Arabpsynet

 وجهـات نظـــر /  Points of View

شبكة العلوم النفسية العربية

 

ثــورة الـمجـنـــون

أ.د. يحيى الرخاوي

أستاذ الطب النفسي – جامعة القاهرة - مصر

  

q       النص الكامل/   Full text / Texte  entier 

 

»  إن الدنيا بالخارج تمطر حامض «دنا «DNA على شفة قناة أكسفورد،، أسفل حديقتي ثمة شجرة صفاف كبيرة، وهي تضخ في الهواء بذورا ذات زغب. ويتحرك الهواء بلا نظام، فتنجرف البذور إلى الخارج من الشجرة في كل اتجاه..

»  وزغب القطن قد صنع أغلبه من السليلوز وهو يحجّم كالقزم تلك الكبسولة الدقيقة التي تحوي حامض دنا.. وإذن فلماذا أقول إن الدنيا تمطر دنا، بدلا من أن أقول إنها تمطر سليولوزا؟ والإجابة هي أن دنا هو ما يهم

».. فهذه النقط ذات الزغب تنشر بالمعني الحرفي تعليمات بأن تصنع نفسها، وهي موجودة هناك لأن أسلافها قد نجحت في صنع نفس الشيء. إن الدنيا تمطر تعليمات هناك بالخارج، إنها تمطر برامج، إنها تمطر أرقاما شفرية تنمي الشجر وتنشر الزغب، وليست هذه استعارة مجازية، إنها الحقيقة الواضحة. ولا يمكن أن يكون الأمر أكثر وضوحا لو كانت الدنيا تمطر أقراص كمبيوتر لينة "Floppy discs.

 

    هذه مقتطفات من فقرة طويلة نسبيا، لم أقتطفها من قصيدة حديثة، ولم أرتبها من شطح خيال مريض فصامي يسمح له أن يري حامض دنا وهو ينزل رذاذا كالمطر الطل، ليمطر الطبيعة بالمعلومات الجينية المبرمجة. إنها نص ما جاء في مقدمة الفصل الخامس من كتاب علمي عن «الجديد في الانتخاب الطبيعي»، تأليف ريتشارد وكنز، وهو كتاب كتب بحب شديد للحياة واحترام بالغ للتطور، كذلك ترجمه د. مصطفي فهمي إبراهيم، بنفس الحب والجمال، وقد اقتطفته في مقدمة هذا المقال لأشهد القارئ ابتداء كيف أن الطبيعة في حركيتها التطورية لا تسير كيفما اتفق، وأن البرامج غير الواعية التي تتحكم في قوانين الحياة بما في ذلك قوانين البقاء والجمال هي ممنهجة بشكل يتحدى أي برامج كمبيوترية حديثة مهما بلغت رصانتها، وأن أمطار الأرقام الشفرية التي تنمي الشجر وتنشر الزغب ليست استعارات مجازية..»

 

q      ما الحكاية بالضبط؟

ما الفرق بين الفطرة والبدائية والعشوائية؟

وما الفرق بين البرنامج والمنهج؟

وهل لابد أن يكون المنهج معلنا حتى نعترف به، ونستطيع تقييمه؟

وهل لابد أن نعي بالفكر الظاهر: أي منهج نتبع؟

وهل يمكن أن نعرف المنهج «الذي كان» من خلال النتائج حتى لو لم نعرف المقدمات؟

إن تعليل تخلفنا المتمادي المهدد لوجودنا، و المعوق لمسارنا بغياب المنهج وتمادي ما يسمي العشوائية هو أمر يحتاج إلى نظر طويل.

 

q      روعة التطور وقوانينه

        إن تاريخ التطور الحيوي، فيه حل لألغاز كثيرة، إن الإنسان بكل ما يميزه، (وما يعيبه) هو هذا الناتج الرائع لمسيرة التطور عبر ملايين السنين، ومع ذلك فهو الذي راح يسخر معظم جهوده بأذكى أنواع الغباء لإنكار تاريخه صراحة أو ضمنا، إنه لم يتخلق هكذا إلا بناء على قوانين محكمة جعلته يظهر حالا بهذا التركيب الذي لا يمكن أن يتحقق إلا بأدق القوانين وأسلمها عبر التاريخ.

