يقتصر العرض على فقرة من فقرات بحث الإسلام والطب النفسي
الوقائي. وهي فقرة الوقاية النفسية-الجنسية. وكان النابلسي بمشاركة زميله عبد
الفتاح دويدار قد عرض هذا البحث في مؤتمر الجمعية الإسلامية العالمية للصحة النفسية
/ الأقصر 1994
تناول القرآن الكريم العلاقات الزوجية بكل تفاصيلها من بدء الاختيار والخطبة ثم
في الاتفاق والتعارف على الزواج، ثم أسلوب المعاشرة الزوجية وما يجب على كل طرف
في سلوكه حيال الطرف الآخر، ثم في افتراق الزوجية سواء بالطلاق أو الوفاة. ولا عجب
في ذلك فالإسلام أراد بالمسلمين مجتمعا" متماسكا" صالحا"، ولا
تماسك لمجتمع ولا صلاح إلا بتماسك الأسرة وصلاحها، فالأسرة هي الخلية الأولى لأي
مجتمع وفي سلامتها سلامته. ففي اختيار الزوج المسلم لمن ستكون شريكة حياته،
يأمره الله بأن يحسن الاختيار فيختار المسلمة المؤمنة ويحرم عليه الزواج من
مشركة، كما حرم على المؤمنة الزواج من مشرك. والحكمة في هذا التحريم هي
أولا" تنشئة جيل مسلم على تربية إسلامية صحيحة لكل ما يعنيه الدين الإسلامي
من عبادات وسلوك قويم، ولا يتأتى هذا إلا إذا كان الأبوان مسلمين مؤمنين. ثانيا"
تحاشي افتتان المؤمن أو المؤمنة والاستسلام والانقياد للطرف المشرك. مما قد يؤدي
به أو بها إلى زعزعة الإيمان بل قد يؤدي إلى الردة والكفر بعد الإيمان.
وكيف يأمن المسلم إلى مشركة أو مسلمة إلى مشرك
على أولادهما؟ وكيف يسكت كل منهما للآخر ويأمن إياه ؟ فلا اتفاق بين الخير والشر
ولا التئام للطهر مع الجنس. ولنفس الأسباب حرمت الشريعة الغراء زواج مسلم صالح
من زانية، كما حرم الله زواج مسلمة صالحة من زان، وفي ذلك يقول الحق سبحانه
وتعالى : " الزاني لا ينكح إلا زانية أو مشركة والزانية لا ينكحها إلا زان
أو مشرك وحرم ذلك على المؤمنين
(سورة النور، الآية 2). وهذا إيحاء من الله للمؤمنين بفظاعة الزنى وخطره
على المجتمع الإسلامي. ووجه الخطورة في هذه المعصية أن يأمن مؤمن صالح إلى مسلمة
زانية فيصاب بالغفلة عما قد تأتيه هذه العاصية من فاحشة حتى بعد الزواج وما
يترتب على ذلك من النجس واختلاط الأنساب الذي قد يصاب به المجتمع الإسلامي ويبدد
كيانه ويدمر أخلاقياته. كما إن نفس الخطورة تقع إذا تزوجت مسلمة صالحة من مسلم
زان قال تعالى " ولا تقربوا الزنا انه كان فاحشة وساء سبيلا" (سورة
الإسراء، الآية 17).
إن الإنسان من جسم ظاهر ملموس، وفي داخل هذا الجسم الظاهر المادي قوى أخرى غير
مرئية تحرك ظاهر الإنسان المادي وتحدد سلوكه مع نفسه ومع غيره هذه القوى هي
الأولى من نوع السلوك الإنساني مستقيما" كان هذا السلوك أو معوجا".
وان ما يصيب الإنسان من خير أو شر نابع منه، ومن صنع هذه القوى الخفية الكامنة في
داخله، وكذلك الحال في الأمة، فما أصابها من خير أو شر كان نابعا" من
داخلها، فالأمة مجموع الأفراد، وإذا ما استقام كل فرد استقام أمرها، وبقدر نسبة
المستقيمين الصالحين في الأمة بقدر ما يكون صلاحها أو فسادها. فسلوك الإنسان إذن
نوعان سلوك عادي ظاهري، وسلوك معنوي باطني. والسلوك الظاهري مجال جسم الإنسان
وأعضائه ويظهر لنا هذا السلوك واضحا" ملموسا" في حركة جسمه أو عضو من
أعضائه. والسلوك الباطني مجاله الغرائز والعقل والضمير، وهي عوامل دائمة النشاط
والحركة داخل الجسم لا يحس بها سوى صاحبها. وما السلوك الظاهري إلا انعكاس مادي
للسلوك الباطني وبقدر سلامة الثاني وصلاحه بقدر ما تكون سلامة الأول وصلاحه.
وكما أن للجسم المادي وأعضائه وظائف حددها الخالق، كذلك الأمر بالنسبة للعوامل
الباطنية فلكل منها هدف حدده له الخالق... وهي أهداف أراد بها الله خير الإنسان
وسعادته في دنياه وآخرته إذا ما هداه الله إلى تحقيق هذه الأهداف. ولا يهدي الله
إلا من آمن به واتقاه وسار في حياته الدنيا وفق تعاليمه سبحانه وتعالى. فالغرائز
أودعت الجسد لحفظ نوع الإنسان من الانقراض، وهذا الحفظ منوط بنشاط الغرائز
مجتمعة ومن هذه الغرائز : غريزة حب البقاء وغريزة الجنس وغريزة حب التملك وغريزة
السيطرة وغريزة الثبات على الذات ... وهي كلها متفرعة من غريزة حب البقاء
والرغبة في الخلود.
