيتها غامضة بما يبرر اعتبارها نوعا" من الانقلاب على السلطة.
مما يضع الولايات المتحدة في موقف لا يختلف كثيرا" عن موقف أميركا
اللاتينية خلال فترة الانقلابات المتتابعة. 8-
العقدة الفيتنامية غير القابلة للشفاء كونها سجلت أولى
الهزائم الأميركية. بعد أن تسببت بانشطار الرأي العام الأميركي بين مؤيد ومعارض
لهذه الحرب. وهذا المظهر التفككي لا يزال يعاود الظهور في القضايا العسكرية. حيث
اضطر بوش الأب لتوريط كل أصدقاء أميركا في حرب الخليج. كما اضطر كلينتون إلى
تجنب الإنزال البري في كوسوفو. وهذا الخوف يختزل كافة المخاوف الأميركية الكامنة
وراء الإصرار على تراث الكاو بوي ومعه امتلاك الأسلحة الفردية بحرية. الذي أيده
بوش الابن بصفته محافظا" مهتما" بهذا التراث ومنتميا" إليه. وهو
انتماء قد يفسر مسارعة المحافظين للتورط في استعمال القوة. 4- التحليل النفسي للشخصية الأميركية قد لا يكون من الموضوعي الحديث عن شخصية أميركية وسط هذه التعددية
المغرقة في التعقيد. حيث الانتماء لا يتوزع على محور الأصول العرقية أو اللغوية أو
التاريخية بل تضاف إليه محاور أخرى يتعلق أهمها بتاريخ الهجرة والمدة الفاصلة
بينه وبين الراهن. عداك عن محور التصنيف الطبقي الذي يصنف الجماعات الأميركية
وفق دخلها السنوي. مع ذلك يبقى تحليل هذه
الشخصية ممكنا" بسبب اعتمادها قالبا" سلوكيا" نمطيا" هو ذلك
المسمى بنمط الحياة الأميركية. وهو قابل للتحليل خاصة مع غياب الفروقات
العقائدية العميقة. حيث يميل التحليل إلى تصنيف القوالب السلوكية الجامدة في
خانة العصاب السلوكي. حيث يعرف التحليل النفسي هذا العصاب كالتالي: "انه من
الاعصبة الراهنة (أي أنها لا تعود إلى عقد في صلب الشخصية) التي تتأتى عن تجارب
سلبية تدفع بالشخص إلى الاعتياد على تنفيذ رغباته وممارسة غرائزه دون إخضاعها
لسيطرة أو مساهمة الجهاز العقلي. ويدل ذلك على ان الوظائف النفسية لدى هذا النوع
من العصابيين لم تتوطد بشكل ثابت وراسخ.". ولدى مراجعتنا لنمط الحياة
الأميركي نجده ينتمي تحديدا" إلى هذا النوع من العصاب. إذ تمت تربية
المواطن الأميركي حتى لا يهتم إلا بما يعود عليه بالمنفعة. أما العقل والجهاز
العقلي فهما صندوق اسود يستحسن عدم الخوض فيه. وهذه ليست تهم نسوقها جزافا"
إذ أن إحصاءات الثقافة العامة لدى المواطن الأميركي هي خير داعم لهذا التشخيص.
الذي يتدعم أيضا" من خلال الخضوع الكلي للجمهور الأميركي للإيحاءات الإعلامية.
وحسبنا هنا التذكير بضآلة المعلومات العامة الفضائحية في المقابلة التلفزيونية
التي أجراها ووكر بوش وهو بعد مرشح. إذ انه كان يسعى إلى رئاسة أقوى دول العالم
دون أن يملك المعلومات العامة التي يحتاجها أي متسابق في برنامج العاب تلفزيوني.
|
||
Document Code VP.0019 |
Nab.Psy.Diss |
ترميز المستند VP.0019 |
Copyright
©2003 WebPsySoft Arab Company
www.arabpsynet.com (All Rights Reserved) |