    إن مراجعة بسيطة لتاريخ التطور من أي نوع إلى نوع أرقي، سواء بالتشريج المقارن، أم بعلم الأجنة المقارن، أم بالنظر في ترتيب مستويات الدماغ هيراركيا وتراجع الأحدث أمام الأقدم في خبرة الجنون، أم بالتفهم اللائق لخيال دارون وولاس الذي حل لغز بزوغ هذا التصميم البديع المركب من تلك البساطة البدائية الرائعة، إن كل ذلك لابد أن ينبهنا أن ما نسميه فطرة أو تلقائية أو حتى عشوائية ليست إلا إعلاناً عن جهل مركب بالقوانين الأعمق والبرامج الأذكى البعيدة عن إدراكنا المباشر حالا.

    إن التدهور الذي يلحق بجماعة من البشر، أو بكل البشر، حسب المخاطر المتزايدة حديثا، لا يكفي أن يفسر ببساطة بأن القوانين التي أوصلتنا لما نحن فيه قد بطل مفعولها بانتهاء عمرها الافتراضي، إن ثمة تدخلا لاحقا يجري حاليا يتدخل في هذه القوانين ليفسدها ويعطلها.

    إن البداية الحقيقية للبحث عن أسباب التدهور المحتمل، تستلزم محاولة الاستفادة الجادة من فهم هذا السبق الرائع لانتصار الحياة التي صنعت هذا الإنسان الذي يحاول ــ مؤخرا ــ أن ينكر تاريخه بسيطرة ظاهر وعيه.

 

q      محنة الوعي البشري

    حين امُتحن الإنسان بمحنة الوعي، أصبح التخطيط بمنهج ما، والالتزام بتنفيذه من ضمن امتحانات البقاء التي طرحت سؤالا لم يسبق لما نعرف من الأحياء أن واجهوه، يمكن صياغة هذا السؤال على الوجه التالي:

    هل نجح الوعي البشري الظاهر، بفضل اتساقه مع الفهم والتخطيط والتدبير وتصميمات الأناقة المركبة، هل نجح أن يستوعب تاريخه وهو يضع برامجه، ويحدد المناهج التي يوجه بها فكره ليحدد مساره؟ أم أنه ضل الطريق حين أصبح وصيا على قوانين البقاء الطبيعية؟

    هذه هي الإشكالة التي تواجه البشر هذه الأيام بحدة غير مسبوقة. إن تلقائية التطور قد نجحت عبر ملايين السنين بمنهج تلقائي محكم، قضي على من قضي، وأبقي على من أبقي. لكن الذي يحدث الآن ــ بعد أن تدخل الإنسان بروعة خطيرة في منهج التطور ــ أن حسابات أخري أصبحت تتدخل في كل من صياغات المنهج وتنفيذه. هذه نقلة تطورية بلا أدني شك، لكن من قال إن كل نقلة تحمل ضمان نجاحها؟ إن من الطفرات ما يمكن أن يقضي على جنس بأكمله.

    القضية الآن، ولعلها ترجع إلى عشرات القرون، أن الإنسان يتصور أنه امتلك أدوات التخطيط لمساره ومصيره، (تحت مسميات متعددة حسب المجال واللغة، مثل : علوم المستقبل، ودراسات الجدوى، والتخطيط، والهندسة الوراثية، وعلم تحسين النوع.. إلخ) مع انتباه أقل إلى وحدة الزمن التي يلزم أن نتعامل بها في هذا الصدد، والتي لا يمكن أن يتحقق تطور إلا من خلالها، وأيضاً: بأقل قدر من الاستفادة من تاريخ التطور الرائع.