فغريزة حب البقاء تتطلب من
الإنسان أن يخلفه من صلبه من يضمن لاسمه الاستمرار، ولكي يولد له ولد لا بد له
من أنثى تنجب له هذا الولد، وطريقه إلى ذلك هو الزواج بجميع طقوسه وضوابطه.
ويقال أن الغرائز عمياء إذا عملت بذاتها دون ضابط أو رابط، فالغريزة كامنة في
جسم الإنسان ولا يمكن مشاهدتها ولا معرفة مكانها، ولكي تنشط لا بد لها من مثير
تنفعل به. هذا الانفعال لا يزال كامنا" لا يحس به إلا صاحبه. فإذا قوي هذا
الانفعال انطلق من جسم الإنسان في شكل أعمال وحركات ظاهرة. وهذا ما يسمى بالنزاع
أو السلوك وهذا ما يحصله جميع الحيوانات العجماوات. أما الإنسان الذي صوره الله
وأحسن تصويره فقد أكرمه خالقه فزوده بالعقل والضمير، وبالعقل يتدبر طريقة تنفيذ
متطلبات الغرائز وبالضمير يوجه هذا النزاع أو السلوك إلى عمل صالح يفيد صاحبه
ومجتمعه فائدة حقيقية جديرة بإنسانيته. والعقل هو تلك الأداة التي أكرم بها الله
بين آدم ليكون عونهم في تدبير متطلبات الغرائز وتنفيذها. ويقوم هذا التدبير على
عدة خطوات متتالية متصل بعضها ببعض وهي ما تعرف بالعمليات العقلية. وقد تنتهي
هذه العمليات إلى التنفيذ الفعلي لمتطلبات الغريزة بما يفيد صاحبها فحسب ولو كان
فيها أضرار بمصلحة المجتمع، لولا تدخل الضمير.
والضمير هو ما يسمى في
القرآن الكريم بالقلب أو الفؤاد أو النية، وهو الذي يوجه الله سبحانه وتعالى
إليه الحكمة والموعظة الحسنة، فمن كان ضميره حيا" ويقظا" تعاون مع
العقل فيلبيه متطلبات الغرائز بالتي هي أحسن. والضمير الحي هو الذي يهدي الإنسان
بنور الهداية الربانية يميز بين الخير والشر وبين الحق والباطل فيأخذ من هذا
وذلك أحسنه، مما يرضي الخالق والخلق ويصلح به حال صاحب هذا الضمير وحال المجتمع
الإنساني. والإنسان الكامل من وهبه الله جسما" سويا" وعقلا"
سليما" وضميرا" حيا". والضمير النقي الصافي هو قمة الكمال
الإنساني، وهو الحارس الأمين الذي يقف أمام أهواء النفس البشرية ونوازعها، يردها
إلى الحق والصراط المستقيم إذا ما نزغ فيها الشيطان بالغواية والمعصية، والضمير
الحي هو الملهم والمرشد للعقل إلى اختيار أمثل الوسائل للسلوك القويم والفعل
السليم، ومن تحكم ضميره في فكره وقوله وعمله كان مركز إشعاع الخير للبشر أجمعين.
" ونفس وما سواها فألهمها فجورها وتقواها. قد أفلح من زكّاها. وقد خاب من
دساها" (صورة الشمس، الآيات 7- 10 ). " يؤتي الحكمة من يشاء ومن يؤت
الحكمة فقد أوتى خيرا" كثيرا" وما يذكر إلا أولو الألباب" ( سورة
البقرة الآية 269)
ولولا هذا الضمير لازالت
عن الإنسان كل الصفات الإنسانية الجديرة به ولظل الإنسان ملكا" لغرائز
بدلا" من أن يكون هو مالكها. والغرائز هي أضعف نواحي النفس البشرية وأسرعها
استسلاما" لغواية الشيطان. ورغم محاولات العقل كبح جماع هذه الغرائز
وتوجيهها وجهة الخير لصاحبه وللمجتمع. فانه قد ينجح حينا" ولكنه يفشل
أحيانا" بل قد يبلغ بالعقل القصور على أن يقوم بمهامه على أفضل وجه. ووضعت
نماذج جديدة للتكيف والمرض، ومع الاهتمام ببحث شبكة العوامل العضوية والنفسية
والاجتماعية المسببة للمرض، ولذا أصبح من الصعب الحديث عن نموذج واحد جامد
للسواء نظرا" لأثر البيئة وتغير الأدوار في تحديد مفهوم السواء، الذي يعد
نسبيا" إلى حد بعيد.
ومن هنا ركزت
الاتجاهات الأحدث في الطب النفسي على فكرة تعدد الأسباب، وعلى التفاعل بين
العوامل العضوية والنفسية والبيئية، وعالجت موضوعات الصحة والمرض على أنها تكيف
ناجح أو فاشل من الكائن العضوي لبيئته.
وهذا ما يوضحه الباحثان في المحور الخامس حول الإسلام والوقاية النفسية من إدمان
الخمور والمخدرات ومشاكلهما من أنواع المسمات والنواتج المترتبة على الإدمان
ووقاية المؤمن منها.
|