    لم يقتصر غرور الإنسان الحديث وهو يخطط مساره ليحدد مصيره على توفير ما يحافظ على استمرار الحياة للبشر، أو لبعض طبقاته، وإنما امتد إلى التخطيط لنوعية التواجد على هذه الأرض، بل وتمادي مؤخرا للتخطيط بالتدخل في نوعية البشر أنفسهم (بالهندسة الوراثية الرائعة المخيفة)، ثم لتحديد موعد وشكل «نهاية التاريخ».

 

q      طفرة خطيرة

    نحن لا نعرف في تاريخ الحياة، ولا حتى في مملكة النحل، أن طبقة خاصة من نوع من الأحياء قد اختصت بالتخطيط لسائر نوعها حفاظا على استمراره، إن كل فرد من أفراد جنس ما كان دائما وأبدا مسئولا ــ دون وعي ــ عن سائر أفراد جنسه. وقد ظل الجنس البشري طول تاريخه ينقسم على نفسه إلى طبقات وعناصر تتصارع أكثر منها تتآلف حتى كادت تودي بالجميع في بعض فترات تطوره، لكن الثابت حتى الآن أن الأمور سارت إلى ما حافظ على استمرار الإنسان وأكد تفوقه.

    لكن حسابات أحدث راحت تلوح بقفزة تطورية غير مسبوقة، وفي نفس الوقت بخطر الانقراض نتيجة لخطأ متسارع بشكل غير مقصود. ذلك أن الإنجازات الأحدث التي أتاحت فرص تضاعف قفزات التطور لصالح الأرقي، هي هي التي قد تسمح بخطورة تمادي الأخطاء بسرعة لا يمكن اللحاق بها قبل تمام الدمار الشامل.

    البشر الآن يتصلون ببعضهم البعض دون إذن، وهم في نفس الوقت يرضخون لتشويه مبرمج دون اختيار، ومع تمادي محاولات السيطرة على ناحية، وتزايد المقاومة رغم ضعف إمكانياتها على الناحية الأخرى: يكاد العالم ينقسم إلى قسمين رئيسيين بطريقة غير مسبوقة، فـ «الذي يستطيع» «يفعل»، وما يفعله قد لا يكون هو الصواب، مهما بدت حبكة منهجه، وهو قد يضر نفسه بل وقد يعجل بنهاية نوعه، و«الذي لا يستطيع» يصيح أو يرسم أو يغني أو يقوم بمظاهرة هنا أو ينظم مؤتمرا هناك، وقد ينتحر احتجاجا أو يأسا أو إنذارا. فيبدو لأول وهلة أنها معركة خاسرة للطرفين، فالأقوى هو الأغبى والأسرع، والمتخلف، رغم قربه للطبيعة، هو عاجز تماما.

    «الذي يستطيع» يزعم أنه صاحب منهج محكم، ورؤية مبرمجة، وخطة كاملة ترسم التاريخ حتى نهايته، لصالح فئته ورؤيته ومثله التي اصطنعها لنفسه، ولم يستلهمها من تاريخ الحياة. في حين أن «الذي لا يستطيع» يتهم بالفوضوية والتخلف والعشوائية، وهو لم يعد قادرا على الاحتماء بقوانين الطبيعة التي أوصلته إلى هذا المركز المتفوق على الأحياء المعروفة، لأنه تنكر لها خفية.

    إن الطبيعة لا تقاوم من ينكر قوانينها لكنها تلفظه وهو ينقرض. كما أنها لا تدعم من يكسل عن اتباع قوانينها حتى العجز، وهي تلفظه أيضا بنفس الحسم.

    النتيجة أن «الذي يستطيع» يتخلى عن الطبيعة أو هي تتخلى عنه، لتتركه مسجونا في منهج شديد الإحكام والنجاح، لكنه يفتقر الاتصال بالأصل الذي أوصله إلى قدراته تلك، فهو يتنازل عن تاريخه الممتد ليتسلح بغروره المهلك، ثم هو يقود العاجز إلى حيث لا يدري.

  وبرغم كل ذلك، فمهما بلغ الشك في المنهج المحكم المغلق الجاهز القامع، فإنه لا يمكن أن يكون مبررا لأن يقف أي واحد ليدافع عن غياب المنهج، أو ليقف بجانب العشوائية (كيفما اتفق). إن منهجا زائفا صلبا وقاهرا مهما بلغ طغيانه وغباؤه هو أفضل ــ مرحليا ــ من اللامنهج، فالمنهج الزائف يحمل مقومات هدمه من واقع زيفه، كما أنه قد يستثير ضده ليحل محله. أما (تصور) اللامنهج ــ مع الانفصال عن الطبيعة ــ فهو فرصة لعمل مناهج خفية مدمرة بلا أمل في رصدها لتجاوزها.

 

q      قياس حذر

    يمثل المرض النفسي من منظور تطوري فرصة نادرة للتعرف على تاريخ التطور الحيوي، وتكبيره والنظر فيه حالا، بعد أن يتعري الغطاء الأحدث، كما يمثل تاريخ تطور الطب النفسي نموذجا مصغرا يمكن القياس عليه بحذر شديد.

    لقد مر الطب النفسي الحديث أثناء تطوره بمرحلة خطيرة، حين ظهرت وتمادت الحركة المناهضة للطب النفسي المسماة «ضد الطب النفسي»  Anti-Psychiatry.  بدأ ذلك في أعقاب الحرب العالمية الثانية في أكثر من بقعة في العالم معا (مثلا: في إنجلترا: هـ. لانج، د. كوبر، وفي أمريكا: زاس، وفي إيطاليا: بازاجليا.. إلخ). ثم بالغت هذه الحركة في البحث عن «معنى للجنون» باعتباره موقفا احتجاجيا ضد الاغتراب المعاصر واعتبرت أن هذا الاغتراب هو الذي أدي ضمن مضاعفاته إلى الحرب العالمية الثانية. وأن العجز عن مواجهته هو التفسير المناسب لغلبة هذا الاحتجاج المبرَّر (الجنون). لكن هذه الحركات التي حاولت البحث عن الغاية والمعني وراء «تناثر العقل وتفكك الذات» حتى الجنون تمادت في موقفها العدمي «ضد» المنهج «وضد» السلطة و«ضد» العقاقير، حتى كاد المتابع لسرعة انتشارها يعلن ــ ولو في تردد ــ أن «الجنون هو الحل» . ومثل كل حركات الأضعف، التي يغلب فيها الحماس على التخطيط. والنفي على الإبداع، انتهت إلى فشل ذريع، ليس لأنها خطأ مطلق، ولكن لاعتمادها على الهجوم على منهج جامد زائف دون (أو قبل) وضع منهج بديل. إن ثورة المجنون في بداية الرفض هي ثورة ما في ذلك شك، لكنها في النهاية تحطيم، على مبدأ «على وعلى أعدائي»، وفي كثير من الأحيان تكون النتيجة هي «على دون أعدائي».

    لا يمكن إنكار أن للمجنون منهجه الخاص في الاحتجاج. فهو مهما بدا متناثرا مفككا على السطح، إلا أن الممارس للعلاج العميق مع هذه الفئة التي نتصور أنها تمثل قمة عشوائية تناثر العقل، لابد أن يتعرف وهو يغوص مع مريضه إلى أعماقه على مدي صلابة عناده، وقوة أسلوبه المتمادي في تحطيم ذاته وهو يتصور أنه يحطم عدوه المتسبب فيما صار إليه. إن تمسك المجنون بالحل الفاشل لا يعادله إلا تمسك المغترب بالحل الزائف.

    الذي يحدث عبر العالم الآن هو نموذج أشبه بهذا الحل بالجنون مقابل الضياع بالاغتراب، الحل بالتفكك في مقابل التشويه بالزيف، وكلاهما يحمل منهجا خاصا به، وكلا الطريقين يشتركان في تهديد الجنس البشري بالانقراض.

    يكاد التخلف المهترئ الذي يعيشه العالم الأفقر (الذي لم يعد محدودا بجغرافيا أو بتاريخ بذاته) أن يكون أقرب إلى الالتزام بمنهج الاحتجاج السلبي بهدف تحطيم العالم الذي يسحقه، ولا مانع عنده أن يتحطم معه.

    كما أن التقدم الزائف الذي يتطاول كل يوم في البنيان بعيدا عن الأوطان والحكومات بل وحتى الأفراد، يبدو وكأنه قد نسي هدفه تماما، فراح يتمادى «فيما يفعل فقط». يتمثل ذلك في المسار الذي تمثله ما يسمي الآن «الشركات العابرة للأوطان، ثم للقارات، ثم لأصحابها». أصبحت القوي المتحكمة في العالم تسخر كل الأدوات والمناهج، بما في ذلك المناهج العلمية، والتجريبية والمعلوماتية وحتى الدينية (الأصولية والمستحدثة جميعا) لصالح «ما لا تعرف).

وللأسف، مثلما هو الحال في الجنون، تواجه قوي الاحتجاج الأضعف كل ذلك بإحياء العصبية البدائية والتسليم لمنهج التفكيك دون أية قدرة على إعادة البناء. وقد ترفع أثناء ذلك شعارات لافتة صحيحة لا فائدة منها، رغم حكمتها (مثل «حكمة المجانين») شعارات مثل: الرجوع للأصل والتمسك بالفطرة، والفخر بالقديم، وضرورة العدل.. إلخ.. (راجع بيانات قمة الأرض مؤخرا).

    إن هذا الموقف الصعب ينبهنا أن علينا ألا نرجع باللائمة على أحد الطرفين دون الآخر، نحن نحتاج إلى نظر أعمق من مجرد التراشق بالاتهامات. إن فروضا قديمة ينبغي أن تتجدد، كما أننا نحتاج إلى فروض حديثة تسهم في جلاء الموقف أكثر فأكثر، ومن ذلك.

 

q      الفروض

    أولاً: إن معظم الأحياء التي حافظت على بقائها تؤكد من خلال ذلك أنها اتبعت منهجا ممتازا سمح لها بذلك.

    ثانياً: إن المنهج لا يحتاج دائما أن يكون معلنا، إنه قد يوجد سواء عرفناه قبل البدء في الفعل أم استنتجناه بعد تحقق فاعليته، إن المنهج يمكن أن يستنتج بنتائجه، بقدر ما يمكن أن يختبر بمقدماته.

    ثالثاً: إن الوعي الذي ابتلي به الإنسان قد ميزه وشرفه، وفي نفس الوقت قد وضعه في مأزق خطير، فهو يلزمه أن يتبع منهجا يتفق مع ما يمتلك من فكر وخيال وإبداع، ويمده بأدوات تقنية ومعلوماتية تضاعف قدراته على التحكم في التطور، لكنه يحمله مسئولية الوقوع في خطأ قد يكون كافيا لانقراضه.

    رابعاً: إن التدهور الذي نعانيه نحن وأمثالنا لا يمكن أن يعزي ــ ببساطة ــ لغياب المنهج، بل إن الأصوب أن نبحث عن منهج خفي نمارسه في إصرار (بعناد مجنون) ونحن نتمادى في التحطيم والتحلل، في حين نتصور أننا نحتج ونختلف. إن المسئول ليس مجرد غياب المنهج، بل اتباع منهج مدمر، حتى لو لم نتبين معالمه بوضوح كاف.

    خامساً: إن المدخل الصحيح هو إعادة النظر في علاقتنا بالطبيعة الآنية وأيضا، وربما أهم، هو حسن مراجعة التاريخ الطبيعي للأحياء، لعلنا نتدارك الأمر باستكشاف ماذا حفظ، ويحفظ، البقاء الحقيقي للأحياء بما في ذلك الإنسان بما حقق من تميز وقيادة وريادة ووعي وإبداع.

 

q      الإنسان والطبيعة

    إن الممارسة الحياتية الآنية بكل أخطائها إذا ما نظر إليها من خلال دروس التاريخ الحيوي، وصولا إلى التاريخ البشري، لابد أن تؤكد لنا أن الفرصة مازالت سانحة للتجمع والتواصل لتدارك الخطأ قبل فوات الأوان.

    المطلوب هو البحث عن المنهج الذي يصالح الإنسان على تاريخه، وفي نفس الوقت يحافظ على استمرار تنمية كل ما أسهم في نجاح رحلته التطورية حتى صقل أحدث مناهجه وأدواته من خلال قدراته ووعيه الفائق الحديث.

    ليس معني اكتسابنا للوعي أن ننفصل عن الطبيعة ثم نكتفي بالاهتمام بتنظيفها بعد تسميتها «البيئة» لحساب استمرار ما نتصوره، إن التعامل الأسلم مع الطبيعة هو التعمق لاستخراج منهجها الذي أفرزنا بفضل الله. إن الطبيعة هي المنبع، والطبيعة هي المصب، ونحن جزء لا يتجزأ من هذا وذاك.

 إن الطبيعة ليست محيطا منفصلا عنا مثل بيت نسكنه ونحن نحرص على ترتيبه على مزاجنا. إنها ليست مجالا خارجا عنا يتلوث أو ينظف حسب حرصنا على ما نلقي فيه أو ننفث عبره، الطبيعة هي نحن شخصيا.

    لا يمكن أن نمنع تلوث الطبيعة بالتعاقد مع شركات مثل شركات النظافة في الإسكندرية ثم القاهرة، المطلوب هو التصالح مع الطبيعة والحوار المتصل وإياها لتواصل مسيرتها لصالح ما نعد به كما علمنا التطور.

 

q      المواجهة والأمل

    كما جاء في المقدمة، فإن ما يمر به الإنسان من تهديد بالانقراض ليس جديدا، وحتى لو كانت الأدوات المتاحة تنذر باحتمال التسارع بالنهاية قبل المراجعة، فإن نفس هذه الأدوات هي القادرة على رأب الصدع وتعديل المسار.

    الأمل هو أن نرفض التفسيرات المتعجلة مثل تبرير تخلفنا بافتقارنا إلى المنهج والتمادي في العشوائية، أتصور أننا نمارس منهجا لا تجاري كفاءته لتحطيم أنفسنا، إن ما يجري في «لا وعينا» ليبرر الكسل والتقاعس وإلقاء اللوم على غيرنا (التفسير التآمري) كما يبرر التأجيل والبيانات والاكتفاء بالتصريح والتلويح بالفعل دون الفعل، وغير ذلك، هو من معالم هذا المنهج السلبي الخفي القادر على تدميرنا، دون أي جهد منهم. وهم أحوج ما يكونون إلينا.

    إن الزعم بأن ما آل إليه حالنا هو نتيجة للافتقار للمنهج وليس نتيجة لممارسة منهج خفي مدمر، يبدو وكأنه دعوة ضمنية لاتباع منهج مستورد حسب احتياجاتهم لاستعمالنا، لتحقيق ما يتصورونه نموذجا لغاية ما يمكن للإنسان أن يحققه (نهاية التاريخ).

    لا مانع أن نكون خدما إذا كنا غير قادرين على غير ذلك، ولا مانع أن نتبع منهجهم إذا  كنا لا نملك إلا منهج تدمير أنفسنا بأنفسنا، لكن ليكن هذا معلنا بدلا من استسهال التفسير بغياب المنهج، مع التلويح بوعود لتحقيق أهداف لم نشترك في صياغتها، ولا هي تنفعهم، ولا هي تحقق ما هو نحن أو ما خلقنا الله له.

 

q      إذن ماذا؟

    ليس عندي أية رغبة في المغامرة بعرض منهج بديل، لعجزي عن ذلك من جهة، ولأن أي منهج لا يمكن البدء في تطبيقه الآن، يصبح ــ على أحسن الفروض ــ يوتوبيا معطلة. كل ما أستطيع تقديمه هو أن أعرض خطوطا عريضة مستلهمة من تاريخ التطور الحيوي الرائع.

    إن أي منهج يهتم بجزء دون الكل، أو ينمي مستوي من الوعي على حساب آخر، حتى لو كان هذا المستوي هو الأحدث قد ينجح في تحقيق مهمته المحدودة، لكنه أبدا لا يحقق إنسانية الإنسان كما خلق.

    إن ما يبدو من افتقارنا ــ نحن المتخلفين ــ إلى منهج واضح لا ينبغي أن يلهينا عن حقيقة أننا نتبع منهجا مدمرا يسرع باستبعادنا وهلاكنا أولاً، ثم يحرمهم من جدل محتمل قد ينقذنا معهم من تدهور حتمي إذا اقتصر الأمر على زيفهم الأوحد..

    ومع ذلك فإنه من الأفضل لنا أن نتقن منهجا زائفا من أن نخدع أنفسنا باحتجاج عدمي ميت. أو نتصور أننا لا نمارس منهجا أصلاً، في حين أن جهدنا كله موجه ــ في الخفاء ــ للاستمرار في ممارسة مناهج سلبية تقوم بالواجب في تسهيل تحطيمنا وتهميشنا، وتوفر عليهم جهد محاولة الخلاص منا إذا ما يئسوا من استعمالنا.

    ملحوظة: هم؛ ترجع إلى أهل الزيف العابر للقارات والبشر والتاريخ، و«نحن» ترجع إلى المستضعفين في الأرض، ظالمي أنفسهم، من كل جنس ولون ودين).

    إن المنهج الذي نحتاجه، بل ويحتاجه كل البشر، يبدأ من إعادة النظر للتعمق في فهم كيف نجحت مسيرة التطور حتى الآن. إن وضوح علاقتنا بالطبيعة، وتحديد طريقة ممارسة هذه العلاقة بالفن والإيمان المبدع وشحذ العبادة، واحتمال تنمية هذه العلاقة بالممارسة الحقيقية عبر تربية متكاملة، هي التي تجعل للمناهج المحكمة الأحدث معني وقيمة في إثراء الحياة واستكمال مسار التطور الحقيقي الذي يعد به تاريخ هذا الجنس البشري الرائع.

    الأمل الآن هو أن يحقق الانقسام الذي حدث في العالم ما بين القوي المسيطرة على ما لا تعرف، وبين القوي المقاومة لما تعرف، هو أن تسهل وسائل التواصل والتوصيل في تحديد أهداف جديدة للجنس البشري تليق بتاريخه، أهداف يمكن أن تقاس بمحكات جديدة غير المحكات الكمية الاستهلاكية، وبالتالي يمكن أن نحققها بمناهج جديدة.

    كان الإنسان قديما يحتاج بين الحين والحين إلى وحي من السماء يصحح مساره كلما انحرف، وكانت رحمة الله ترسل له الرسول تلو الرسول (صلوات الله عليهم جميعا وسلامه) يحقق ذلك في بقعة جغرافية بذاتها، ثم تنتشر أو لا تنتشر رسالته بقدر ما لم تتشوه ولم تستولِ عليها حركات مضادة باسمها، ثم ختم الله النبوات بمحمد عليه الصلاة والسلام ليحمل الإنسان مسئولية تعديل مساره دون انتظار دين جديد. (هذا تفسير فيلسوف الإسلام الشاعر محمد إقبال لختم النبوات.(

    الفرصة الآن أرحب بعد أن أصبح الناس من كل حدب وصوب، على كل دين ولون، قادرين على التواصل لرفض وصاية المناهج، المغلقة، ورفض الاقتصار على غلبة وعي كمي، ورفض التسليم لنوعية حياة رخوة أو لذية بحتة، ورفض الانخداع بتصور غياب المنهج وفي نفس الوقت أصبح الناس قادرين على التعاون فيما بينهم لابتداع مناهج جديدة، حتى لا يقعوا في مأزق يشبه مأزق الجنون الذي يقتصر على الرفض دون البديل.

 

Document Code VP.0025

The Revolt of Madman

ترميز المستند VP.0025

 

Copyright ©2003  WebPsySoft Arab Company www.arabpsynet.com  (All Rights Reserved)